هل كانت الرواية الأدبية وفية لحرب أكتوبر؟
تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT
"لكم قال الخبراء وعلماء البحر: إن الرياح عتية والإبحار مستحيل، ولم يثن هذا الرفاعي، من كل لحظة في عمر هذه الدنيا سيجيء، سيبدو للكل، من رآهم ومن سيعمل معهم، ومن سيلتقي بهم على غير اتفاق، سيظهر في الجهات الأربع الأصلية، ويسري إلى الكل، عندئذ سيمضون إليه، فواحد يحنو عليه، يضمه، وآخر برداء الحرب يظلله، وآخر بالصمت ينظر إلى وجهه، وآخر في الهجوم يفديه وآخر قبل الاقتحام يستأذنه، وآخر بعد الجرح يلوذ بجانبه، وآخر يقول: نأيت عنا زمنا طويلا ولم نعتد منك البعد، فيقول أبو الفضل عندئذ: كان سكنه في العمر وضريحه في قلبي".
هكذا تحدث الروائي المصري جمال الغيطاني عن أحد أبطال حرب أكتوبر 1973 وأحد قادتها وشهدائها في روايته "الرفاعي"، ففي الحرب يتعانق القلم مع البندقية، وإقدام الجندي مع جموح خيال الأديب، فيغدو الأدب صنو القتال محفزا للمعركة حين اشتعالها ومؤرخا مصورا لها بعد انقضائها.
دعونا نتفق بداية أن الأدب وإن كان انعكاسا للواقع إلا أنه لا يصوره تصويرا حرفيا، وفي هذه النقطة يختلف عن التأريخ التفصيلي الذي ينقل الأحداث بدقة ويصورها بحرفيتها، فهو ضرب من التأريخ الإجمالي للحدث.
إن الأدب نتاج إنساني بحت، وما دام كذلك فهو قابل للتفاوت والخضوع لنفسية صاحبه ومزاجه وأفكاره ومحاكماته ونظرته للأمور ورؤاه وتطلعاته، فالموضوعية في الأدب حكاية مفتوحة، ومسرح مترامي الأطراف! والأدب حقيقة أشبه بمرآة تعكس الوقائع والأحداث فتكبر بعضها وتضيق زواياها عن الإحاطة بحجم بعضها والوفاء بحقها، وكلنا ندرك جيدا ما معنى اختلاف المرايا وتموضعها، والأمر نفسه يسحب باتجاه الأدب، إذ لطالما كانت الحروب العالمية والانتصارات الكبرى مصدر إلهام لأعمال أدبية خالدة.
لا شك أن حرب أكتوبر كانت انتصارا نفسيا للإنسان العربي والمقاتل العربي على نفسه وأوهامه وما صنع من أساطير حول الجيش الصهيوني الذي لا يقهر، بغض النظر عن نتائجها العسكرية على الأرض، وإلى هذا المعنى يشير توفيق الحكيم في مقاله "عبرنا الهزيمة" إذ يقول "عبرنا الهزيمة بعبورنا إلى سيناء، ومهما تكن نتيجة المعارك، فإن الأهم الوثبة، نعم عبرنا الهزيمة في الروح".
وقد كتب عن حرب أكتوبر التحريرية وحولها أعمال أدبية تشمل الشعر والقصة والرواية، لكن تفترق الآراء حول وفاء الأدب بحق هذا الانتصار وتصديره بنصوص أدبية توازي النصوص الأدبية العالمية التي تحدثت عن الحروب العالمية الكبرى، إذ يرى بعض الروائيين والنقاد أن الرواية العربية لا تعطي حرب أكتوبر حقها، وهناك من يفسر ذلك بأن ما خلفته تلك الحرب كان السبب الرئيس وراء قلة الاحتفاء بها في الفن والأدب، إذ يذهب الصحفي والناقد المصري فاروق عبد القادر المتخصص في دراسة علم النفس في كلية الآداب، إلى أن شعور الشعوب بالخيبة، وإجهاض فكرة الانتصار الساحق سريع التحقق، أثر سلبيا على مسار الإبداع الفني والأدبي، ويعلل ذلك مميزا بين فكرة انتصار السلاح المذهل وتراجع السياسة مباشرة في أثناء الهجوم العسكري وحدّها من إقدام الجنود وآلياتهم، مما أدى إلى تقهقر نفسي عام وصلت تداعياته إلى الشعوب العربية كلها.
ما أهمية المعاصرة في الروايات التي جسدت حرب أكتوبر؟قد يرى بعض المفكرين والأدباء أن الكتابة عن الحروب وتداعياتها يجب أن تزامن حدوثها، فالوقائع تكون حية والذاكرة قريبة وقادرة على التقاط التفاصيل التي قد تغيب بفعل امتداد الزمن، لكن ذلك يستدعي بالضرورة المعاصرة الفعلية للوقائع أو الأشخاص الذين كانوا في خضم الأحداث.
في الحقيقة تبدو فكرة الجندي الأديب أو الشاعر مثيرة للاهتمام، فماذا لو استطاع العسكري نفسه أن يصور لنا ما عاشه من مشاعر إنسانية مختلطة، يحدثنا عن خوفه ويأس رفاقه من حوله في أحيان، وعن بهجتهم بإحراز التقدم والنصر، وعن ثورانهم وتعاقب الأمل واليأس في نفوسهم في أحيان أخرى، ماذا لو استطاع أن ينقل لنا أحاديثهم وأفكارهم وهم في الخنادق وتحت وطأة الحصار والقصف، وفي مواجهة الموت والمصير المجهول، وكأن الموت والنصر يتجاذبان دفتي حيواتهم الملقاة بينهما!.
وهذا ما فعله تماما الروائي وضابط الجيش المصري السابق علاء مصطفى في روايته "دوي الصمت"، إذ تعد هذه الرواية رصدا حقيقيا لما عاشه وعاناه منذ نكسة يونيو/حزيران 1967 إلى حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وقد نجح كاتبها في تحقيق المعادلة الصعبة في المزج بين التفاصيل الفنية والواقعية لسير المعارك العسكرية، وبين الجانب الأدبي المحلق بالتصوير والمفعم بالمشاعر والروح الإنسانية الفياضة التي تجسد معاني الحرب وما يحفها من مشاعر مختلطة، وما فيها من قصص الحب العارم.
سيقول آخرون اعتراضا: ومتى كان الأدب محض أداة لتصوير الأحداث والوقائع تصويرا فوتوغرافيا؟!
لم يكن، وما هو بذلك، لكنه يبدو بديعا حين يكون مختلطا بخفايا النفوس التي يتجاذبها الأمل والألم وهي في سراديب الحروب وعلى جبهاتها.
ويعبر عن هذا المعنى الأديب الروائي السوري عبد السلام العجيلي الذي كتب روايته "أزاهير تشرين المدماة" ليجمع فيها بين التأريخ والفن في قالب أدبي رفيع، إذ يتحدث فيها عن يوميات مقاتل في الحرب، ويقول في مقدمتها "روايتي هذه قصة إطارها متخيل، وأحداثها واقعة، وقد انتقيت لأغلب أبطالها الواقعيين أسماء مستعارة، وإذا كان فيها من أسماء حقيقية فهي لمن استشهدوا وقضوا في سبيل وطنهم والمثل العليا".
ثم يقول: "هي عمل أدبي مقتضب لم يتسع إلا للمع ضئيلة من حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وبطولاتها في مختلف ساحات القتال، وأنا أعترف بعجزي عن إيفاء هذه اللمع حقها من الوصف فيما كتبت، فالكتابة مهما بلغت من الإعجاز لا تستطيع الإحاطة بالواقع كل الإحاطة، فكيف إذا كان الواقع خوضا للمخاطر، والتضحية بالنفس والسير إلى الموت اختيارا ودون تهيب لصد المعتدي وصيانة تربة الوطن المقدسة".
روايات على الجبهة السوريةربما كان انفعال الكتاب والأدباء بالحرب ومفاجأتهم بأحداثها ودهشتهم من سيرها، وراء ميلهم إلى كتابة المقالات عنها أكثر من ميلهم إلى تطريز إبداعات طويلة النفس، لكن هذا لا ينفي وجود عدد من الروايات بالغة التميز لأدباء كبار سطرت حرب أكتوبر بأدب رفيع.
سطر الروائي حنا مينة رواية بالغة التألق تربو على 300 صفحة، سماها "المرصد"، وهو موقع بالغ التحصين، بنته إسرائيل على قمة مرتفعة في جبل الشيخ، يكاد يكون من الاستحالة الوصول إليه فضلا عن اقتحامه، لكن جنود المشاة على الجبهة السورية فعلوا هذا المستحيل وعاشوا لحظة النصر بإنزال العلم الإسرائيلي، وعندما بدؤوا باستكشاف المرصد وجدوه زاخرا بالأجهزة التقنية، وكانت المفاجأة بعد سلسلة من الاقتحامات لطوابق المرصد أنهم وجدوا جنودا إسرائيليين فقدوا ثقتهم بأنفسهم فاختبؤوا والرعب يملأ قلوبهم على الرغم من أنهم كانوا مدججين بعتادهم الكامل.
وقريبا من الجبهة الروائية السورية جاءت رواية "رفقة السلاح والقمر" للروائي المغربي مبارك ربيع، التي صدرت عام 1976، وفازت بالجائزة الأولى للمجمع اللغوي بالقاهرة سنة 1975م، وتعد من أهم الروايات الأدبية التي تحدثت عن حرب أكتوبر وعن العلاقة الوثيقة بين أبناء الأمة الواحدة ومشاركة الجنود المغاربة وتسطير البطولات الملحمية على جبهة القتال السورية.
أما كتاب "سنوات الحب والحرب" للأديبة السورية كوليت خوري فقد كان مجموعة من القصص القصيرة والمقالات الأدبية التي تحدثت فيها عن بطولات حرب أكتوبر وما سبقها من أحداث كاغتيال الشاعر والقائد الفلسطيني كمال ناصر والقائدين الفلسطينيين البارزين كمال عدوان وأبو يوسف النجار.
روايات على الجبهة المصريةأبدع الروائيون المصريون أيضا في تسطير بطولات حرب أكتوبر، وتحديدا ما كان على الجبهة المصرية، وتعد رواية "الرفاعي" للروائي جمال الغيطاني من أبرز تلك الروايات وأهمها، فقد كان جمال نفسه مراسلا حربيا في الفترة ما بين 1969 و1973، فعاين الهزيمة وما تلاها والحرب التي أعادت شيئا من روح الانتصار.
ورواية "الرفاعي" تعد من أقدم ما كتب عن العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي الذي يوصف أنه أمير شهداء أكتوبر، وقد كتبها الغيطاني سنة 1976، وصدرت لتكون في أيدي القراء سنة 1978، وعنها يقول الغيطاني "كلمة الرفاعي في الموروث الشعبي المصري تشير إلى ذلك الشخص الخبير في اجتذاب الأفاعي والقضاء عليها، ويبدو أن مقولة (إن كلا منا له نصيب من اسمه) صحيحة، فها هي تصدق مع العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي الذي يمكن تسميته برفاعي الصهاينة".
لم يكتف الغيطاني بروايته "الرفاعي" عن حرب أكتوبر، بل ضم إليها مجموعته القصصية "حكايات الغريب" التي سلطت الضوء بتركيز كبير على روح أكتوبر التي تفجرت شعبيا، لا سيما في أثناء حصار السويس، فيومها وجد المواطن المصري البسيط نفسه أمام تحد كبير، فكان على قدر التحدي ورفض أن يترك أرضه، ودافع عنها بكل ما يمكنه من قوة.
وقصة "حكايات الغريب" نفسها تجسد قصة حقيقية لسائق بمؤسسة صحفية، هو عبد العزيز محمود، الذي قتل في فترة حصار السويس، وهي قصة وثقها الغيطاني بنفسه إبان عمله مراسلا حربيا، وقد تحولت هذه المجموعة إلى فيلم سينمائي يحمل الاسم نفسه، وقد لعب بطولته محمود الجندي ومحمد منير ونهلة رأفت.
وكذلك كانت رواية "الرصاصة لا تزال في جيبي" لإحسان عبد القدوس من أوائل الروايات التي تحدثت عن حرب أكتوبر فقد صدرت عام 1974، وتدور أحداث الرواية حول شخصية "محمد" الذي يضل طريقه في الصحراء شهورا طويلة محتفظا برصاصة في جيبه، تلك الرصاصة التي احتفظ بها منذ نكسة يونيو 1967، وهو يتوق إلى استخدامها بنفسه في أول مواجهة حقيقية مع إسرائيل، وبالفعل يحقق حلمه في النهاية بالمشاركة في حرب أكتوبر وعبور قناة السويس، وقد تم تجسيد هذه الرواية في فيلم يحمل نفس اسمها، تم إنتاجه عام 1974، ولعب بطولته مجموعة من الفنانين الكبار أمثال محمود ياسين وحسين فهمي ويوسف شعبان وصلاح السعدني وسعيد صالح.
وعلى الرغم من هذه الروايات وغيرها وعلى جبهات عد، فإن كثيرا من النقاد ما يزال يرى أن الرواية العربية قصرت بحق حرب أكتوبر مواكبة ومتابعة، ولعل ذلك يعود إلى شعور اللهفة للنصر والتوق له في زمن الهزائم المتلاحقة، وشعورهم أن انتصار الإنسان العربي على خوفه في حرب أكتوبر يستحق أكثر مما هو مسطور ومنشور في عالم الرواية العربية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: عن حرب أکتوبر التی تحدثت على الجبهة
إقرأ أيضاً:
حينما كان للروايات شأن
ديفيد بروكسترجمة: أحمد شافعي
لي من العمر ما يجعلني أتذكر زمنًا كان للروائيين مقام فيه، فحينما كنت في الكلية في ثمانينيات القرن العشرين، كانت الروايات الجديدة لفيليب روث وتوني موريسون وصول بيلو وجون أبدايك وأليس ووكر وغيرهم أحداثًا ثقافيًا، تتبعها عروض نقدية، وعروض نقدية مضادة، ومشاجرات حول العروض النقدية نفسها.
وليس الحنين وحده هو السبب في هذا، ففي أواسط القرن العشرين وحتى أواخره، كانت الرواية الأدبية [في مقابل روايات الإثارة والمغامرات مثلا] تجتذب جماهير غفيرة، حتى أنكم لو نظرتم في قائمة (الناشرين الأسبوعية) لأكثر الروايات مبيعا في عام 1962 لوجدتم أعمالا لكاثرين آن بورتر وهيرمان ووك وجيه دي سالنجر، وفي العام التالي تجدون كتبا لماري مكارثي وجون أوهارا. وفي مقالة حديثة على سابستاك عنوانها «الانحدار الثقافي للرواية الأدبية» لأوين ينجلينج، عرفت أن رواية راجتايم لـ(إي إل دكترو) كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1975، وأن «شكوى بورتنوي» لفيليب روث كانت أكثر الكتب مبيعا سنة 1969، وأن «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف كانت رقم 3 سنة 1958 وأن «دكتور جيفاجو» لبوريس باسترناك كانت رقم 1.
أما الرواج اليوم، إلى حد كبير، فهو لروايات كولين هوفر الفنتازية وغيرها من الروايات النوعية [من قبيل روايات الإثارة والمغامرات]. ووفقا للدراسات المسحية التي تقوم بها المؤسسة الوطنية للفنون منذ عقود فإن عدد من يدعون أنهم يقرأون الأدب يتراجع باطراد منذ عام 1982. ويذكر أوين ينجلينج أنه لم تظهر رواية أدبية ضمن العشرة الأوائل في قوائم الناشرين الأسبوعية منذ عام 2001. ولا اعتراض لي على الروايات النوعية والكتب الشعبية، ولكن أين سكوت فيتزجيرالد أيامنا، أو وليم فوكنر، أو جورج إليوت، أو جين أوستن، أو ديفيد فوستر والاس؟
ولا أقول إن الروايات اليوم أسوأ. (فأني لي أن أعرف طريقة لقياس أمر كهذا). إنما أقول إن الأدب يلعب دورًا أصغر كثيرًا في حياتنا الوطنية وإن لهذا أثرًا في تقليل إنسانية ثقافتنا. لقد كان لدينا شعور، موروث عن العصر الرومنتيكي، بأن الروائيين والفنانين هم ضمير الأمة، فهم شأن الهداة والحكماء ممن ينأون عنا ليقولوا لنا حقيقتنا. ومثلما قال عالم الاجتماع سي رايت ميلز يوما فإن «الفنان والمثقف المستقلين هما من الشخصيات القليلة الباقية المجهزة لمقاومة ومكافحة التنميط وما يستتبعه من موت للأشياء الحية الأصيلة».
ونتيجة لهذا الافتراض، حظي الروائيون باهتمام كبير حتى أواخر الثمانينيات، بل لقد حقق البعض منهم شهرة مذهلة: جور فيدال، ونورمن ميلر، وترومان كابوتي. وكان الحديث الأدبي شديد المركزية لدرجة أن اشتهر بعض النقاد من أمثال سوزان سونتاج، وألفريد كازين ومن قبلهما ليونيل تريلنج وإدموند ويلسن. وكان ثمة عدد أكبر كثيرا من منابر العروض النقدية في الجرائد في شتى أرجاء البلد وفي المجلات المهمة من قبيل ذي نيو ريببليك.
لماذا أصبح الأدب أقل مركزية في الحياة الأمريكية؟ الجاني الأوضح في هذا هو الإنترنت. فقد دمرت قدرة الجميع على التركيز. وأجد هذا مقنعا إلى حد كبير لكن ليس في غالب الحالات. فانحدار الرواية الأدبية بدأ، مثلما يقول أوين ينجلينج، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، قبل أن تسيطر الإنترنت.
لا يزال لدى الناس من القدرة على التركيز ما يقرأون به الكلاسيكيات. فلقد بيع من رواية 1984 لجورج أورويل (وهي دليل إرشادي أساسي للحظتنا الراهنة) أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وبيع من «الكبرياء والهوى» لجين أوستن أكثر من عشرين مليونا. فلا يزال الأمريكيون يحبون الكتب الأدبية. وحينما سألت شركة ووردسريتد للبحوث الأمريكيين أن يرتبوا كتبهم المفضلة، جاء ضمن العشرة الأوائل «الكبرياء والهوى» و«أن تقتل طائرا طنانا» و«جاتسبي العظيم» وجين إير».
ولا يزال لدى الناس من القدرة على الانتباه ما يجعلهم يقرأون قليلًا من الأعمال المعاصرة ـ من قبيل سالي رومني وزادي سميث مثلا ـ مع نثار من الروايات الأدبية اليسارية المضمونة من قبل «حدوتة الوصيفة» لمارجريت آتوود، و«ديمون ذو الرأس النحاسي» لباربرا كينغسولفر. فالأمر أن ما انهار هو الاهتمام بالكتَّاب المعاصرين إجمالا.
أود أن أحكي قصة مختلفة عن انحدار الرواية الأدبية، وهي قصة عن ضغط المجتمع والانسجام معه. ما السمتان اللتان تميزان كل لحظة ثقافية عظيمة تقريبا؟ إنهما الثقة والجرأة. وانظروا إلى فن عصر النهضة أو الروايات الروسية أو الفكتورية. يمكنني القول إن الغرب قد شهد في السنوات الخمسين الماضية شهدت فقدانا كبيرا عاما للثقة والجرأة.
ارجعوا إلى سبعينيات القرن العشرين، لتروا الفنانين والروائيين يجربون في أمور كبيرة جريئة. ففي الأدب كانت «العين الأكثر زرقة» لتوني موريسون، و«قوس قزح الجاذبية» لتوماس بينشن و«هدية هومبولت» لصول بيلو. وفي السينما كان «العراب» ـ في جزئيه الأول والثاني ـ و«القيامة الآن». وكان مطربو الروك يكتبون أناشيد طويلة طموحة من قبيل «سلم إلى السما» و«الطائر الحر» و«الرابسودي البوهيمية». وحتى الصحفيون الأكثر تأثيرا كانوا جريئين من أمثال توم وولف وجون ديديون وهنتر طومسن. واليوم يبدو كل شيء مسلّعا، مبقرطا [من البيروقراطية]، مقيَّدا.
ولقد تضرر العالم الأدبي بصفة خاصة؛ إذ جرى شيء ما للأدب حينما انتقل مركز الجاذبية من قرية جرينتش [حيث كان وسط أدبي مرموق] إلى برامج ماجستير الفنون في الجامعات [حيث يجري تدريس الكتابة الإبداعية]. حينما تخرجت في الكلية، كنت أحلم بأن أكون روائيا أو مسرحيا. تطوعت للعمل محررا أدبيا في مجلة شيكاجو رفيو الأدبية. لكنني بعد اجتماعات قليلة، بدأت أفكر «أهذا حقا ما تريد أن تنفق فيه بقية حياتك؟ في نميمة حول ستة روائيين مغمورين في برنامج أيوا لتدريس الكتابة الإبداعية؟». بدا ذلك عالما صغيرا ومتحيزا.
والعالم الأدبي، فضلا عن ذلك، عالم تقدمي، والتقدمية ـ وليسامحنى القراء اليساريون ـ تعاني من مشكلة في الانسجام. فثمة ضغوط اجتماعية لا تصدق في دوائر اليسار، أكثر حتى مما في اليمين، تمنع قول أي شيء غير مقبول. (أما في اليمين، في المقابل، فيبدو أن المرء يحظى بمكافآت على قوله المزيد من غير المقبول).
في 2023، نشرت المجلة البريطانية لعلم النفس الاجتماعي دراسة خلابة لأدريان لودرز ودينو كاربنترز ومايكل كوايل؛ إذ أجروا بحثا على عينة من الناخبين الأمريكيين (متوسط أعمارهم 34 عاما) فحللوا آراءهم في قضايا من قبيل الإجهاض والهجرة والحد من التسلح وزواج المثليين.
تبين للدراسة أن ذوي الميول اليسارية يميلون إلى تبني رؤى أكثر تطرفا ومحافظة وترابطا، فلو أنكم علمتم رأي شخص يساري في الهجرة، لأمكنكم التنبؤ برأيه في الإجهاض. أما اليمينيون فتميل آراؤهم إلى التعدد والتنافر. فرأي اليميني في الهجرة أقل كشفا لرأيه في الحد من التسلح. فاليسار أكثر انسجامًا.
يتسق هذا مع تجربتي. فحينما أزور مدرسة في قسم أزرق [مؤيد للحزب الديمقراطي] من البلد، غالبا ما يكون الطلبة خائفين من التعبير عن رأيهم في الفصول الدراسية. يذكرني هذا أيضا بدراسة أجرتها أماندا رايبلي مع شركة بريديكت وايز للاستطلاعات والتحليلات لمجلة ذي أطلنطيك سنة 2019. بحثت هذه الدراسة في المقاطعات الأمريكية أيها الأكثر انفتاحا عقليا، وأيها الأكثر تحيزا ضد الخصوم السياسيين. ظهر أن اليمين لديه وفرة من التعصب (وبخاصة في فلوريدا) ولكن يبدو أن المقاطعة الأكثر تعصبا في أمريكا هي مقاطعة سوفولك بولاية ماساتشوستس، التي تضم بوسطن، وغير البعيدة من منطقة الخليج.
ولا بأس بالانسجام في بعض المهن، كأن يكون أحدهم مساعدا لعضو في الكونجرس، حيث لا يؤجر على قوله الآراء. إنما ذلك في مهنة الكتابة أمر فيه بأس كبير. فالغاية الكبرى من كون المرء مفكرا مستقلا ـ بتعبير المنظِّر الاجتماعي إرفنج هاو ـ هو أن يقف «صلبا ووحيدا». وفي ضوء معايير الزمن، كان لإديث وارتون ومارك توين وجيمس بولدوين قدر هائل من الشجاعة، وما عظمة أعمالهم إلا نتيجة شجاعتهم وعدم انسجامهم.
ولو أن الضغوط الاجتماعية المحيطة بالمرء قوية، فإنه سوف يكتب لزمرة الناس الذين يفرضون هذه الضغوط واعين أو غير واعين، فتكون كتابتك بالطبع صغيرة شأن غيرك. ولو أنك تكتب خائفا من النفي الاجتماعي، فسيكون الأشرار في روايتك مزرين. لأنك سوف تعهد إليهم بشرور أحادية البعد، ولن تجعلهم مقنعين ومغوين بطرقهم اللعينة. ولن يروق لك أن يراك الناس داعما لآراء أو لشخصيات قد تعرضك للإلغاء.
والأهم أنك إذا لم تتحل بشجاعة اجتماعية حقيقية، فإنك لن تخرج عن فقاعتك لتكتب ما تلزم كتابته من أجل فهم ما يجري في حياة غيرك، في هذا المرجل الهائل المعروف بأمريكا.
في عام 1989، كتب وولف مقالة لمجلة هاربرز بعنوان «تعقب الوحش ذي الألف قدم»، حاول فيها أن يبث بعض الجرأة في زملائه الروائيين. إذ ناشدهم الخروج من جيتوهاتهم الثقافية بكتابة رواية ضخمة جريئة قادرة على اقتناص الزمن، من قبيل روايات بلزاك وتشارلز ديكنز وجون شتاينبك وسنكلير لويس في أيامهم. وقد فعل وولف نفسه ذلك سنة 1987 بروايته «نار الغرور»، وهي روايته الهائلة التي تتناول طبقات مجتمع نيويورك، والتي لا تزال صامدة إلى حد كبير اليوم.
لقد عشنا، وبخاصة في العقد الأخير، عصر جدل عام هائل. بليت فيه حياتنا الداخلية بموجات صدمة الأحداث العامة. وشهدنا فقدانا شاملا للإيمان. وكم أود أن أقرأ روايات ضخمة تقبض على هذه العواصف السيكولوجية والروحية. ومع ذلك ففي بعض الأحيان حينما أختلس نظرة إلى العالم الأدبي، أشعر بوجود ثقافة فرعية مهمشة.
وذلك ما يمضي بي إلى النبأ السعيد. لو أن مشكلة الرواية الأدبية هي الضغط الاجتماعي وفقدان الشجاعة، فهذه مشكلة قابلة للحل. ويخبرني من يعلِّم الكتَّاب الشباب أن بيننا الآن شبابا جسورين من الروائيين يقومون بعمل ذي شأن. ولا غرابة بالنسبة لي في أنهم راغبون في تحطيم القيود التي تعايش معها غيرهم. فلعل نجوما تلوح في الأفق.
الأدب والدراما قادران على بث ما يحرك الآخرين. فحتى المسلسل التلفزيوني العظيم لا يمكنه أن يتيح لك الحياة الداخلية لإنسان مثلما يفعل الأدب. بوسع الروايات أن تقبض على روح العصر الفائقة للوصف بالغة القوة، بثراء تعجز أن تضاهيه الشاشات والوسائط البصرية. ويبدو لي من المستبعد للغاية بعد ستمائة سنة أن تتبدد قوة الكلمات المطبوعة. لذلك أراهن بكل ما أملك على أن الأدب سيرجع، وستكون تلك ضربة قاصمة لكل قوى انتزاع الإنسانية المحيطة بنا.
خدمة نيويورك تايمز