فأتوا بسورة من مثله.. هل وقع التحدي بالقرآن أم بأنه صدر من نبي أمي؟
تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT
ما معنى فأتوا بسورة من مثله؟، وهل وقع التحدي بالقرآن أم بأنه صدر من نبي أمي؟ سؤال يشغل ذهن الكثيرين وأجابه الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم العميد السابق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع أسيوط.
ما معنى فأتوا بسورة من مثله؟وقال العميد السابق لكلية أصول الدين جامعة الأزهر فرع أسيوط، قد جاء في قوله تعالى (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) هل وقع التحدي بالقرآن أم بأنه صدر من نبي أمي لأنه سمع بعض العلماء يذكر الرأي الثاني ؟، إن في قوله تعالى ( فأتوا بسورة من مثله ) قولان الأول ﺃﻱ: ﺑﺴﻮﺭﺓ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﻠﻘﺮﺁﻥ ﻓﻲ اﻟﺒﻼﻏﺔ ﻭﺣﺴﻦ اﻟﻨﻈﻢ، أما الثاني ﻗﻴﻞ: اﻟﻀﻤﻴﺮ ﻟﻌﺒﺪﻧﺎ، ﻭﻣﻦ ﻟﻹﺑﺘﺪاء ﺃﻱ: ﺑﺴﻮﺭﺓ ﻛﺎﺋﻨﺔ ﻣﻤﻦ ﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﺑﺸﺮا ﺃﻣﻴﺎ ﻟﻢ ﻳﻘﺮﺃ اﻟﻜﺘﺐ ﻭﻟﻢ ﻳﺘﻌﻠﻢ اﻟﻌﻠﻮﻡ.
وأشار إلى أن الراجح هو اﻟﻮﺟﻪ اﻷﻭﻝ ﺃﻭﻟﻰ ﻷﻧﻪ اﻟﻤﻄﺎﺑﻖ ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﻳﻮﻧﺲ: {ﻓﺄﺗﻮا ﺑﺴﻮﺭﺓ ﻣﺜﻠﻪ} (ﻳﻮﻧﺲ، 38) ﻭﻟﺴﺎﺋﺮ ﺁﻳﺎﺕ اﻟﺘﺤﺪﻱ، ﻭﻷﻥ اﻟﻜﻼﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﺰﻝ ﻻ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﺰﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺤﻘﻪ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻨﻔﻚ ﻋﻨﻪ ﻟﻴﺘﺴﻖ اﻟﺘﺮﺗﻴﺐ ﻭاﻟﻨﻈﻢ ﺇﺫ اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻭﺇﻥ اﺭﺗﺒﺘﻢ ﻓﻲ ﺃﻥ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﻨﺰﻝ ﻣﻦ ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻪ ﻓﺄﺗﻮا ﺑﻘﺮﺁﻥ ﻣﻦ ﻣﺜﻠﻪ، ﻭﻷﻥ ﻣﺨﺎﻃﺒﺔ اﻟﺠﻢ اﻟﻐﻔﻴﺮ ﺑﺄﻥ ﻳﺄﺗﻮا ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺎ ﺃﺗﻰ ﺑﻪ ﻭاﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﺑﻨﺎء ﺟﻨﺴﻬﻢ ﺃﺑﻠﻎ ﻓﻲ اﻟﺘﺤﺪﻱ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﻘﺎﻝ ﻟﻬﻢ: ﻟﻴﺄﺕ ﺑﻨﺤﻮ ﻣﺎ ﺃﺗﻰ ﺑﻪ ﻋﺒﺪﻧﺎ ﺁﺧﺮ ﻣﺜﻠﻪ، ﻭﻷﻧﻪ ﻣﻌﺠﺰ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻻ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: {ﻗﻞ ﻟﺌﻦ اﺟﺘﻤﻌﺖ اﻹﻧﺲ ﻭاﻟﺠﻦ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﺄﺗﻮا ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻻ ﻳﺄﺗﻮﻥ ﺑﻤﺜﻠﻪ} (اﻹﺳﺮاء، 88)، ﻭﻷﻥ ﻋﻮﺩ اﻟﻀﻤﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻋﺒﺪﻧﺎ ﻳﻮﻫﻢ ﺇﻣﻜﺎﻥ ﺻﺪﻭﺭﻩ ﻣﻤﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻋﻠﻰ ﺻﻔﺘﻪ ﻭﻻ ﻳﻼﺋﻤﻪ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: {ﻭاﺩﻋﻮا ﺷﻬﺪاءﻛﻢ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ اﻟﻠﻪ}، ﻓﺈﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻣﺮ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻌﻴﻨﻮا ﺑﻜﻞ ﻣﻦ ﻳﻨﺼﺮﻫﻢ ﻭﻳﻌﻴﻨﻬﻢ ﺳﻮاء ﻛﺎﻥ ﻣﺜﻠﻪ ﺃﻡ ﻻ.
قال تقي الدين السبكي رحمه الله: قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله}. قال الزمخشري {من مثله} متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله وليس مراده التعلق الصناعي، لأن الصفة إنما تتعلق بمحذوف، وقد صرح هو به، أو مراده أنه لا يتعلق بقوله: {فأتوا} ثم قال: والضمير لما نزلنا أو لعبدنا قال الشيخ الإمام: الأحسن عندي أن يتعلق بعبدنا، وإن علق بما نزلنا فيكن بالنظر إلى خصوصيته فيشمل صفة المنزل في نفسه والمنزل عنه، وإنما قلت ذلك لأن الله تعالى تحدى بالقرآن في أربع سور، في ثلاث منها بصفته في نفسه فقال تعالى: {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} وقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} وقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله} والسياق في ذكر القرآن من حيث هو هو ولذلك لم يذكر في هاتين الآيتين لفظة {من} المحتملة للتبعيض ولابتداء الغاية، فتركها يعين الضمير للقرآن.
هل وقع التحدي بالقرآن أم بأنه صدر من نبي أمي؟وفي سورة البقرة لما قال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} قال: {فأتوا بسورة من مثله} فتكون {من} لابتداء الغاية، والضمير في مثله للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون قد تحداهم فيها بنوع آخر من التحدي غير المذكور في السور الثلاث، وذلك أن الإعجاز من جهتين إحداهما من فصاحة القرآن وبلاغته وبلوغه مبلغا تقصر قوى الخلق عنه، وهو المقصود في السور الثلاث المتقدمة المتحدي به فيها، والثانية إتيانه من النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، وهو المقصود المتحدى به في هذه السورة، ولا تمتنع إرادة المجموع كما قدمناه، فإن أراد الزمخشري بعود الضمير على {مما نزلنا} المجموع بالطريق التي أشرنا إليها فصحيح، وحينئذ يكون ردد بين ذلك وعود الضمير على الثاني فقط وإن لم يرد ذلك فما قلناه أرجح.
ويعضده أنه أقرب، وعود الضمير على الأقرب أوجب، ويعضده أيضا أنهم قد تحدوا قبل ذلك وظهر عجزهم عن الإتيان بسورة مثل القرآن، لأن سورة يونس مكية، فإذا عجزوا عنه من كل أحد فهم بالإتيان بمثله ممن لم يقرأ ولم يكتب أشد عجزا فالأحسن أن يجعل الضمير لقوله: {عبدنا} فقط وهذان النوعان من التحدي يشتملان على أربعة أقسام، لأن التحدي بالقرآن أو ببعضه بالنسبة إلى من يقرأ ويكتب وإلى من ليس كذلك والتحدي بالنبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مثل المنزل، وإلى أي سورة كانت فإن من يكتب لا يأتي بها فصار الإتيان بسورة من مثل النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع كانت من كاتب قارئ أم من غيره. فظهر أنها أربعة أقسام؛ ثم قال الزمخشري ويجوز أن تتعلق بقوله: {فأتوا} والضمير للعبد.
قال الشيخ الإمام: هذا صحيح وتكون {من} للابتداء، ولم يذكر الزمخشري على هذا الوجه احتمال عود الضمير على ما نزلنا، ولعل ذلك لأن السورة المتحدى بها إذا لم يوجد معها المنزل عليه لابد أن يخصص بمثل المنزل كما في سورتي هود ويونس فإذا علقنا الضمير هنا في سورة البقرة بقوله: {فأتوا} وعلقنا الضمير بالمنزل كانوا قد تحدوا بأن يأتوا بسورة مطلقة ليست موصوفة ولا من شخص مخصوص؛ فليست على نوع من نوع التحدي فإن قلت {من} على هذا التقدير للتبعيض فتكون السورة بعض مثله يقتضي مماثلتها، قلت المأمور به السورة المطلقة و{من} يحتمل أن تكون لابتداء الغاية، وإن سلم أنها للتبعيض فالمماثلة إنما يعلم حصولها للسورة بالاستلزام، فلم يتحدوا ولم يؤمروا إلا بها من حيث هي مطلقة لا من حيث إن مقتضاه الاستلزام من المماثلة فإن المماثلة بالمطابقة في الكل المبعض لا في البعض، فإن لزم حصولها في البعض فليس من اللفظ. وبهذا يعرف الجواب عن قول من قال: ما الفرق بين فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا، وفأتوا من مثل ما نزلنا بسورة؟ فنقول: الفرق بينهما ما ذكرناه، فإن المأمور به بخصوصه في الثاني سورة مطلقة من حيث الوضع وإن كانت بعضها من شيء مخصوص.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: النبى محمد صلى الله علیه وسلم الضمیر على من حیث
إقرأ أيضاً:
ماذا يحدث لمن صبر عند البلاء والكرب؟.. 10 عجائب تهون المصيبة
لعله ينبغي معرفة ماذا يحدث لمن صبر عند البلاء والكرب؟، حيث إن من شأنه أن يثبت أولئك المهمومين الذين أثقلتهم الابتلاءات، فمن شأن معرفة ماذا يحدث لمن صبر عند البلاء والكرب؟ مساعدتهم على مواصلة المزيد من الصبر والثبات، وحماية نفسهم من الزعزعة والزلزلة، كما أن معرفة ماذا يحدث لمن صبر عند البلاء والكرب؟ كذلك من شأنها سد مداخل الشياطين سواء من الإنس أو الجن الذين يضعفون أولئك المكروبين.
ورد عن مسألة ماذا يحدث لمن صبر عند البلاء والكرب؟، أن في الصّبر على ما تكرهون خيرًا كثيرًا، وأن النّصر مع الصّبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
ورد ذِكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعًا في موطن المدح والثناء والأمر به، وذلك لعظم موقعه في الدين، وقال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر، فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر 10)
فضل الصبر عند البلاءأولًا-: على الثواب العظيم في الآخرة قال تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ».
ثانيًا: محبة الله قال تعالى: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».
ثالثًا: الجنة لمن صبر على البلاء في الدنيا قال عطاء بن أبي رباح: قَالَ لي ابنُ عَبَّاسٍ: ألَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: هذِه المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ: أصْبِرُ، فَقَالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لي أنْ لا أتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا» (متفق عليه).
رابعًا: تحقق معية الله للصابرين قال تعالى: «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».
خامسًا: خير عطاء من الله للمؤمن كما ورد في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ».
سادسًا: لذة الإيمان وحلاوته لمن صبر على ترك المعاصي، «وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب وكذلك ترك المعاصي فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن».
سابعًا: للصابر ثلاث بشائر بشر الله بها فقال تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».
أنوع الصبرأولًا: الصبر على البلاء وهو: منع النفس عن التسخط والهلع والجزع. الصَّبْر على أفعال الله والابتلاءات والنّوازل العصيبة: حيث إنّ من طبيعة الحياة الدنيا أنّها لا تصفو لأحد، ولا يسلم من آلامها وبلائها بَرّ ولا فاجر، ولكنّ المؤمن بدافع الرّضا عن أفعال الله -سبحانه- وأقداره يواجه كلّ الابتلاءات بثبات وجَلَد، وهو بذلك هادئ النّفس مطمئن البال؛ لأنّه على يقين أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
ويرى المؤمن أنّ أنبياء الله -تعالى-وهم صفوة خَلْقه، وأفضل إنسه قد ابتلاهم المولى -سبحانه- بأنواع كثيرة من الابتلاءات، لكنّهم واجهوها بالرّضا والتّسليم والصَّبْر الجميل، ولقد صبر أيوب -عليه السّلام- على المرض وفقدان الأهل والولد، وصبر يوسف -عليه السّلام- على ما حلّ به من بلاء السّجن والافتراء إلى أن حصحص الله -تعالى- الحقّ وأظهره، أمّا النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- فقد صبر في مواقف كثيرة منذ بعثته إلى وفاته.
ثانيًا: الصبر على النعم وهو: تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبر بها، وكَانَ ما يلقى الْعَبْد فِي هَذِهِ الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه ومراده، والآخر مخالفه وَهُوَ محتاج إِلَى الصبر فِي كُلّ منهما، أما النوع الموافق لغرضه: فكالصحة والسلامة والجاه والْمَال وأنواع الملاذ المباحة وَهُوَ أحوج شَيْء إِلَى الصبر فيها من وجوه:
أحدهما: أن لا يركن إليها ولا يغتر بها ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الَّذِي لا يحبه الله وأهله. الثاني: أن لا ينهمك فِي نيلها ويبالغ فِي استقصائها فَإِنَّهَا تنقلب إِلَى أضدادها. فمن بالغ فِي الأكل والشرب انقلب ذَلِكَ إِلَى ضده وحرم الأكل والشرب والجماع. الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها.
الرابع: أن يصبر عَنْ صرفها فِي الحرام، فلا يمكن نَفْسهُ من كُلّ ما تريده مَنْهَا فَإِنَّهَا توقعه فِي الحرام، فَإِنَّ احترز كُلّ الاحتراز أوقعته فِي المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون. وقَالَ عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
ثالثًا: الصبر على الطاعة وهو: المحافظة والدوام عليها: حيث إنّ النفس بطبعها تميل إلى الشّهوات، وهذا مانع للعبد من الانقياد السريع لفعل الطّاعة، لذا يلزم المرء في هذا النوع من أنواع الصَّبر أنْ يعوّد نفسه على خُلُق الصَّبر في ثلاثة مواضع؛ الأوّل: قبل البدء بالطّاعة يَحْسُن بالمسّلم أنْ يتفقّد نيّته ويطهّرها من كل شائبة رياء، ويستحضر الإخلاص لله -تعالى- وحده.
والثّاني: الصَّبْر أثناء قيامه بالطّاعة، فيحرص المسّلم على أدائها على الوجه المشّروع وفق ما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والثّالث: الصَّبْر بعد أداء الطّاعة، فيحرص أنْ لا يُدخل لنفسه العَجب أو محبّة ثناء الخَلْق؛ فيُفسِد على نفسه عمله، وعلى الدّاعية إلى الله -تعالى- أنْ يعلم أنّ الصَّبْر سلاحه في طريق الدّعوة، وأنْ يستذكر خطى الأنبياء وسيرتهم في تحمّل الأذى وصنوف الصدّ عن الدّعوة، من نوح -عليه السّلام- إلى خاتم الأنبياء محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
رابعًا: الصبر على المعاصي وهو: كف النفس عنها. الصَّبْر عن فعل المعاصي وارتكاب المحرّمات: حيث إنّ الدنيا بملذّاتها وشهواتها تُشكّل ابتلاء من نوع آخر في مسيرة حياة المسلم، لذا فإنّ العبد محتاج لسلاح الصَّبْر لمواجهة هذه المُغريات الكثيرة والمتنوعة التي تعرضُ له في حياته، ومن شهوات الدنيا التي يدفعها المسّلم عن نفسه بالصَّبْر كي لا تُعْسِر عليه سلامة المسير وفق مراد الله -تعالى- شهوة النّساء والمال والمتاع وغيرها.
ويستذكر المسّلم في هذا المقام قصة قارون ومصيره بعد أنْ أغدق الله -تعالى- عليه من صنوف المال والذّهب والفضة، ثمّ أنكر فضل الله -سبحانه وتعالى- عليه؛ فخسف الله به الأرض، وجعله عبرة لأولي القلوب والأبصار، قال الله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ».
أسباب الابتلاءورد أن للمصائب والابتلاءات في الكتاب والسنة سببان اثنان مباشران – إلى جانب حكمة الله تعالى في قضائه وقدره:
السبب الأول للابتلاء: الذنوب والمعاصي التي يرتكبها الإنسان، سواء كانت كفرا أو معصية مجردة أو كبيرة من الكبائر، فيبتلي الله عز وجل بسببها صاحبها بالمصيبة على وجه المجازاة والعقوبة العاجلة، « وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (النساء: 79)، قال المفسرون: أي بذنبك.
السبب الثاني للابتلاء: إرادة الله تعالى رفعة درجات المؤمن الصابر، فيبتليه بالمصيبة ليرضى ويصبر فيُوفَّى أجر الصابرين في الآخرة، ويكتب عند الله من الفائزين، وقد رافق البلاء الأنبياء والصالحين فلم يغادرهم، جعله الله تعالى مكرمة لهم ينالون به الدرجة العالية في الجنة.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ»