«روح المحارب» (2).. قراءة في كتاب ذكريات لا تنسى في جبال الأوراس!
تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT
الجنرال جان برنارد بيناتيل
جان برنارد بيناتيل ضابط المظليين ومدرب الكوماندوز أحد مؤسسى المجموعة الدائمة لتقييم الوضع (GPES) التى تم إنشاؤها فى SGDN بناءً على طلب الرئيس جيسكار ديستان، وأنشأ شركة متعددة اللغات لتحليل البيانات النصية وتم انتخابه فى يناير 2007 رئيسًا لاتحاد الاستخبارات الاقتصادية (Fépie) وهو أيضًا كاتب منتظم فى لو ديالوج وقد نشرت مذكراته مؤخرًا فى كتاب حمل عنوان "روح المحارب" نقوم بنشر صفحات من هذا الكتاب.
فى 25 فبراير 1961، بعد 5 أيام من العمل أتمنى أن أنعم بيومين من الراحة.. وفى الساعة الثالثة صباحا، استيقظت على صوت صفارة الإنذار إلى القفز من السرير وارتداء ملابسى وتوزيع الأسلحة والذخيرة وعلمت أنه قد تم رصد مجموعة من المتمردين على جبل الرفاع، أحد أعلى قمم جبال الأوراس بالقرب من كورنيليوس. تم توزيعى على الجناح الأيمن من الكتيبة والمكون من 25 رجلا وتلقيت الأمر بالذهاب والاستطلاع.
قمت بسرعة بتحليل تضاريس المكان: يمكن أن يكون الممر بمثابة طريق انسحاب مثالى للمتمردين نحو الشرق.
مقتطفات اختارها: رولان لومباردي
تقف بعض أشجار الأرز على منحدرها الجنوبى بينما منحدرها الشمالى واضحًا تمامًا. لقد تم الاختيار: سوف نتقدم على الجانب الأيمن، والذى سيمنحنا ميزة اخفاء تقدمنا. الظروف ليست مثالية فى هذا الوقت من العام ذلك أن التضاريس ثلجية.
انظر إلى الثلج!
استطعنا رصد خطى حوالى عشرة رجال يتجهون نحو الممر. قمت على الفور بإبلاغ الملازم ديشامب قائد السرية فى غياب الكابتن إيزابي. تم إرسال طائرة بايبر (طائرة مراقبة) فوقنا فى حين أن دورية من القراصنة فى حالة تأهب على الأرض ومستعدة للتدخل من مطار باتنة على بعد ٢٥ كلم. عند وصولى إلى الممر من الجنوب قررت التقدم فأمامى فريقين من اللاعبين البهلوانيين أمامى مدعومين بـ ١٥ رجلًا من الخلف. وضعت مدفعى الرشاش على نتوء صخرى يشرف على الممر الذى يجب علينا عبوره للتعرف على الجانب الآخر. تقدمت مع ١٠ رجال. فى الساعة ٩:٣٠ صباحًا كنت على وشك الوصول إلى حافة الغابة على الجانب الآخر من الممر وعندما رأى قائدى حركة فى الغابة فتح النار فوق رؤوسنا.. بالكاد لدينا بعض الوقت للغوص والاحتماء خلف جذوع الأشجار قبل أن يفتح العدو النار بدوره.
من بين العشرة أشخاص الذين رافقونى كان يتبعنى تسعة باستثناء واحد حيث بدأ نصرى بالركض إلى الخلف وانهار فقُتل على الفور على بعد مترين مني.
قفزت من ملجأى ليس لدى الوقت لأشعر بالحزن والصدمة عليه لأن حدة إطلاق النار تتزايد.. وهنا أتذكر كلماته الأخيرة عندما غادر:
" أيها الملازم، هل يمكننى البقاء عند الشاحنات؟ أنا مريض!".. لم يكن نصرى يميل إلى هذه المهمة، وكان معروفًا بأنه كسول.
هل كانت تنقصه الشجاعة فى مواجهة العدو؟ لن أعرف أبدا. لقد كانت هذه هى المرة الأولى التى أرى فيها شخصا يموت بهذه الطريقة. لملمت نفسى كثيرًا، وعندما عدت بعد فترة النقاهة، تحدثت عن الأمر مع البرقاوي، ضابط الصف الذى كان يأمره مباشرة أثناء المناوشات. فأجاب: “لا تقلق يا ملازمي، لقد كان مكتوبًا له”.
وفى هذه الأثناء، تسببت كثافة الطلقات فى تطاير شظايا الخشب فوق رؤوسنا. ثانية أخرى من عدم الانتباه وقد أكون أنا من سيفوتها! أدرك أننا نواجه مقاومة مكونة من أكثر من ١٠ رجال.
داخل مجموعتي، التوتر واضح. لم يعد لدى خيار وإصدار الأمر بالانسحاب.
- بن رميلة والحشناوى ألقوا قنبلة دخان لتغطية انسحابنا.
لسوء الحظ، يستغرق ستار الدخان وقتًا طويلًا للانتشار ويتقدم حوالى عشرين متمردًا من شجرة إلى أخرى للهجوم للقضاء علينا. شحنتهم متواصلة وتثبتنا على الأرض. هل سأموت هكذا دون أن أحاول اتخاذ إجراء أخير؟
أتاي، أتاي!
صوت زعيم الفركا القاسى يضرب أذني. إن فهمى للغة العربية سطحي، لكنه كافٍ لكى أفهم أنه يهينني! كبريائه وأهميته الذاتية تجاهنا سوف يتسببان فى سقوطه.. ودعوت رجالى إلى التراجع. لا يزال أمامنا ٧٥ مترًا لنقطعها قبل أن نعتبر أنفسنا آمنين من الهضاب، ولحسن الحظ فوجئنا بوفاة زعيمهم. عندما وصلنا إلى مجموعة الدعم، أدركت أننى فقدت خريطتي... ويسعدنى أننى حفظت موقعنا عن ظهر قلب، بناءً على أوامر من الكابتن إيزابي.
وحتى اليوم لا تزال هذه اللحظات محفورة فى ذاكرتي. على الفور وضعت الكتيبة تحت تصرفى خاصة الدعم الجوى المكون من اثنين من القراصنة فى حالة تأهب فى باتنة وخصصت لى قناة خاصة على TRPP٨ الخاصة بي، يستخدمها فقط الطيارون والقائد ميشود. لمدة خمس عشرة دقيقة تقريبًا، أصبح إطلاق النار أقل شدة واستفدنا من ذلك لتراكم الحجارة والصخور أمام خط دفاعنا، مما يوفر حماية بارتفاع ٥٠ إلى ٧٠ سم، وهو ما يكفى لحمايتنا من الضربات المباشرة من العدو. والسماح للقراصنة بالإقلاع والوصول إلى المنطقة. يعتنى الرقيب البرقاوى بجرحى الذى ينزف بغزارة، ويضع ضمادة ضاغطة على الفتحتين.. أحبس أنفاسى ورأيت القراصنة يطلقون قنابلهم التى تمر فوقنا على بعد أقل من ٥ أمتار وتصطدم بخط هجوم العدو الذى اشتعلت فيه النيران. يتم تحويل حوالى عشرين متمردًا إلى مشاعل حية، أما باقى الخط الذى يضم العديد من الأشخاص المحترقين فيتراجع فى حالة من الفوضى ويختفى بين الأشجار.
فرحة حيوانية تستحوذ على جنودى الذين يختصرون معاناة الرجال الذين يحترقون على الفور. المشهد مؤلم ومشفى فى نفس الوقت. ومع ذلك، فإن كل المخاطر لم تختف بعد. وانعطفت الطائرة فجأة على جناحها، وعلمت لاحقا أنها تمكنت من الوصول إلى مطار باتنة فى رحلة جوية شراعية، على بعد حوالى عشرين كيلومترا. وعلى الرغم من إصابتى وفقدان الوعى البسيط، تمكنت من توجيه الدعم الجوى طوال اليوم.
نحن نستفيد من هذا الهدوء لرفع أكوام الحجر أمامنا وأصبح خط دفاعنا بمثابة جسر متواصل بين قطعة FM الموضوعة فى الأعلى ولاعبى الدفاع المتمركزين على الجانب المواجه للحافة. كم هو متعجرف الاعتقاد بأننا آمنون: يفاجئنا هجوم جديد أثناء الاستراحة بين دوريتى القرصان. لقد تمكنا من صدهم فى اللحظة الأخيرة بنيران كثيفة، مما أدى إلى القضاء على حوالى عشرة أعداء آخرين.
لكن فى الوقت الحالي، لم نخرج من الغابة بعد.
لا بد لى من مواجهة عزلة قمعية متزايدة. أقضى وقتى بين نوبتى إغماء وأنا أصرخ لرجالى لإنقاذ ذخيرتهم. ويستمر هذا الوضع حتى حلول الظلام. يواصل القراصنة قصف الخط الأمامى الذى يمتد الآن لمسافة تزيد على ٥٠٠ متر. تم حصار الكتيبة على بعد ٥٠٠ متر تقريبًا من الخلف و٤٠٠ متر من جانب موقعى بنيران المتمردين المدفونين فى التحصينات. كما أنه لا يمكن لأى وحدة أن تأتى أو تساعدنى بشكل مباشر أو تأتى لمساعدتي..
يبدو أن الوقت طويل وأنا أضعف.. فكرة واحدة فقط تجعلنى أستمر، لدى قناعة عميقة بأننا سوف ننتهي!
لمدة عشر ساعات، واصلنا أنا ورجالى الخمسة عشر الأصحاء القتال. فى بداية فترة ما بعد الظهر، نظرًا لأن المباراة لم تكن تسير على ما يرام، حاول رجال معزولون الفرار مرورًا تحت موقعنا. فى مواجهة نيراننا، تراجع البعض لكن حوالى عشرة تمكنوا من الاختراق وسقطوا فى الكمين الذى نصبه الملازم مينوت، قائد قسم فى سرية مجاورة، على عمق ٦٠٠ متر.
فى حوالى الساعة الثامنة مساءً، انضم إلى الملازم ديشامب وقام بإجلائى مع قتيلى وجرحى الستة، إلى قمة الرفاع حيث تم إنشاء منطقة خالية للسماح لطائرة H٢٤ سيكورسكى بالهبوط وإجلائنا. ورفضت أن يتم نقلى على نقالة وبمساعدة رقيبى وصلت إلى القمة..
نتائج هذا اليوم لصالحنا: ٢ قتيل و٧ جرحى فى قسمي، وعدد قليل من الجرحى طفيفة فى الكتيبة وحوالى أربعين متمردًا قتلوا أمامنا مع استعادة أسلحة كبيرة بما فى ذلك مدفع رشاش ألمانى من طراز MG.
وفور وصولى إلى مستشفى باتنة، تم نقلى على الفور إلى غرفة العمليات وأجريت لى العملية بالتخدير الموضعى ومن حسن حظى أننى فقدت الوعي، وهو ما خفف من معاناتى عندما قطع الجراح ذراعى لينظف الجرح ويجمع كل عظامى المكسورة. أتذكر فقط إعادتى إلى غرفة حوالى الساعة الثانية صباحًا، واستيقاظى بعد خمس ساعات من قبل القائد هانز، كبير الجراحين فى مستشفى باتنة.
" إذن الملازم بيناتيل لم يستيقظ بعد؟ لدى زيارة لك!".. عند هذه الكلمات، دخل غرفتى أربعة طيارين من الذين أنقذونى بفضل دعمهم، وفى أيديهم زجاجة من الشمبانيا.. أحدهم هو ابن الجنرال جيل، القائد العظيم ورفيق التحرير.
نهاية المشهد! كتاب «روح المحارب»
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: جان برنارد بيناتيل على الجانب على الفور على بعد
إقرأ أيضاً:
في ذكرى 30 يونيو.. كيف سطّر «الإخوان» نهايتهم في حكم مصر (1 من 2)
يبدو أنه قانون من قوانين نجاح الثورات، وأحد العوامل المهمة التي تؤدي إلى هزيمة الطغاة المستبدين، أقصد إصابة هؤلاء في الأيام القليلة التي تسبق الإطاحة بهم، وإنهاء دورهم السياسي بغباء شديد، يتسبب في تخبط قراراتهم، ويؤدى إلى رفع سقف مطالب الثوار.
إن تحليل سلوك الملوك والسلاطين والأمراء والحكام، وردود أفعالهم مع بداية تمرد الشعوب وانفجار الثورات، يشير إلى سلوك وقرارات أقل ما توصف به أنها عشوائية، كما تشير إلى عدم تفهمهم لطبيعة الأحداث وتطورها، وعدم إدراكهم احتمال لجوء الثوار إلى العنف والمطالبة بعزلهم، والملاحظ أن الغرور والعناد يتحكم في سلوك معظم الطغاة حتى اللحظة الأخيرة.
ينطبق هذا في تاريخنا القريب على سلوك حسنى مبارك بعد انفجار ثورة 25 يناير 2011، وعلى سلوك محمد مرسى العياط الذى تقلد حكم مصر بعد نجاح الجماعة الانتهازية في ركوب الثورة وجني مكاسبها.
بعد خمسة أيام من تنحي مبارك أعلن محمد مرسي المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان نية الجماعة بتأسيس حزب سياسي، كما أعلن عبود الزمر أنه سيعمل على تكوين ائتلاف حزبي من الجماعات الإسلامية، وفى نفس الوقت أعلن، عمرو خالد الذي وصف بالداعية الشاب، أو داعية شباب الطبقة الوسطى الصغيرة عن نيته هو الآخر في تأسيس حزب، وكأنها عدوى أصابت كوادر التيار المتأسلم، فسرعان ما شهدت مصر مجموعة من الأحزاب ذات المرجعية الدينية (حزب الوسط، وحزب الحرية والعدالة، وحزب النور السلفي، وحزب مصر المستقبل، وحزب البناء والتنمية، وحزب الأصالة).
وفى مواجهة المجلس العسكري طالبت هذه الأحزاب بضرورة تسليم السلطة للمدنيين، وانضم إلى هؤلاء رغم الخلافات الأيديولوجية، العلمانيون والليبراليون وغيرهم.
وعادت المصطلحات التي هاجمت ثورة 23 يوليو إبان حكم جمال عبد الناصر إلي المشهد السياسي من جديد دون تعديل أو تبديل، فكل من يعارض الإخوان والجماعات التي خرجت من رحمها «كافر، علماني، ملحد، خارج عن دين الله، ومصيره جهنم وبئس القرار»، أما هم واتباعهم فهم «ظل الله في أرضه» وهم: «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهم المدافعون عن الشرع، المجاهدون في سبيل نصرة الدين».
وبالإضافة إلى سلاح الشائعات، استخدمت هذه الجماعات سلاح الإغراء بالمال لضم الفقراء وبعض شرائح الطبقة الوسطى الصغيرة، بل وبعض رموز النخب لصفوفها، وبالفعل وقع في شباكها البعض سواء أكان مدفوعا بدوافع انتهازية، طامعا أن يحظى بمكانة ومكان عندما توزع الجماعة التركة، أم كان مخدوعا بالخطاب المعسول الذى رددته كوادر الجماعة والمرشد والمتحدث الرسمي، وخيرت الشاطر وغيرهم، حيث توقع هذا الفريق أن الجماعة بعد الفرصة الذهبية التي لم تتوقعها لن تجتر تاريخها الدموي، وأنها ستعمل من أجل مستقبل أفضل لكل المصريين، وأنها ستسمح لكل القوى السياسية لتشاركها صناعة هذا المستقبل الجديد.
لم يكن قد انكشف حجم التآمر والتخطيط الخارجي ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية ودوائر المخابرات الغربية لصعود جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم، تكريسا لهزيمة التيار القومي بعد يونيو 1967، ورحيل زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر، وتمهيدا لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ولم يكن أمام المجلس العسكري وعلى رأسه المشير محمد طنطاوي إلا التريث لفهم ما يحدث في مصر، ودراسة تقارير المخابرات المصرية حول الأيادي الخفية التي تعبث بمستقبل البلاد من ناحية، ومن ناحية أخرى التعامل بحذر مع جماعة الإخوان التي هددت بإحراق القاهرة وإشاعة الفوضى.
وبدا لمن لا يدرك حقيقة مواقف المجلس العسكري وطريقة إدارة المشير طنطاوي للأزمة، أنهم باركوا صعود الإخوان والجماعات الأخرى، وأنهم تراجعوا أمام قوة هؤلاء وتهديدهم لأمن مصر.
والحقيقة أن المجلس العسكري - كما سيتضح فيما بعد - كان منهمكا في دراسة الوضع الشائك الذى أعقب تنحي حسني مبارك وأنه كان متيقنا من أن الصدام بين الشعب وهذا التيار واقع لا محالة، لكنه فضل أن يؤجل الصدام، وأن يدخل في شهر عسل مزيف مع الجماعة وتيارات الإسلام السياسي الأخرى، التي تحفظ ذاكرتهم، وتحفظ أراشيف الدولة خططهم وأهدافهم وعلاقاتهم الخارجية، ومن هنا جاء الاعتراف الرسمي بجماعة الإخوان المحظورة، حيث تم استدعاء أعضاء مكتب الإرشاد، محمد مرسى العياط، وسعد الكتاتني، للقاء اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة، كما تم الإفراج عن خيرت الشاطر، وحسن مالك، وعدد آخر من قيادات الجماعة وكذلك أعضاء جماعة الجهاد، وبعض السلفيين الذين كانوا يقضون فترة عقوبتهم.
ولقد تابعت وسائل الإعلام، وتابع كل رجال الفكر والسياسة ما يحدث باندهاش، لقد تم الإفراج عن 800 معتقل سياسي كان محكوما على بعضهم بالإعدام، وسمح لعدد آخر ممن صدرت ضدهم أحكام من قبل، بتقديم تظلمات، حيث أعيدت محاكمتهم وتمت تبرئتهم، وسرعان ما انضم هؤلاء إلى جماعاتهم مستفيدين من المناخ الجديد الذى يسمح لهم بالنشاط العلني.
كانت الأسماء معروفة للجميع وكانت الاتهامات التي صدرت ضدهم اتهامات جنائية وصل الحكم في بعضها إلى الإعدام، ومن هؤلاء: مصطفى حمزة (أحد كوادر الجماعة الإسلامية) وكان محكوما عليه بالإعدام بعد التأكد من مشاركته في محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995، ومحمد الظواهري (شقيق أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة) الذى صدر ضده أيضا حكم بالإعدام، نتيجة لتآمره وتخطيطه لقلب نظام الحكم، ومن هؤلاء أيضا: رفاعي طه (أحد كوادر الجماعة الإسلامية)، وأيضا كان محكوما عليه بالإعدام في القضية التي عرفت عام 1992 بقضية «العائدون من أفغانستان»، وكانت تهمته «التخطيط لقلب نظام الحكم».
والمثير للتأمل وقتئذ أن المشير طنطاوي أصدر قرارات عفو رئاسية في العاشر من مارس 2011 بالعفو عن 60 مسجونا من الإسلاميين كان من بينهم عبود الزمر المحكوم عليه في قضية اغتيال السادات.
هكذا لجأ المجلس العسكري إلى سياسة التكيف والموائمة والمهادنة، بعد تفهمه للواقع وللظروف الاستثنائية التي كانت تمر بها مصر، خاصة أن الشارع السياسي كان يعانى من تخبط وعدم فهم ما يحدث، البعض استبشر خيرا وكان يحلم بعهد جديد يسمح بالتعدد السياسي والحرية واحترام حقوق الإنسان، وانخدع فريق آخر وتوقع أن تعي جماعات وتيارات الإسلام السياسي التغيرات التي وقعت على أرض الواقع وأن تتخلى عن سلوكها الدموي الذي عرفت به منذ نشأتها.
على كل حال شكل المجلس العسكري «لجنة تعديل الدستور» برئاسة المستشار طارق البشرى المعروف بانحيازه للتيار الإسلامي، وتم تعديل 11 مادة من مواد دستور 1971، وأجرى الاستفتاء يوم 19 مارس 2011 على ذلك.
وقد تنبه البعض من رموز النخبة المصرية إلى أن الإخوان «خانوا الثورة» وأنهم بدأوا يعملون لمصلحتهم، وإنهم تجاهلوا «الميدان» ويخططون للسيطرة على الحكم، وأنهم تناسوا الشعار الذي أطلقوه «مشاركة لا مغالبة»، وأنهم في سبيل ذلك يخدعون الشعب المصري، ويحاولون إقناع الغالبية العظمى التي تعمل بالسياسة (بالكذب)، بأن الاستقرار يرتبط برضاء الله، مرضاة الله مقابل مقاعد في جناته، أما من يعارض الجماعة ويقاطع الاستفتاء فسوف يتبوأ مقعده من النار.
ويكاد ينعقد إجماع المراقبين وشهود عيان هذه المرحلة المفصلية في تاريخ مصر، على أن مواقف الإخوان بعد الاستفتاء أدت إلى تفكيك التوافق الذى ساد الميدان، حيث دفعت الجماعة بكوادرها وأعضائها إلى الشوارع لتطالب بإجراء الانتخابات أولا، رغم ما في ذلك من مخالفة دستورية واضحة، وصفها البعض بأنها كانت بمثابة انقلاب تشريعي خطير.
على أي حال، أصدر المجلس العسكري، في السادس والعشرين من سبتمبر 2011 إعلانا دستوريا جديدا، اشتمل على تعديلات جوهرية لقانون الانتخاب وتم عمل الجمعية التأسيسية وشكل البرلمان جمعية تأسيسية جيدة، وهى الجمعية التي انعقدت يوم 18 يونيو 2011 برئاسة المستشار حسام الغرياني، وقدمت الدستور يوم 30 نوفمبر من نفس العام.
وكانت المحكمة الدستورية قد أصدرت قرارها يوم 14 يونيو بعدم دستورية مجلس الشعب.
وجرت مياه كثيرة في النهر، وبات الشارع السياسي يشعر بقوة الجماعة، كما أن الجماعة ازدادت قوتها وثقتها في خطواتها وتعرض الأقباط للتنمر والهجوم، وسقط منهم ضحايا، وعمت الفوضى في شوارع القاهرة، وسقط كل يوم عدد من الشباب على يد ما أطلق عليه في هذا الوقت «الطرف الثالث».
كانت مصر تغلي وتعيش في فوضى رهيبة، وبدأ الاقتصاد يتأثر، وبدأت مصطلحات الإخوان والفتاوى الغريبة تتصدر الإعلام ولم يكن ذلك يعبر ولا يعكس هوى كل المصريين الذين عرف عنهم تدينهم المعتدل.
وبدأت ظاهرة تهريب البنزين والسولار، وانهارت السياحة، وشعر الكل برجفات زلزال مدمر، يهدد الأمن والاستقرار، وفشل مجلس الشعب في مناقشة القضايا التي تهم الناس، وبالطبع لم يتمكن البرلمان من ممارسة الرقابة على أداء الحكومة، وزادت حدة الخلافات بين الجماعة ووزارة الجنزورى، لذلك خططوا لوزارة جديدة حتى يتمكنوا من الهيمنة عليها.
وخلال الشهور الواقعة بين 25 يناير 2011 وفبراير 2012 تكشفت للمصريين حقيقة هذه الجماعة، كل يوم كانوا يثبتون أنهم لم يتغيروا، وإنهم يمكرون من أجل الانفراد بحكم البلاد، اتضح ذلك بجلاء عندما قررت الجماعة المشاركة في الانتخابات الرئاسية ورشحت خيرت الشاطر، وتجاهلت عن عمد إعلانها يوم 30 ابريل 2011 عدم السماح لأي من أعضائها بالترشح، وتبخر في الهواء قرار مكتب الارشاد بفصل عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بعد إعلان ترشحه، وبمجرد فتح باب الترشح للرئاسة تم ترشيح خيرت الشاطر لينافس 23 مرشحا من تيارات سياسية مختلفة.
قامت لجنة الانتخابات باستبعاد عشرة من المرشحين، كان من بينهم اللواء عمر سليمان، بسبب عدم صحة عدد من التوقيعات المقدمة تأييدا له من محافظة أسيوط، كما استبعد حازم أبو إسماعيل الذى ثبت أن أمه تحمل الجنسية الأمريكية، وأيضا استبعد خيرت الشاطر بسبب عدم حصوله على «رد اعتبار» بعد تنفيذه أحكاما قضائية.
وعلى الفور قدمت الجماعة أوراق المرشح البديل عضو مكتب الإرشاد، محمد مرسى العياط، الذى اشتهر وقتئذ بـ «المرشح الاستبن»، وكانت النتيجة مفاجأة حيث نجح في الجولة الأولى الفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في حكومة مبارك، وعضو مكتب الإرشاد محمد مرسى.
كان الشارع السياسي المصري يعانى من اضطراب واضح وحالة من الضباب تسيطر على مستقبل الحياة السياسية، وراهن عدد كبير على مرشح الاخوان محمد مرسى نكاية في رجل مبارك الذى كان عند كثيرين يمثل «فلول مبارك»، إلا أنه على الطرف الآخر كان هناك من يرفض صعود الإخوان لحكم مصر.
وراح مرشح الإخوان يدغدغ مشاعر الشعب المصري ونجح في استقطاب من عرفوا وقتئذ بـ «عاصري الليمون» أي الذين سينتخبونه مضطرين، فالبديل هو عودة رجل مبارك.
أعلن مرسي «مشروع النهضة» حيث قدم من خلاله حلول جذرية لكل مشكلات مصر وأمراضها المزمنة، كمشاكل النظافة والمرور والوقود ورغيف الخبز والأمن.. .. إلخ.
وبتاريخ 14 يونيو 2012 أعلنت المحكمة الدستورية العليا حل مجلس الشعب، وعاد التشريع للمجلس العسكري، وانتهت الانتخابات، إلا أنه قبل انتهاء عمليات الفرز بدأت الجماعة تستبق الأحداث وتعلن أن مرشحها محمد مرسى هو الفائز، وبدأ إرهاب المجلس العسكري وأعضاء اللجنة الانتخابية، حيث تسربت خطط إحراق مصر كلها في حالة إعلان فوز أحمد شفيق، ووفقا للتصريحات التي نشرت بعد رحيل الجماعة فإن المشير طنطاوي والمجلس العسكري وضعوا بين خيارين من أصعب ما يمكن، إما الإعلان عن فوز مرشح الإخوان محمد مرسى حتى لو لم يكن هو الفائز، وبين تعرض البلاد لفوضى لا يمكن معرفة النتائج التي ستترتب علها، وكانت مؤشرات خطة إحراق مصر قد بدأت بالفعل، حيث احتشد خمسمائة من مليشيات الإخوان بميدان التحرير وهم يحملون أكفانهم، ويرددون أن مرسى هو الرئيس، وأنه إذا لم تعلن النتيجة بفوزه سيقومون بنسف المتحف المصري، والجامعة الأمريكية، وجامعة الدول العربية، ومجمع التحرير والمجمع العلمي.
وتكشفت الحقائق بعد ذلك، كانت النتيجة الحقيقية في جولة الإعادة لصالح أحمد شفيق، بفارق 1% أي حوالى 30 ألف صوت لكن اللجنة أعلنت فوز محمد مرسى بنسبة 51.73% مقابل 50.72%.
انفرجت أسارير الجماعة وازدادت ثقتها في قوتها، ها قد حانت اللحظة التاريخية التي لم تكن تحلم بها، وأصبحت تحكم مصر، وعلى الطرف الآخر، أصدر المجلس العسكري يوم 18 يونيو 2012 إعلانا دستوريا مكملا في محاولة لتقليص سلطات رئيس الجمهورية.
وتسلم الرئيس الإخوانى محمد مرسي العياط الحكم يوم 24 يونيو 2012، كان المشهد لا يزال مضطربا، احتفل عدد كبير من الإخوان وغيرهم بعدم فوز أحمد شفيق رجل مبارك، ولم يسترح عدد أكبر لفوز عضو مكتب الإرشاد.
وبدأت أحاديث الرئيس الإخواني وتصريحاته تستفز المصريين بعد أن نسب نفسه وجماعته للثورة، وبعدما أعلن أنه متحدث باسمها واسم الشباب، وأعلن أنه لن يحلف اليمين إلا أمام مجلس الشعب المنحل ثم تراجع، وحلف اليمين في ميدان التحرير أمام مؤيديه والإخوان في محاولة لتأكيد أن شرعيته مستمدة من الثورة والميدان، إلا أنه وتحت الضغط عاد واضطر لحلف اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، ولم يكن هذا التراجع هو التراجع الوحيد خلال السنة التي حكمها محمد مرسى، لقد ثبت أنه عديم الخبرة، وأن الحاكم الحقيقي هو مكتب الإرشاد.
ولم يتمكن مرسي من تحقيق مشروع النهضة الذى أعلن عنه، بل دفعت البلاد إلى فوضى رهيبة نتيجة للأخطاء التي ارتكبها، كان في مقدمة هذه الأخطاء، وبعد أسبوع واحد من تسلمه رئاسة مصر، قام بسحب القرار رقم 350 لعام 2012 الصادر عن المحكمة الدستورية العليا الذي قضى باعتبار مجلس الشعب منحلا، وأمر بعودة المجلس للانعقاد، لكنه سرعان ما تراجع عن قراره، وحاول أن يتخلص من النائب العام عبد المجيد محمود، ثم تراجع تحت ضغط نادى القضاة.
ونموذج آخر على إصداره قرارات متسرعة ثم رجوعه عنها، القرار الذى صدر يوم 30 أكتوبر 2012، بإغلاق المجال التجارية فى العاشرة مساء، ثم أعلن تأجيل تطبيق القرار، ثم أعيد التأكيد على أن قرار الإغلاق لا يزال ساريا.
وفى التاسع من ديسمبر أصدر قرارا بزيادة أسعار الخمر والمياه الغازية والغاز والكهرباء والسجائر، وغيرها من السلع، ولكنه سرعان ما تراجع عنه وأعيد للحكومة.
وفي الثاني من فبراير 2013، شهدت مدن القناة مظاهرات عنيفة بسبب صدور أحكام بالإعدام بشأن المتهمين في مجزرة بورسعيد الذي قتل فيها 72 شابا من أولتراس أهلاوي، عقب مباراة الأهلي والمصري، وأصدر مرسى قرارا بفرض حظر التجوال، لكن الأهالي سخروا من القرار ورفضوا تنفيذه، وأقاموا مباريات كرة القدم في الشوارع في أوقات الحظر تحديا له ولحكومته، فتراجع وخفض ساعات الحظر.
هكذا كانت السمة الغالبة ومنذ بداية الحكم (إصدار قرارات غير مدروسة ثم التراجع عنها).
بدأت النخبة التي «عصرت الليمون على نفسها» وانتخبته، تراجع نفسها، وتكتشف قدراته، وضبابية رؤيته.
اقرأ أيضاً«المستشار طاهر الخولي»: رجال القضاء تقدموا الصفوف الأولى لإزاحة الإخوان في ثورة 30 يونيو
بندوة «عهد جديد لوطن يستحق».. إعلام الدقهلية يحيي غدًا الأربعاء ذكرى ثورة 30 يونيو بحضور مصطفى بكري