تحدث الدكتور حجازي فارس إمام خطيب ومسجد سيدي عبدالرحيم القنائي عن الرحمة وهي من الأخلاق القرآنية العظيمة التي كانت لها العناية الكبرى في القرآن الكريم من حيث ذكرها، لما لها من عظيمِ الأثرِ في الحياة الدينية والدنيوية.
1 الرحمة صفة من صفات الله تعالى: الرحمة صفةٌ من صفات الحقّ تبارك وتعالى، التي وصف بها نفسه كثيراً في القرآن العظيم في نحو مئتي آية، فضلاً عن تصدر كل سورة بصفتي الرحمن الرحيم، وذلك في البسملة التي هي ايةٌ من كلِّ سورة عدا سورة براءة، وذلك للدلالة على مبلغ رحمته العظيمة، وشمولها العام بعباده ومخلوقاته.
قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: 156 ـ 157]. وقال تعالى على لسان ملائكته الكرام: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *} [غافر: 7]. وقال تعالى تعليماً للنبي صلى الله عليه وسلم أنْ يقول للمشركين إنْ هم كذبوه: {رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ *} [الأنعام: 147].
ولقد قرر الله تعالى في كتابه الكريم أنّ الرحمةَ لا تزول عنه أبداً، كما قال سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54 ]. وقد ظهرت اثارُ رحمته في الخليقة كلها، فما مِنْ أحدٍ مسلمٍ أو كافرٍ إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، ففيها يتعايشون، ويؤاخون، ويوادُّون، وفيها يتقلَّبون، لكنّها للمؤمنين خاصةً في الآخرة، لاحظّ للكافرين فيها. 2 ـ من مظاهر رحمته بخلقه: من أجلُّ مظاهر رحمة الله تعالى أن بعث لهم رسله تترى، ثم بعث خاتم أنبيائه، وسيد رسله، وصفوته من خلقه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؛ الذي امتنَّ به على الأمة، وكشف به الظلمة، وأزاح به الغمة، وجعله رحمة للعالمين أجمعين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ *} [الأنبياء: 107]. وكما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [التوبة: 128].
وقد حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم عن رحمة الله تعالى، ومبلغ سعتها وكنهها، فقال: «إنّ اللهَ لما قَضَى الخلقَ كتب عنده فوق عرشه: إنّ رحمتي سبقتْ غَضَبِي». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعلَ اللهُ الرحمةَ مئةَ جزءٍ، فأمسكَ عنده تسعة وتسعين، وأنزلَ في الأرضِ جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحمُ الخلائقُ، حتى ترفع الدَّابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه». ومن حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قُدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى قد تحلّب -اجتمع حليب ثديها فيه- ثديُها، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته، وألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترونَ هذه المرأةَ طارحةً ولدَها في النار؟» قلنا: لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أرحمُ بعبادهِ من هذه بولدِها». 3 ـ حض المؤمنين على التحلي بالرحمة: ندب الله تعالى عباده إلى التحلي بالرحمة، وحثّهم عليها في بعض مواطنها؛ لكبير أهميتها في تلك المواطن، لينالوا أجرَها، وعظيم ثوابها، وذلك كالرحمة بالوالدين اللَّذين عظمَ الله شأنهما، وقرن شكرهما بشكره، وطاعتهما بطاعته، فكانت الرحمةُ عند الكبر محتَّمة، حيث قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا *} [الإسراء: 24]. وقد قال الله جل ذكره في شأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. كما أثبتها بلازمها لهم، ولمن اتصف بصفاتهم بقوله سبحانه: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]. إذ الذلة التي يتحلّون بها فيما بينهم بسبب التراحم بينهم، وهذا دليل على أنَّ الرحمة من أجلّ صفات المؤمنين، حيث كان حديث القرآن عن الرحمة لديهم في معرض الامتنان والثناء والمدح البليغ، ممّا يدل على عظيم مكانة المتراحمين من المسلمين عند الله تعالى، وقد دلَّ على ذلك ما أعده الله تعالى لهم من الأجر والثواب الذي أخبر الله تعالى عنه بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ *أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *} [البلد: 17 ـ 18]. أي: أصحاب اليمين الذين يُعْطَوْنَ كتبهم بأيمانهم، والذين قال الله تعالى فيهم: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ *فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ *وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ *وَظِلٍّ مَمْدُودٍ *وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ *وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ *وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ *} [الواقعة: 27 ـ 34]. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوةَ الحسنةَ في تحقيق هذا المقصد، وهو الرحمة بالعالمين، فكانت رحمته بالمؤمنين، وبالأهل، والعيال، وبالضعفاء، والكافرين، والحيوان، وكتب السيرة مليئةٌ بالمواقف والأحاديث الدالة على ذلك، فحري بنا نحن أتباعَه صلى الله عليه وسلم أن نهتدي بهديه ونستن بسنته-وهو الرحمة المهداة -، فنأخد قبساً من رحمته ونتصف بها مع أنفسنا ومع الخلق عموماً
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الإسلام الرحمة صفات الله تعالى
إقرأ أيضاً:
الصلاة ودلائل القرب من الله
الصلاة هي العبادة الوحيدة التي فرضت في السماء، وكان لها من شرف المكانة والرفعة أن استدعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم أليها أثناء عروجه في السماء، وقد من الله علينا بأن فرض علينا 5 صلوات بثواب 50 صلاة، وقد خفف الله عن أمة محمد بأن جعلها 5 صلوات بأجر 50 صلاة، وذلك في القصة المشهورة في المعراج ولقاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأخيه سيدنا موسى عليه السلام.
فهي صلة مباشرة بين الانسان وربه، لا تحتاج إلى وسيط أو موعد، وهي اختبار يومي للخشوع والوعي بحظرة الخالق والوقوف بين يديه، والتذلل له، واستشعار القرب والمحبة منه، وحضور الجسم والقلب لفهم المعنى الحقيقي للعبادة والتي هي الغاية الكبرى من وجوده في هذه الحياة.
كما أن هذه الصلاة هي العهد التي تمثل الفيصل بين المسلمين وغيرهم، كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" فهي التي من خلالها تفرق بين المسلم والكافر، ولجلالة هذه العبادة وعظم مكانتها فإنها أول ما يحاسب عنه الإنسان يوم القيامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " أوَّلُ ما يحاسبُ بِهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصَّلاةُ، فإن صلُحَت صلُحَ سائرُ عملِهِ، وإن فسَدت فسدَ سائرُ عملِهِ" فلك أن تتخيل أنه بمجرد صلاح هذه العبادة فإنها حتما ستؤدي إلى صلاح باقي الأعمال، فما هو السر الموجود في هذه العبادة العظيمة، فأداؤها على أكمل وجه معيار لباقي العبادات والأعمال الصالحة، وسبب أساس لدخول الجنة، فكلما كان المؤمن حريصا على صلاته مؤديا لها على أكمل وجه كلما كان قريبا لله نائلا رضاه ورحمته، وسيجزيه الله الجنة، بل وأعجب من ذلك أنه كلما كان كثير الصلاة والسجود لله تعالى كلما كان في أعلى درجات الجنان مع الأنبياء والصديقين والشهداء.
ويؤكد ذلك ما رواه أحد الصحابة البدريين، الذي كان من أهل الصفة وهو ربيعة بن كعب الأسلمي الذي اغتنم فرصة نومه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل الفجر في يوم شديد البرد أشعل حطبا ووضع فيه إبريق ماء حتى يكون الماء دافئا، ثم حمل الإبريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يتوضأ به، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازيه على عمله النبيل، فقال له "سل" اي اطلب ما شئت، فانتهز هذا الصحابي الجليل الزاهد العابد الفرصة لعلمه أن الدنيا زائلة فقال: أسألك مرافقتك في الجنة" فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم قليلا، لأنها مسألة عظيمة، فقال: " أوغير ذلك" فقال ربيعة "هو ذلك" أي أنني لا أريد غير ذلك، فبماذا أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال له: فأعني على نفسك بكثرة السجود" أي أكثر من الصلاة والسجود حتى تنال هذه المنزلة العظيمة، ولذلك امتثل هذا الصحابي الجليل بهذا الأمر وقضى بقية عمره في الركوع والسجود والجهاد في سبيل الله، فبهذه الصلاة الكثيرة سيكون رفيق الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وعلى الإنسان أن يكون بصيرا بنفسه يتلمس أثر الصلاة فيه، وينتبه لصلاته وهل هي صالحة يؤديها على ما يحب الله ويرضى، أم أنها مجرد عادة مربوطة بوقت ويتم تأديتها من غير روح، فالصلاة انقطاع لله عما سواه، وحضور كامل للعقل والقلب والجسد، واستحضار لعظمة الموقف، فهو لقاء مع من خلقك وجعل لك السمع والبصر والقلب، فاجعل هذه الأعضاء تناجي خالقها وتتصل به وتتوسل إليه، وتدعوه وتسبحه وتحمده وتقدسه، وتطلب الهداية منه، وتتلو كلامه، وتنحني إليه وتتتذلل في انقياد تسليم مطلق، وتلصق جبهتك وهي أعلى وجهك بالأرض في أخفض مكان تستطيع أن تنزل فيه رأسك، ويغيب العالم من حولك لتكون صلتك به خالصة في خشوع يغلفه الخوف ويزينه الرجاء، ليكون لهذه الصلاة أثر تجده في ذاتك، وفي صفاء روحك، وفي انقياد نفسك، وفي تحبيب الإيمان إلى قلبك، وفي نفورك من الذنوب والمعاصي، فهذا الأثر الذي ستجده إذا جاهدت في استحضار كل ذلك أثناء الصلاة.
فمن استحضر كل هذه المعاني أثناء تأديته للصلاة وداوم عليها فإنه سيجد أثر ذلك في نفسه، فالله عز وجل يقول في سورة العنكبوت: " اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" فمن ابتلي بمعصية أو عادة سيئة فإن صلاح صلاته كفيلة بأن تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهذا مقياس وضعه الله عز وجل، لمعرفة قبول الصلاة وعدم قبولها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " من لن تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"، فعلى الإنسان أن يراقب نفسه ويراقب عبادته وأثره عليها ليكون على بينة أمام نفسه قبل أن يقف أمام الله ويسأل عن صلاته هل هي فاسدة وبالتالي فإن عبادته كلها مرودة، أم هي صالحة ولذلك فإن عبادته وأعماله كلها مقبولة.
والصلاة إلى كونها عبادة فإنها أيضا أداة لضبط وقت المسلم، فهي أول عمل يؤديه بعد استيقاضه من النوم، بل هي التي توقضه، فمن اعتاد على صلاة الفجر فإنه سوف يصحو قبل الأذان حتى ولو لم يضع منبها يوقضه من نومه، وهذا أثر دارج في الثقافة المحلية، فالناس يقولون "الصلاة توقض صاحبها" فكل جارحة إذا عودها الإنسان على الاتصال بالله عز وجل، فإنها تشتاق إلى ذلك الاتصال، وتجد فيه لذة عجيبة، ولذلك فإنها تجعله يشعر بموعد الصلاة من غير منبه خارجي، وهذا ما يذكره كبار السن ومن ابتلاهم الله بالعمى، فإنه يعرفون وقت الأذان بدقة عجيبة تجار منها العقول.
وهذه أحد الدلائل على قبول الله لأعمالهم، وقد ورد في كتب الوعض والرقائق قصة جارية رومية عند عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب فيحكي عن نفسه فيقول: كانت لي جارية رومية وضيئة، وكنت بها معجباً، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت فالتمستها فلم أجدها، فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة، وهي تقول: بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي، فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك، فقالت: لا يا مولاي، بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام، فدليل محبة الله لك أن يقيمك في مواطن الطاعة، فإذا رأيت من نفسك إقبال على العبادة ونفورا من المعاصي فهذا دليل قبول الله لأعمالك.