تجدها في تفاصيل الحياة، لا تعرف غير العطاء، تنسج متفردة شخصيتها بيدها وعقلها وتسهم في حفظ الموروث وإثرائه. تلك هي المرأة الريفية التي كان له دور حيوي وفاعل في تنمية المجتمعات، والمحافظة على الهويات والتقاليد الثقافية، وتعزيز التنوع الزراعي، واستدامة الموارد الطبيعية. واعترافًا بجهودها يحتفل العالم في 15 أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للمرأة الريفية الذي حدّدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2007؛ لدعم دور المرأة الريفية وتعزيز التنمية ودفع عجلة التقدم في ظل الظروف القاهرة التي تعيشها.

واحتفاءً بدور المرأة الريفية اليمنية، الذي تمثل نموذجًا للإصرار والتفاني والقوة والعزيمة، ودعم عائلتها وتحسين أوضاع مجتمعها، في ظل قساوة الحياة وشظف العيش، سأتحدث عن بعض ما لاقته المرأة الريفية اليمنية، والذي ظهر في أحد أشكال الموروث الثقافي، المتمثل بالعتاب الذي جاء على لسانها من خلال الأغنية الشعبية التي تُعدّ لغة النفوس وترجمان العواطف.

يشكل العتاب جزءًا مهمًا من الأغاني الشعبية والفلكلورية للمرأة الريفية للتعبير عن مشاعر الحب والغيرة والغضب والاعتراض لمختلف الأمور والمواقف الحياتية والمشاكل اليومية التي تواجهها المرأة اليمنية في المجتمع الريفي، مثل: قلة الاهتمام والمتاعب وغياب الحبيب وخيبات الأمل والخيانة، في قوالب موسيقية وترانيم إيقاعية ممتعة، وبأسلوب سهل وعفوي، يعكس حياة المجتمعات الريفية الأصيلة، وتجارب النساء فيها.

عندما نتحدث عن عتاب المرأة الريفية في سياق الحب، يبدو وكأننا نفتح كتابًا فيه أعذب الشعر وأجمل الألحان، فدوّامة العواطف التي يعيشها العاشقون تصنع خلطة سحرية من الشوق والمشاعر والحنين، لتصبح ترياقًا للمحبوب، وعلى يد المرأة يصبح العتاب أداة سحرية للتعبير عن مشاعرها وأفكارها بشكل فني ومبدع.

ومن عبير العتاب في أغاني المرأة الريفية في اليمن تتكشف أمامنا العديد من الحقائق، وتتضح الكثير من البراهين، فالمرأة الريفية بكل صدقها ووضوحها وبساطتها كما عرفناها في أغاني أخرى نجدها صادقة وفيّة ودودة في أغاني العتاب الموجه كله دومًا نحو من تحب، الذي يتلمس شغاف القلب، ويجد طريقه في اكتمال العلاقة العميقة بين الأحباب، فنجد في أغانيها الطابع العاطفي النفسي المستوحى دائمًا من صميم حياة ومعاناة المرأة الريفية، ومن أجواء بيئتها، التي تستمدها من مطالع النجوم، ولوامع البروق، وأنوار الصباح، وأصوات الطيور، وفي هجعة الليل، ويقظة الفجر، وهبوب الرياح، أو ساعة هطول الأمطار، فلم تكن تلك الأغاني عبثاً أو ترفاً، بل جزءًا من حياة المرأة الريفية في سرّائها وضرائها، وكل غنوة من أغانيها تحمل مدلولات غاية في الإيحاء والتحفز.

لم تمانع المرأة الريفية على الاغتراب والهجرة؛ لأنها تعلم الأسباب الواقعية وضيق الحال التي دفعت الرجال إليها في كثيرٍ من الأحوال، لكن البُعد الجغرافي والانفصال الزمني يولد الحنين والقلق وهو أمرٌ طبيعي في هذا السياق. وتصور المرأة هذا الموقف بقولها:

من ضاق حالهُ توجه له الخُبوتْ

سيّب حبيبُه يحي وإلا يموتْ

إنهما موقفان متناقضان كما يصورهما هذا النص، ففي الشطر الأول رأي موضوعي في عوامل الهجرة، وفي الشطر الآخر نقف أمام تيار عاطفي قوي، تستجدي فيه المرأة الرجل بأن يُراعي مشاعرها وأحاسيسها كإنسانة ذنبها أنها تحب، وأن هناك من يشغل مكانة خاصة في قلبها وحياتها. فالمرأة هنا تتعامل مع الواقع والهجرة كخصمين لها، ولذلك فهي تعاتب حبيبها على استسلامه لظروفه، وبالتالي قبوله بواقع الهجرة على حساب حياة ومشاعر حبيبته.

وبلا شك، سيظل الحب والفراق عدّوين لدودين أبدًا، لا يمكن الجمع أو التوفيق بينهما، والمُحب الحقيقي يتمنى دائمًا أن يعيش إلى جانب حبيبه، وليس الذي يقلقه بالتفكير فيه، وها هي المرأة تصور هذا الموقف بقولها:

الشمس غابت واختفت بِكَبّة

محبة المُبعِد تصير كَذْبه

فالمرأة تريد أن تقول بأن من يغيب عن العين يغيب عن القلب أيضًا، فهي لا تتصور أن الرجل يمكن أن يحب حبيبته ويغيب عنها بعيدًا في وقتٍ واحد.. وتبدو المرأة هنا بائسة من هذا الحب الذي المفعم بالفراق والبعد، حتى فقد معناه الحقيقي ولم يبق منه إلا ما تختزنه الذاكرة من المواقف والذكريات عن ماضٍ جميل يورق صاحبته ويقلقها، ولا سيما تلك الصغيرة التي تركها حبيبها المهاجر، ولم يبق لها سوى قلبًا مملوءًا بحقائب الشوق والحنين والذكريات:

هجرتني ما هجروا البنادقْ

سيبتني وأني صغير نافقْ

ثم نجدها تعاتب حبيبها وهي واقعةٌ تحت وطأة ألم الفراق الذي تتحمله صابرة؛ لأنها لا تمتلك غير الصبر سلاحًا:

حُبيبي يا هيل مخلوط مع الزِّرْ

أنت لك الغربة أما أني شَصبِر

وحين يطول الانتظار، الذي تتجرع فيه ألوان العذاب؛ فإنها لا تقوى على كتمان عذابها، لذا تبعثه مضمّخًا بعطر الكاذي، محمولًا على ورق رسالتها ختمًا معمدًا باللوعة:

كتبت لك مكتوب مَغري بكاذي

نقشت بالعنوان خاتم عذابي

في رحيل الحبيب والانتظار المضني، والرسائل المتكررة، والوعود المقدسة بالعودة، وأن الحب لن ينتهي، باتت تستجدي منه مجرد رسالة في صدمةٍ قوية تضرب القلب بقسوة:

كتبت لك مكتوب بالتواريخ

أشتي جواب وإلا أرسل الصواريخ

كتبت لك مكتوب قدُه من الضيقْ

الخط من دمعي والغراء من الريقْ

كان هناك وعدٌ مقدسٌ بالعودة، وأن الحب لن ينتهي، ثم نُكث بهذا كله، حتى رسائلها لم يعد يرد عليها.

كتبت لك مكتوب بعد مكتوبْ

أين الجوابات يا قليل الأسلوبْ؟!

وتزداد الحسرة عند المرأة وتبدأ بمناجاة السحاب وتخاطبها كشيء محسوس.

ياذي السحابْ يا طالعة كراديسْ

شتخبرك عن حالة المحابيسْ!

ثم تُعبِّر عن عذابها وهي تخوض معارك الوجد بعد فراق حبيبها الذي تركها لسنوات طوال، فحُسِبتْ زوجةً مع وقف التنفيذ:

خرجت نص الليل والرعد يقرحْ

كُل من عشق مكتوب عليه يسرحْ

ولم تقف عند هذا الحد؛ بل لقد رفضت كل المغريات المادية والمعنوية في سبيل وصوله وحضوره من غربته:

أشتي حبيبي في جبل مقفي

لو هو على اللقمة كدمه

المصدر: المشهد اليمني

كلمات دلالية: المرأة الریفیة فی فی أغانی

إقرأ أيضاً:

الحب في زمن التوباكو (15)

 

مُزنة المسافر

 

جوليتا: وَضعتُ شوكة وملعقتين وسكينًا صغيرًا على طاولة التقديم، وشرعتُ بوضع المعكرونة في وعاء كبير.. بدت ساخنة في شكلها ولذيذة في طعمها، لكن عمَّتي شعرت بالسأم من أطباقي المتكررة، وأظهرت استيائها بشكل واضح.

ماتيلدا: من جديد المعكرونة يا ابنة أخي، تعلمي طبقًا جديدًا.

جوليتا: لا تحبين الفاصوليا الخضراء، ولا تحبين أيًا من تلك الأشياء المعلبة، هاتي صحنكِ بعد الحساء، سأضع لك المعكرونة جربيها.

ماتيلدا: تبدو ساخنة، كانت تغلي كثيرًا.

جوليتا: قلبك فقط يغلي هنا، ويغلي القصص الجيدة يا عمتي.

ماتيلدا: نعم لأن ألبيرتو وضع قلبي يغلي كما تغلي المعكرونة في مياه غليان غير مناسبة، سريعًا كان يخرجني من الحزن الذي كنتُ أعيشه دونه أيامًا طويلة، فأردد له أغنياتي وأخبر آهاتي، وأشرح أمنياتي في اللحن، وبينما كنتُ أريد أن أخبره عن خططي، أننا سنغادر المدينة لمدة طويلة، لأن خورخيه منتج الأسطوانات المطولة يرغب أن نزور بلدانًا بعيدة، وأن نكون حاضرين في المهرجانات الموسيقية لنحصد الجوائز، وأن اكتب شيئًا أكثر سلاسة وأكون أكثر براعة في كتابة الأغنيات.

ردَّدتُ له أغنيتي: "قل لحبيبي ألّا يغيب"، وقلت له إن الناس أحبت اللحن، وأحبت الكلمات التي وجهتها في خاطري العميق لك يا ألبيرتو.

لم يتكلم، بقى صامتًا ينظر إليّ، قال لي: الحياة باتت صعبة يا عزيزتي.

علينا أن نكون معًا في أحلام اليقظة أكثر من الواقع، لكن من سيأبه لأحلام اليقظة التي لا تكتمل وسط نهارٍ طويل هكذا كان جوابي، إن سراباته لا تزعجني، وأنني سأسافر وارتحل واستقل أي مركبة لأذهب لأي مسرح يستقبل نجمة عظيمة مثلي.

من أنت يا ألبيرتو؟ أنت شيء صغير في عين الناس، إنك لا تعرف الإحساس.

بينما أنا يُميِّزُني الناس في المتاجر وفي العروض وحتى في المسارح المهملة فما بالك بالمهمة منها، وأنا أتمايل وأردد مع الجمهور الأغنيات، بينما أنت رجل هارب من واقع جميل.

مرتحل إلى أقصى يمين، وأنا في يسار الحياة امضي في يقين أن حب الآخرين قد وصلني بصدق كبير.

ألبيرتو: إذن خذيني معكِ، سألغي ذهابي إلى العالم المتقدم.

ماتيلدا: ماذا يا ألبيرتو؟ ماذا تعتقد أن الناس ستصفق لكلامك هذا.

سأذهب لوحدي، وأجعل وجدي يتحرك أمام أنهار وتلال وعيني سترى المجهول والغير معلوم، وسأمضي بعيدًا عن اليقظة، لقد صار لي نهوض آخر، ووقوف مغاير، فلن تكون معي سائر.

لم ينطق شيئًا، حين علم أنني كتبت شيئًا أعظم من "قل لحبيبي ألّا يغيب"، كتبت "سأغيب أنا خلف الجبال، وسأضيع في وميض نهار ساطعٍ للغاية، وسأعود فقط حين يناديك قلبي، وسأكون هناك، هناك في البعيد، ولن أجيد إلا حب اللحن، وليكن لشِعري هذا عمر مديد".

انبهر خورخيه المنتج حين تلوتُ عليه الكلمات، بدا عليه التركيز، تدبر قليلًا، وقال لي مازحًا: حين ينكسر قلبك يا ماتيلدا تكتبين شيئًا عظيمًا.

ماتيلدا: لقد انكسر كثيرًا أمام وجع الحياة يا خورخيه، لقد ذاب وانحسر، لقد راح واستراح في تابوت عهد قديم، لقد صار بين الرماد، لقد كان يعيش بالطبع الكساد، إنه قد ينبض من جديد فقط حين يرى الدنيا وما بها من أمور أخرى غير هذا العذاب، غير ذاك السراب.

خورخيه: لقد أصبحتِ شاعرة بكل شيء يا ماتيدا، ستكون الأيام القادمة صاخبة، وراغبة أن تنجحي وتحصدي الجوائز، وأن تنالي نيلًا مختلفًا.

ماتيلدا: فلنذهب بالأمتعة لأول محطة قطار سائر إلى البلدات الجارة، إلى الناس المارة نحو قرب المسارح والصالات والمقاهي، إلى العيون الفضولية نحو لحننا يا خورخيه، فلنذهب، فلنغادر، ولنهاجر بعقولنا باتجاه الحرية، باتجاه سعادة أبدية، باتجاه ما ينتظرنا.

خورخيه: فليكن لك ما تريدين هذه المرة يا ماتيلدا فأنتِ نجمة!

ماتيلدا: صار خورخيه أخيرًا يعترف بوجود لمعانٍ خاص يخص حضوري ووجودي، وكل ما كان يهمني في تلك الأيام أن أغادر وأجول الدنيا، وإن كانت لهوًا وعبثًا أو كان غيابًا مؤكدًا عن طقسٍ يعني بأُناسٍ من ماضٍ عَفِن، وقلت لخورخيه: سنذهب إلى كل الدنيا.

مقالات مشابهة

  • دعاء يوم عاشوراء مكتوب – أفضل الأدعية المستجابة في العاشر من محرم 1447
  • عودة الحكواتي… حكايات من الوجع السوري
  • "كتالوج".. دراما مصرية جديدة تسرد حكايات الأبوّة والعائلة والأمل في لحظات الشدة
  • مكتوب له عمر
  • صحفي غزّي يروي قصة البحث عن حفنة طحين
  • حكايات الشجرة المغروسة 2.. إكليل الشهداء في اجتماع الأربعاء
  • الحب في زمن التوباكو (15)
  • «شهادة زور».. بيومي فؤاد يروي موقفًا مؤثرًا مع والده
  • ٣٠/ يونيو، ليلة القبض علی جَمْرَة!!
  • الاحتلال يستهدف كل ما هو متحرك.. مدير جمعية الإغاثة في غزة يروي تفاصيل المأساة الإنسانية بالقطاع