فنزويلا في مواجهة ظل كوندور
تاريخ النشر: 12th, December 2025 GMT
هذه الأيام تخرج من قلب قارة امريكا الجنوبية حكمة قديمة كأنها تعود من رماد التاريخ كنبوءة لتحذّر شعوب الكاريبي.:
"حين ينزل اللصّ من الشمال، ترتجف حتى الصخور خوفًا من نهمه."
فها هو ترامب ينقضّ على نفط فنزويلا في عملية قرصنة مكشوفة:
لم يتغيّر شيء: من بينوشيه بالأمس إلى ترامب اليوم… الهدف واحد نهب روح أمريكا الجنوبية قبل ثرواتها.
فمنذ نصف قرن، أمر الرئيس الأمريكي نيكسون وكالة المخابرات المركزية بإحداث انهيار اقتصادي متعمد في تشيلي، صاحبة أكبر مخزون للنحاس في العالم، تمهيدًا للإطاحة بالرئيس المنتخب سلفادور أليندي، الذي وقف عقبة أمام شهية واشنطن.
وفي صباح ملبّد بغيوم سبتمبر 1973، استيقظت تشيلي على صوت الحديد: انقلاب عسكري يطرق باب الجمهورية الاشتراكية. لم يكن ذلك الانقلاب سوى فصل جديد في الملحمة السوداء التي رسمتها واشنطن فوق خرائط الجنوب؛ حيث تُعامل هذه الدول كملفات لشركات أمريكية، ورؤساؤها مجرّد قطع شطرنج قابلة للاستبدال.
دافع أليندي عن القصر حتى آخر لحظة، قبل أن يسقط قتيلًا بينما كانت بلاده تُساق إلى ظلام طويل. وباسم "السوق الحرة"، أُطلقت سياسة "العلاج بالصدمة": انهيار أجور، تفكك طبقي، تضاعف الفقر، وملايين وقعوا ضحايا التجربة النيوليبرالية التي صممتها مدرسة شيكاغو الأمريكية، المعتمدة على القروض الأجنبية.
ثم انفجرت الفقاعة عام 1982: خسرت تشيلي 15% من ناتجها المحلي، قفزت البطالة إلى 23.7%، انهارت البنوك، وتراكمت الديون، واضطرت الحكومة لتأميم مؤسسات مالية كبرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
لكن الجريمة لم تكن اقتصادية فقط؛ كانت جزءًا من "عملية كوندور": المشروع الذي نشر الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية، وأغرق القارة في القتل والاختفاء والتعذيب وقمع كل معارض لسياسة واشنطن تحت شعار "حماية العالم الحر
وكان بينوشيه مجرد أداة صنعتها وكالة المخابرات الأميركية مازال شعبه يدفع ثمنها حتى اليوم.
فقد خلّفت خصخصة التعليم نظامًا طبقيًا خانقًا: أبناء الأغنياء في مدارس نخبوية ممولة جيدًا، وأبناء الفقراء في مدارس حكومية معدومة الموارد. ويتكرر المشهد في الصحة: رعاية فاخرة للأغنياء، ومستشفيات مكتظة للفقراء.
أما الكارثة الأكبر: تشيلي الدولة الوحيدة في العالم التي خُصخصت فيها المياه بالكامل. شركات فرنسية تملك أغلب أسهم مؤسسات المياه، وبحيرات وأنهار وخزانات تشيلي تحولت إلى حقوق ملكية قابلة للتداول منذ 1981، تسيطر عليها شركات عالمية مثل "أنجلو أمريكان" البريطانية و"BHP" الأسترالية.
ومع مرور الزمن، اتضح أن ما حدث في تشيلي لم يكن حادثًا استثنائيًا… بل نموذجًا جاهزًا تستخدمه واشنطن كلما تجرّأ شعب من جمهوريات الموز علي اتباع طريق مستقل.
ومع ذكرى رحيل بينوشيه يطلّ التاريخ من ظله
وكأنه كان يري لحظة يظهر فيها ترامب، وهو يسطو على نفط فنزويلا
من نيكسون الي ترامب الوجوه تتغير… لكن غريزة النهب واحدة.
فمنذ وصوله للسلطة، وضع ترامب فنزويلا نصب عينيه. عبر عقوبات خانقة، حصار بحري، تهديد بغزو بري وحظر جوي، محاولا إسقاط الرئيس نيكولاس مادورو بذريعة "مكافحة المخدرات" و"محاربة الديكتاتورية". أكاذيب لم يعد أحد يشتريها،
فضيحة تشيلي مازالت حاضرة، والواقع يفضح الذرائع:
إذا كانت المسألة مخدرات، لماذا لا تبدأ واشنطن من المكسيك جارتها ، المورد الأول للمخدرات في السوق الأمريكي ؟
وإن كانت المسألة ديمقراطية، فترامب نفسه أكثر فاشية وهمجية: رفض نتائج انتخابات 2020، حرّض أنصاره على اقتحام الكونجرس، ويتعاون مع بوتين ويقدم له تنازلات مذلة في أوكرانيا.
الحقيقة بسيطة: الهدف سرقة روح ارض أمريكا الجنوبية و السيطرة على النفط الفنزويلي ومعادنها النادرة، وإعادة تشكيل جنوب القارة وفق مزاج وعقيدة مونرو ولكن هذه المرة . بعيدا عن الصين ولعبة البريكس .
وأهم الأدلة علي ذلك لم يكن وثيقة أو تسريبًا… بل مقطع نشرته وسائل الإعلام،
، فبينما تستولي قواته على ناقلة تحمل قرابة مليوني برميل من النفط الفنزويلي. يتباهي ترامب بأنها الناقلة الأكبر على الإطلاق التي يتم احتجازها
لم تكن عملية قانونية، ولا مكافحة مخدرات… بل عمل قرصنة مكتمل الأركان. يتفاخر فيها بلعب دور "قرصان أعالي البحار كما يتفاخر اللص بسرقة خزنةٍ مفتوحة. اختُطف الطاقم، سُرق السفينة، ودُشّن عهد جديد من القرصنة الأمريكية ..
نفط فنزويلا، الذي يذهب 80% منه إلى الصين، أصبح هدفًا مباشرًا لواشنطن الغارقة في ديونها، والغاضبة من مشروع بكين لبناء مصفاة عملاقة في الكاريبي لمعالجة النفط الفنزويلي الثقيل..
وأن تم البناء كسرت العقوبات الأمريكية بالكامل و تربح الصين ملايين الدولارات
.
والمفارقة أن أمريكا التي وصفت اليمنيين بـ"القراصنة" حين اعترضوا سفنًا في طريقها لإسرائيل لمنع جرائم الإبادة في غزة، أصبحت ترى القرصنة مباحة حين يتعلق الأمر بنفط فنزويلا.
لا مكافحة مخدرات… ولا دفاع عن الحرية…
بل سباق محموم لسرقة ثروة بلدٍ كامل
فامريكا تري في فنزويلا فرصة لإعادة إنتاج نموذج بينوشيه، لكن هذه المرة تحت لافتة "الحرب على المخدرات"، بينما كان الهدف الحقيقي واضحًا كالشمس:
السيطرة على النفط، ومعاقبة رئيس رفض أن ينحني لواشنطن.
وعندما تراجعت شعبية ترامب الي 36% حسب اخر استطلاع رأي أجرته مؤسسة جالوب
، بحث عن نصر خارجي يعيد تعبئة الجماهير فكانت عملية القرصنة والتي لاشك انها ستفقده المزيد من الشعبية
وفي هذا السياق السيناتور كريس فان هولين قال منتقدا ترامب بوضوح: "قصتهم عن مكافحة المخدرات كذب كبير. هذا دليل آخر على أن الأمر يتعلق بتغيير النظام بالقوة."
والسيناتور راند بول من حزب ترامب ، انتقد العملية بشدة قائلاً: "الاستيلاء على ناقلة نفط هو إعلان للحرب. بالإضافة الي العديد من و سائل الإعلام انتقدت حماقة ترامب تلك انتقادات من المؤكد انها ستخصم من رصيد ترامب الشعبي الذي أوشك علي النفاذ ويهدد بحرمانه من وقود وغطاء اذا قرر غزو فنزويلا..
لاشك أن عملية كوندور التي عملت علي قمع كل معارض لسياسة أمريكا في تشيلي والأرجنتين والبرازيل وبوليفيا
الأوروجواي، باراجواي عادت للعمل ولكن هذه المرة ضد النفوذ الصيني في أمريكا الجنوبية
وبعد فنزويلا ستكون كولومبيا حسبما أعلن ترامب والهدف الذهبي ستكون البرازيل باب النفوذ الصيني الأكبر في أمريكا الجنوبية التي تتعاون مع بكين لتقويض الدولار
وإقصاؤه كعملة تبادل تجاري ولاشك انه امر مؤلم لامريكا أن تخسر طلب علي الدولار بقيمة 181 مليار دولار هو قيمة التجارة بين الصين و البرازيل ..
الأسلوب واحد: إفقار، حصار، تجويع… ثم انقلاب أو حرب.
وإن تعذّر ذلك، فخلق الفوضى حتى تنهار الدولة من الداخل.
هدف ترامب ليس إسقاط مادورو فقط، بل إعادة رسم القارة كلها وفق منطق أمريكي قديم: من يملك الموارد… يجب أن يخضع
ولذا لم يكن من قبيل الصدفة تزامن عملية السطو على ناقلة النفط الفنزويلية مع ذكرى رحيل عميل واشنطن
بينوشيه في 10 ديسمبر 2006
. والرسالة
بينوشيه مات… لكن ظله ما زال يمشي في القارة: ظل تغيير الأنظمة بالقوة ، ظل الحصار، ظل "العلاج بالصدمة"، وظل "الأسواق الحرة" التي تُفتح للنهب وتُغلق في وجه العدالة.
وتشيلي، بكل ندوبها التي ما زالت تنزف، تهمس لفنزويلا:
"ليس الهدف إسقاط رئيس… بل إسقاط دولة لتكون عبرة للآخرين.
فحين تتدخل أميركا في مصائر الشعوب، لا تجلب الديمقراطية… بل العاصفة.كما حدث في العراق
والشعوب وحدها تدفع الثمن.
أما ترامب، فاعتقد أنه قادر على إعادة فتح كتاب قديم ظنّه صالحًا للاستخدام. بمجرد تغيير الغطاء مكافحة تجارة المخدرات
لكن الجنوب لا ينسي والجبال سوف تلعنه و فنزويلا لن تكون وحدها
فالذاكرة هناك هي سلاح المقاومة الأول… والأخير.
فالجنوب الذي ذاق الألم… لن يسمح بأن يُكتب مصيره بحبر ترامب
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الصين و البرازيل علاء عوض حزب ترامب الحرب على المخدرات أمریکا الجنوبیة نفط فنزویلا لم یکن
إقرأ أيضاً:
هل تتحرك واشنطن لإسقاط مادورو؟.. أسئلة حول استراتيجية ترامب المتصاعدة في فنزويلا
يستمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إرسال إشارات متناقضة بشأن فنزويلا، في ظلّ تصاعد التوتر بين واشنطن وكراكاس، بعد مصادرة ناقلة نفط قبالة السواحل الفنزويلية الأربعاء، في خطوة اعتبرت تصعيدا جديدا يثير تساؤلات حول طبيعة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
ويثير هذا التحرك جدلا واسعا بين المراقبين حول ما إذا كانت واشنطن تسعى فعلا إلى محاربة تهريب المخدرات، أم تمهد لعملية تستهدف تغيير النظام في كراكاس، خاصة مع الانتشار العسكري الواسع للولايات المتحدة في البحر الكاريبي، وتكرار الضربات ضد قوارب تتهمها واشنطن بالتورّط في الاتجار بالمخدرات.
إشارات متضاربة من ترامب
في مقابلة مع موقع بوليتيكو الثلاثاء الماضي، قال ترامب إن "أيامه باتت معدودة" في إشارة إلى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، من دون الكشف عن الآليات التي يعول عليها لتحقيق ذلك.
وعندما سئل عن استبعاد إرسال قوات برية إلى فنزويلا، تهرب ترامب من إجابة واضحة، مدركا أن عملية عسكرية واسعة لا تحظى بأي دعم سياسي داخل الولايات المتحدة.
لكنه في المقابل أشار إلى أنه منح الضوء الأخضر لعمليات سرية داخل فنزويلا، ملمحا قبل أسابيع إلى احتمال تنفيذ عمليات برية "قريبا جدا".
ويرى ويل فريمان، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، أن التعزيزات العسكرية الأمريكية في المنطقة أقرب إلى "عملية نفسية تهدف إلى التخويف"، أكثر من كونها تمهيدا لعمل عسكري شامل.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة Arabi21 - عربي21 (@arabi21news)
بين مكافحة المخدرات وتغيير النظام
يشير فيل غونسون، الخبير في الشؤون الفنزويلية لدى مجموعة الأزمات الدولية، إلى أن واشنطن قد تجد نفسها محرجة إذا أمرت أسطولها بالمغادرة من دون القيام بأي تحرك ملموس، خاصة بعد نشر قوة بحرية ضخمة تضم 11 سفينة، بينها حاملة الطائرات العملاقة "جيرالد فورد".
ويرجح فريمان أن تشهد المنطقة نوعا من التدخل العسكري البري، "ربما في فنزويلا أو كولومبيا"، لكنه يستبعد أن يكون هذا كافيا لإسقاط مادورو. ومن السيناريوهات المطروحة استهداف منشآت عسكرية تزعم واشنطن ضلوعها في تهريب المخدرات، أو ضرب معسكرات "جيش التحرير الوطني" قرب الحدود الكولومبية.
كما قد تستهدف الولايات المتحدة مختبرات تصنيع المخدرات داخل فنزويلا، رغم محدوديتها، بحسب غونسون.
وتشير التقديرات إلى أن الفنتانيل — المتهم الرئيسي في أزمة الجرعات المميتة داخل الولايات المتحدة — يأتي بالأساس من المكسيك، إلا أن واشنطن صنفت عددا من كارتيلات المخدرات في أمريكا اللاتينية كـ"منظمات إرهابية أجنبية"، بما فيها "كارتيل دي لوس سوليس" الفنزويلي، وهو ما قد يستخدم كغطاء قانوني لأي هجوم.
ما الهدف النهائي لترامب؟
عندما سئل ترامب عن الهدف النهائي من التحركات العسكرية، أجاب بأنه يريد "أن يعامل شعب فنزويلا بشكل جيد". وخلال ولايته الأولى، دفع بسياسة "الضغوط القصوى" ضد كاراكاس، من دون تحقيق نتائج ملموسة.
ورغم أن ترامب لا يعرف بتفضيله لسياسات تغيير الأنظمة، ويميل لمحاولة عقد "صفقات" مع الخصوم — كما حاول سابقا مع مادورو عبر مبعوثه ريتشارد غرينيل — إلا أن وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو دفع بقوة نحو نهج أكثر تشددا مع النظام الفنزويلي.
ويعتقد فريمان أن مادورو سيظل في السلطة، لكنه لا يستبعد احتمال التوصل إلى اتفاق ما بين واشنطن وكراكاس، يمكن لترامب تقديمه كـ"إنجاز"، مثل اتفاق حول الهجرة أو مكافحة المخدرات.
أما غونسون، فيرى أنه في حال نجحت أمريكا في إسقاط مادورو، فسيكون هناك "استنكار عالمي لاستخدام القوة"، لكن "كثيرين سيتنفسون الصعداء في الخفاء".
بين تهديدات أمريكية وحشد فنزويلي
تصاعدت التوترات خلال الأشهر الأخيرة، إذ أصدر ترامب أمرا تنفيذيا في آب/أغسطس الماضي يسمح بزيادة استخدام الجيش تحت ذريعة "مكافحة عصابات المخدرات" في أمريكا اللاتينية. وفي هذا الإطار، أعلنت واشنطن إرسال سفن حربية وغواصة إلى السواحل الفنزويلية.
بدوره، قال وزير الحرب الأمريكي بيت هيغسيث إن الجيش "جاهز لتنفيذ عمليات، بما فيها تغيير النظام في فنزويلا".
ورد مادورو بإعلان تعبئة 4.5 ملايين فرد من القوات المدنية والعسكرية، مؤكداً استعداد بلاده "لصد أي هجوم محتمل".
اتهامات بالقانون الدولي
أثارت الضربات الأمريكية ضد قوارب في البحر الكاريبي والمحيط الهادي — بزعم تورطها في تهريب المخدرات — جدلا واسعا حول شرعية ما وصف بأنه "قتل خارج نطاق القانون"، إذ استهدفت الضربات أشخاصا على متن تلك القوارب بشكل مباشر.
وتتواصل التساؤلات حول ما إذا كانت التحركات الأمريكية تمهيدا لعملية عسكرية أو جزءا من سياسة ضغط نفسي وسياسي على كراكاس، في ظل غياب وضوح حقيقي في استراتيجية إدارة ترامب.