امس أكملت بلادنا المنكوبة نصف عام من الحرب الكارثية العبثية التي إندلعت في الخامس عشر من أبريل الماضي وما عاد الجدل والإنكار مفيداً لإثبات صلة النظام المباد وحزبه المحلول في إشعالها، ومن الواضح أن الحرب تتمدد صوب ولايات جديدة لم تكن اصلا جزء منها خلال الشهور الست الماضية بدخولها فعلياً إلى حدود ولايتي الجزيرة والنيل الأبيض ليصبح عدد الولايات الواقعة في نطاقها عشرة ولايات من بينها أكبر ثلاثة ولايات من حيث حجم السكان وهي الخرطوم وجنوب دارفور والجزيرة والتي تمثل مجتمعة ما يعادل تقريباً 40% من إجمالي سكان السودان، وبالنظر للأرقام الكلية للولايات المتأثرة بالحرب الحالية في الولايات العشر نجد أن الحرب تضرر منها وتهدد حوالي 70% من سكان البلاد وعند إضافة الولايات السابقة المتأثرة بالحرب (جنوب كردفان والنيل الأزرق) يصبح عدد الولايات المتأثرة بالحروب (12) ولاية يمثل سكانها حوالي 75% من إجمالي سكان البلاد مع عدم إغفال إمكانية إرتفاع عدد الولايات التي يمكن أن تنتقل إليها الحرب.


بسبب هذه الحرب احتسبت بلادنا الاف القتلى من المدنيين والعسكريين والاف الجرحى بعضهم بات ضمن ذوي الاعاقات الدائمة بخلاف الخسائر المادية والإقتصادية في الممتلكات والأموال إذ ظل السلب والنهب لممتلكات المدنيين هو السمة السائدة لهذه الحرب دون وجود تقديرات تظهر حجم تلك الخسائر إلا أن المؤشرات الأولية تظهر تعرض أكثر من 150 ألف سيارة للسرقة من أصحابها داخل ولاية الخرطوم خلال الشهور الأربعة الأولى. اما فيما يختص بالخسائر التى طالت الاقتصاد الكلي للدولة بما فيها البنى التحتية والقاعدة التحتية للشركات الصناعية الموجودة بولاية الخرطوم و التي تمثل حوالي 80% من إجمالي حجم الناتج الصناعي في البلاد .
تسببت الحرب في مفاقمة ألازمات الإقتصادية التي تعيشها البلاد منذ إنقلاب 25 أكتوبر الذي قوض الإنتقال السياسي والإقتصادي وشهدت البلاد ارتفاع الاسعار في الاسواق مصحوبة بعزوف المواطنين عن الشراء نسبة لضعف القوة الشرائية بسبب عدم سداد مرتبات العامين بالقطاع العام الذين يتجاوز عددهم الاثنين مليون موظف في المستوي القومي بجانب ملايين العاملين في مستويات الحكم الاخري وقيام الشركات العاملة في القطاع الخاص بتسريح العاملين فيها أو إنهاء عقوداتهم مما نتج عن ذلك كساد في الاسواق مع اسعار مرتفعة.
في ظل فقدان الإيرادات الضريبية التي تمثل أكثر من 80 % من إيرادات الميزانية العامة تم اللجوء للخيارات الإقتصادية الأكثر كارثية بطباعة النقود لتغطية إلتزامات القوات العسكرية في مسرح القتال وزيادة أسعار رسوم الخدمات التي يحتاجها المواطن وفاقم من الأمر إنهيار خدمات القطاع المصرفي وحرمان أعداد كبيرة من المودعين من السحب والإيداع من أموالهم التي تأكلت قيمتها بسبب إنهيار أسعار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
تتنامي الكارثة الإنسانية وتتزايد بسبب تمدد مساحات الحرب وبلغ عدد الفارين من مناطق الحرب أكثر من 5.5 مليون نسمة منهم 1.1 مليون أصبحوا لاجئين في دول الجوار في ما توزع البقية على عدد من الولايات الأخرى، ويعيش أولئك النازحين في ظل ظروف قاسية ومن المتوقع أن يتسبب القرار الخاص بفتح الجامعات والمدارس لزيادة معاناتهم بسبب اتخاذ معظمهم من مقرات المدارس وداخليات السكن الجامعي مأوى لهم، أما المدنيين المتواجدين في مناطق الحرب فيعيشون مخاطر تهدد حياتهم وإمكانية تعرضهم للموت او للإصابة بسبب القذائف والرصاص والقصف المدفعي والجوي للأطراف المتحاربة وتوقف المستشفيات والمراكز الصحية عن العمل والنقص الحاد في الأغذية والأدوية وإنقطاع المياه والتيار الكهربائي وشبكات الإتصال.
إن المساعدات الإنسانية التي قدمتها الدول الصديقة للشعب السوداني منذ الأيام الاولى للحرب بما في ذلك المساعدات الطبية لم تجد طريقها للمحتاجين فإما أنها تمت السيطرة عليها أو تم عرضها في الأسواق وبيعها علناً وهو سلوك منتهج وموروث من عناصر النظام المباد وهو ما أدى فعلياً لإحجام الجهات المقدمة للمساعدات في الدفع بمزيد منها خاصة مع إصرار سلطات الحرب عدم السماح للعمال والموظفين الدوليين للإشراف على توزيع هذه المساعدات، وبالتالي فإنها تتحمل تبعات زيادة ومفاقمة هذه المعاناة الإنسانية.
تظل الإنتهاكات والفظائع التي ارتكبتها الأطراف المتحاربة خلال هذه الحرب وصمة عار تتطلب إتخاذ إجراءات قانونية صارمة تجاه مرتكبيها بغرض إنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة ولضمان عدم تكرارها مستقبلاً، ولذلك فإننا في الحرية والتغيير رحبنا بقرار مجلس حقوق الإنسان بتشكيل لجنة تحقيق تجاه تجاوزات الحرب وإنتهاكاتها ودعونا لاحالة ملف التجاوزات للمحكمة الجنائية الدولية ونحث جميع الأطراف للتعاون مع اللجنة.
ظلت الحرية والتغيير تعمل جاهدة لتحاشي هذه الحرب وبذلت الجهود لمنع حدوثها منذ أيام الحكومة الإنتقالية ثم بعد إنقلاب 25 أكتوبر 2021م وقبل وبعد توقيع الإتفاق الإطاري وكادت أن تنجح مع قوى الاتفاق الإطاري في نزع فتيلها لولا إصرار وحرص النظام المباد وعناصره على إشعالها، وظلت الحرية والتغيير والقوى المدنية الموقعة على الإطاري تسعي لإخمادها بعد إندلاعها ومنع تمددها والتواصل مع طرفيها، لكن للأسف فإن صوت الحرب كان الأعلى وحينما لاحت بارقة الأمل عبر مفاوضات جدة فإن الحرية والتغيير ظلت تدعم هذا المنبر وتحث الطرفين على إستكماله، ومن المؤكد أن منبر جدة هو الخيار المتاح حالياً لطرفي الحرب لوضع حد للقتال وبداية عملية سياسية تؤدي لانهاء الحرب واعادة بناء البلاد ووضعها في المسار الصحيح.
إن قرار الحرية والتغيير بتحرك قياداتها وتحملهم مسؤوليتهم التاريخية في لعب دور لانهاء هذه الحرب، ساعد وساهم في لعب دور دبلوماسي وسياسي بالتواصل مع دول جوار السودان ومحيطه الإقليمي والمجتمع الدولي والتي كانت حصليتها بلورة موقف مجمع عليه إقليمياً من دول جوار السودان ومحيطه الإفريقي والعربي والدولي بضرورة إنهاء هذه الحرب في أسرع وقت ممكن.
بالتوازي مع ذلك فإن الطريق نحو بناء أوسع جبهة مدنية لإنهاء الحرب وتحقيق السلام وإستعادة الإنتقال المدني الديمقراطي يمضي على قدمٍ وساق بإعتباره مناط به وضع اسس إنهاء الحرب واستعادة المسار الديمقراطي ووضع لبنات إعادة الإعمار وآليات التعويضات وجبر الضرر وتأسيس مؤسسات الحكم المدنية الإنتقالية وتحقيق برامج إعادة بناء مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والعدلية على أسس قومية مهنية إحترافية ذات كفاءة وفعالية، ويمكننا القول أننا نعمل مع رفاقنا من القوى المدنية الديمقراطية من أجل إستكمال هذا الهدف في أقرب فرصة ممكنة بإعتباره خطوة مفتاحية تشجع على إنهاء الحرب.
إننا في قوى الحرية والتغيير وبعد نصف عام من هذه الحرب الكارثية نجدد ما ظلننا نردده منذ اللحظات الاولى بعد إشتعالها بأنها حرب عبثية لا منتصر فيها والخاسر هو الوطن والمواطن، والان بعد مرور ستة أشهر فنجدد موقفنا بضرورة إيقافها الآن، وندعو الطرفين لإتخاذ القرار الصحيح بوقفها ووضع حد للمعاناة والتوجه صوب قاعات المفاوضات في جدة لإسدال الستار على هذه الحرب الكارثية التي لابد أن تنتهي في يوم من الأيام، ويسترد شعبنا وطنه من تحت الركام ويعيد بنائه على هدي أهداف ثورة ديسمبر المجيدة القائمة على الحرية والسلام والعدالة في ظل دولة مدنية ديمقراطية.
قوى الحرية والتغيير - المكتب التنفيذي
الأثنين ١٦ أكتوبر ٢٠٢٣م
#لا_للحرب
#السودان_الوطن_الواحد  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحریة والتغییر هذه الحرب

إقرأ أيضاً:

النضال من أجل الحرية كل لا يتجزأ

يمثل الأستاذ أحمد نجيب الشابي الذي تم الزج به أخيرا في السجن عن سن تناهز الـ 81 سنة نموذجا للنضال الكلي الذي لا يتجزأ من أجل الحرية والديمقراطية والتعايش السلمي ووحدة المجتمع ومدنية الدولة، ورفض الاستثناء والإقصاء والاستئصال وتخوين المخالفين أو ظلمهم.

كيف لا وقد باشر النضال منذ ستينيات القرن الماضي في الجامعة التونسية بالانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي وحوكم بـ 11 سنة سجنا قضى منها سنتين وتم وضعه في الإقامة الجبرية بمدينة باجة التي سرعان ما غادرها إلى الجزائر ثم إلى فرنسا حيث انسحب من البعث وخاض تجربته السياسية الثانية مع منظمة آفاق العامل التونسي دفع ثمنها حكما غيابيا بـ 12 سنة سجنا ثم كانت تجربته السياسية الثالثة بتأسيس التجمع الاشتراكي التقدمي الذي تحول بعد 1987 إلى الحزب الديمقراطي التقدمي والذي جسد من خلاله قناعاته بالتنوع الفكري والسياسي داخل البلاد وفي الكيانات السياسية وعلى رأسها الحزب الديمقراطي التقدمي الذي كان رأس حربة في مقاومة استبداد نظام بن علي وفساده وكان لقياداته وعلى رأسهم الأستاذ نجيب الشابي دورا أساسيا في تحرك 18 أكتوبر 2005 وتوحيد المعارضة في هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات التي صدرت عنها وثائق مهمة حول مدنية الدولة والمرأة والحريات العامة والفردية. والتي مثلت تجربة رائدة في العمل السياسي المشترك وساهمت في تنضيج الاوضاع لقيام ثورة الحرية والكرامة دون أن تتطور إلى جبهة سياسية وطنية بعد أن اختلفت السبل بمكوناتها إثر ثورة الحرية والكرامة.

ويبقى الأستاذ نجيب شخصية محترمة ثابة على المبادى والقيم الإنسانية بقطع النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف لما له من رصيد نضالي ديمقراطي ثري وغني بالدروس والعبر وله من الخيارات والمواقف التي طبعت مسيرته، وقد تعرض لها في كتابه "المسيرة والمسار / ما جرى وما أرى" وهي ككل تجربة بشرية فيها الصواب والخطأ والأكيد أنها نابعة إما من اجتهاد جماعي مع رفاق دربه أثناء كل تجاربه أو اجتهاد شخصي من منطلق تقدير المصلحة الوطنية ودوره في التأثير في الأوضاع وصناعة الأحداث كفاعل سياسي له طموحاته السياسية المشروعة دون ارتباطات أو ارتهانات أو زبونية سياسية.

إن معرفته من قريب تؤكد عمق إنسانيته وتقديره لغيره والتزامه الصارم بعهوده ووعوده ونزاهة معاملاته والرجولة في تصرفاته التي تعد عملة نادرة في هذا الزمن الرديء كما تدحض عنه عدة انطباعات تبدو سلبية وهي في حقيقتها غير ذلك.وهو الرجل الذي يقبل النقد لمسيرته ومواقفه ويستمع بإنصات ويقبل المراجعة والتصويب وقد حصل ذلك في أكثر من مناسبة في حوارات مطولة معه حول بعض مواقفه وتحالفاته أيام الثورة وأثناء عشرية الانتقال الديمقراطي. ولعل من أبرزها موقفه من الإسلاميين الذين يتباعد عنهم أحيانا حد التناقض والصراع ويتقارب معهم أحيانا أخرى حد التماهي والتحالف  فهو ناقد لمنطلقاتهم الفكرية والسياسية ومجادل لهم فيها من داخل نسقها بقطع النظر عن وجاهة آرائه من عدمها ومنافس لهم سياسيا وبشراسة في الاستحقاقات الانتخابية ومدافع عنهم في المحاكم مؤمن بحقهم في المشاركة  السياسية، حيث سجل له التاريخ السياسي التونسي الحديث مرافعتة الشهيرة عن حركة الاتجاه الإسلامي وقيادتها في محكمة أمن الدولة سنة 1987 وكتاباته في مجلة الموقف التي كان يديرها  سنة 1988 حول ضرورة ضمان الحريات السياسية للجميع بما في ذلك الإسلاميين حد تشبيه بعض خصومه له بنجيب الله آخر حاكم لأفغانستان موالي للاتحاد السوفييتي الذي حصل بينه وبين المجاهدين الأفغان تقارب أثناء إرغامهم للسوفييت على الانسحاب.

إن معرفته من قريب تؤكد عمق إنسانيته وتقديره لغيره والتزامه الصارم بعهوده ووعوده ونزاهة معاملاته والرجولة في تصرفاته التي تعد عملة نادرة في هذا الزمن الرديء كما تدحض عنه عدة انطباعات تبدو سلبية وهي في حقيقتها غير ذلك.

أما بخصوص تعاطيه مع المرحلة الحالية التي يعود فيها إلى السجن بعد ما يقارب النصف قرن من النضال السياسي السلمي الديمقراطي، حيث كان تقديره لما حصل سليم من الوهلة الأولى حين اعتبر أن تدابير 25 تموز / يوليو 2021 انقلابا على الديمقراطية رغم ما صاحب العشرية  من سلبيات كان من أشد معارضيها لأن الحل بالنسبة إليه يكمن في إصلاح النظام الديمقراطي من داخله بآليات الديمقراتية نفسها وليس بإجراءات من خارجها.

وقد اعتبر من البداية أن وحدة المعارضة مدخل أساسي لعودة الديمقراطية فانطلق في مشاورات وتنسيق مع بعض الأطراف السياسية والشخصيات التي يلتقي معها في الموقف لتأسيس إطار سياسي نضالي إلا أن المواقف لم تكن ناضجة لتك الخطوة الأمر الذي جعله يتجه لتأسيس جبهة الخلاص الوطني مع بعض مكونات مواطنون ضد الانقلاب الذين تقدموا أشواطا في العمل السياسي والميداني المشترك ومع أطراف وشخصيات أخرى، وقد مثلت خير تعبير عن قناعته الراسخة بالنضال السلمي مع جميع مكونات الساحة السياسية بما في ذلك الإسلاميين (النهضة / ائتلاف الكرامة / العمل والانجاز) من أجل عودة النظام الديمقراطي والاحتكام لإرادة الشعب وقد جعل الجبهة إطارا مفتوحا للجميع انخراط أو تنسيقا  إلا من استثنى نفسه.

لهذه الأسباب يتم سجنه رغم أنه أحد أبرز شيوخ النضال الديمقراطي في تونس وأحد أهم مدارسه المخضرمة وذات المرجعيات الفكرية والسياسية المتنوعة دون اعتبار لسنه الذي قضى منه ما يزيد عن النصف قرن من النضال دون كلل أو ملل أو تردد أو تراجع، وتجاوز كل العقبات والمطبات وهو اليوم يضرب مثالا حيا للتضحية من أجل المبادئ والأفكار والقناعات التي لا تتجزأ ولا تقبل المساومة .

*كاتب وناشط سياسي تونسي 

مقالات مشابهة

  • العمالة للغرب وعواقبها الكارثية على العرب
  • العراقيون في خطر.. الحرية محاصرة بـالخوف والملاحقات اليومية
  • ضرورة الحل الشامل للأزمة في السودان
  • السودان على مفترق طرق: حرب استنزاف أم مفاوضات جادة؟
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي
  • النضال من أجل الحرية كل لا يتجزأ
  • السيّد: هل تكفي الدولارات القليلة التي تحال على القطاع العام ليومين في لبنان ؟
  • بالصورة.. القيادي بالحرية والتغيير خالد سلك ينعي المذيع الراحل محمد محمود: (ودعناك الله يا حسكا يا لطيف الروح وطيب القلب.. كأنك كنت تدري بأن هذه الدنيا زائلة فلم تعرها اهتماماً)
  • ترامب: الولايات المتحدة لا تريد هدر الوقت بشأن أوكرانيا
  • الولايات المتحدة وأوكرانيا يجتمعان اليوم لمناقشة خطة سلام عاجلة بعد مهلة دونالد ترامب لزيلينسكي