هل شكَّل فوز قيس سعيد الخطوة الأولى لخوض معركة إعادة بناء الدولة التونسية؟
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
الكتاب: الصراع السياسي في تونس زمن الانتقال الجمهوري
الكاتب: المولدي قسّومي
الناشر: دار محمد علي للنشر،تونس، الطبعة الأولى 2023،(709 صفحة من القطع الكبير)
في الخطاب السياسي المتداول في أوساط الشباب الجامعي والمتعلم والطبقات الشعبية الفقيرة، شكّل فوز الرئيس قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية ، (الذي اعتمد على مجهوداته الذاتية وحركة شبابية عفوية مساندةله، سحقت مرشحي منظومات حزبية واعلامية ومالية ضخمة)،انتصارًا لشخص بعيد (أو الأبعد) عن المنظومة التي حكمت تونس قبل الثورة والمنظومة التي حكمت بعدها، إِذْ يُمَثِّلُ سعيّدْ فكرة نبيلة، أو حلمًا طوباويًا، وشخصًا صادقًا من خارج عالم السياسة والأحزاب والمال والإعلام، وزَاهِدًا في المناصب نقيض السياسيين الذين تصدّروا المشهد منذ قيام الثورة، أولاً.
وعقابًا للطبقة السياسية الحاكمة التي تمثل منظومة الوصاية والفساد، بجناحيها الخارجي والداخلي، والتي فشلت في حلِّ معضلة البطالة والأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وخذلت الشعب التونسي، وأهملته، وتعالت عليه، واستخفت به، ثانيًا. وانتصارًا مُهِّمًا في معركة طويلة عنوانها تغيير أنموذج التنمية الفاشل القائم على الفلسفة الاقتصادية لليبرالية الجديدة التي عمقت الفروقات الاجتماعية بشكلٍ كبيرٍ، وكرست انعدام المساوة والفوضى الناتجة عن عدم الاستقرار داخل بنيات المجتمع، وجعلت فكرة الديمقراطية نفسها مستحيلة عندما تحول الأفراد إلى مجرد "رأس مال بشري"، غير قادرين على التفكير في أنفسهم باعتبارهم مواطنين، ثالثًا.
في تونس، تغيَّرَ رئيس الجمهورية بفوز قيس سعيَّدْ في الانتخابات الرئاسية، لكنَّ النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أسَّسه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وسار على خطاه الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وعمره أكثر من ستين سنة، لا يزال قائمًا، فهل شكَّل فوز قيس سعيد الخطوة الأولى لخوض معركة إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية؟
يقول الباحث المولدي القسومي :"لقد تضافرت ثلاثة عوامل لتجعل من تلك الحالة حقيقة موضوعية تتمثل هذه العوامل الثلاثة في صعود الشعبوية، وأزمة الديمقراطية التمثيلية، وشيخوخة القوى السياسية التقليدية، وفي تقديرنا فإن انبثاق حالة السيد محتكر السيادة من هذا السياق هو الحصيلة التأليفية والخلاصة الأيضية لهذه الحقائق الثلاثة، فقيس سعيّد شعبويّ بلا شك، ولكنه بلا فكر، وبذلك يكون هو نفسه نتاج الشعبوية التي سادت منذ 2011 فأعطت ثمارها في أحسن عطاء ولا يمكن أن يكون هو من نشرها في مجال الفعل السياسي وهو نتيجة أزمة الديمقراطية التمثيلية التي لم يكن له تجاهها أي رأي أو موقف من قبل أن تجرّب في تونس فلم تصح، لنه لم يكن من ضمن المطالبين بها أو المناضلين من أجلها قبل 2011، بل إنه تكلّم بعدهم جميعاً، وخصوصاً بعد أن فشلوا في بناء تجربتهم الديمقراطية، وهو الصورة الضدية للقوى السياسية التقليدية، إذ تشكلت صورته على قاعدة الاستبطان والتناظري والضدي لصورة القوى السياسية المترهلة والعاجزة عن استقطاب الجماهير بعد أن استنفدت كل رصيدها السياسي، واستهلكت كامل خطابها في تجربة فاشلة، فهو صورة مرآوية عاكسة لما يمكن أن ينتجه فشل التجربة الديمقراطية في صيغتها التمثيلية.
إن هذه العوامل المتشابكة فيما بينها، لم تمنح لعامل الشعبوية من دور سوى امتياز التصنيع المظهري لشخصية الاختراق الأفقي العابر للمتغيرات (متغير الانتماء الجهوي، متغير الخلفية الأيديولوجية، متغير مستوى التحصيل العلمي..) الذي خلق فيها القدرة على تجميع تنوع حشدي عصبي على الائتلاف أو الالتفاف حول شخصية عادية بالمعنى المعياري، فقد ساهمت الشعبوية في بناء صورة نموذجية تستحضر في مكوناتها دور الأستاذ، القدوة، ضمير المجتمع زمن انهيار القيم، وتحويله إلى حالة إيدولاترية مهيأة لتحوصل عناصر السيادة وتختزلها ومُعَدّة جماهيرياً لتحل محل الشعب والدولة، وهذا ما يمكن أن يعبّر عن أعمق مستويات أزمة الديمقراطية وبشكل مضاعف أيضاً؛ ذلك لأن الحالة الإيدولاترية وليدة تعطّل الخيارات الديمقراطية وفشلها بحيث أنها أعطت نتاجاً يحمل خصائصها الجينية، بالإضافة إلى أنها جسّدت على أرض الواقع معنى مأسسة الأزمة التي حلّت بالتجربة الديمقراطية وحوّلتها من أزمة ظرفية وعارضة إلى أزمة بنيوية مؤسسية"(صص 195 ـ 196).
أزمة الديمقراطية الناشئة في تونس مرتبطة بكيفية طرحها منذ البداية من قبل القوى المتطلعة إلى الديمقراطية وبالمضامين والأبعاد التي ارتبطت بهارغم أن الديمقراطية عموماً مسألة قديمة متجددة، وهي ليست بالعامل الطارئ على السياسة في تاريخ الأفكار ونظامها وتاريخ الوقائع ونظامه، فإن كل ما هو مستجد في الأمر ليس سوى الإطار الجديد والأسباب الجديدة لهذه الأزمة، ولنا أن نعتبر أن أزمة الديمقراطية الناشئة في تونس مرتبطة بكيفية طرحها منذ البداية من قبل القوى المتطلعة إلى الديمقراطية وبالمضامين والأبعاد التي ارتبطت بها، وبطبيعة الصراعات التي خيضت من أجلها ضد نظام الاستبداد، فأزمة الديمقراطية في أي بلد مرتبطة بكيفية تأصيلها فيه منذ البداية وهي أيضاً ذات صلة علّمية مباشرة بالأسس التي تم تأصيلها عليها.
كانت تونس تعيش في ظل ديمقراطية ناشئة، و تواجه صعوبات جمة، لأن الثورة ليست الديمقراطية، ولأن الانقسام السياسي و الأيديولوجي القائم في المرحلة الانتقالية وما بعدها، يتطلب من الأطراف السياسية ( سلطة ومعارضة ) تبني خيار "الديمقراطية الوفاقية" باعتبارها أحد النماذج المقترحة لإنجاز مهمات الثورة في شروط يطبعها الانقسام المجتمعي. فالمجتمع التونسي الذي يدافع عن هويته العربية الإسلامية بالمعنى الحضاري و التاريخي ، بات يعاني من الإنقسامات على صعيد الهوية و ما يرتبط بها، بفعل الإنقسامات الأيديولوجية في داخله بين حركة النهضة و التيارات السلفية الجهادية التي تتبنى الأيديولوجيا الإسلامية بصرف النظر عن تفسير وممارسة هذه الأيديولوجيا على أرض الواقع لكل منهما، و بين الأحزاب الليبرالية واليسارية و القومية ، و تكوينات المجتمع المدني الحديث، ومجموعات المصالح، ووسائل الاعلام، والمدارس، التي تتبنى منهج الحداثة والعلمانية المنفتحة من دون تعارضها مع الإسلام.
ففي ظل هذا النظام السياسي الانتقالي الذي تتعدد فيه مصادر السلطة، والذي هو أقرب من النظم الديمقراطية دون التمكن من الوصول إليها، لأن الاستقرار السياسي الذي يشكل شرطاً مفصلياًللديمقراطية التمثيلية غير متحقق في تونس، ولن يتحقق هذا الاستقرار السياسي إلا حين يتم التوجه نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، وفرض هيبة الدولة ، وتطبيق القانون من دون تلكؤ. وهذه الأمور تحتاج إلى تبني "الديمقراطية الوفاقية" ، التي تختلف عن الديمقراطية التمثيلية،لأنها لاتستند على عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجيات، والاحتكام إلى منطق الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة، والإعتماد المتواتر على أسلوب الاقتراع أو الانتخاب، بل تعتمد أساساً على مواصفات بناء التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكونات الأساسية فرص التمثيل والمشاركة في صنع القرار من أعلى هرمه إلى أسفله، دون الخضوع لسلطة الأغلبية ، إذ تحتفظ الأقلية على حق النقض أو الإعتراض مما يجعل قدرتها في مواجهة الأغلبية وتجنب هيمنتها متاحة وممكنة على صعيد الممارسة ، وهو ما لا تتيحه الديمقراطية التمثيلية، على الرغم من اعترافها بشرعية المعارضة وضمان حقوقها الدستورية في النشاط والعمل من أجل التحول إلى أغلبية بدورها.
لا شك في أن أولئك الذين كانوا يطالبون بالديمقراطية مبكراً كانوا يدركون أنه بدون فكرة السيادة الشعبية لا إمكانية لوجود الديمقراطية، ولكن لا نعلم إن كانوا يدركون أيضاً أنه لا يمكننا أن تماهي بينهما على الإطلاق، كما يسعنا اعتبار السيادة الشعبية بمثابة التعريف الكافي للديمقراطية، لأن فكرة السيادة الشعبية يمكن أن تكون ضامناً للديمقراطية السياسية – باعتبارها شرطها الذي لا غنى عنه – ولكنها أيضاً هي الضامن للديمقراطية في أبعادها الأخرى بما فيها المتصلة بمبادئ حقوقية مثل العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع الناس في الحرية والحقوق والواجبات، وذلك لأن السيادة الشعبية لا تكتمل إلا بالمشاركة الإرادية العامة للجميع في صناعة القرار من أجل الصالح العام وفي سبيل العيش المشترك، عن طريق الآليات الأكثر قدرة على ضمان هذه المشاركة.
تبقى السيادة غير مكتملة إذا لم تقم على مشاركة الجميع، بأي شكل كان، ويؤدي عدم اكتمالها ذلك إلى ضعف في أحد مناحي الديمقراطية، أو بعضها، وربما كلها، فالديمقراطية الإنجليزية ـ مثلاً ـ احتفظت بنوع من الضعف في النصاب المجتمعي لأنها قامت على التحالف بين الشعب والأرستقراطية ضد الملك فغلب عليها الطابع الأرستقراطي الذي حاربته الديمقراطية الفرنسية، وفي المقابل احتفظت الديمقراطية الفرنسية بنوع من الضعف في النصاب السياسي لأنها كانت محكومة بالتحالف العكسي، أي بتحالف الشعب والملك – أي الدولة – ضد الأرستقراطية، ونقطة التشابه بين الديمقراطيتين أو العلامة المميزة المشتركة بينهما تعني أن السيادة الشعبية في كلا التجربتين كانت نصفية أو غير مكتملة، لأنها في كلتا الحالتين لا تعبّر عن الإرادة الشعبية العامة ولا تقوم على مشاركة الجميع، يعني أن سبب الضّعف في كل ديمقراطية يعود إلى عدم اكتمال الشرط الجوهري للديمقراطية ذاتها، وهو السيادة بل إنه من الجائز القول بإن السيادة خضعت إلى قابلية التجزئة ووقعت تحت قابلية الاستعمال خلافاً لما خصّها به روسّو من مبادئ أهمّها عدم قابلية التجزئة وعدم قابلية الاستعمال.
يقول الباحث المولدي قسومي: "من هذا المنظور، يبقى الضعف الملمّ بالديمقراطية الناشئة في تونس هو ضعف تأليفي، لأنه يجمع بين سماته الإنجليزية وسماته الفرنسية، باعتبار أن التجزئة التونسية تعبّر عن حالة فشل ولا تعبّر عن حالة نجاح يتّسم بنوع من الضعف، إذ إن الفشل لم يقتصر على عدم بلوغ ما كان مطلوباً من خيار الديمقراطية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، بل تعلّق أيضاً بإلغاء روافع الديمقراطية ودعائمها المؤسسية، ليس أقلّها تعطيل عملية تركيز المحكمة الدستورية، وحل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، واستبدال المجلس الأعلى للقضاء، ثم حل البرلمان، وقد خضعت جميعها لقرارات فردية عبّرت عن نوع من احتكار السيادة أو اختصارها في نفوذ السيد الذي اختزل كل مؤسسات الدولة في سلطته الفردية، باسم الجمهورية الجديدة.
وهنا ينبغي التنبه للتعارض المحتمل بقوة بين تيارين فكرتين ونمطين من المجتمعات السياسية، يمكن تسمية أحدهما بالنمط الجمهوري والآخر بالنمط الديمقراطي إذا شئنا أن نستعيد التعارض الذي يقيمه ريجيس دوبريه بينهما، إذ يرى استناداً إلى ذلك أن الذهنية الجمهورية بإيلائها أهمية مركزية لتدخل الدولة وتغييراتها تتعارض مع الذهنية الديمقراطية التي تولي الدور المركزي للقوى المجتمعية الفاعلة، كما أن الذهنية الجمهورية لا تجعل من السيادة الشعبية العامة شرطاً حاسماً بمثل ما هو حاسم بالنسبة إلى الديمقراطية، وعندما يمكن أن يتحوّل تدخّل الدولة المتاح بأهمية كبرى إلى نوع من تدخل السيد بحجم تدخل الدولة وبفعل احتكاره للسيادة"(ص198).
توجد جذور أزمة الديمقراطية ونقطة ضعفها في النصاب المجتمعي أيضاً باعتبار أن أغلب أفراد الشعب لا يميزون بين العامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتحديد مواقفهم واختياراتهم في تفويض السياسيين وبين العامل الديني والقرابي والأخلاقي في تفويض ممثليهم في السلطة (مجلس نواب الشعب أساساً)، كما أنهم لا يميزون بين المؤسسات والأفراد في منح الوكالة النيابية المنبثقة عنهم باعتبارهم مصدر الشرعية.
كانت تونس تعيش في ظل ديمقراطية ناشئة، و تواجه صعوبات جمة، لأن الثورة ليست الديمقراطية، ولأن الانقسام السياسي و الأيديولوجي القائم في المرحلة الانتقالية وما بعدها، يتطلب من الأطراف السياسية ( سلطة ومعارضة ) تبني خيار "الديمقراطية الوفاقية" باعتبارها أحد النماذج المقترحة لإنجاز مهمات الثورة في شروط يطبعها الانقسام المجتمعيإن ضعف الديمقراطية في تونس على مستوى الفكر والممارسة وحتى على مستوى مضامينها ناجم عن انحصارها في زاوية الصراع الذي خاضته القوى الديمقراطية ضد دولة ذات صلة وثيقة بقوى الحفاظ على النسق المجتمعي وإعادة إنتاجه، فقد خاضت صراعاً ضد الدولة من أجل تغيير المجتمع والحال أن الدولة هي المتحكمة في طبيعته ونمطه ومحتكرة لآليات صياغة منواله ومتحكمة في حركة تشكيلاته، من هنا كان العمل على إلغاء المرجعيات الجماعية باعتبارها أساساً للقوى المحافظة ومحاولة استبدالها بمرجعيات تعلي شأن الفرد على أساس إنسي في كونيته وإطلاقيته أمراً عسيراً، ومن هنا أيضاً كانت صعوبة تجذير المبادئ الكونية لحقوق الإنسان والمواطن والحريات العامة والفردية من الأسباب الرئيسية لضعف الديمقراطية وتأزمها في مرحلة مبكرة.
في الدولة الوطنية التي نشأت في الغرب بعد الثورة الصناعية والثورات السياسية والاجتماعية نجد أن قيم المواطنة هي التي أعادت بناء الدولة الشرعية وأحياناً تكون مدعومة بمشروعية شعبية وإجرائية، وبين الاستحواذ عليها، بما يعنيه الاستحواذ من تضاؤل الشرعية وفقدان المشروعية أو انعدامها تماماً، ويمكن أن نفسر ذلك في علاقة بثلاث لحظات مهمة من التصرف في السيادة من قبل قيس سعيّد:
ـ إلى حدود 25 تموز / يوليو 2021 (تاريخ إعلان حالة الاستثناء) كانت شرعية قيس سعيّد في كل ما أتاه من أشكال التصرف في السيادة دستورية (قانونية حسب التعبير التغييري)، لأنه كان تصرفاً من داخل قيد السيادة الشعبية بصفته المكلف بذلك بمقتضى الإرادة الشعبية العامة.
ـ ما بين 25 تموز / يوليو و22 سبتمبر 2021 كانت مرحلة الذروة السيادية بالنسبة إلى الحاكم الذي بلغ درجة الجمع والتأليف بين مقومات السيادة القانونية والسيادة الكاريزمية، باعتبار أنه أضاف إلى رصيده من الشرعية السيادية مشروعية ما أعلنه من إجراءات لحل أزمة تعطّل الحياة السياسية، فكان خلال ما يناهز الشهرين يعبّر عن الشرعية والمشروعية السياديتين اللتين منحهما إليه تأويله للدستور – في حدود الشرعية الدستورية للتأويل ـ في مستوى أول وغياب الاعتراض العمومي على الإجراءات في مستوى ثانٍ.
ـ منذ 22 سبتمبر 2021 (تاريخ إصدار الأمر عدد 117 المتعلّق بالتدابير الاستثنائية) وانفراد قيس سعيّد بسلطة التصرف المطلقة في كامل المسار وفي كلّ دواليب الدولة وإدارة الحياة السياسية، تميّز المسار بفقدان عناصر السيادة القانونية (الانقلاب على القيود الإجرائية) وعناصر السيادة الكاريزمية (التفرد بالقرار وعدم الاستماع لأي من مقترحات ممثلي المجتمع في الفضاء العام).
إقرأ أيضا: خصائص الصراع السياسي في ظل الجمهورية الجديدة في تونس.. قراءة في كتاب
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب تونس الثورة السياسة تونس كتاب ثورة سياسة عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بناء الدولة قیس سعی د یمکن أن فی تونس من قبل
إقرأ أيضاً:
من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شمال أفريقيا؟
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كتب الفيلسوف الألماني كارل ماركس كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، الذي حلل صعود لويس بونابرت إلى الحكم في فرنسا وفصل علاقة الفرد بالتاريخ وتضمن إحدى أشهر مقولاته وهي أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأولى في شكل مأساة والثانية في شكل مهزلة.
ويمكن اقتباس ما قاله ماركس بتعديل جذري وهو أن التاريخ يعيد نفسه مرات كثيرة وفي شكل مآسٍ متعددة، والإشكال هنا هو أن التاريخ نفسه لا يُدون بعض هذه المآسي، بل ينساها أو يتناساها. اليوم نعود إلى إحداها وهي التي كان ضحاياها مسلمي إسبانيا أو مَن يعرفون بالموريسكيين.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فلسطين في ثلاثة كتب باللغة البرتغالية.. نافذة للقارئ البرازيلي على القضية الفلسطينيةlist 2 of 2فيلم "8 أكتوبر" يهاجم الاحتجاج ضد الإبادة دعما لأجندة يمينية متطرفةend of listيقول الباحث روجر بواز في دراسة بعنوان "طرد الموريسكيين وشتاتهم: مثال على التعصب" إن "طرد آخر المسلمين من إسبانيا في بداية القرن السابع عشر كان حدثا رئيسيا ليس فقط في تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، بل أيضا في تاريخ معاداة السامية. لقد كُتب الكثير عن طرد اليهود من إسبانيا في العام 1492 وعن معاناتهم على أيدي محاكم التفتيش، ولكن العرب الإسبان أو الموريسكيين لم يحظوا بعد بالاهتمام الذي يستحقونه".
الملوك الإسبان والتبشير بالسيف
في العقد الأول من القرن السابع عشر، حملت السفن المسلمين الإسبان في أكبر عمليات التهجير التي شهدها ذلك القرن، بعدما وُضعوا أمام خيارين، التنصير أو التهجير. ترك عشرات الآلاف وطنهم هربا من بطش الملوك الإسبان والكنيسة الكاثوليكية، فكانت دول المغرب الإسلامي ملاذهم الأخير.
تعود جذور هذه التغريبة التي غيرت الديمغرافيا السكانية والعقائدية لإسبانيا ودول المغرب الإسلامي، إلى عام 1492 حين وضع الملك فرناندو والملكة إيزابيلا معاهدة بعد سقوط غرناطة، آخر معاقل حكم المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، تضمنت السماح للمسلمين في إسبانيا بالاحتفاظ بمساجدهم ولغتهم وعاداتهم، لكن لم تدم تلك الوعود سوى بضع سنوات، حيث انقلب الأمر بعد استبدال رئيس الأساقفة "هيماندو دي تالافيرا" المعروف باعتداله، بالكاردينال المتعصب "فرانسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس".
يذكر الباحث روجر بواز أن دي ثيسنيروس، وهو مستشار مقرب من الملكة إيزابيلا، قد قام "بحرق النصوص الدينية العربية، وأدت هذه الأحداث بشكل طبيعي إلى ثورة البُشارات الأولى (نسبة إلى منطقة البُشارات Alpujarra الإسبانية) بين عامي 1499 و1500، واغتيال أحد مساعدي دي ثيسنيروس، فكان ذلك ذريعة جيدة للملوك الكاثوليك لإلغاء وعودهم".
على مدى عقدين من الزمن بعد اغتيال مساعد دي ثيسنيروس، كان على المسلمين في إسبانيا الاختيار بين التنصير أو النفي، وبدأت حملات ملاحقتهم في الأندلس، تلتها حملات استهدفت مسلمي فالنسيا، وكاتالونيا، وأراغون.
إعلانكان اعتناق المسيحية الخيار الأسهل والأكثر منطقية بالنسبة لكثير من المسلمين، وهو ما جعلهم خاضعين لمحاكم التفتيش التي تأسست عام 1478، وكان هدفها الرئيس الحفاظ على العقيدة الكاثوليكية ومحاربة كل أشكال الهرطقة. ويذكر بواز أن أغلب من اعتنقوا المسيحية تخلوا عن دينهم في العلن، لكنهم واصلوا ممارسة عقيدتهم الإسلامية سرا.
لم تكن المحاولات المتكررة لإقامة دول مذهبية كاثوليكية أمرا غريبا على أوروبا، فقد انتهج هذا السبيل ملوك إيطاليا وفرنسا وألمانيا، بإيعاز من رأس الكنيسة الكاثوليكية في روما.
وقد لحقت إسبانيا بركب جيرانها، فأقرت الملكة إيزابيلا العقيدة الكاثوليكية دينا رسميا للدولة، واللغة القشتالية لغة رسمية لإسبانيا.
ومجاراة لقرارات الملكة إيزابيلا، أصدر الملك الإسباني شارل الخامس عام 1526 عدة قوانين ضد مسلمي إسبانيا، من بينها حظر استخدام اللغة العربية، وإجبارهم على تعلم اللغة الإسبانية، ومنعهم من ارتداء ملابس تختلف عما يرتديه الكاثوليك، بل ومنع الخياطين وأصحاب محلات المجوهرات من بيع أو صناعة أي منتوج مخالف للنمط الإسباني المسيحي.
يقول الباحث الشافعي درويش في دراسة بعنوان الجالية الأندلسية في تونس ودورها الحضاري "بسبب محاكم التفتيش أضحى الموريسكيون عبيدا بدون سيادة، وبدأت عمليات الاستلاب الثقافي والتغريب بعد مصادرة أملاكهم، فقد كانت عمليات التفتيش تقضي باسترداد روحي وحضاري لكافة سكان الأندلس. لقد أقرت محاكم التفتيش قطع الموريسكيين عن جذورهم وهويتهم الثقافية بالقضاء على نظامهم الاجتماعي انطلاقا من قمة الهرم أي سحق الزعماء والمتضلعين في شؤون الإسلام ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم وإجبارهم على مصاهرة المسيحيين من أجل دمجهم بالقوة في المجتمع الإسباني وإرغامهم على الزواج وفق العادات المسيحية ومنعهم من بيع ممتلكاتهم".
كان من الطبيعي أن تقود تلك الحملات التي استهدفت مسلمي إسبانيا إلى ثورة ثانية بين عامي 1568 و1571، عُرفت باسم ثورة البُشارات الثانية، التي أُخمدت بعد مقتل قائدها مولاي محمد بن عبو. خلال قمع ثورة البشارات الثانية، دُمرت قرية غاليرا بالكامل ورُشت بالملح، وقُتل جميع سكانها البالغ عددهم ألفين وخمسمئة نسمة، بما في ذلك النساء والأطفال. ولضمان عدم مقاومتهم، تم تشتيت عشرات الآلاف من الموريسكيين من منطقة غرناطة إلى أجزاء أخرى من إسبانيا، واستوطن المسيحيون في أراضيهم.
إعلانيقول الباحث روجر بواز "كان الصراع بين المجتمعين المسيحي والمسلم قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وفي وقت مبكر من العام 1582 اقترح مجلس الدولة في عهد فيليب الثاني الطرد باعتباره الحل الوحيد، على الرغم من بعض المخاوف بشأن التبعات الاقتصادية التي قد تترتب على هذا الإجراء بسبب تراجع المهن الخاصة بالموريسكيين وانخفاض القوى العاملة والمهارات الزراعية التي يتمتع بها الموريسكيون". بعد صعود فيليب الثالث على العرش الإسباني بين عامي 1598 و1621، حسم قرار طرد المسلمين من البلاد وذلك بضغط من رجال الكنيسة وبعد التشاور مع جمعية الأساقفة الإسبان، وقد أمضى على المرسوم الأول بهذا المعنى في أبريل/نيسان سنة 1609 لتبدأ رحلة الشتات لقرابة مليون مسلم إسباني.
فصل الشتات المكتوب على مسلمي إسبانيا
أصبح مخطط التهجير جاهزا للتنفيذ بعد أن أجمع البلاط والكنيسة على الأمر. أعدت إسبانيا أسطول سفنها سرا وعززته بسفن تجارية أجنبية لتشارك في عملية التهجير، وكان أغلبها من إنجلترا.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 1609، أعلنت السلطات البلدية في مملكة فالنسيا أمر الطرد، لتعقب ذلك الإعلان أول رحلة للمطرودين في شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، وكانت مدينة دانية هي التي أطلقت أول دفعة من الموريسكيين المهجرين نحو سواحل الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وخرجت تلك الرحلة تحت جنح الظلام.
في عام 1610، تتالت أوامر طرد الموريسكيين من مدن أخرى، في أراغون وقشتالة والأندلس وإكستريمادورا، وحُملوا على ظهور السفن متوجهين إلى وهران وتونس وتلمسان وتطوان والرباط وسلا، وقد استقبلت تونس أكثر الموريسكيين المطرودين من إسبانيا.
يصف بيدرو أثنار كاردونا، وهو أحد الشهود على عمليات الترحيل، في كتابه "الطرد المبرر للموريسكيين الإسبان" أحد مشاهد تهجير الموريسكيين قائلا "في موكب غير منظم، يختلط فيه المشاة والفرسان، يسيرون الواحد تلو الآخر، ينفجرون بالألم والدموع، محملين بأبنائهم وزوجاتهم ومرضاهم وكبار السن، مغطين بالغبار، يلهثون ويتصببون عرقا". المشهد مألوف جدا، أليس كذلك؟
إعلانتتضارب الأرقام بشأن الموريسكيين الذين لقوا حتفهم خلال رحلات تهجيرهم، لكن يذكر بيدرو أثنار كاردونا في كتابه أن أكثر من خمسين ألف موريسكي ماتوا بين أكتوبر/تشرين الأول 1609 ويوليو/تموز 1611، وذلك أثناء محاولتهم مقاومة عمليات الطرد، في حين مات أكثر من 60 ألفًا أثناء رحلاتهم برا أو بحرا.
ولم تكتف إسبانيا بتهجير الموريسكيين بل أجبرت بعضهم على ترك أطفالهم، حيث أصدر مجلس المملكة في سبتمبر/أيلول من عام 1609 قرارا بأن يُبقَى جميع الأطفال الذين تبلغ أعمارهم عشر سنوات أو أقل في إسبانيا وذلك لتلقي تعليمهم هناك على يد رجال الدين أو أشخاص من الثقات.
ويقوم هؤلاء الأطفال بخدمة من يرعونهم حتى يبلغوا سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين مقابل الطعام واللباس، أما الموريسكيون الرضع فتقوم النساء المسيحيات بتربيتهم حتى يشتد عودهم، وتذكر المراجع التاريخية أنه تم الإبقاء على ما يقارب عشرة آلاف طفل موريسكي في إسبانيا ضمن سياسة انتزاع الأطفال المسلمين من أهلهم.
يُقدر عدد الوافدين الموريسكيين إلى تونس بحوالي 80 ألفا، وكان معظمهم في ذلك الوقت من أراغون أو من شمال قشتالة وفيهم مجموعات من فالنسيا. يقول الباحثان نزار السياري وهشام رجب في دراسة "أصل المشهد الأندلسي في شمال غرب تونس: تستور وتراثها الموريسكي": "وصل الموريسكيون إلى تونس في فترة من عدم الاستقرار السياسي الشديد، والذي تفاقم بسبب ثورات القبائل العربية في الداخل، والحروب مع إيالة الجزائر في عام 1613 و1628، والاشتباكات مع المسيحيين على الساحل المتمثلة في حرق الأسطول التونسي قبالة حلق الوادي في العام 1609، والأوبئة الكبرى طيلة سنوات بين العامين 1604-1605، و1620و1621، والعامين 1642 و1644. وتزامن وصولهم في السنوات الأخيرة من حكم عثمان داي واستمر في السنوات الأولى من حكم يوسف داي".
إعلانحين حل الموريسكيون بأرض تونس، وجدوا الترحيب من عثمان داي الذي كان في أواخر سنوات حكمه، وشجع على توطينهم في تونس وذلك بإلغاء الضريبة التي كانت تدفعها كل سفينة ترسو في الموانئ التابعة لدائرة سلطته، كما أعفى داي تونس الموريسكيين من الضرائب ومكنهم من الأسلحة والأراضي ليعمروا قرى بأكملها وعين شيخا منهم يقوم على شؤونهم ولم يُخضعهم لسلطة "القُيّاد" أي الولاة.
كان الحظ حليف الموريسكيين في تونس رغم أن نزولهم بها كان في فترة اضطرابات في الداخل والخارج، لكن عدة عوامل متشابكة جعلت كل الأزمات الداخلية تصبّ في مصلحتهم، وهي عوامل سياسية بالأساس، حيث فكر عثمان داي ومن بعده يوسف داي في الاستفادة من وجودهم لتركيز السلطة على القبائل داخل البلاد.
ويقول الباحثان نزار السياري وهشام رجب "إن الترحيب الذي أبداه دايات تونس تجاه الموريسكيين كان راجعا إلى المأساة التي عاشوها، ولكن أيضا إلى متطلب سياسي ذي وزن كبير. في الواقع، رأى حكام تونس في الموريسكيين حليفا ذا أهمية قصوى لبسط سيطرتهم على الأراضي في الداخل التي ظلت تحت نفوذ القبائل المتمردة، ليس ذلك فحسب، بل ولكن من خلال استقبالهم للموريسكيين، ضمنوا أيضا دعم الأتراك، الذين أظهروا تضامنا خاصا جدا مع قضية الموريسكيين، وبالتالي عززوا سلطتهم، وخاصة ضد دايات الجزائر".
في الواقع، لم يكن اللاجئون الجدد ورقة سياسية استفاد منها ملوك تونس في بسط نفوذهم ودعم سلطتهم فحسب، بل كانوا قوة اقتصادية كبيرة استفادوا منها أيضا، فقد جاءت الغالبية الكبرى من الموريسكيين بثروة مهمة جدا هي الحنكة والدراية في مجالات الزراعة والعمارة والحرف إضافة إلى المعرفة بالتقنيات العسكرية وأمور الإدارة المالية والسياسية.
ويذكر الباحث ميكيل دي أبالزا أن الموريسكيين أدّوا دورا كبيرا في استقرار السلطة السياسية والعسكرية في تونس وذلك بوجود مسؤولين وتجار أندلسيين في حاشية الدايات والبايات.
يقول دي أبالزا: "إن الباي حسين بن علي التركي ذا التكوين العسكري، قد وصل إلى السلطة بقوة السلاح، مثل جميع الملوك التونسيين تقريبا منذ أن استعاد الأتراك البلاد من الإسبان عام 1574. وفي بداية القرن السابع عشر، تلت التمردات المسلحة قوة سياسية مستقرة نسبيا مع عثمان داي ويوسف داي، وذلك بفضل تحالف بين هؤلاء القادة العسكريين الأقوياء وبين برجوازية تونس التي لعب فيها الموريسكيون أو الأندلسيون دورا مهما للغاية. وقد حظي هؤلاء الوافدون الجدد من إسبانيا باستقبال طيب للغاية من قبل السلطات، وساهم وجودهم بعد مرور قرن من الزمان، في تقوية الأسرة الحاكمة الجديدة".
حين وصل الموريسكيون إلى تونس، استقروا في البداية في الحاضرة والمناطق القريبة منها، لكن صنعتهم المتمثلة أساسا في الزراعة قادتهم إلى التوسع على ضفاف وادي مجردة غرب العاصمة، وهناك أسسوا قرى على أنقاض قرى قديمة مثل تستور والسلوقية وطبربة المشابهة في مناخها وتربتها لبعض المناطق الإسبانية التي عاش فيها الموريسكيون، قبل أن يتوسعوا إلى بنزرت وزغوان وسليمان، ولذلك لم يجدوا صعوبة في تعمير تلك المدن والقرى وفي تركيز حياتهم الجديدة، فاكتسبوا نفوذا اقتصاديا وسياسيا ودخلوا في نسيج السكان الأصليين وتغلغلوا في بلاط الحكم.
إعلانيلخص جان أندريه بيسونيل في كتابه، الذي هو في شكل رسائل، ويحمل عنوان "رحلات في مناطق من تونس والجزائر" -وهي رحلات أجريت بأمر من الملك في سنتي 1724 و1725- مكانة الموريسكيين في تونس بالقول: "الأندلسيون، الذين طُردوا من إسبانيا، هم الأوفر حظا في هذا البلد. لقد حافظوا على مهاراتهم في الزراعة والصناعة والتجارة، كما أن بعضهم متعلمون ويتحدثون عدة لغات، وهم يتميزون بالذكاء والنشاط، كما يتبوؤون مناصب إدارية في المدينة".
ويمثل كتاب بيسونيل، إلى جانب كتاب الأب فرانسيسكو خيمينيث، وثيقة مهمة في تصوير حياة الموريسكيين في تونس ومكانتهم الاقتصادية والسياسية في تلك الفترة، ويذكر بيسونيل أن "المدن والقرى كانت نادرة جدا في هذه المملكة قبل مجيء الأندلسيين. فمعظم المدن التي نجدها اليوم تدين بتأسيسها، أو على الأقل بإعادة إعمارها لهم، لأن السكان الأصليين أو البدو كانوا يفضلون العيش في الخيام في الريف على العيش في المدن، كما لا يزال يفعل معظمهم حتى اليوم. وقد فاقوا العرب في زراعة الأشجار، كما يتضح بسهولة في الأماكن التي يسكنونها. فتكاد ضواحي مدنهم كلها تكون مليئة بالحدائق المليئة بأشجار الفاكهة والأعشاب المزروعة، والتي تتم العناية بها جيدًا وتُحسن زراعتها".
ويضيف بيسونيل أنه بعد أن مكنهم عثمان داي من حق الاستقرار في تونس، أسسوا قرى ومدنًا لا يمكن لعربي تولي منصب فيها وأداروا حكمها من خلال مجلس العدالة الذي يقوده حاكم يُطلق عليه اسم "الشيخ"، وهو الشخص الأكثر مكانة، إضافة إلى ثلاثة محلفين وثلاثة مسؤولين آخرين، ويتم تعيين الشيخ مدى الحياة عبر التصويت من قبل جميع الموريسكيين، ثم يصادق الباي على هذا التعيين. وتتمثل مهمة الشيخ في إصدار الأوامر وإقامة العدل في القضايا المدنية والجنائية لكنه لا يستطيع الحكم بالإعدام إلا بأمر صريح من الباي، ويستفتي الشيخ مستشاريه الثلاثة أما بقية أعضاء مجلس العدالة فهم بمثابة الحراس الذين يتولون تنفيذ أوامر المجلس.
إعلان
لا يتوقف نفوذ الموريسكيين على إدارة شؤونهم في شكل حكم ذاتي فحسب، بل كانت لهم مناصب داخل قصر الباي نفسه وهو ما يذكره خيمينيث حين وصف منصب الخزندار الذي تقلده موريسكي يدعى محمود خزندار، حيث يقول "هناك خزندار سياسي ورجل دولة عظيم، يحكم حسين بن علي رعيته وفقا لنصائحه، ولا يفعل شيئًا دون موافقته. إنه ثري للغاية. بنى مدرسة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، مُخصصا جزءا من دخله لهذا العمل. كان للخزندار نفوذ كبير لدى الباي".
كما كانت هناك شخصية موريسكية أخرى لا تقل عن محمود خزندار، وهو الشريف قسطلي، الذي عيّنه الباي في إدارة مستشفى المارستان لمنافسة المستشفى الإسباني المسيحي، وقام الشريف قسطلي بهدم المستشفى وإعادة بنائه بأفضل صورة. كان هذا الموريسكي رجلا ثريا ويعتبر ثاني أكبر مالك للعبيد بعد البايات حسب خيمينيث، ولم يقتصر دوره على التجارة بل كان وسيطا في حل الأزمات السياسية، حيث تدخل في المفاوضات مع الفرنسيين الذين أرسلوا أسطولا بحريا إلى سواحل تونس، وكان وسيطا أيضا بين الباي وقادة متمردين داخل البلاد.
وحسب الباحث ميكيل إيبالزا، فإن الشريف قسطلي قد يكون له دور عسكري في المملكة التونسية، حيث كان مقربا من عديد من القيادات وحظي بحماية الباي الذي آواه في مكان آمن في قصر باردو خلال فترة الاضطرابات عام 1729.
ويضيف إيبالزا في حديثه عن محمود خزندار والشريف قسطلي "هاتان الشخصيتان الأندلسيتان العظيمتان لهما أهمية كبيرة. يمارسان عدة وظائف في الدولة وهي وظائف ذات طبيعة إدارية ومالية. ومن ناحية أخرى، نرى أن هذه المكانة لا تعتمد على المنصب الذي يشغلانه، بل على المكانة الاجتماعية التي ينتميان إليها، فقد كانا من التجار البرجوازيين الأندلسيين".
المعمرون الجدد.. فقهاء الزراعة وأرباب الصناعةحين قدم الموريسكيون إلى تونس، لم يحملوا معهم دفاتر شتاتهم وذكريات ما تركوا وراءهم فحسب، بل بدؤوا في تعمير مستقرهم الجديد حتى لا يستوحشوا الغربة، وسكبوا كل معارفهم في الزراعة في أراضي الشمال حتى أصبحت بمثابة الجنان.
إعلانويقول ابن أبي دينار في كتاب "المؤنس في أخبار إفريقية وتونس": "فعمرت بهم البلاد واستوطنوا في عدة أماكن، ومن بلدانهم المشهورة سليمان وبلي ونيانو وقرمبالية وتركي والجدّيدة وزغوان وطبرية وقريش الواد ومجاز الباب والسلوقية وتستور وهي من أعظم بلدانهم وأحضرِها، والعالية والقلعة وغار الملح وغيرها. بحيث تكون عدتها أزيد من عشرين بلدا، فصار لهم مدن عظيمة، وغرسوا الكروم والزيتون والبساتين ومهدوا الطرق بالكراريط للمسافرين وصاروا يعدون من أهل البلاد".
كان للموريسكيين دور كبير في إعمار مناطق كثيرة في تونس وإحيائها، فقد أدخلوا عليها غراسات جديدة مثل الرمان وتوسعوا في غرس الزياتين وجعلوا من أراضي ضفاف وادي مجردة مناطق سقوية بفضل مهاراتهم في تقنيات الري.
وتصف دراسة "نظام الري الموريسكي القديم في تستور: خبرة الأجداد" لنزار السياري ومحمد موسى وهشام رجب، تقنيات الري في مدينة تستور أكبر المدن الموريسكية في تونس، التي لا تزال آثارها موجودة إلى الآن، وتقول الدراسة: "تكمن أصالة نظام الري بالآبار السطحية في أن أغلبها آبار قديمة كانت مجهزة بنواعير، مع بعض الاستثناءات، حيث كان نظام الضخ القديم هو الدلو. إن المواد وتقنيات بناء أروقة الآبار المسدودة هي نفسها تقريبًا تلك التي نجدها في العمارة المغربية للمدينة والتي يمكن اعتبارها دليلًا على أن بناء هذه الآبار، على الأقل الأقدم منها، يعود تاريخه إلى وقت بناء المدينة. يتم ضخ الماء عن طريق قناة التدفق أو أنبوب التوصيل، حيث تدور المياه التي يتم تصريفها في حوض صغير عبر قناة صغيرة لتصل إلى حوض التجميع الكبير. يتم ضمان توزيع المياه إلى مختلف الساحات المزروعة من خلال قناة محفورة على طول قطعة الأرض".
أوجد الموريسكيون مشهدا طبيعيا جديدا وثوريا، وذلك من خلال تنظيم العمل الجماعي وتسوية التربة وتخطيط قطع الأراضي داخل البساتين واستعمال تقنيات جديدة في ري الأرض، كما استجلبوا أنواعا جديدة من النباتات، وتمثل مدينة تستور شاهدا صادقا على أسلوب الحياة الريفية التي جلبها الموريسكيون حين استوطنوا تلك الأرض، حتى أصبحت شبيهة بالحياة الريفية في القرى الإسبانية.
إعلانكما حفر الموريسكيون في تونس ذاكرتهم في تصاميم مدنهم وجوامعهم وبيوتهم، حتى أصبحت أشبه بعمارة إسبانيا، ويضرب الباحثان نزار السياري وهشام رجب في دراسة "أصل المشهد الأندلسي في شمال غرب تونس: تستور وتراثها الموريسكي" مثلا بمدينة تستور التي تبعد قرابة ثمانين كيلومترا عن العاصمة، والتي صممت على الطراز الإسباني ويقولان: "إن المشهد الحضري، المصمم والمعيش من خلال الممارسات، يشهد على التعلق والحنين للمجتمع الموريسكي بأصوله الإيبيرية ورغبته في الحفاظ على نفسه كمجتمع موحد ومتضامن".
وأكثر ما يلفت الاهتمام في الطابع المعماري الموريسكي هو تصميم مآذن المساجد، حيث يتم تزيينها بزخارف من الفن الإسباني كما في أراغون وقشتالة، مما يذكّر بالكنائس والكاتدرائيات المسيحية، وهو "يشكل ظاهرة فريدة من نوعها، تشهد على رغبة البناة في تقليد الزخارف المعمارية والزخرفية الإسبانية".
لم تقتصر حياة الموريسكيين في تونس على الزراعة والعمارة فقط، بل مارسوا التجارة وكانت مبادلاتهم التجارية مع اليهود والإيطاليين والأتراك، واقتنوا القوارب من القراصنة وامتلكوها، كما امتهنوا تجارة الجلود والمنسوجات واستوردوا الحرير والخزف، وركزوا دكاكين صناعة الطربوش المعروف بالشاشية في الحاضرة والمدن التي تجاورها، وأصبحوا من أهل البلد قلبا وقالبا، حتى إن أحلامهم بالعودة تلاشت، وبقيت ذكرياتهم تمر على ما بقي من جدران عمارتهم، تستذكر ما جاد به لسان الدين بن الخطيب:
"يا زمان الوصل بالأندلس، لم يكن وصلك إلا حلما، في الكرى أو خلسة المختلس".