قوات فاغنر ليست الأولى.. روسيا التي تهوى الانقلاب في زمن الحرب
تاريخ النشر: 26th, June 2023 GMT
ما أشبه الحالة الروسية اليوم، بما كانت عليه أمس حين ثار الشيوعيون على الإمبراطورية القيصرية، بينما كانت جبهات الحرب العالمية الأولى مفتوحة كالجراح تنزف دما ونارا.
وها هو قائد قوات فاغنر يعلن التمرد على قياداته التي تخوض حربا ضد أوكرانيا؛ لنحو 24 ساعة، رُسمت خلالها كل سيناريوهات الفناء.
ولم يكن أشدها تفاؤلا يتوقع التوصل لاتفاق بين الرئيس فلاديمير بوتين وقائد قوات فاغنر، بل إنه حتى بعد أن تم الاتفاق وأعلن عنه، بقيت مساحات غامضة ستكشف الأيام القادمة عنها.
وكانت السينما الروسية بحاجة إلى 70 عاما من العيش تحت الحكم الأحمر، ثم 18 عاما حتى تملك شجاعة مواجهة لحظة سقوط الحاكم الأخير لروسيا ما قبل لينين الذي أقدم على ثورته بينما البلاد في حالة حرب ضد القوات الألمانية، يقاسي خلالها الجيش الروسي من الهزائم والتشرذم ونقص العتاد والضعف الكثير.
في فيلم "أدميرال" الذي صنع عام 2008، يقدم المخرج أندريه كرافتشوك السنوات الأخيرة في الحياة العسكرية والسياسية للحاكم العام الروسي ألكسندر فاسيليفيتش كولتشاك الذي استمر في حكم روسيا حتى عام 1920 باعتراف دولي، ثم تعرض للخيانة، فقُبض عليه وسُلّم للحكام البلاشفة الشيوعيين الذين أعدموه.
وإذا كان انقلاب الشيوعيين الذي أطلق عليه اسم "الثورة الاشتراكية العظمى" في 2017 قد صادف العام قبل الأخير من الحرب العالمية الأولى أثناء مواجهة الألمان، فإن تلك المواجهات نفسها هي ما دفعت بالقيصر الروسي في ذلك الحين إلى اختيار قائد القوات البحرية الروسية في بحر البلطيق وزيرا للدفاع.
وما أن تولى ألكسندر كيرينسكي رئاسة الحكومة الانتقالية في روسيا حتى دعاه لتولي الوزارة، لكن كولتشاك رفض، ثم أصبح بدءا من 1918 إلى 1920 حاكما أعلى لروسيا ومحاربا صلبا ضد الثورة الاشتراكية العظمى.
يرصد الفيلم مسيرة ذلك القائد ألكسندر كولتشاك (لعب دوره قسطنطين خابنسكي) الذي اتخذ موقفا مضادا للثورة، بينما كانت نيرانها تندلع في كل شبر من أرض روسيا، وذلك انطلاقا من أرضية دينية أولا ثم وطنية، وعلى التوازي مع تلك الحرب يتابع الفيلم خطا دراميا ملتبسا حول قصة حب نشأت بينه وبين آنا وهي زوجة أحد مرؤوسيه ولعبت دورها إليزافيتا بويارسكايا.
شجاعة وصمودقدم صنّاع العمل شخصية كولتشاك بداية من قيادته لإحدى سفن الأسطول الروسي في الحرب ضد الألمان، حيث حقق صمودا أسطوريا في مواجهة قوة نارية هائلة كادت أن تقضي على سفينته، ورغم الخسائر البشرية الهائلة تمكن من صد الهجوم الألماني وردعه حتى تراجع المهاجمون وفقدوا أغلب قوتهم، ومن ثم تتم ترقيته إلى قائد للقوات البحرية في بحر البلطيق.
وجاء مشهد الاشتباك متقنا بشكل لافت، حيث تتبادل السفينة الحربية الروسية إطلاق النيران مع عدة سفن ألمانية، وهو ما يؤدي إلى اشتعال الحرائق في مساحات كبيرة نسبيا منها وتحطم الكثير من المعدات وانقطاع الاتصالات ومصرع العديد من الرجال.
ورغم الإضاءة المزعجة نتيجة النيران الكثيفة، جاء الالتحام بين الماء والنيران، ليصنع بانوراما لونية مخيفة، ويقدم ما يتجاوز الشكل إلى ذلك الاتحاد بين متناقضين، والذي سيؤدي إلى انطلاق طاقة مختلفة للحياة.
ويؤكد مخرج العمل انحيازه منذ البداية لبطله، ويدعو مشاهده لذلك، فحين تنتهي الحرب العالمية الأولى يعود الرجل إلى بيته التقليدي المكون من زوجة وابن، ويبلغ زوجته بحقيقة مشاعره، ويمنعها من الخروج؛ مؤكدا أن كل شيء على ما يرام، ومن ثم يلتقي حبيبته ويعلن لها أنهما لن يلتقيا ثانية.
تدور أحداث العمل في العشرية الثانية من القرن الـ20، وبالتالي فهي الأقرب للمرحلة الرومانسية في الأدب وفي الحب أيضا، وهي ما طبع العلاقة بين القائد العسكري وزوجة مرؤوسه التي أبلغت زوجها بالحقيقة وطُلقت منه أيضا، وتحولت إلى عاشقة هائمة على وجهها خلف معشوقها، وهو ما يستدعي صورة بطلة رواية "آنا كارنينا" للكاتب الروسي أيضا ليو تولستوي.
تركت آنا زوجها الذي انضم للجيش الأحمر، وانضمت للفريق الطبي العامل مع حبيبها، ولم تهدف في ذلك الوقت إلا للاطمئنان عليه، لكنه صادفها هناك، فقرر ألا يفارقها ثانية.
نساء الملوكيقدم الفيلم زوجات القادة وكل نساء العمل باعتبارهن جميعا يشكلن ملمحا مهما من ملامح بدايات القرن الـ20 في روسيا القيصرية، إذ يظهرن في كامل زينتهن باحتفالات النصر، ينظرن بانبهار لكل قائد عسكري أو أمير أو صاحب منصب، وكأنهن يحلمن بمقعد إلى جوار أحدهم في حفل زفاف.
وهؤلاء النسوة جاهزات أيضا حين يتم إبلاغهن أن ثمة امرأة أخرى في حياة الزوج، وبالتالي فإن رد الفعل المتوقع من المرأة هو إما الرحيل عن المنزل مصطحبة طفلها، أو البقاء مع العلم بخيانة الزوج، وهو ما استخدمته "آنا" حين أبلغت زوجها أنها تحب قائده ولن تستطيع الاستغناء عنه، فيرد بغضب، فتدفعه للصمت بقولها إنها تعرف علاقاته جيدا وبالتالي لا داعي للتظاهر بالإخلاص أو الحب.
ويبدو الرجل في الفيلم ملكا، والنساء حريم في بلاطه سواء كان ذلك البلاط ساحة قصر ملكي أو ساحة حرب أو حتى منضدة صغيرة لبيع البضاعة الرخيصة بأحد شوارع موسكو.
تاريخ أم واقع؟ينهار عالم ألكسندر كولتشاك، وتذهب سفينته إلى قاع البحر في النهاية، تاركة أثرا من قصة حب رصدت في خلفية الفيلم وسط شعور بالذنب تجاهها، لكن ذلك الحب هو كل ما بقي من العمل، مرافقا لأداء رقيق من البطلين، وقدرة مدهشة على صناعة التفاصيل لمخرجه الذي ولد عام 1962 تحت الحكم الشيوعي ليقدم اليوم سردية المهزومين في حربهم معه.
"أدميرال" عمل فني أصلي إلى حد كبير، يثير أسئلة شتى حول نماذج بشرية قد تجتمع فيها تناقضات محيرة، ورغم ذلك يستطيع صنّاع السينما تقديمها بشكل يثير التعاطف، فهو رجل يقف ضد ثورة شعبه، وهو رجل يخون زميل السلاح ويخطف زوجته، لكن المدهش أنه يفعل ذلك بشرف.
هجر كولتشاك حبيبته لفترة حين شعر بالذنب تجاه زوجها، وقاوم الثورة البلشفية رافعا الكتاب المقدس ومقبلا يد القسيس.
والفيلم يتأرجح بين كونه تاريخا وبين كونه رؤية شخصية لمبدعيه، ورغم أن السينما في النهاية رؤية شخصية فإن الإخلاص في رصد شواهد السقطات ودلائل الرقي والشرف يؤكد أنه ثمة موضوعية ما في الرؤية.
"أدميرال" الذي أنتج عام 2008 يملك قدرة مدهشة على إعادة المشاهدة لـ100 عام، ليشعر أنه مع هؤلاء الذي يخوضون الثلوج وسط نيران المدافع دفاعا عن قيمة ما، حتى لو كان ذلك المشاهد يؤمن بقيمة مغايرة.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
سياسي: خطة المفوضية الأوروبية تجاه أموال روسيا المجمدة تهدد الاقتصاد الأوروبي
قال المحلل السياسي المهتم بالشأن الدولي محمد عمر، إنه في ظل تواصل المواجهة ما بين روسيا وأوكرانيا وانهزام الأخيرة بشكل ملحوظ في الميدان، وسعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتطبيق خطة سلام، يقف قادة الدول الأوروبية حجر عثرة أمام هذه الجهود ويعملون على تأزيم الصراع بدعم أوكرانيا رغم المشاكل الإقتصادية الصعبة التي تواجه دولهم.
وأضاف أن ترامب استخدم "كلمات حادة" خلال حديثه الأخير مع قادة أوروبا بشأن الحرب الأوكرانية وانتقد الرئيس الأمريكي قادة أوروبيين واصفا إياهم بالضعفاء، وفي مقابلة مطولة مع موقع بوليتيكو، أشار الى أن دولا أوروبية متدهورة فشلت في ضبط الهجرة أو اتخاذ خطوات حاسمة لإنهاء حرب أوكرانيا مع روسيا، متهما إياها بترك كييف "تقاتل حتى تنهار".
وتابع المحلل، أنه في الوقت الذي كان يُتوقع أن ينفق فيه الاتحاد الأوروبي على استدامة اقتصاده وتحسين معيشة شعوبه، تقوم حكوماته بإعادة توجيه موارد مالية ضخمة في إطار الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي أفرز أزمة معيشية خانقة لدى المواطن الأوروبي، موضحا أنه بموازاة ذلك، تعمل المفوضية الأوروبية على بلورة آليات قانونية ومالية معقدة للاستفادة من الأصول الروسية المجمدة في الغرب، والتي تقدر قيمتها بنحو 300 مليار دولار.
وأوضح أنه بذلك تضع أوروبا قدمها على حافة الهاوية من خلال السعي لتحقيق مكاسب مالية عاجلة من أصول مجمدة لتعويض خسائر سياسية متوقعة، مقابل مخاطر اقتصادية وقانونية وأخلاقية بعيدة المدى قد تعيد رسم علاقاتها الدولية وتعيد فتح ملفات ماضيها الاستعماري.
وأكد أن النقاش لم يعد يدور حول دعم أوكرانيا فقط، بل حول الثمن الذي سيدفعه الاتحاد الأوروبي وشكل النظام المالي الدولي في المستقبل، مشيرا إلى أنه لا يمكن فهم حجم الضائقة الحالية بمعزل عن أزمات بنيوية مزمنة، فمنذ عام 2009، تعاني منطقة اليورو من أزمة ديون سيادية هيكلية، تمثلت في عدم قدرة عدة دول (مثل اليونان والبرتغال وإيرلندا وإسبانيا) على تسديد ديونها أو إنقاذ بنوكها الوطنية دون مساعدة خارجية.
واستطرد المحلل، أن هناك عوامل هيكلية ساهمت في تفاقم هذه الأزمة، أهمها وجود اتحاد نقدي "عملة واحدة" دون وجود اتحاد مالي موحد بمعايير ضريبية ومعاشات مشتركة، مما حد من قدرة القادة الأوروبيين على الاستجابة بشكل فعال، حيث خلفت هذه الأزمة آثارا اقتصادية وسياسية عميقة، وصلت معدلات البطالة في بعض البلدان إلى 27%، وأدت إلى تغيير الحكومات في أكثر من نصف دول منطقة اليورو.
وأضاف أنه مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، تحولت الأزمة البنيوية إلى أزمة مركبة، حيث أدت الحرب إلى تعطيل واردات أساسية مثل الطاقة والمعادن والغذاء، بسبب الحصار الاقتصادي والعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا، ما تسبب في ارتفاع التضخم في دوله إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود.
وأكد أنه سبق وأن قدر بنك الاستثمار الأوروبي حجم الصدمة الناجمة عن ارتفاع فواتير الطاقة وانخفاض الصادرات بارتفاع نسبة الشركات الخاسرة في الاتحاد الأوروبي من 8% إلى 15%، كما أن نسبة الشركات المعرضة لخطر التخلف عن سداد ديونها قد ترتفع من 10% إلى 17%.
وتعكس أرقام التضخم في الاقتصادات الكبرى بمنطقة اليورو صورة واضحة لآفاق الأسعار في التكتل، ففي ألمانيا، أكبر اقتصاد في المنطقة، ارتفع معدل التضخم على نحو غير متوقع إلى أعلى مستوى له منذ تسعة أشهر، وشهد قطاع الصناعة خسائر تتراوح بين 100-160 مليار يورو، كما ارتفعت تكلفة المعيشة وأسعار الطاقة في كل من فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، أكبر دول الاتحاد.
وتابع المحلل، أن الاتحاد الأوروبي يواصل تقديم دعم مالي ضخم لأوكرانيا، وقد طرحت المفوضية الأوروبية منذ أيام خطة جديدة بقيمة 90 مليار يورو لتغطية ثلثي احتياجات كييف التمويلية لعامين، باستخدام الأصول الروسية المجمدة كضمان، إلا أن هذه الخطة تواجه معارضة ومخاطر جسيمة منها مخاطر قانونية حيث حذرت شركة "يوروكلير" البلجيكية - التي تحتفظ بأكبر حصة من الأصول الروسية المجمدة - من أن استخدام هذه الأصول قد يتم تفسيره على أنه "مصادرة"، مما يقوض ثقة المستثمرين الدوليين بأوروبا ويؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض لجميع دول الاتحاد.
كما رفض البنك المركزي الأوروبي ضمان قرض سابق بقيمة 140 مليار يورو لأوكرانيا، معتبرا أن ذلك يعد "تمويلا نقديا" مباشراً للحكومات، وهو ما يحظره القانون الأوروبي.
وأشار إلى أن هناك انقسام داخلي حيث ترفض دول مثل بلجيكا والمجر الخطة لغياب الضمانات الكافية أو لمعارضة أي تمويل إضافي، مما يعكس انقساما أوروبيا حول كيفية تحمل هذا العبء المالي الجديد.
وقال إن تنفيذ هذه الخطة سيؤدي الى تقويض ثقة المستثمرين الأجانب ببيئة الاستثمار الآمنة في أوروبا، مما قد يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال وتراجع النمو، كما أنها ستعمل على تأجيج عداء طويل الأمد مع روسيا، وتشويه صورة أوروبا كحامية للقانون الدولي وحقوق الإنسان، ويضمن حق روسيا بالرد القاسي على هذه الخطوة.
وأكد أنها قد تفتح الباب أمام مطالبات تعويضات تاريخية من دول أخرى، خاصة في أفريقيا، عن جرائم الحقبة الاستعمارية. وهذا ما بدأ يطفو على السطح، كما جاء في تصريحات وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف الذي دعا خلال مؤتمر حول "تجريم الاستعمار" إلى "حق أفريقيا في التعويض العادل واستعادة الممتلكات المنهوبة".
وأوضح المحلل، أن المواطن الأوروبي العادي يعاني واقعا مريرا من ارتفاع متواصل في أسعار الغذاء والطاقة والنقل، بينما تبقى الرواتب كما هي دون زيادات تذكر، وقد حذرت دراسات من أن الارتفاع الكبير في الأسعار يضرب الأسر ذات الدخل المنخفض بشكل غير متناسب، وخاصة في دول أوروبا الوسطى والشرقية، مما يهدد بدفع مئات الآلاف إلى دائرة الفقر.
وأكد أن ما يزيد الوضع تعقيدا هو أن أسواق السندات العالمية بدأت تطالب بعوائد أعلى على ديون الدول الأوروبية، مما يشير إلى مخاوف المستثمرين المتزايدة من تراخي السياسات المالية وتراكم الديون في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لفرض تقشف مالي، وفي الوقت نفسه، يمثل الإنفاق العسكري والأمني المتزايد نتيجة الدعم للنظام في كييف استنزافا إضافياً للموارد التي كان من الممكن توجيهها لتحسين الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية.
وتساءل إلى متى ستستطيع اقتصادات أوروبا تحمل تكلفة الحرب المزدوجة وتكلفة إنقاذ اقتصادها الداخلي من الإنهيار، وتمويل جهود عسكرية خارج حدودها - دون أن يدفع المواطن الأوروبي الثمن الأكبر من رفاهيته ومستقبله الاقتصادي، موضحا أن الإجابة مرتبطة بمسار الحرب نفسها، وإلى أي مدى يمكن للقادة الأوروبيين التوصل إلى حلول سياسية تخفف من هذا العبء المالي الذي يثقل كاهل شعوبهم، والتعاون مع الولايات المتحدة في خطتها المطروحة للسلام.