من القضايا الإشكاليّة التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها عموما، وازدادت الحاجة إلى ذلك في هذا الزمن الذي يشهد فعالية كبيرة للجماعات العاملة والمؤسسات الأهلية النشطة؛ المسائل المتعلقة بالمؤسّسات والمنظمات والجمعيّات والجماعات والتيارات المنخرطة في الحقل العام، ومن أهم القضايا المتعلّقة بهذه الجهات؛ قضيّة المال تمويلا وإنفاقا ومنهجيّة التعامل معه.



ما الفائدة من بحث المسألة من حيثُ الأصل؟

يبقى سؤال الجدوى حاضرا عند البحث في أيّة قضيّة من القضايا الشرعيّة أو الفكريّة، غير أنه من الجلاء بمكان أنّ مسألة أموال هذه المنظمات جزء من الأسئلة المؤرقة للعاملين فيها إن كانوا يتمتعون بضمير حيّ ورقابة ذاتيّة على التصرّفات، واستشعارٍ للمسؤوليّة واستحضارٍ لرقابة الله تعالى.

كما أنّها جزء من سؤال المتابعين من الجهات الرّقابيّة أو الجمهور العام؛ فالمسألة جزء من تحقيق الشّفافية التي تحقق الطمأنينة لهذه المؤسسات والمنظمات والتنظيمات سواء من الممولين أو المستفيدين.

إنّ حفظ المال هو من المقاصد الكليّة التي جاء الإسلام لحفظها ورعايتها، وفي هذا يقول الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "المستصفى":

مسألة أموال هذه المنظمات جزء من الأسئلة المؤرقة للعاملين فيها إن كانوا يتمتعون بضمير حيّ ورقابة ذاتيّة على التصرّفات، واستشعارٍ للمسؤوليّة واستحضارٍ لرقابة الله تعالى. كما أنّها جزء من سؤال المتابعين من الجهات الرّقابيّة أو الجمهور العام؛ فالمسألة جزء من تحقيق الشّفافية التي تحقق الطمأنينة لهذه المؤسسات والمنظمات والتنظيمات سواء من الممولين أو المستفيدين
"إن مقصود الشّرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينَهم ونفسَهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة"

ويعلّل عالم الاجتماع الأندلسي ابن الأزرق الغرناطي في كتابه "بدائع السلك في طبائع الملك" الاهتمام بهذه المقاصد الكليّة فيقول:

"لأن مصالح الدين والدّنيا مبنية على المحافظة عليها، بحيث لو انحرفت لم يبق للدّنيا وجود من حيث الانسان المكلف، ولا للآخرة من حيث ما وعد بها، فلو عُدم الدّين عُدم ترتّب الجزاء المرتجى، ولو عُدم الإنسان لعُدم من يتديّن، ولو عُدم العقل لارتفع التّدبير، ولو عُدم النّسل لم يمكن البقاء عادة، ولو عُدم المال لم يبق عيش".

أنواع المال من حيث الملكيّة

تختلفُ فلسفة المال وملكيّته في الإسلام عن الفلسفات الاشتراكيّة والرّأسماليّة، إذ ينقسم المال في الشرع الإسلامي من حيث جهة التملك إلى قسمين رئيسين؛ هما المال الخاص والمال العام ولا يجوز أن يطغى أحدهما على الآخر.

وقد عرّف الفقهاء المال الخاص بتعريفات متعدّدة يمكن إجمالها بقولنا:

"هو المال المملوك لمعيّن سواءٌ كان فردا أم مجموعة أفراد، وله الحقّ في استثماره وصلاحية التّصرّف فيه، ومثل ذلك مال الشركة الخاصّة".

أمّا المال العام فقد عرّفه الفقهاء القدامى والمعاصرون بتعريفات عدّة كلّها تدور في فلك واحد، وأختار منها تعريف العالم الاقتصاديّ الأزهريّ الأستاذ الدّكتور عبد الحميد البعلي في كتابه "الملكيّة وضوابطها في الإسلام"، إذ يقول:

"هو ما تكون ملكيّته للنّاس جميعا، أو لمجموعةٍ منهم، دون أن يختصّ به أو يستغلّه أحدٌ لنفسه، أي يكون الانتفاع لموضوع المال العام لجميع أفراد الأمّة، أو لجميع أفراد جماعة معيّنة، دون أن يكون للفرد اختصاص، ولا يتجاوزه إلّا إذا تعارض انتفاعه مع انتفاع غيره من هؤلاء الأفراد، فعند ذلك يردّ إلى مشاركة غيره في الانتفاع على أساس من المساواة والعدل حيث لا يمنع انتفاع أحدهما من انتفاع الآخر".

ومن باب الاستئناس أنقل تعريف الإمام الماوردي للمال العام في كتابه "الأحكام السلطانيّة" إذ يقول:

"كلّ مالٍ يستحقّة المسلمون وحازوه بطريقٍ مشروع، ولم يتعيّن مالكه، ومصرفُه مصالحُهم العامّة، ويتولّى جمعه وصرفه -نيابة عنهم- وليّ الأمر، أو نائبه".

ويطلق على المال العام عند الفقهاء إلى جانب هذه التسمية "مال المصالح" و"الملكيّة العامّة" و"الأموال الأميريّة" و"القطاع العام".

الأقسام الرّئيسة للمال العام

يمكننا تقسيم المال العام من خلال تعريفاته إلى قسمين رئيسين:

القسم الأوّل: الأموال العامّة المملوكة للدولة

فالدولة تملك هذه الأموال بوصفها شخصا اعتباريّا، ويجوز فيها للحاكم او المسؤول الذي يحمل صفة "وليّ الأمر" صلاحية التصرّف في هذه الأموال بما يحقق المصالح العامّة وبما لا يتناقض مع أحكام الشّرع.

هذه الأموال تكون مختصّة بمجموعة من الأفراد، أو بجماعة معيّنة من النّاس دون سواها، ويكون الانتفاع منها على وفق ما وضعت له هذه الأموال، لمصلحة الفئة المستفيدة، ويتولّى إدارتها شخص أو مجموعة أشخاص ينفقون هذا المال في المصرف الذي وضعت له بما يحقّق مصلحة هذه المجموعة المخصوصة؛ دون أن يتناقض تصرّفهم فيه مع أحكام الشّرع. ويندرج تحت هذا القسم أموال الجماعات والتّنظيمات وأموال المنظمات المختلفة بما فيها الجمعيّات الخيريّة أو منظمات المجتمع المدني
وهذه الأموال هي عادة المرافق العامّة في الدّولة؛ كالطرق والجسور والحدائق العامة والغابات، كما يدخل في الأموال العامة ما يتم استخراجه من باطن الأرض كالنّفط والمعادن والذهب والفضة، فكلّ ذلك من الأموال العامّة ولا يحقّ للحاكم الاستئثار الشخصيّ بها أو بجزء منها.

القسم الثّاني: الأموال العامّة المخصوصة

وهذه الأموال تكون مختصّة بمجموعة من الأفراد، أو بجماعة معيّنة من النّاس دون سواها، ويكون الانتفاع منها على وفق ما وضعت له هذه الأموال، لمصلحة الفئة المستفيدة، ويتولّى إدارتها شخص أو مجموعة أشخاص ينفقون هذا المال في المصرف الذي وضعت له بما يحقّق مصلحة هذه المجموعة المخصوصة؛ دون أن يتناقض تصرّفهم فيه مع أحكام الشّرع.

ويندرج تحت هذا القسم أموال الجماعات والتّنظيمات وأموال المنظمات المختلفة بما فيها الجمعيّات الخيريّة أو منظمات المجتمع المدني، أو المراكز البحثيّة التي لا تكون مملوكة لشخص بعينه ويكون تمويلها من جهات متعددة أو من أموال التبرعات، وكذلك المؤسسات الوقفيّة وما يتبع لها من جامعات ومدارس، والقنوات التلفزيونيّة التي يكون تمويلها من جهات عامّة؛ وكلّ هذه المؤسسات تندرج أموالها تحت مفهوم المال العام المخصوص لا المال الخاص.

فالغالبيّة العظمى من الجماعات والتنظيمات التي كانت سابقة في الوجود على ثورات الربيع العربيّ وما نتج بعدها من الجمعيّات والمؤسسات والأحزاب والتيارات والمراكز والقنوات التلفزيونية والمؤسسات الإعلاميّة والمؤسسات الشبابيّة والجهات السياسيّة ومؤسسات المجتمع المدني وكل ما كان تمويله من دولٍ أو متبرعين أو أوقاف؛ فإنّه أمواله تندرج تحت توصيف المال العام المخصوص.

ولئن كان المال الخاص يملكه فردٌ أو مجموعة أفراد؛ فهذه المؤسسات وما فيها من أموال مملوكة شرعا لجميع من وضعت لخدمتهم ونفعهم؛ فهي أموال عامّة.

وفي المال الخاص يكون صاحب الحقّ في التصرّف فيه مالك المال أو من ينيبُه عنه، أمّا في هذه المؤسسات فالمتصرّف في المال لا يحمل صفة المالك على الإطلاق، بل صفة النائب الذي ينوب عن المالكين وهم عموم المستفيدين أو من وضعت هذه المؤسسات لنفعهم وخدمتهم من العامّة.

وعليه فلا بدّ من بيان منهجيّات والضّوابط الشرعيّة التي وضعها الإسلام لتصرفات القائمين على هذه المؤسسات في أموالها بوصفها مالا عامّا مخصوصا، وهو ما يحتاج مقالا مستقلا ولا يتسع له المقام هنا.

twitter.com/muhammadkhm

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التبرعات تبرعات اموال جمعيات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجتمع المدنی الأموال العام هذه المؤسسات المال العام المال الخاص هذه الأموال فی کتابه العام ة ا المال دون أن ة التی من حیث جزء من

إقرأ أيضاً:

جلسة «رأس المال العائلي» تستكشف فرص الاستثمار والشراكات

 

أبوظبي (الاتحاد)
استضاف مجلس أبوظبي للشركات العائلية، التابع لغرفة تجارة وصناعة أبوظبي، بالشراكة مع مكتب أبوظبي للاستثمار (ADIO)، جلسة «رأس المال العائلي» الذي جمع نخبة من الشركات العائلية الرائدة في أبوظبي إلى جانب مجموعة متميزة من مكاتب العائلات العالمية، بهدف استكشاف شراكات طويلة الأمد، وتعميق الحوار، وتعزيز التواصل مع منظومة القطاع الخاص في الإمارة.
وشهدت الفعالية مشاركة أكثر من 50 مكتباً عائلياً دولياً تدير أصولاً بقيمة عشرات المليارات من الدولارات في أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية، إضافة إلى حضور أبرز الشركات العائلية في أبوظبي التي تمتلك إرثاً يمتد عبر أجيال وقدرات استثمارية كبيرة في قطاعات محورية ضمن اقتصاد الإمارة.
وافتتح الجلسة شامس علي خلفان الظاهري، النائب الثاني لرئيس مجلس إدارة غرفة أبوظبي والعضو المنتدب، مؤكداً دور الغرفة في تعزيز ثقة المستثمرين، وتوسيع الوصول إلى الأسواق، وتهيئة بيئة داعمة للنمو الاقتصادي طويل المدى.
وأشار إلى أن أبوظبي أصبحت اليوم مقصداً رئيساً لرأس المال الملتزم بإحداث أثر إيجابي على الاقتصاد والمجتمع، وذلك بفضل بيئتها القائمة على الوضوح والثقة والرؤية طويلة المدى، مؤكداً حرص الغرفة على ترسيخ مكانة أبوظبي كموطن لنمو رأس المال العائلي بثقة، وتعزيز مساهمته في تحقيق الطموحات الاقتصادية للإمارة.
كما استعرض خالد عبد الكريم الفهيم، رئيس مجلس أبوظبي للشركات العائلية وعضو مجلس إدارة غرفة أبوظبي، اختصاصات المجلس ودوره المتنامي في تعزيز التعاون بين الشركات العائلية في الإمارة ومكاتب العائلات العالمية.
وأوضح أن الغرفة تشرف على ما يقارب 15 مجموعة عمل لدعم السياسات تغطي أهم القطاعات الاستراتيجية وتضم أكثر من مائتي قيادي من القطاع الخاص، وتشكل هذه الفرق قناة مباشرة لمنظومة الأعمال في أبوظبي للتعرف على الفرص، وصياغة التوصيات، وتعزيز البيئة الداعمة لرأس المال العائلي.
وقال: يمثل مجلس أبوظبي للشركات العائلية الشريك الأنسب لمكاتب العائلات العالمية في أبوظبي، فمن خلال الغرفة نخدم مجتمعاً يضم أكثر من 160 ألف عضو، معظمهم من الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تُعدّ أساس القطاع الخاص لدينا. إنها شبكة عميقة ومتنوعة وتعاونية، وتوفر فرصاً حقيقية للشركاء الدوليين الباحثين عن وصول موثوق للفرص الاستثمارية.
وتضمنت الجلسة عروضاً قدمها مكتب أبوظبي للاستثمار (ADIO) ومركز أبوظبي للمشاريع والبنية التحتية، حيث استعرضت الجهتان منصاتهما الاستثمارية وبرامج البنية التحتية الكبرى في الإمارة، إضافة إلى المشروعات المستقبلية وفرص المشتريات المتوافرة في الإمارة، مؤكدين التزام أبوظبي بتعزيز بيئة أعمال متقدمة تتسم بالشفافية والجاهزية للمستقبل.
وخلال جلسة حوارية أدارها خالد عبد الكريم الفهيم، استعرضت الشركات العائلية المحلية أبرز أعمالها ومجالات اهتمامها، فيما قدمت مكاتب العائلات الدولية ملخصاً عن قطاعاتها المستهدفة ونماذج التعاون المفضلة لديها. وقد أتاح هذا التبادل فرصة لتحديد مجالات التوافق بين الجانبين وإطلاق مسارات جديدة للتعاون.
وقال الفهيم: تعكس هذه الحوارات قوة رأس المال العائلي. فعندما تجتمع العائلات برؤية مشتركة نحو خلق قيمة طويلة المدى، تتوسع الآفاق وتظهر مسارات جديدة للتعاون.
واختُتمت الجلسة بالتأكيد على الالتزام المشترك بمواصلة بناء علاقات قوية بين الشركات العائلية في أبوظبي ومكاتب العائلات العالمية، مستفيدين من قدرات الغرفة في التواصل الدولي، والدعم التشريعي، ومنصاتها الاقتصادية القائمة على احتياجات القطاع الخاص.
وجددت غرفة أبوظبي ومجلس أبوظبي للشركات العائلية التزامهما بالعمل كنقطة الوصول المركزية لمكاتب العائلات العالمية المتعاملة مع القطاع الخاص في الإمارة، وضمان أن تبقى أبوظبي بيئة موثوقة لرأس المال العائلي المستدام وطويل الأجل.

أخبار ذات صلة «غرفة أبوظبي» و«صندوق الإمارات للنمو» يوقّعان اتفاقية لدعم الشركات الصغيرة أبوظبي تستضيف مؤتمر «كامبدن» العالمي لمالكي الشركات والمكاتب العائلية

مقالات مشابهة

  • نائبة وزيرة التضامن: المجتمع المدني شريك للحكومة فى التنمية والعمل
  • 1.2 مليار دولار من أموال شركات الطيران محتجزة لدى الحكومات| ما القصة؟
  • 62 تريليون دولار أصول المؤسسات المشاركة في أسبوع أبوظبي المالي
  • انقلاب سيارة نقل أموال في حدائق أكتوبر يؤثر على 10 ملايين جنيه
  • جلسة «رأس المال العائلي» تستكشف فرص الاستثمار والشراكات
  • انقلاب سيارة نقل أموال محملة بـ ملايين الجنيهات في حدائق أكتوبر
  • افتتاحية.. تكنولوجيا العمل التي لا تنتظر أحدا
  • ضبط عنصرين جنائيين غسلا 150 مليون جنيه من تجارة المخدرات
  • اللغة القانونية وتأثيرها في الوعي الجمعي
  • كيف يضبط القانون قرارات التحفظ على أموال المتهمين؟