عليان عليان دخلت المواجهات بين فصائل المقاومة وبين قوات الاحتلال الصهيونية في مخيم جنين والمدينة يومها الثاني ، برهنت المقاومة خلالها عن قدرات هائلة في الصمود والتصدي والتحدي ، وكالت الصاع الصاعين بتكتيكاتها القتالية وببسالة مقاتليها ، معيدةً الاعتبار للمعركة الأسطورية في المخيم في نيسان 2002 ، التي أذهلت العدو جراء قتالها الأسطوري، ما أفشل استهدافات العدوان الذي حمل في حينه مسمى ” السور الواقي” وعلى رأسها ” وأد انتفاضة الأقصى” من بوابة معركة جنين.
المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية و وخاصةً في جنين ومخيمها ، وبعد مرور ( 21) عاماً على المعركة الأولى ، راكمت خبرات قتالية هائلة ، وباتت جنين تشكل مجدداً صداعاً مزمنا للاحتلال ، إلى جانب بقية المناطق في نابلس وطوباس وطولكرم وبقية أرجاء الضفة مستفيدة من المناخ الكفاحي الذي وفرته معركة سيف القدس التاريخية في مايو ( أيار) 2021 ، ومستفيدةً قبل ذلك من النهوض المقاوم في قطاع غزة الذي أجبر شارون على الانسحاب من قطاع غزة عام 2005 ، ما مكن المقاومة من خوض عدة حروب مع الاحتلال حققت خلالها انتصارات تكتيكية في الأعوام 2008-2009 ، 2012، 2014 ، 2021 ، 2023. لقد اشتقت المقاومة في عاصمة الثورة ” مخيم جنين ” آليات كفاحية جديدة جمعت بين الفعل المقاوم العسكري والمقاومة الجماهيرية المشتبكة ، ناهيك أنها حققت نقلة نوعية في التنظيم العسكري من خلال تشكيل الكتائب المسلحة في جنين ، لتنتقل التجربة بعدها إلى نابلس وطول كرم وطوباس وبقية أرجاء الضفة الغربية . ولم تقف الأمور عند هذا الحد ، بل انتقلت المقاومة إلى مرحلة تصنيع الأسلحة من العبوات الناسفة والألغام المتطورة ، وتمكنت من الحصول على الأسلحة الرشاشه من مخازن العدو نفسه ، ما مكنها من خوض معارك ناجحة ضد الاحتلال أثناء توغلاته في جنين ، والأهم من ذلك كله أن المقاومة في جنين وفي عموم الضفة الغربية باتت تعمل بشكل موحد في إطار غرفة عمليات مشتركة.. صورة المعركة وأبعادها والمتتبع لسير العمليات العسكرية في جنين ومخيمها يمكنه أن يسجل ما يلي :- 1-أن العدو الصهيوني حشد لهذه المعركة ما يزيد عن ألف جندي، من مختلف تشكيلاته العسكرية ومن قوات النخبة ، و(170) آلية عسكرية ومصفحة وناقلات جند وطائرات الأباتشي والطائرات المسيرة وطائرات التجسس المتطورة ، وما يزيد عن (16) جرافة بهدف تحقيق الهدف المعلن من عمليته العسكرية، ألا وهو تدمير البنية التحتية للمقاومة واعتقال أكبر عدد من رجال المقاومة. 2- أن المقاومة في مواجهة هذا الحشد العسكري الهائل ، وفي مواجهة الفرق الهائل جداً في ميزان القوى ، خاضت حرب الشوارع بنجاح ، على مدى يومين من المواجهات لإفشال التفوق العسكري للعدو ، وتمكنت باقتدار من نصب كمائن القتل الناجحة لقوات العدو وآلياته في مختلف المحاور المؤدية إلى المخيم ومحيطه ،سواء في منطقة الدمج أو الحواشين- الجبريات ، وقرب جامع الأنصار ، ودوار السينما ، وفي شارعي حيفا ونابلس وغيرها من المحاور ، وخاضوا معارك الكمائن من المسافة صفر ، وأوقعوا خسائر كبيرة في صفوف العدو على صعيد القتلى والجرحى وتدمير الآليات، وقد لعبت وحدة الهندسة في كتيبة جنين ، دوراً رئيسياً في هذه الكمائن ، حيث لا يجرؤ العدو على الاعتراف بحقيقة خسائره في هذه المرحلة ، لظروف تتصل بأزمة حكومته الفاشية التي يترأسها نتنياهو ، ولظروف تتصل بفشل العدو في ترميم حالة الردع المتآكلة التي باتت حديث وسائط الإعلام الصهيونية بشكل يومي ومتكرر. 3-أن العدو لم يحقق عامل المفاجأة في عدوانه ، فقد رصدت المقاومة حشود العدو واستعدت مبكراً للمنازلة مع قواته ، وفق خطط متفق عليها. 4- حققت المقاومة نقلة نوعية في مواجهة مسيرات العدو ، إذ تمكنت حتى مساء اليوم الثاني من إسقاط خمس طائرات مسيرة للعدو الصهيوني. 5- أن فصائل المقاومة خاضت المعركة بشكل موحد ، حيث خاض مقاتلو سرايا القدس ” كتيبة جنين ” كتفاً إلى كتف إلى جانب مقاتلي كتائب القسام وكتائب أبو علي مصطفى وكتائب شهداء الأقصى ، وكتائب عمر قاسم والمجاهدين وغيرها ، ما أقلق العدو وأفشل مخططه للانفراد بحركة الجهاد الإسلامي ، حيث تتشارك
السلطة مع الاحتلال في وصفها بأنه ذراع إيران في فلسطين. 6- استفادت المقاومة من بيوت المخيم المتلاصقة ، للانتقال من مكان إلى آخر مفشلة إمكانية رصدها من قبل طائرات الاستطلاع والتجسس ، كما أن أهالي المخيم شكلوا حاضنة شعبية لرجال المقاومة ، خاصةً وأن المقاتلين من أبنائهم ، حيث لعب الأهالي دوراً في عمليات رصد تحركات العدو وفي تزويد المقاتلين بالمؤن والذخائر . 7- أن رجال المقاومة أفشلوا عمليات القنص، من خلال تفجير النوافذ التي يتخفى من خلالها قناصو العدو ، وقاموا بعمليات قنص ناجحة لجنود العدو ، كما تمكنوا أكثر من مرة من محاصرة جنود العدو في بعض المنازل ، ما دفع العدو للتدخل بالطيران لفك الحصار عن جنوده . 8- تمكنت مجموعات من المقاومة في محافظات أخرى، من الوصول مبكراُ إلى المخيم لدعم صموده والمشاركة في القتال إلى جانب كتائب وسرايا المقاومة في جنين ومخيمها. العدو يفشل في تحقيق أهدافه ما يجب الإشارة إليه أن الحروب تقاس بنتائجها ، فالعدو الذي قد يوقف العملية في فترة قريبة ، لا يمكنه الاستمرار في المعركة ، ارتباطاً بقراءته لموقف الفصائل في قطاع غزة وموقف محور المقاومة ، فالعدو إذ يخوض حربه في جنين، فإن عينيه مصوبتان على قطاع غزة وعلى شمال فلسطين المحتلة ” حزب الله ” ، فالفصائل في إطار غرفة العمليات المشتركة في قطاع غزة ، أعلنت بصريح العبارة بأن تدخلها مرتبط بسير المعركة وبسلوك العدو ، ما يعني أن الكيان الصهيوني في حال استمراره في عمليته العسكرية سيفتح على نفسه أكثر من جبهة، ليس بوسعه مواجهتها في ضوء أزمته الداخلية المستفحلة ناهيك أنه يخشى أن يشكل عدوانه المستمر صاعقاً لتفجير انتفاضة جديدة في عموم الضفة الفلسطينية، بعد أن اشتعلت مدن وقرى ومخيمات الضفة بعشرات المواجهات والاشتباكات مع العدو ومع المستوطنين. العدو يتبجح بأنه حقق الأهداف المحددة من عمليته العسكرية ، وأنه نجح في استعادة قوة ردعه وفرض قواعد اشتباك جديدة لصالحه ، لكي يبرر انتهاء عمليته العسكرية العدوانية لاحقاً ، لكن واقع الأمور على الأرض يؤكد عكس ذلك ، فرغم حجم الدمار الذي حققه قصف العدو لمنازل المخيم ولبنيته التحتية وتجريفه للشوارع المحيطة بالمخيم وتدميره لشبكة الكهرباء والمياه ، ورغم ارتقاء (11)شهيداً وإصابة مائة مواطن بجروح ، إلا أن المقاومة برهنت مجدداً أنها عصية على الكسر والهزيمة ، وظلت متصاعدة ولم تدمر بنيتها التحتية ولم تهتز بنيتها التنظيمية ، ولم يتم اعتقال المقاومين على النحو وبالعدد الذي روج له العدو، بل اعتقل مواطنين غير مسلحين . وأما حديث العدو عن تبجحه بتدمير غرفة العمليات المشتركة في المخيم وعن استيلائه على مخزن من العبوات الناسفة ” 30 عبوة ” فهو مبعث سخرية وتهكم رجال المقاومة من مختلف الفصائل ، فغرفة العمليات المشتركة، ليست غرفة عمليات لجيش نظامي فهي متنقلة من من بيت من بيوت وكالة الغوث المعاد بنائها إلى بيت آخر . باختصار شديد لم يحقق العدو أهدافه من العملية العسكرية العدوانية الضخمة ، ولم تتمكن قوات الاحتلال من الدخول إلى داخل المخيم، حتى مساء اليوم الثاني( الثلاثاء) للمعركة حيث يحاول يائساً دخول المخيم من منطقة الجبريات، بعد فشله في اقتحام المخيم من محور ” الدمج” ،علماً أن مساحة المخيم لا تزيد عن نصف كيلو متر ، وحشد العدو من أجل اقتحامه، ما يزيد عن ألف جندي صهيوني ، وبحسبة بسيطة يصبح نصيب كل متر مربع من المخيم تمركز جنديين من قوات العدو في حال اقتحامه . وما يدلل على فشل أهداف العملية العسكرية، صدور تصريحات من وزيرة العدل” آيليت شكيد ” في حكومة العدو السابقة ، ومن محللين عسكريين في الصحف الصهيونية ، تؤكد أن تحقيق الأهداف المتوخاة، يحتاج إلى عدة عمليات عسكرية في جنين وبقية المدن الفلسطينية ، ما يعني الاعتراف بفشل العدوان الصهيوني على جنين ، في تحقيق أهدافه المعلن عنها ، فالمقاومة لا زالت تتصدى لمحاولات قوات العدو دخول المخيم حتى مساء اليوم التالي، وتحقق انتصارات ملموسة على الأرض ، ولا زالت على ذات الجهوزية والوحدة في مواصلة القتال ، ولا زالت معنويات المقاتلين تعانق سماء المخيم وفلسطين . لقد بنت المقاومة في جنين باقتدار على منجزات معركة نيسان ( أبريل) 2002 ، والأهم من ذلك اندفاع مئات الشبان للانضمام للكتائب المسلحة ، من مدن قرى ومخيمات جنين ونابلس وطولكرم وبيت لحم والخليل ورام الله والبيرة وقلقيلية وأريحا ، وباتت عيون المقاومة بعد معركة جنين، مفتوحة على نقل المعركة إلى داخل العمق الصهيوني في تل أبيب وبئر السبع وغيرهما ، وإلى تنفيذ عمليات عسكرية في مختلف أرجاء الضفة وشن هجمات مضادة على المستوطنات ، وقد أوفت المقاومة بوعدها عندما نفذ البطل الفلسطيني من كتائب القسام ” عبد الوهاب خلايلة” يوم أمس عملية مزدوجة بالدهس والسكاكين في قلب مدينة تل أبيب ، أدت إلى إصابة سبعة مستوطنين جراح ثلاثة منهم خطيرة جداً. السلطة مع الاحتلال في مواجهة المقاومة ما يلفت الانتباه أن قيادة السلطة ، رغم إدانتها للعدوان ، إلا إنها في السياق العملي شريكة في العدوان ، من خلال قيام أجهزتها الأمنية ،بوضع الحواجز على طرق البلدات المحيطة بجنين ، لمنع وصول النجدات للمخيم ، وقيامها باعتقال رجال المقاومة الذين كانوا في طريقهم لنجدة المخيم ، ولعل اعتقال قائد كتيبة سرايا القدس في بلدة جبع “مراد ملايشه” ومرافقه محمد براهمه، أثناء توجههما من طوباس إلى جنين، وإيداعهما في سجن أريحا في منطقة جنين لمثال صارخ على ذلك . ولا يغير من واقع الصورة تصريحات رئيس السلطة بوقف التنسيق الأمني ووقف التواصل مع حكومة العدو ، فمثل هذه التصريحات تستهدف امتصاص نقمة الجماهير على السلطة وأجهزتها الأمنية ، فالسلطة من واقع الممارسة لم تتخل يوما عن التنسيق الأمني ، وسبق أن ألقت بقرارات المجلسين الوطني والمركزي بشأن إلغاء التنسيق الأمني في سلة المهملات ، وسبق لها أن تراجعت بسرعة عن مقررات كونفرنس بيروت- رام الله في الثالث من سبتمبر ( أيلول ) 2020 ، بشأن وقف التنسيق الأمني وإقامة قيادة موحدة للمقاومة الشعبية ، ووقف العمل باتفاقات أوسلو ألخ لحظة فوز الرئيس جو بايدن في الانتخابات الرئاسية. فالتنسيق الأمني بحد ذاته عمل جرمي وخياني ، وتفاهمات العقبة وشرم الشيخ عمل جرمي ارتكبته قيادة السلطة ، كون هذه التفاهمات في محصلتها استهدفت ضرب المقاومة وتجريدها من السلاح ، والتخلي عنها من منظور السلطة هو اعتراف بالجريمة ، وهي في الممارسة العملية ملتزمة بها حتى قبل أن تصدر ، ومن ثم فإن تصريحات قيادة السلطة بالتخلي عنها ما هي إلا ذر للرماد في العيون . وعلى فصائل المقاومة أن لا تساهم في تبييض صفحة السلطة السوداء ، عبر الاستجابة لدعوة رئيسها بعقد اجتماع للأمناء العامين لوضع استراتيجية نضالية للمرحلة القادمة ، إلا إذا كانت مغرمة بأن تلدغ من جحر قيادة السلطة عشرات المرات ، فالسلطة منسجمة مع دورها كوكيل أمني للاحتلال ، ومن يريد أن يساهم في وضع استراتيجية كفاحية عليه أن يقدم أوراق اعتماده للشعب أولاً، بالمشاركة في المقاومة وفي الدفاع عن شعبنا في مختلف أرجاء الوطن ، قبل أن يتحدث عن الاستراتيجية الكفاحية للمرحلة القادمة. ولا بد من التنويه هنا بشأن ثلاثة تقارير لم تنفيها قيادة السلطة ، التقرير الأول صادر عن مكتب وزير الحرب الإسرائيلي ، مفاده أن ” حسين الشيخ” وزير الشؤون المدنية التقى قبل أسبوعين وزير الحرب الإسرائيلي “يو آف غولانت” لبحث الأوضاع في الضفة الغربية ، وفي هذا اللقاء أكد وزير الحرب الإسرائيلي على استمرار استهدافه للإرهاب الفلسطيني( المقاومة) وسط صمت الشيخ . والتقرير الثاني صادر من موقع ( ولا ) الصهيوني المقرب من الأوساط العسكرية الذي أكد وجود خط اتصال سري بين مكتب رئيس السلطة ومكتب رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو .
وأخيراً وبعد أن ينجلي غبار معركة جنين ، يتوجب على فصائل المقاومة التي شاركت في المعركة ، أن تجري تقييماً دقيقاً للمعركة من حيث الإنجازات والثغرات، وأن تبني على الإنجازات وتجنب الثغرات ، هذا ( أولاً) و (ثانياً) على فصائل المقاومة أن تجترح الآليات لإيصال قذائف الكورنيت و(البي 7 ) المضادة للدروع للمقاومة في جنين وبقية أرجاء الضفة الغربية و
(ثالثا) أن تعمل على تسليح أبناء شعبنا في القرى للتصدي لقطعان المستوطنين و(رابعاً) أن تعمل على تشكيل لجان للحراسة الليلية في المخيمات والقرى ( وخامسا) أن تعمل على إنشاء جبهة موحدة للمقاومة وفق استراتيجية محدده ،على رأس مهامها تفعيل المقاومة ووحدة الساحات ، وإفشال التنسيق الأمني للسلطة ميدانياً ، ورفع الغطاء الوطني بشكل نهائي عن نهج التنسيق الأمني وأصحابه.
انتهى
المصدر: رأي اليوم
كلمات دلالية:
الضفة الغربیة
المقاومة فی
قطاع غزة
فی جنین
إقرأ أيضاً:
ما بين الحياة الآمنة تحت الاحتلال والمقاومة أيهما كلفته أكبر؟ (2)
في المقال السابق، استعرضنا تجارب شعوب اختارت طريق المقاومة والمواجهة مع الاستعمار، دفعَت خلاله كُلفة باهظة في سبيل حريتها، لكنها في النهاية حصدت الاستقلال والحرية.
في هذا المقال، ننتقل إلى الوجه الآخر من الصورة، شعوب سلكت مسارات مختلفة، ظنا أن السلامة أضمن، أو أن التفاوض والحلول الوسطى أقل كلفة.
فما الذي آلت إليه تلك التجارب؟ وهل كانت النتيجة النهائية فعلا أقل في الكلفة من ثمن المقاومة؟
التعايش الطويل مع الاحتلال وأثره على الأفكار والتوجهات الوطنية
أ- اسكتلندا.. قرون من النضال ذهبت هباء في أول تصويت لتقرير المصير
كانت تجربة النضال الاسكتلندي ضد الاستعمار البريطاني تجربة تاريخية عريقة، بدأت بالنضال المسلح منذ العصور الوسطى، خاض فيها الاسكتلنديون تمردات ومعارك عسكرية متعددة خلال القرن السابع عشر، لكنها انتهت بهزيمة كبيرة بعد معركة كولودين عام 1746، التي تعتبر آخر التمردات العسكرية، حيث توقفت مطالب الاستقلال لنحو ثلاثة قرون، رضخ فيها الاسكتلنديون للاحتلال البريطاني.
الاحتلال ليس مجرد إجراء عسكري وسيطرة فيزيائية على مساحة من الأرض، بل هو عملية احتلال للعقل والفكر الجمعي، يسعى لتطويع الشعوب عبر تغيير قِيَمها وتوجهاتها لتتماهى معه أو تخدم مصالحه
مطلع القرن التاسع عشر، عادت قضية الاستقلال مرة أخرى إلى الواجهة، ولكن من خلال "النضال السلمي" والمطالبة بالحكم الذاتي. وفي عام 1999 تم تأسيس البرلمان الاسكتلندي بعد استفتاء شعبي منح اسكتلندا حق إدارة شؤونها الداخلية، ولكنها بقيت تحت سيطرة بريطانيا عسكريا وفي السياسية الخارجية.
في عام 2014، أُجري أول استفتاء تاريخي على فكرة "الاستقلال" الكامل عن بريطانيا، إلا أن النتائج كانت صادمة وغير متوقعة، حيث عارض 55في المئة فكرة الانفصال، نتيجة حملات تخويف مكثفة قادتها الحكومة والبنك المركزي البريطاني، حذرت من آثار اقتصادية واجتماعية سلبية. هذا الضغط أثّر بوضوح على قرار الاسكتلنديين، الذين فضلوا البقاء ضمن المملكة المتحدة على مواجهة مخاطر الاستقلال.
كان للتعايش الطويل مع الاحتلال أثر عميق على الوعي الجمعي، فأعاد تشكيل الأفكار والتوجهات، وغرس في النفوس قناعة بأن بقاء الاحتلال مقبول ما دام يضمن "العيش".
وهكذا، فضّل كثيرون الخضوع على المجازفة، حتى بدا وكأنهم أحرقوا ماضي أجدادهم وميراث نضالهم الطويل بعود ثقاب رخيص، لأجل دفء مؤقت.
ب- المقدسيون كنموذج.. تحولات خطيرة في القناعات والتصورات
منذ أكثر من عقدين، لم يشهد الشارع الفلسطيني حراكا جامعا ملهِما كـ"انتفاضة الأقصى" عام 2000، التي انطلقت شرارتها من المسجد الأقصى وامتد لهيبها إلى الضفة الغربية، بمشاركة كافة أطياف الشعب ومكوناته السياسية والاجتماعية، وبكافة الوسائل السلمية والمسلحة. أعادت الانتفاضة آنذاك الروح إلى القضية الفلسطينية، ودفعت بها إلى صدارة المشهد الإقليمي بعد سنوات من الغياب عقب اتفاقية أوسلو.
لكن الاحتلال واجه هذه الانتفاضة بتنكيل ممنهج استمر خمس سنوات، شمل القمع والتدمير والاعتقال والتصفية، ما دفع قطاعات واسعة في الضفة إلى التراجع خطوات إلى الخلف، والانكفاء على الذات في حالة من "وهم الاستقرار الزائف"، ضمن معادلة اللا سلم واللا حرب، والالتزام الأحادي بأوسلو.
لكن على الرغم من ذلك، لم يستسلم الفلسطينيون، فحملت غزة راية المقاومة بعد انسحاب الاحتلال عام 2005، لتبدأ مرحلة جديدة من قيادة الأمة الفلسطينية في مسار الكفاح المسلح في طور جديد.
لكن الضفة ظلت تحمل آثار الهجمة القمعية، فالتحولات الفكرية كانت أعمق ما خلفه هذا القمع طويل الأمد، خاصة في القدس. ففي استطلاع رأي أجراه المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي بتكليف من معهد واشنطن في حزيران/ يونيو 2022 حول تصورات "المقدسيين" عن القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، أبدى 50 في المئة من المقدسيين رغبتهم في حمل الهوية "الإسرائيلية"، و60 في المئة رفضوا اندلاع انتفاضة جديدة أو دعمها، معتبرين أن تحسين سبل المعيشة أهم من الانخراط في الصراع، و70 في المئة رفضوا استهداف "المدنيين الإسرائيليين"، بينما 65 في المئة رأوا أن الصراع شأن كبار السن والسياسيين، و50 في المئة رحبوا باتفاقيات "أبراهام" التي وقعتها دول عربية مع دولة الاحتلال.
في استطلاعين مماثلين أجراهما المركز الفلسطيني للبحوث المسحية (PSR) ومركز القدس للإعلام والاتصال (JMCC) في حزيران/ يونيو 2024 في الضفة الغربية، عبّر 55 في المئة عن رفضهم الكفاح المسلح ودعمهم الحلول السلمية لإقامة الدولة الفلسطينية.
هذه التوجهات تزامنت مع اعتماد اقتصادي واسع على الاحتلال، إذ يعمل 180 ألف فلسطيني داخل أراضي الـ48، وقرابة 40 ألفا في مستوطنات الضفة الغربية. فإذا اعتبرنا أن متوسط عدد أفراد الأسرة الفلسطينية هو 5 أفراد، فإن 20 في المئة من الفلسطينيين في الضفة وغزة يرتبط مأكلهم ومشربهم حصرا بالعمل في خدمة مشاريع الاحتلال، وقرابة 10 في المئة من سكان الضفة يعيشون من خلال تنمية وتوسيع مشاريع الاستيطان.
خلاصات نهائية
من خلال أربع تجارب مختلفة في التعامل مع الاحتلال، رأينا من قاوم وحرّر، ومن تراجع ورضخ، ومن لا يزال في تفاعل مستمر نحو التحرر. ومن هذه التجارب نستخلص ما يلي:
* الاحتلال ليس مجرد إجراء عسكري وسيطرة فيزيائية على مساحة من الأرض، بل هو عملية احتلال للعقل والفكر الجمعي، يسعى لتطويع الشعوب عبر تغيير قِيَمها وتوجهاتها لتتماهى معه أو تخدم مصالحه.
* المسار السياسي لم يكن وحده لنيل الاستقلال، بل شكلت المقاومة بشقيها الشعبي والمسلح، مفترق طرق في تاريخ الشعوب. فالمكاسب السياسية المؤقتة لا تصمد أمام مشاريع الاحتلال الطويلة المدى، بينما المقاومة رغم كلفتها تفتح أفق التحرر الحقيقي.
المقاومة حين تختار المواجهة، فإنها تراهن على تحقيق أربعة مكاسب: إفشال خطط العدو، والحفاظ على الهوية، وإحياء القضية، وإعادة تجميع المكونات الوطنية حول مسار المقاومة والنضال
* في الحالات التي اختارت فيها الشعوب السلامة والتعاون مع الاحتلال هربا من القمع، لم تحصد إلا مزيدا من الإهانة، حيث استُخدم أفرادها في خدمته، وجُنّدوا لحروبه، وسُلِبَت نساؤهم وأراضيهم، ولم تتم استعادة شيء من الحقوق والكرامة إلا بالمقاومة.
* التطبيع الطويل مع الاحتلال يفقد الجيل الأول تدريجيا الدافعية والحافزية للتحرر، ويعرض الأجيال الجديدة إلى مخاطر طمس الهوية، ويدفعها للتماهي مع الاحتلال وقبوله كواقع يومي، ما يهدد الهوية ويهدر التضحيات المبذولة.
* ولهذا، حين تبدو قرارات المقاومة للبعض أحيانا "متهورة"، فهي في الواقع استجابة اضطرارية لحالة تآكل وطني عميقة. فقد تلجأ المقاومة أحيانا إلى التصعيد ونقل المجتمع من استقرار مادي هش إلى اشتباك مفتوح، بهدف إعادة الحياة للهوية والقضية المهددتين بالموت السريري. فالمقاومة حين تختار المواجهة، فإنها تراهن على تحقيق أربعة مكاسب: إفشال خطط العدو، والحفاظ على الهوية، وإحياء القضية، وإعادة تجميع المكونات الوطنية حول مسار المقاومة والنضال.
خاتمة
إن التصور السماوي للإنسان يمنحه قيمة متوازنة، لا يُفرط في الفرد لصالح الجماعة، ولا يُقدّس الذات على حساب القيم. فالإنسان بلا هوية ولا معتقد يتحول إلى عبد لمن يطعمه، كالحيوان الذي يتبع راعيه، بغض النظر عن عدله أو ظلمه.
والحرية ليست شعارا حديثا، بل قيمة إنسانية أصيلة، كرّمها الإسلام بجعل تحرير العبيد وتخليص الأسرى قربى إلى الله وتكفيرا للذنوب، والتضحية في سبيل الدفاع عن الأهل والعرض والوطن سبلا لبلوغ منازل الشهداء.
وهنا نستطيع الإجابة بكل وضوح على سؤالنا، أيهما كلفته أكبر؟
فكُلفة المقاومة رغم شدتها، تظل أقل بكثير من ثمن الاستسلام. فالمقاومة تجدد الحياة وتنقل الراية بين الأجيال، بينما الاستسلام طريق بلا عودة، هجرة من ذاتك إلى ذات الآخر، ينتهي بذوبان الإنسان في ذات المحتل، وخسارته لهويته وكرامته وإنسانيته.