"إذا غادرت من يعالج المرضى؟ إنهم ليسوا حيوانات"، هذه كانت آخر كلمات الطبيب الفلسطيني، همام اللوح قبل مقتله في غارة إسرائيلية دكت منزل أهل زوجته، حيث كان برفقة والده ووالد زوجته وشقيقها.

كان همام اللوح طبيب الكلى الوحيد في مستشفيي الشفاء وشهداء الأقصى، وفقا لناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي تداولوا منشورات نعي بعد مقتله فجر الاثنين بغارة إسرائيلية.

وفقا لحسابه على موقع "لينكيدإن" وبحسب شهادات زملائه، تخرج اللوح من كلية الطب في جامعة صنعاء في اليمن عام 2011، وأكمل اختصاصه في الأمراض الباطنية والكلى في الأردن، وحصل على المركز الأول في البورد الأردني والعربي والفلسطيني في أمراض الكلى، قبل تعيينه في مستشفى الأردن عام 2018.

ورغم فرص العمل في الأردن، اختار اللوح، 36 عاما، العودة إلى قطاع غزة ليستفيد أهل بلده من علمه وكفاءته، بحسب ما قاله زملاؤه على مواقع التواصل وصحيفة "لوس أنجلوس تايمز".

الدكتور همام اللوح
رفيق الغربة والدراسة
أكمل اختصاصه في الأمراض الباطنية وثم أمراض الكلى في الأردن
وحاصل على المركز الأول في البورد الأردني والعربي
فضّل العودة إلى غزة على أن يبقى في الأردن رغم كثرة الفرص
همام استشهد هو ووالده ولا نعلم مصير أطفاله إلى الآن
رحمة الله عليك يا صديق pic.twitter.com/4BIIs2LgJy

— Mohammed Alhaj (@Mohd_Alhaj1992) November 12, 2023

وقبل مقتله بأقل من 48 ساعة، لفت اللوح انتباه متابعي الحرب في غزة عندما سألته الإعلامية الأميركية المعروفة، إيمي غودمان، السبت: "لماذا لا تغادر أنت وأسرتك إلى جنوب القطاع؟" فأجابها الطبيب وكانت تلك كلماته الأخيرة: "إذا غادرت من يعالج المرضى؟ إنهم ليسوا حيوانات، لديهم الحق في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة".

وأضاف: "هل تعتقدين أنني درست الطب أكثر من 14 عاما لأفكر في حياتي وأترك المرضى؟ لا لن أغادر".

آخر رسائل الطبيب همام اللوح قبل استشهاده… هل تعتقدين أنني درست الطب لـ14 عاما لأفكر في حياتي وأترك المرضى؟#PalestinianLivesMatter #GazaHolocaust #FreeGazaNow#FreeGazaNow #FreePalestine #NoMoreWars #CeasefireInGazaNOW pic.twitter.com/hg3Vx0YUtt

— Safy al melgy (@al_melgy75828) November 13, 2023

وقُتل اللوح في غارة جوية، فجر الاثنين، مع والده في منزله أهل زوجته بجوار مستشفى الشفاء.

وكانت زوجته وطفلاه في منزلهم وقت الغارة، فنجوا.

ونشر رايان غريم، رئيس مكتب واشنطن في The Intercept وهي منظمة إخبارية أميركية غير ربحية تنشر المقالات والبودكاست عبر الإنترنت، على حسابه على موقع "إكس"، "تويتر" سابقا، منشورا قال فيه إن "والدة اللوح والتي تعمل طبيبة أيضا، الدكتورة هيفاء السراج، لاتزال محاصرة مع أقارب آخرين بينهم أطفال في محيط المنزل".

وأضاف "أنهم غير قادرين على الحركة وأي محاولة للتحرك تتعرض لإطلاق نار إسرائيلي كثيف. كما أن أحد أقاربهم لا يزال على قيد الحياة حاليا وهو محاصر تحت الأنقاض".

وتابع: "وقد تواصلوا مع الصليب الأحمر لإجلائهم. ويتعين على قوات الدفاع الإسرائيلية وقف إطلاق النار في حي أبو حصيرة حتى يمكن إجلاؤهم بأمان".

Tragic update from Al Shifa hospital, with a doctor killed and others pinned down by IDF fire:

"Dr Hammam Alloh, physician in nephrology at Al Shifa hospital, has been killed by an airstrike this morning with his father in their house, next to Al Shifa hospital. His mother who… pic.twitter.com/j7dEacKkQD

— Ryan Grim (@ryangrim) November 12, 2023 نشاط إعلامي لإيصال صوت غزة للعالم

وتحدث غريم عن اللوح قائلا إنه قبل وفاته، كان نشطا في الحديث إلى وسائل الإعلام الأجنبية عن مستجدات الأوضاع في مستشفى الشفاء، مثل شبكات "سي بي سي، والديموقراطية الآن، وذا أستراليان، وذا جويش كارينتس".

ووصف اللوح استمرار الحصار الإسرائيلي الكامل على غزة بأنه "حكم بالإعدام" في حديثه لشبكة "سي بي سي".

وتحدث اللوح لصحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، في 19 أكتوبر، عن حجم الكارثة في مستشفى الشفاء ومعاناة الطاقم الطبي قائلا، إن الأطباء يحاولون الاستمرار في العمل رغم الخطر والحرمان من الأساسيات.

ووصف اللوح الوضع في غزة بشكل عاما، قائلا "المنازل غير آمنة. المستشفيات غير آمنة. ماذا علينا أن نفعل؟ على أية حال، هؤلاء الناس بحاجة إلى المساعدة. لا يمكننا أن ندع هذا يؤثر علينا".

وأضاف أنه مع تضاؤل الإمدادات وتدمير البنية التحتية، فإن المستشفيات بالكاد تستطيع توفير الرعاية المنقذة للحياة.

وتحدث الطبيب الشاب بأسى عن تدهور الأوضاع في المستشفيات، قائلا "لقد رجعنا 100 عام إلى الوراء. لقد كان الوضع سيئًا بالفعل قبل هذه الحرب. أما الآن، فإن الاختبارات المعملية البسيطة، وما يعتبره الطب الحديث أساسيًا، يُعتبر من الكماليات".

وأضاف أن "الوضع أجبره على اتخاذ سلسلة من القرارات الرهيبة بشأن من سيعيش أو يموت". وقال إنه "قبل أيام قليلة كان عليه الاختيار بين مريضين يحتاجان لغسيل الكلى، أحدهما امرأة تبلغ من العمر 90 عاما".

وأكد "لقد منحتها بعض الوقت، لكن كان علي أن أعطي الأولوية للشخص الأصغر سنا". "لقد شعرت بالصدمة لأنني اضطررت إلى القيام بذلك، لكن يجب علي استخدام الموارد المتوفرة لدينا بأفضل طريقة".

وفي حوار آخر مع إيمي غودمان، في 18 أكتوبر، بعد قصف المستشفى المعمداني، وصف اللوح كيف يبحث "ما يقرب من 40 ألف" شخص عن ملجأ خارج مباني المستشفى في غزة.

وهاجم اللوح القصف قائلا: "هذا المبنى اسمه المستشفى المعمداني.. هل أنا واضح بما فيه الكفاية؟ المستشفى المعمداني. وهذا بالتأكيد شيء لا علاقة له بالإسلام أو بأي جماعة متطرفة أخرى".

وأضاف: "هذا مستشفى قديم جدا، عمره أكثر من 100 عام. لذلك، فهو يقع في منطقة مكتظة بالسكان. لقد تعرض للقصف في اليوم السابق، لكن المرضى واللاجئين والموظفين لم يتمكنوا من مغادرة المستشفى".

وتابع أنه "لا يستطيع أن يترك المستشفى لأنه ببساطة إذا خاف هو على حياته وفعل مثله باقي الطاقم الطبي من ممرضات وأطباء، فلن يتبقى أحد لمعالجة آلاف المرضى يوميا".

وتحدث الراحل همام اللوح لموقع "هابيست هيلث" الطبي، في 18 أكتوبر، عن مأساة مرضى الكلى والذين يحتاجون إلى غسيل كلوي، بالإضافة إلي المصابين بأمراض معدية في غزة، موضحا مخاوفه بشأن تفشي هذه الأمراض بين الناس بسبب الإهمال الطبي.

وفي حديثه لموقع "إي إنترناشيونال ريلاشينز"، في 7 نوفمبر، هاجم اللوح الحصار الإسرائيلي، قائلا إنه "يعني توقف إمدادات الأدوية ومشتقات الدم والمياه العذبة والطاقة، وغيرها الكثير".

"طبيب ملتزم، وأب رائع، ومنارة للنور"

"طبيب ملتزم، وأب رائع، ومنارة للنور" هذه هي سيرة اللوح بين زملائه الأطباء وتحديدا في منظمة أطباء بلا حدود والذي تحدث موقع "الديموقراطية الآن" مع اثنين منهما بعد وفاته.

وقالا إنه كان قد رفض الانصياع للتعليمات الإسرائيلية بالإخلاء من أجل مواصلة تقديم الرعاية لمرضاه.

وتقول الدكتورة تانيا حاج حسن من منظمة أطباء بلا حدود: "لقد أمضى اللوح عقدا من الزمن يتعلم كيفية خدمة شعبه".

ويقول الدكتور بن طومسون، زميل أمراض الكلى الذي عمل مع اللوح في تورونتو بكندا وفي غزة: "لقد أراد أن يتمكن أطفاله من رؤية يوم يتمتعون فيه بحياة حرة وعادلة ودائمة في فلسطين، دون احتلال".

وتحدث طومسون عن الرسالة التي كان يحملها اللوح على عاتقه والتي كانت تدفعه لتكثيف تصريحاته ولقاءاته الإعلامية في الفترة الأخيرة، قائلا إنه "أصر على أنه إذا عرف العالم ما يحدث في غزة، فإنه سيتدخل وسيُنهي معاناة الناس في غزة".

وأضاف طومسون "مثل العديد من الأطباء في غزة خلال الشهر الماضي، وفي مواجهة ظروف رهيبة، ظل اللوح ملتزما تجاه مرضاه، واهتم بهم رغم كل ما واجهه".

وتابع أنه في إحدى لقاءاته الإعلامية التي أجراها، بينما كان يتحدث اللوح عن الحقيقة للعالم حول الفظائع التي كان يعيشها الناس في غزة، تم قصف منزله، وتهشمت النوافذ، وانفجر الباب الأمامي لمنزله. ذهب للاطمئنان على أبنائه وعلى والده الذي يعيش معه. ووضعهم في غرفة، ثم عاد وأنهى المقابلة. وفي اليوم التالي، ذهب إلى العمل، وكان هذا هو مستوى التزامه".

وتزداد حصيلة القتلى من أفراد الطاقم الطبي في غزة مع استمرار الغارات الإسرائيلية على القطاع، رغم أن القانون الإنساني الدولي يحمي المستشفيات والمدارس والمدنيين وعمال الإغاثة. وقال المرصد الأورومتوسطي، الاثنين، أن خسائر القطاع الطبي بلغت 198 قتيلا من الكوادر الطبية، وأكثر من 200 مصاب، وتوقف 51 مستشفى ومركزًا صحيًا عن العمل، إلى جانب تدمير 41 سيارة إسعاف.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: فی الأردن فی غزة

إقرأ أيضاً:

سرديات المقاومة.. رحلة طاهر النور من تشاد إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة

يحشد الكاتب والروائي التشادي طاهر النور كل حواسه المدربة على التأمل المبكر، مصقولا بمعارف وثقافات ونضالات شتى بالحرف والكلمة ونتاج لعقود وسنوات من تبدل أحوال بلدان ومجتمعات، وتجارب ومحطات لمراحل من العواصف السياسية والعصف المعرفي الذي انبثق عن التماعات بزوغ التجربة وسردياتها الأثيرة.

ومن هذا التكوين المعرفي والتجريبي تتبلور رؤيته في تصوير اتحاد الوجود وتقاطعات المصير، وما يكتنف علاقة الإنسان والمثقف بالهويات الثقافية والمتخيلة في بلاده وبلدان أفريقية أخرى ممن بقيت متوارية تحت ستارة وإرث الاستبداد المحلي، تحفه قيم التحرر والكفاح في أفريقيا، وبلده تشاد بوجه خاص، إلى غير ذلك من تأثير اتصاله بحراك الثقافة الإنسانية والفكر وأسئلة الحداثة والكتابة الأصيلة، تلك التي أبقت دوما على موقف الإنسان في الفن والحياة.

في هذه المقابلة، التي تفارق تجربة الكاتب كقاص وروائي إلى تجربة أخرى خاضها هي أقرب إلى المغامرة والرؤية وشجاعة الرأي بأفق الترحال والسفر، مشفوعة بالشغف والاكتشاف.

يجول بنا طاهر النور في ثنايا كتابه "أفريقي في فلسطين" لمجلى آخر من التعبير، عبر وثيقة مشاهداته وشهاداته ويومياته، إلى رؤية كاتب ومثقف أفريقي من تلامذة مغامرين ورحالين قبله، كثيرا ما تذكر ملامساتهم الواقعية للنضال بمصافحتهم تراب فلسطين وشعبها وقضيتها إبان حصارات سابقة.

إعلان

وفي هذه الوثيقة يتجلى موقف الأدب العالمي المقاوم في اختراق الحواجز والحدود بالقلم الحر من نماذج سوينكا وأشيبي وآخرين، وطاهر النور هنا على خطاهم ينقلنا إلى محطات لصيقة باللحظة الفلسطينية التي نديمها الوجع، وأنين التراب تحت أنقاض التراب، والحنين إلى الانبعاث.

إنه يتأمل العنقاء الجريحة المدماة، ويمضي شاهدا بملاحظاته، وموثقا راصدا بمخيلته الواقعية وحدسه أحداثا جرت وتجري في فلسطين المحتلة قبل الحرب على غزة بثلاثة أشهر. فإلى الحوار:

الكاتب والروائي التشادي طاهر النور إلى جوار الجدار العازل أثناء رحلته إلى فلسطين (مواقع التواصل) حدثنا كيف أمكن لك أن تزور فلسطين لتخرج بكتاب توثيقي مهم ليوميات سردتها وسجلتها موقفا ورؤية عيانية؟

عندما وصلتني الدعوة من وزارة الثقافة الفلسطينية، لم أستطع تصديق أن الأمر قد يكون ممكنا. انتابني إحساس بالفوضى. كان ذلك الإحساس في منتهى الغرابة، ولم أستطع استيعاب جوهره. ومع ذلك، فقد حان وقت السفر، ووجدت نفسي أمام الواقع. اعتقدت أن الأمور ستسير دون عوائق، لكن العوائق ظهرت على السطح منذ اللحظة التي وطأت فيها مطار بلدي. فليس من الشائع أن يسافر مواطن عادي إلى فلسطين لأي سبب من الأسباب.

وعندما تجاوزت كل تلك الحواجز والأزمات الشخصية، ووصلت إلى الضفة الغربية المحتلة، شعرت بأن علي توثيق هذه الرحلة. ثمة دين في عنقي يجب أن أؤديه حتى ينزاح الهم القابع بين جوانحي. لم أتصور قط أن أي شخص يحظى بالسفر إلى تلك البقعة العجيبة، يمكن أن يعود دون أن يساوره فضول الكتابة. ما يراه الزائر، وما يكتشفه وما تنقشه التجربة في ذاكرته، أبعد بكثير من تصوراته وهو في بلده. ففلسطين، بالنسبة للكثيرين، ليست أكثر من مجرد فكرة. شيء يفكر فيه الناس، ويتحدثون عنه، ويقرؤون عنه في الكتب، ولكن لا يمكنهم رؤيته. ومن لم يخض التجربة ربما لن يستطيع تفهم هذا الشعور.

إعلان

وبما أنني رأيت وشاهدت فلسطين واقعيا، فإن الكتابة عن ذلك واجب علي القيام به. وتقريبا هذا هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الكتّاب فعله. فما الذي يمكنهم تقديمه لفلسطين كقضية؟ أليست الكتابة عما شاهدوه في الحواجز وفي المدن المحتلة، ونشرها ليسهموا في وعي قرائهم بغض النظر عن الرقعة التي تصل إليها كتبهم؟

لیس من الشاٸع أن یسافر مواطن عادي إلی فلسطین ولم أتصور أن أحظی بذلك دون أن یساورني فضول الكتابة.

تقول في كتابك "أفريقي في فلسطين": ما يحدث في غزة أن الهاجس الذي يشغلني لا يتعلق بالحرب فقط، وإنما كان يؤرقني منذ أن عدت من الأراضي الفلسطينية المحتلة قبل الحرب على غزة بثلاثة أشهر".. كيف تجمل لنا الصورة هنا؟

لقد خضت تجربة صعبة من الناحية النفسية، ليس فقط تلك الصعوبات التي واجهتها في مطار بلدي وفي مطار الأردن، والساعات الطويلة التي قضيتها في الانتظار، وإنما أيضا تلك الصعوبات التي اكتنفت دخولي عبر الحواجز الإسرائيلية. ناهيك عن مشاهداتي في مدن مثل القدس وجنين والخليل ورام الله وغيرها، وما حكاه الناس وما يعيشونه يوميا. كل ذلك ترك في نفسي أثرا عميقا.

الصمت، مثل الكتابة، لم يعد مجديا، خصوصا وأن الحرب المشؤومة جاءت عقب زيارتي تلك بثلاثة أشهر فقط. لي أصدقاء هناك، أتابع عن كثب صور الموت والنزوح والخراب. وهم مطوقون من كل جانب، لا يستطيعون الفرار إلى أي مكان. اليوم يهربون من المكان نفسه الذي هربوا منه بالأمس. يدورون في الحلقة المفرغة نفسها.

فإذن، أليس كل هذا كافيا ليهز ضمير أي إنسان في هذا العالم، أيا كان معتقده أو انتماؤه السياسي؟

الكاتب طاهر النور بصحبة الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله (مواقع التواصل) أشرت إلى أن "ما يحدث في غزة غيّر من مفاهيم العدالة وحقوق الإنسان والكثير من القناعات التي كانت في وقت من الأوقات ضمن التابوهات".. كيف ذلك؟

يؤسفني أن أقول لك إن هذا هو الواقع، وهذا ما نعيشه اليوم دون مواربة أو حياء. مفاهيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان لم يعد لها معنى إلا في كليات القانون والعلوم السياسية، ولدى الطلبة الجدد. ليس لها أي معنى حتى في أروقة الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة، وليس لها معنى في الصحافة العالمية التي صارت أبواقا تكذب بجسارة غير مسبوقة وتبرر جرائم المحتل.

إعلان

يمكن لأي دولة، طالما أنها تتمتع بالقوة أن تفعل كل شيء، وأن تقتل من شعبها أو من شعب دولة مجاورة دون أن تعترضها أي دولة في العالم، ودون أن تحاسبها أي منظمة أممية حسابا فعليا سوى خطابات الإدانة التي باتت صورة من صور العجز.

ما الشواهد المؤثرة التي غيرت من مفاهيمك حيال ما يحدث في فلسطين عامة، وغزة خاصة، وأثر ذلك على تجربتك الروائية؟

القوي هو من يكتب سرديته. الدول الضعيفة لا حول لها ولا قوة سوى الانصياع لإملاءات الدول الكبرى. ومن يملك القوة يستطيع أن يكتب السردية التي يريدها لدرجة أن الناس سيصدقونها. وأكثر من ذلك، سوف يدافعون عن تلك السردية بكل ما أوتوا من حجة وصوت وبجاحة.

وبالمقابل، فإن السرديات المضادة الصادرة عن الدول ذات الصوت الأضعف لن تكون لها أي قيمة، لأنها "رواية غير صحيحة، معادية لدين ما، أو للسامية"، أو لحقوق الإنسان التي لم تعد تساوي الحبر الذي كتبت به. نحن نعيش، وبكل أسف، زمن السرديات الجديدة.

العالم لم یعد آمنا، فمن یملك القوة هو من یقر "حقوق الإنسان" لشعب، ویبید شعبا آخر.

هل يمكن القول إن بوادر الخير لا تزال موجودة بالعالم رغم الصمت العربي تجاه ما غدا معتادا لدى المشاهد العربي، وما تشهده الشعوب من تجريف للأرض والإنسان في فلسطين يوميا؟

في السابق، كان الناس يعتمدون على الصحافة المكتوبة والتلفزيون، ومن السهولة أن نجعلهم يصدقون أي رواية نلفقها بين ليلة وضحاها. الكثير من السذج منهم سيصدقون طالما أن هذه الرواية قد قدمت بلغتهم وثقافتهم، وربما باستغلال عقيدتهم.

وبما أنه لا يمكن للظلام أن يكون شاملا، ولا بد أن يتخلله شيء من الضوء، فقد انقلبت موازين القوى الآن مثلما تعددت قنوات المعرفة بشتى أشكالها.

وهذه الثورة المضادة، المتمثلة في قنوات الإنترنت المختلفة، لم تعد في صالح تلك السرديات التي ينشرها الغرب بلا هوادة، رغم ما يملكه من إمكانيات مادية وبشرية هائلة. فهذه القنوات قادرة على تقويض أي سردية ما لم تكن بالطريقة الكلاسيكية المعتادة.

إعلان

وبالتالي، فإن بإمكان أي شخص في العالم أن يصل إلى الرواية الحقيقية بضغطة زر. وهذا ما رأيناه خلال السنتين الأخيرتين، حيث برزت الأصوات من كل مكان، ترفض وتكذب الرواية الرسمية لبلدانها. صحيح أن هذه الأصوات تنتشر بشكل محدود، لكن من الواضح أن تأثيرها يتنامى، وهو أمر لم يكن واردا قبل سنوات قليلة.

بقي اعتداد الكثير من الناس بقوة وصلابة الإرادات الحرة وتمسكها بكفاحها، لكن المعادلة ربما تغيرت اليوم كثيرا وبتنا نشهد مظاهرات بإسبانيا وبلجيكا ودول أفريقية ولاتينية مناهضة لإسرائيل، في حين يرافق ذلك تأييد من بلدان وحكومات في المنطقة العربية وصمت مريب؟

الأمر واضح جدا. بلدان أوروبا تمتلك قوة عسكرية واقتصادية كبيرة، ناهيك عن الوعي الجمعي والتماسك الاجتماعي، وهو ما لم يكن متوفرا في العالم العربي. على الرغم من أن بعض دول الشرق العربي تمتلك القوة الاقتصادية، فإن القوة الاقتصادية وحدها غير كافية، دون أن ننسى الأزمات السياسية التي عصفت بالعالم العربي خلال العقد الأخير.

أما الأصوات التي نشاهدها من أفريقيا وأميركا الجنوبية، فإنها تأتي ضمن موجة الوعي العام بفضل قنوات الإنترنت، موجة الوعي ضد المنطق الراسخ تبشر بأن العالم لم يعد كما هو قبل طوفان الأقصى، وأن أشياء كثيرة سوف تتغير على مستويات عدة.

هل يمكن للدول والشعوب أن تقف في وجه ما يسميه طاهر النور "شرور الوجود" أم إن النضال "أصبح خرافة" هو الآخر، و"العدالة متغيرة وليست ثابتة" كما تحكي وتوثّق في كتابك؟

لا أحد يعرف متى تتغير موازين القوى، ولكن لا شيء يدوم. سوف تتغير أشياء كثيرة ولن يظل العالم على حاله. ستضمحل دول، وسوف تصعد أخرى، لأن من طبيعة الزمان أن يأخذ بتياره الجارف ما كان يقف بعنفوان على ظهر الأرض.

ولابد أن يأتي اليوم الذي تتوقف فيه ممارسات الطغيان. بالعلم والمعرفة والمواكبة يحدث ما لم يكن في الحسبان، والعالم يتقدم إلى الأمام باتجاهات شتى، وسيشهد تطورا طبيعيا ضمن مجريات الأمور.

إعلان إن "من يملك القوة هو من يقر حقوق الإنسان لشعب، ويبيد شعبا آخر"، يا لها من مفارقة يتغلب فيها الخطاب المهيمن على شعوب عزّل، في حين يتفرج العالم وكأنه داخل "حلبة مصارعة توجه لكمات تلو الأخرى لوجه العالم"، بطلاها إجرام ترامب ونتنياهو. هل من توضيح أكثر؟

ترامب ونتنياهو نموذجان للإجرام العالمي، ولا يتوقف الأمر عندهما. لقد شهد العالم العديد من الجرائم على مر التاريخ، وكان الضحايا من الشعوب المستضعفة: الإسكيمو، والهنود الحمر في الأميركتين، والسود من أفريقيا، وإلى العالم. دون أن ننسى القتل الجماعي في ميانمار والهرسك، وجرائم الأنظمة الأوروبية طوال تاريخها الاستعماري.

تقول في مؤلفك "يوميات أفريقي في فلسطين": العالم لم يعد آمنا أبدا. فهل من بوادر سلام تلوح اليوم في "الأفق الإنساني" في ظل تغول وجبروت القوة الباطشة التي تفصح عن كامل السقوط الأخلاقي المريع لمنطق وجبروت القوة المادية، مع تفاقم الصراع والعدوان في المنطقة والعالم؟

سأكرر مرة أخرى، ومرة تلو أخرى، العالم لم يكن آمنا قط. هذه أسوأ فترة للعالم منذ الحرب العالمية الثانية. يراودني إحساس مزعج بأن السلام الذي نتوق إليه لن يكون بوسعنا رؤيته قريبا. العالم عالق في هذه اللحظة، لا يستطيع التقدم إلى الأمام، ولا التراجع إلى الوراء. ونحن عالقون معه، رغم أنوفنا، على أمل أن ننجو من هذا العالم البربري المتوحش.

مقالات مشابهة

  • سيرين عبد النور تخطف الأنظار بإطلالة ساحرة
  • ‏وسائل إعلام لبنانية: غارة إسرائيلية تستهدف أحد مداخل بلدة العباسية جنوبي لبنان
  • 20 ألف زائر لمعرض نيرمين همام "وتيكو" في أسبوع القاهرة للصورة
  • “يُفاقم الوفيات”.. بودبوس يدق ناقوس الخطر جراء نقص أدوية الكلى
  • غارة إسرائيلية تستهدف مدرسة تؤوي نازحين في حي الدرج بغزة
  • في الجنوب.. غارة إسرائيلية تستهدف بلدة راميا وسقوط جريح
  • زملاء أم منافسون؟!
  • طفلة فلسطينية تحاول تفادي النيران بحثاً عن النجاة من غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة للنازحين (شاهد الفيديو)
  • سرديات المقاومة.. رحلة طاهر النور من تشاد إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة
  • الدفاع المدني بغزة: غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين تسفر عن قتلى وجرحى