متى نبدأ في تدريس لغتنا بوصفها مهارات؟
تاريخ النشر: 20th, November 2023 GMT
كتب/ مسعود عمشوش:
من أهم السمات التي يتميّز بها الإنسان عن المخلوقات الأخرى: اللغة. فباللغة يتواصل الإنسان مع الناس، وبها يفكر ويعبّر عن عواطفه وأحاسيسه بها. وبفضل اللغة وصلت إلينا معارف الأمم السابقة وتراثها ومعتقداتها.
واللغة في الأصل أصوات نستمع إليها وننطقها باللسان ومخارج الصوت الأخرى. ومع الزمن تمكّن الإنسان من توثيق الأصوات اللغوية، أولا بالرموز الكتابية التي تمكنه من التواصل مع من هو بعيد عنه مكانيا أو زمانيا، والعودة إلى استخداماته السابقة للغة.
ثمّ منذ قرن ونصف تقريبا تمكّن الإنسان من توثيق ما يقوله شفهيا بأجهزة التسجيل المختلفة. وهناك كثير من اللغات لم تعرف حتى اليوم أسلوب التوثيق أو التدوين الكتابي.
ومن المعلوم أن علم اللغة قد شهد منذ مطلع القرن الماضي تطورا كبيرا، وأصبح علماء اللغة يميّزون بين (اللغة) بوصفها نظاما عاما له نظمه وقواعده الموجودة في كتب النحو والصرف والمعاجم، وبين الكلام (أو النص) بوصفه تجسيدا أو توظيفا أو استخداما محددا أو فرديا للغة في سياق تواصلي معيّن.
وهناك فرق شاسع بين تعليم النظام اللغوي، أي نظام لغوي، بمكوناته المختلفة (النحو والصرف والمعجم...)، وتعليم التواصل باللغة، أي مهارات التواصل اللغوي الأربع: الاستماع والحديث والقراءة والكتابة. ومن المعلوم أننا نكتسب مهارتي الاستماع والحديث بطريقة تلقائية؛ الأولى منذ يوم ولادتنا والثانية من سنتنا الثانية، وذلك من خلال المحاكاة والممارسة. لكن مهارتي القراءة والكتابة لا نكتسبها إلا بواسطة المدرب أو المعلم.
وفي مناهج جميع الدول يحظى تعليم اللغة الأم (القومية) باهتمام خاص. وعادةً يستمر تعليمها حتى في المستويين الجامعي والعالي. وقد شهدت مناهج تعليم اللغات طفرةً كبيرة خلال النصف الثاني من القرن الماضي. وباتت مناهج تدريس اللغات تركز على إكساب المتعلم مهارات اللغة في سياقات مختلفة، شفهية وكتابية، كما انتقلت بؤرة تدريس اللغة من الارتكاز على النصوص الفنية إلى الارتكاز على النصوص المرتبطة بالحياة اليومية والوظيفية.
ويمكننا القول إن مناهج تدريس اللغة العربية لم تسارع - للأسف- في مواكبة تلك المستجدات التي تمّ تبنيها في مدارس وجامعات معظم الدول المتقدمة، ولا نزال نجهل كثيرا من الطرق الحديثة في تعليم اللغات. ولا تزال كثير من مدارسنا وجامعاتنا تركز على تدريس اللغة بوصفها نظاما عاما، (نحو وصرف)، اعتمادا على نصوص من الأدب العربي فقط. بينما أصبح تعليم اللغات يركز اليوم على تدريس اللغة بوصفها مهارات.
وفي اعتقادي أن أحد أهم أسباب تدني مستوي التعبير الكتابي والشفهي لدى معظم طلبتنا ومدرسينا وموظفينا يكمن في عدم الاستفادة من تجارب الآخرين في تدريس لغاتهم، لاسيما علماء اللغة، وكذلك في عدم تدريسنا للغتنا العربية بالطرق الحديثة، التي تركز على تجليات اللغة في العمليات التواصلية الكلامية أو الكتابية بوصفها مهارات: مهارة الاستماع ومهارة الكلام ومهارة القراءة ومهارة الكتابة بأنواعها.
ولا يعني تعليم اللغة بوصفها مهارات تواصلية في السياقات الحياتية والوظيفية المختلفة الدعوة إلى إهمال الإلمام بالقواعد والقوانين اللغوية، لكن من الخطورة بمكان حصر تدريس اللغة في تكرار تلقين القوانين العامة، وإهمال تجلياتها في الكلام والكتابة، أي في استخدام المهارات المختلفة بشكل صحيح، من خلال تكثيف دور التمارين والتدريبات التطبيقية. فاكتساب المهارة لا يتأتى إلا من خلال التمرين والتدريب والممارسة، وقيام المدرس/المدرب (حتى وأن حصل على الأستاذية) بلفت انتباه المتدرب إلى أوجه الخطأ والصواب في أدائه للمهارات اللغوية الأربع.
وإذا كان هناك من يصر اليوم على حصر تعليم اللغة العربية في تلقين النحو والصرف، فمن الواضح أن واضعي مناهج اللغة العربية في المدارس الأساسية والثانوية بدأوا –منذ نحو عشر سنوات- يضمنون كتب اللغة العربية أسس الكتابة الوظيفية، الملخص والسيرة الذاتية والرسائل الإدارية والتقرير.
والكفاءة في اللغة لا تعني أبدا الإلمام بقواعدها وصرفها فقط، بل تعني قبل ذلك اكتساب مهاراتها الأربع وإتقانها. وفي اعتقادي ليس من المناسب الاعتماد على متخصصي النحو والصرف، الضليعين في رصد الأخطاء النحوية والإملائية، الذين لا يستطيعون كتابة مقال أو ملخص أو محضر، لتدريب المهارات اللغوية. وكذلك من غير المناسب أن يتعامل معلم اللغة العربية مع طلبته بوصفه أستاذا محاضرا، بل عليه أن يعد نفسه مدربا وموجها في المقام الأول.
كما أن علينا التوقف في حصر تعليم لغتنا العربية في التدريب على مهارة الكتابة. وفي الحقيقة أن الانطلاق من تدريس مهارة الاستماع تعطي نتائج ممتازة في تدريب الطلبة على كتابة الملخصات وتدوين المحاضرات والمحاضر، وتعودهم على التركيز الذهني. وأدعو القائمين على أقسام اللغة العربية في جامعاتنا للإسراع في إضافة الامتحانات الشفهية، المتبعة منذ عقود طويلة في الجامعات المرموقة عربيا ودوليا، في برامجها المختلفة. ومن غير المعقول أن نمتحن الطالب كتابيا لمعرفة مستواه في الإلقاء أو التجويد. ومن غير المعقول أن تظل مادة الصوتيات غائبة في مقررات برامج أقسام اللغة.
المصدر: عدن الغد
كلمات دلالية: اللغة العربیة تدریس اللغة العربیة فی اللغة فی
إقرأ أيضاً:
الترجمة الأدبية.. جسر غزة الإنساني إلى العالم
في عالم تعج فيه الأخبار العاجلة والصور القاسية، تقف الترجمة الأدبية كجسر إنساني حساس، يربط بين القلوب والعقول، وينقل معاناة الشعوب من وراء الجدران والصمت الدولي. غزة، هذه الرقعة الصغيرة التي أصبحت عنوانا للألم والمعاناة والجوع، تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أدوات تعبير تتجاوز الحصار، وتصل إلى وجدان الشعوب، لا سيما من خلال الأدب المترجم.
فالترجمة الأدبية ليست مجرد نقل لغوي، بل فعل مقاومة ثقافية وأخلاقية، تتحول عبره القصص والقصائد والنصوص الشعرية والنثرية من أصوات محلية إلى شهادات عالمية، تكسر التعتيم، وتعيد للإنسان الغزي صورته الحقيقية كفرد لديه أحلام وأوجاع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"غرق السلمون" للسورية واحة الراهب عبرة روائية لبناء الوطنlist 2 of 2من كلكتا إلى نوبل.. طاغور شاعر الطبيعة والحزن وفيلسوف الحياةend of listفي حديثه للجزيرة نت، يرى أستاذ الأدب والنقد الإنجليزي في جامعة الأزهر بغزة، مروان حمدان، أن الترجمة الأدبية تلعب دورا حيويا في إبراز البعد الإنساني بعيدا عن التجاذبات السياسية، وكشف التفاصيل اليومية للمعاناة من منظور شخصي وعاطفي، وتعزيز التضامن الدولي عبر إشراك القراء في معاناة وآمال الكتاب الغزيين، وإحياء الذاكرة الغربية حول النكبة والإبادة والحصار من خلال الأدب.
وتهدف الترجمة إلى نقل الأدب الفلسطيني إلى جمهور عالمي متنوع، لا سيما أعمال الكتاب من غزة، وبناء شبكات تضامن ثقافي عالمية عبر أعمال أدبية مترجمة، وتمكين الكتاب الفلسطينيين من التواجد في محافل أدبية دولية، وتعزيز الصورة الثقافية لغزة بوصفها حاضنة للإبداع، لا مجرد مسرح للحرب.
إن الترجمة الأدبية من غزة ليست عملا ثقافيا فحسب، بل شهادة على واقع إنساني يجب أن يسمع. وهي دعوة للعالم كي ينصت، لا إلى دوي الطائرات والصواريخ فقط، بل إلى صوت الشاعر والروائي.
وقد أكد على أهمية تسليط الضوء على الأصوات الأدبية والأعمال الإبداعية في قطاع غزة، من خلال ترجمة مختارات منها إلى لغات عالمية، لنقل صورة أعمق عن القضية الفلسطينية إلى العالم بلغات مختلفة، وفتح آفاق جديدة أمام المترجمين المهتمين بها، ودعم الكتاب والمترجمين الشباب، وتوفير منصات لنشر أعمالهم.
تمثل الكتابة الإبداعية في السياق الفلسطيني ضرورة ملحة، وسلاحا يعبر الأجيال ويخترق حدود اللغة نحو العالم، فهي ليست ترفا أدبيا، بل فعل مقاومة، وصرخة وعي، وذاكرة تحفظ ما يحاول المحتل طمسه.
إعلانإنها أداة لاسترداد الحق، وتثبيت الهوية، وعين لا تغفو في زمن المسخ الإعلامي والتزييف السياسي. فالكاتب الفلسطيني ليس مجرد راو، بل شاهد ومقاتل، وناقل لنبض شعبه بلغة لا تهادن ولا تساوم.
الشاعر حيدر الغزالي، الذي كانت له إسهامات جليلة في تسليط الضوء على أهمية القضية الفلسطينية، ومظلومية الشعب الفلسطيني، وتعزيز السردية القائمة على الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه، شارك في فعاليات أدبية كبيرة في فرنسا وإيطاليا والبرازيل والولايات المتحدة.
وقال في حديثه للجزيرة نت: "كانت لي مشاركات أدبية من خلال نصوص شعرية عن القضية الفلسطينية والإبادة في غزة، فقد أسهمت مع مجموعة من الشعراء الغزيين، منهم يوسف القدرة، هند جودة، مروان مخول، علي أبو خطاب، الشهيد رفعت العرعير، نعمة حسن، الشهيدة هبة أبو ندى، دارين الطاطور، ويحيى عاشور، الذين شعروا بمسؤوليتهم تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الإبادة في غزة، في إصدار مجموعة شعرية مشتركة باللغة الإيطالية بعنوان (صراخكم من صوتي)، وكانت واحدة من أكثر المجموعات الشعرية مبيعا في إيطاليا".
وأضاف: "ترجمت لي قصيدة (أعدني إلى صباي) ونشرت على صفحات مجلة Ord Bild السويدية، وهي أقدم مجلة أدبية في السويد، كما ترجمت قصيدة (كلما خرجت من البيت أودعه) إلى اللغة المالايالامية، ونشر نص قصيدة (انتفاضة الشباب الحر في الجامعات) في جريدة (The New York War Crimes) الأميركية، التي كانت تصدر في وقت اعتصام طلاب الجامعات في أميركا ضد الحرب على غزة".
مقاومة الصمت واختراق الحدودوفي معرض رده على سؤال حول جدوى هذه الفعاليات الأدبية ودورها، أضاف: "الترجمة الأدبية ضرورة ملحة، وأداة لا بد منها لعبور المسافات واختراق الحدود نحو نبض الشارع، وصوت الإنسان البسيط، وحكاية الوطن المسلوبة. إنها الكلمة التي تقاوم الصمت، وتمنح اللغة حرارة الرفض، وكرامة البوح في وجه القهر.
وهي التي تواجه سردية الكذب الإسرائيلية، وتوقع على القاتل صفة الإجرام والدموية. فالكتابة في زمن الإبادة تتطلب انغماسا تاما في الوجع، للدفاع عن الروح البشرية، واقتحام أغوار آلامها، إلى درجة تتطلب أحيانا أن يتجاهل النص خلفيته القومية والوطنية، لصالح ما هو أعم وأشمل. والترجمة هي التي توصل النص إلى حده العالمي، وتطوع اللغات لخدمة أهدافها".
جوديث كيزنر، كاتبة وفنانة تشكيلية ألمانية، وعضو أكاديمية قصر العزلة في برلين، ومن أكثر الداعمين للقضية الفلسطينية ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين، أسهمت في إقامة مدرسة "زهرة أمل" للطلاب الفلسطينيين في منطقة المواصي.
ورأت في تصريحها للجزيرة نت أن "الكتابة الأدبية وترجمتها تمنح أهل غزة صوتا غالبا ما يتم تجاهله في السياسة. فمن خلال الكتب والقصص والقصائد، يتمكن الغرب من التعرف على تجاربهم الشخصية ومشاعرهم، وفهم معاناتهم بشكل أعمق، مما يسهم في اتخاذ مواقف أو القيام بأفعال من أجلهم".
وأضافت: "الترجمة الأدبية لا تنقل فقط أخبار الحرب والدمار في غزة، بل تكشف عن تفاصيل الحياة اليومية التي تستمر رغم كل شيء، وتجعل المعاناة ملموسة، وتعيد للضحايا أسماءهم وملامحهم، وتذكرنا بمسؤوليتنا تجاههم كأفراد ومجتمعات".
حكايات حية وشهادات موروثةإن الترجمة الأدبية من غزة ليست عملا ثقافيا فحسب، بل شهادة على واقع إنساني يجب أن يسمع. وهي دعوة للعالم كي ينصت إلى صوت الشاعر، والروائي، والأديب، لأن الأدب هو المصدر الإنساني الصادق لرصد ما يجري عبر العصور.
إعلانهذا ما قالته رئيسة الملتقى الثقافي وملتقى الأدب الفلسطيني في أوروبا، والمختصة في الترجمة الأدبية، نجوى غانم، وتروي للجزيرة نت كيف أسهمت في ترجمة جميع قصائدها التي كتبتها خلال الحرب على غزة إلى الإنجليزية والألمانية، تحت عنوان: "أغنية الحياة على تلة الذبح، قصائد الإبادة"، كما ترجمت القصيدة التي كتبتها ابنتها نيسان أبو القمصان بعنوان "خان حرب" إلى اللغة الإنجليزية.
كما شاركت في ترجمة كتاب "الوصايا: شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت" (2024)، الذي يضم 17 نصا لعدد من الكتاب الفلسطينيين، وقد جاء إهداء لروح الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت، التي ارتقت مع طفلها جراء قصف غادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد تضمن الكتاب لوحاتها كتعزية فنية وعاطفية.
كذلك ترجمت كتاب "الكتابة، كل ما ظل لي" للكاتبة الغزية الشابة دانا فليفل إلى الإنجليزية والفرنسية (2025)، وكتاب "48 قصة قصيرة فلسطينية" لـ 48 كاتبا فلسطينيا من الوطن والشتات إلى اللغة الإنجليزية، وغيرها الكثير مما لا يتسع المجال لذكره.
واعتبرت غانم أن هذه الترجمات الأدبية تمثل شهادات موروثة للغربيين، عرفوا من خلالها "قصة أبي اللاجئ المنكوب، وجدي الذي عاش ومات رافضا الخنوع والاعتراف بأنه لاجئ، ومعاناة جدتي، وقصصي على الحواجز العسكرية، والإبادة التي يعيشها شعبي".