الكاتب دافيدي بيكاردو: الإيطاليون يقفون مع فلسطين رغم انحيازات النخب
تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT
"ليس إماما ولكن يتمتع بتأثير كبير بين مسلمي إيطاليا، اسمه دافيدي بيكاردو وهو القائل أن حماس حركة مقاومة".
هكذا وصفه الصحفيان الإيطاليان كلاوديو أنطونيللي وسلفاتوري دراغو بعيد إعلانه عن دعمه الكامل لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في وقفة تنكر كل "أصدقاء فلسطين" في إيطاليا لحق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة.
هو ابن مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإيطالية روبيرتو حمزة بيكاردو، والرئيس السابق لتنسيقية الجمعيات الإسلامية في ميلانو.
يدير دافيدي بيكاردو حاليا مجلة "لا لوتشي" وقد انفرد مؤخرا بمحاورة القيادي بحماس، باسم نعيم، وذلك في ذروة الحرب الإسرائيلية على غزة والتحريض على المقاومة الفلسطينية في وسائل الإعلام الإيطالية، واستضافته الجزيرة نت حول قضايا فلسطين والعلاقة بين العالمين العربي والأوروبي:
أنت الصحفي الوحيد في إيطاليا الذي حاور قياديا في حماس منذ بدء العدوان على غزة بالرغم من الحظر غير المعلن على وجوه الحركة في الإعلام الغربي عامة، بل ذهبت لاعتبار حماس حركة مقاومة تحررية. ألم تقلق من أن تتهم بالترويج لـ"إرهابيين" خصوصا بعد التنديد الواسع الذي قوبلت به حماس في إيطاليا بعد عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول سواء من الأوساط اليسارية أو اليمينية، وقبل كل هذا وذاك تصنيف الحركة رسميا من طرف الاتحاد الأوروبي بأنها منظمة إرهابية؟صحيح أن النقاش السياسي والإعلامي في إيطاليا ليس حرا -عكس كل الادعاءات- وهو ما خلق شرخا بين النخب والشعب الإيطالي الذي يقف مع الفلسطينيين بالرغم من الانحياز الإعلامي الكامل لصالح إسرائيل.
النقاش السياسي والإعلامي في إيطاليا ليس حرا -عكس كل الادعاءات- وهو ما خلق شرخا بين النخب والشعب الإيطالي الذي يقف مع الفلسطينيين بالرغم من الانحياز الإعلامي الكامل لصالح إسرائيل
ونحن في مجلة "لا لوتشي" اخترنا صف الشعوب وصف الإعلام الحر، فإن كان هناك صراع في مكان ما فلا معنى من التعتيم على أحد طرفي الصراع. شيطنة حماس، ومحاولة خلع إنسانيتها من خلال سياسة التعتيم تعني أن هناك من يخشى إيصال صوت طرف من شأنه أن يؤثر على الرأي العام بطرحه العقلاني الذي قد يحطم منطق الإبادة التي تتعرض لها غزة المسكونة بوحوش تهدد وجود الغرب نفسه، بحسب إعلام "التيار السائد". في حين أننا أمام شعب يدافع عن نفسه من احتلال غاشم.
الحوار الذي أجريناه كان سبقا إعلاميا لم تجرؤ أي وسيلة إعلامية كبرى في إيطاليا على إعادة نشره. أما عن تهمة الترويج للإرهاب، فقرار الاتحاد الأوروبي سياسي وليس له أي سند قانوني.
إن اعتبرنا المقاومة المسلحة ضد الاحتلال إرهابا، علينا إذن أن نندد بأثر رجعي بجميع حركات التحرر الوطنية التي عرفها التاريخ.
وأما إن اعتبرنا المقاومة المسلحة ضد الاحتلال إرهابا، علينا إذن أن نندد بأثر رجعي بجميع حركات التحرر الوطنية التي عرفها التاريخ. والحقيقة أن الإرهاب الفعلي كما يرى اليوم العالم أجمع هو ما تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين، وليس ما تقوم به حماس.
لاحظنا أن إيطاليا، بالرغم من كل شيء لم تتبن التدابير الاستثنائية التي اتخذتها فرنسا أو ألمانيا وبريطانيا في التعامل مع المتظاهرين أو المتعاطفين مع حماس. ما الذي يجعل إيطاليا معتدلة سياسيا إلى حد كبير في موقفها من الشأن الفلسطيني؟ وهنا لا بد من الإشارة إلى موقف حزب "إخوة إيطاليا" الحاكم -الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني- و"فورزا إيطاليا" -الذي أسسه رئيس الوزراء الراحل سيلفيو بيرلوسكوني، ويرأسه حاليا وزير الخارجية أنطونيو تاياني- وقد رفض الحزبان الانضمام للمظاهرة "الكبرى" التي دعا لها الوزير اليميني ماتيو سالفيني في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري لدعم إسرائيل وهو شريكهما في الائتلاف الحكومي (عن حزب "رابطة الشمال"). هل يوجد جذور ثقافية لهذا الموقف؟إيطاليا لها تقاليد راسخة في العلاقات مع العالم العربي والإسلامي. فهذا بلد السياسي الراحل إنريكو ماتي الذي وقف مع ثورة التحرير الجزائرية وساند جبهة التحرير الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وقد كلفه ذلك في وقت لاحق حياته.
إنها بلد السياسي والبرلماني بيتينو كراكسي صديق عرفات الشخصي الذي دافع عن حق الفلسطينيين للجوء للمقاومة المسلحة. إنها بلد الرئيس الأسبق ساندرو بيتريني الذي ندد بمجازر صبرا وشاتيلا بأقسى العبارات، كما أنها أيضا بلد السياسيين المخضرمين ألدو مورو وجوليو أندريوتي اللذين تمكنا من الحفاظ على علاقات متوازنة مع العالم العربي.
في الجمهورية الثانية عرفت إيطاليا أيضا زعيمين سياسيين كبيرين أحدهما من اليمين والآخر من اليسار، سيلفيو بيرلوسكوني وماسيمو داليما وكلاهما عرف كيف يبقي على علاقات مميزة مع العالم العربي. هذا التاريخ صنع شيئا يشبه البصمة الوراثية لإيطاليا في علاقاتها مع الدول العربية، بالإضافة إلى عامل القرب الجغرافي، فإيطاليا حريصة على أن تكون جسرا على المتوسط بين العالم العربي وأوروبا.
بالرغم من مواقف ميلوني المنبطحة للولايات المتحدة في تحديد سياساتها الخارجية كما اتضح في أكثر من مناسبة، فإنها لا يمكن أن تتجاهل التاريخ والجغرافيا ولا حتى الديموغرافيا في صياغة موقفها من العالم العربي والإسلامي.
وبالرغم من مواقف ميلوني المنبطحة للولايات المتحدة في تحديد سياساتها الخارجية كما اتضح في أكثر من مناسبة، فإنها لا يمكن أن تتجاهل التاريخ والجغرافيا ولا حتى الديموغرافيا في صياغة موقفها من العالم العربي والإسلامي. ففي مظاهرة 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري التي أشرت إليها، لم يلب نداء الوزير اليميني سالفيني سوى 500 شخص أغلبهم من المسنين، بينما كانت ميلانو تحصي في الوقت نفسه 30 ألف شخص يتظاهرون نصرة لفلسطين أغلبهم من الشبيبة الإيطالية المسلمة. هذه كلها معطيات لا تغفل عنها الجهات المختصة عند تحديد الموقف الجيوسياسي للبلاد.
الافتتاحية التي كتبتها بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في "لا لوتشي" أتت تحت عنوان: "أعداء فلسطين وأصدقاؤها المزيفون: جبهتا البروبغندا الإيطالية". من أعداء فلسطين وأصدقاؤها المزيفون؟ ولماذا اعتبرت أن خطر الأصدقاء الزائفين لا يقل عن خطر الأعداء؟الأعداء الصريحون لفلسطين هم ممثلو ذلك "اليمين المؤسساتي" الذي يعتقد أن إسرائيل تخوض حربها نيابة عنه وعن الغرب كله في إطار نظرية "صدام الحضارات"، لذلك نجدهم يمنحون تأييدهم التام لـرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في هذه "الحرب الصليبية التي لا دين فيها".
الأعداء الصريحون لفلسطين هم ممثلو ذلك "اليمين المؤسساتي" الذي يعتقد أن إسرائيل تخوض حربها نيابة عنه وعن الغرب كله في إطار نظرية "صدام الحضارات".
واللافت هنا هو نجاح إسرائيل في طرح نفسها كجزء من العالم الغربي، بالرغم من أنها دولة عرقية قائمة على رؤية دينية وهي العناصر ذاتها التي يعيبها الغرب على العالم الإسلامي.
في المقابل نجد اليسار الإيطالي الذي كان يقف في وقت من الأوقات في صف الشعوب المضطهدة ويؤيد حركات التحرر من الاستعمار أصبح الآن لا يدعم الشعب الفلسطيني سوى على نحو "مجرد" لا يفضي إلى أي شيء ملموس، كأن يستخدم الأسطوانة المشروخة "حل الدولتين"، وذلك لإراحة ضميره وإقفال أفواه الفلسطينيين الذين يطالبونه بتسجيل موقف ما.
اليسار الإيطالي الذي كان يقف في وقت من الأوقات في صف الشعوب المضطهدة ويؤيد حركات التحرر من الاستعمار أصبح الآن لا يدعم الشعب الفلسطيني سوى على نحو "مجرد" لا يفضي إلى أي شيء ملموس.
شخصيا أرى أن موقف اليمين أشرف منه؛ لأنه يدعم بصدق طرفا واحدا، بينما اليسار لا يزال يلوك عبارة "حل الدولتين" مع أنه يعلم جيدا أن إسرائيل لن تعطي للفلسطينيين دولة.
الفلسطينيون الذين تخلى عنهم العالم أجمع، ما الذي بيدهم فعله أمام كل المظالم التي يتعرضون لها؟ ألا يحق لهم المقاومة؟ "لا، لا يحق لهم". هذا هو ببساطة جواب اليسار وهكذا سقط عنه القناع خلال هذا العدوان. ذلك أنه إن كان هناك حق، فلا بد من آلية عملية لإنفاذه.
خطورة اليسار الإيطالي اليوم على القضية الفلسطينية لا تكمن في أنه اختار بيع الكلام لفلسطين فحسب، بل رفضه المقاومة الحقة للفلسطينيين، خصوصا إن كانوا مسلمين. وهذا ملمح خطير آخر من سلوك اليسار الذي لا يريد فلسطينيين سوى على شاكلته، يريد "علمانيين، نسويين، ولم لا أيضا متحولين جنسيا".
لكن خطورة اليسار الإيطالي اليوم على القضية الفلسطينية لا تكمن في أنه اختار بيع الكلام لفلسطين فحسب، بل رفضه المقاومة الحقة للفلسطينيين، خصوصا إن كانوا مسلمين. وهذا ملمح خطير آخر من سلوك اليسار الذي لا يريد فلسطينيين سوى على شاكلته، يريد "علمانيين، نسويين، ولم لا أيضا متحولين جنسيا"، لذلك حماس لا تعجبهم.
ولا يهم في هذه الحالة إن ذهبت الديمقراطية وصناديق الانتخاب التي جلبت "حماس" إلى الجحيم. هؤلاء "الأصدقاء" يشكلون ضررا بالغا على القضية الفلسطينية لأنهم يدعون زيفا دعم نضال الشعب الفلسطيني بينما هم لا يقومون فعليا سوى بتقويضه.
هذا يعيدنا إلى معضلة اليسار الحالي الذي تخلى عن هموم الشعب الحقيقية وحاضنته الأساسية وانحاز لأجندات النخب المعولمة. هذه ظاهرة تنبأ بها بالمناسبة شاعر إيطاليا اليساري الكبير بيير باولو بازوليني قبل 40 سنة. أضيفي إليها الادعاء الاستعراضي الزائف بالترحيب بالثقافات للإيهام بالتعددية وتقبل الآخر الذي لا يخرج عن تقبل وصفات طبخ المهاجرين لكن ليس رؤيتهم للعالم.
المقاربة الفولكلورية اليسارية لموضوع الهجرة تريد مسلمين ينخرطون في السياسة لاستغلالهم إعلاميا فقط بأسمائهم العربية والحجاب على رأسهم، لكن ليس قبل أن يتجردوا من تقاليدهم المحافظة، وكل ما يتعارض مع أيديولوجيا الجندر.
وهنا تحضرني مقولة لماكس فريش "طلبنا سواعد للعمل، فأتونا بشرا" وهكذا فإن المقاربة الفولكلورية اليسارية لموضوع الهجرة تريد مسلمين ينخرطون في السياسة لاستغلالهم إعلاميا فقط بأسمائهم العربية والحجاب على رأسهم، لكن ليس قبل أن يتجردوا من تقاليدهم المحافظة، وكل ما يتعارض مع أيديولوجيا الجندر. مسلمو إيطاليا لن يرضوا بهذه الانحرافات مجددا، وأنا أؤكد أن الأمور في صدد التغيير.
لذلك نحن نتوجه للحوار مع من يدافع عن القيم التي نؤمن بها على اليمين. صحيح أن الأمر غدا صعبا ضمن الاصطفافات السياسية الأخيرة التي تلت الحرب على غزة، ولكننا سنحدد التشكيلات التي تستحق أن نفتح معها حوارا فاعلا.
بالحديث عن الأسماء "العربية" التي يستغلها اليسار كما تقول للإيهام بحالة من التنوع الثقافي وتقبل الآخر في مؤسساته، تنتشر في المقابل في كواليس الجامعات الإيطالية أحاديث عن تمييز يتعرض له أساتذة مسلمون (إيطاليو الأصل) ضمن تخصصات إنسانية محددة تدفع البعض لإخفاء ديانته حتى لا تتم عرقلة مسيرته المهنية. بما أنك من أبرز الناشطين المسلمين في إيطاليا -وأكثرهم نفوذا بتوصيف جريدة "لافيريتا"- ألا تفكرون في إنشاء مرصد للإسلاموفوبيا في إيطاليا من أجل الوقوف على مثل هذه الحالات خصوصا أنها تمس عادة المسلمين الجدد، وهم إيطاليون أبا عن جد بأسماء إيطالية وليسوا مهاجرين؟بالفعل، هذه ظاهرة خطيرة للغاية، خصوصا أن الأمر يتعلق بالجامعة وهي قطاع استراتيجي ينتج المعرفة وبالتالي يشرعن للسلطة.
وقد شهدنا بعد أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول تبني سردية معادية للإسلام اصطفت معها على نحو ما الجامعة لتغدو بوقا أيديولوجيا آخر، إلى جانب الصحافة، بالرغم من أن الأمر يتعلق بحقل لا بد أن يكون فضاء حرا لإنتاج الأفكار وأن يلتزم الموضوعية والصرامة العلمية.
انحياز كهذا بالتأكيد من شأنه أن يؤثر على سمعة البحث العلمي في إيطاليا لا سيما في أقسام الدراسات الاستعرابية والإسلامية، وهذا طبعا لا يعني أن الجامعة الإيطالية تخلو من أسماء نقدية حرة، لكن مؤخرا رحل بالفعل عن عالمنا أكاديميان كبيران كانا مضطرين لإخفاء إسلامهما طيلة حياتهما وذلك بسبب الخشية من الاضطهاد المهني الذي كان من شأنهما أن يتعرضا له في حال إعلان إسلامهما.
للأسف في الوقت الحالي لا نملك الأدوات اللازمة للتصدي لهذه الظاهرة خصوصا أن الحقوق الأساسية التي تكفل حرية المعتقد غير موجودة، لذا أمامنا الكثير لفعله.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العالم العربی والإسلامی مع العالم العربی الإیطالی الذی فی إیطالیا بالرغم من سوى على إن کان
إقرأ أيضاً:
مفاجأة زلزلتني: من «العالم العربي» إلى «الملفات».. (1- 3)
د. مجدي العفيفي
كيف تحوّلنا من أُمَّة إلى حدود؟
(1)
حدث أن جلستُ ذات يوم مع رجل كان يحمل على كتفيه ثقل دولةٍ تعدّ من أقدم الديمقراطيات الغربية، ومن أشرس القوى العسكرية في العالم: وزير الدفاع الفرنسي في الثمانينيات.
حوار طويل دار بيننا، تجوّلنا فيه بين خرائط التاريخ وموازين الجغرافيا وإيقاعات القوة والنفوذ..
كان ذلك وانا أعيش في سلطنة عُمان، وكنت مراسلًا صحفيًا لعشر صحف ومجلات عربية وأجنبية في عنفوان الشباب والصحافة، في ضياء عملي التأسيسي المشارك في الإعلام العُماني ابداعا وانتاجا وصناعة وصياغة..
كنت أتحدّث مع ذلك الرجل «الغربي» بعفوية «العربي» الذي تربّى على لغة المجد والقصائد، على الأغاني الوطنية والصور المثالية المكتنزة بالأساطير.
فسألته.. بتوقٍ صحفي أكثر مما هو سؤال واقعي:
كيف ترون العالم العربي؟
هذه قلب العروبة النابض.. وهذه لؤلؤة الخليج.. وتلك بوابة العرب الشرقية.. وهذه سلة الغذاء العربي. وتلك أم الحضارة.. وهذه أصل العرب.. و..و..و..
توقعت أن يبتسم.. أن يوافق.. أن يدير حديثًا دبلوماسيًا.
لكنّه قلب الطاولة بكلمة واحدة زلزلت وجداني، وهدمت ألف نشيد كنت أحمله في صدري:
«ما هذه الألقاب»؟ نحن لا نعرف شيئًا اسمه «عالم عربي» نحن نتعامل مع (ملفات): الملف المصري، الملف السوري، الملف السعودي... وهكذا.
(2)
توقفت الكلمات داخلي.
كانت اللحظة كافية لأفهم أن الفجوة ليست في السياسة فقط، بل في الوعي.
الفجوة ليست في القوة، بل في إدراك القوة.
نحن نحب أن نسمي أنفسنا: أمة.. لكن الآخر لا يرانا كذلك.
نحن نغني: "بلاد العرب أوطاني".. بينما هو يضع كل دولة منا في سطر منفصل، جدول منفصل، خريطة نفوذ منفصلة، و"أجندة" لا تشبه الأخرى.
نحن نتماهى مع صورة رومانسية.. وهو يتعامل مع واقع استراتيجي صارخ.
نحن نحلم.. وهو يخطط.
نحن ننفعل.. وهو يحسب.
(3)
قلت في نفسي: أيّ مأساة هذه؟ من المسؤول عن تحويل الأمة التي امتدت من طنجة إلى بغداد إلى مجرد أوراق في درج موظف عسكري في دولة أجنبية؟
الصدمة ليست في أنه قال ذلك.. الصدمة في أنه كان صادقًا.
نحن من صنعنا هذه الحقيقة.. بتواطؤٍ ناعم، بتفككٍ طوعي، بنظام عربي يشبه "عمارة" قديمة كل شقة فيها تضع لنفسها بابًا حديديًا مضادًا للسرقة.. ليس خوفًا من الأجنبي.. بل من الجيران.
لقد نجحنا بامتياز: أن نحيا معًا.. لكن منفصلين.
أن نتحدث لغة واحدة.. لكن دون وعي واحد.. أن نحمل تاريخًا واحدا.. لكن دون مصير واحد.
الغرب لا يصنع لنا صورتنا.. نحن من قدمنا له الصورة جاهزة على طبق من ضعف.
حين انقسمنا.. قالوا: ملفات.
حين تحاربنا.. قالوا: ملفات.
حين جعلنا كل قُطر "أُمة" بذاته.. قالوا: ملفات.
فالسياسة ليست شعارات.. السياسة سجلات ومصالح وتوازن قوى، والقوة لا تُقاس بعدد الخطب.. بل بمدى حضورك على طاولة القرار.
(4)
لكن ما الذي جعلني أكتب هذا الآن؟
لأننا في هذه اللحظة التاريخية، في هذا الزمن الذي تتفكك فيه الخرائط ويتغير شكل العالم، نكرر الخطأ نفسه:
نصفق للألقاب.. نتمسّك بالروايات.. نرسم صورًا لا يسكنها إنسان.. نقول: واقع عربي واحد، بينما الحقيقة: ألف واقع.. نقول: مصير مشترك.. بينما المصير أصبح مزادات نفوذ.
نقول: تاريخ واحد...والتاريخ يُعاد كتابته كل يوم على يد غيرنا.
المسألة ليست يأسًا، وليست «نوستالجيا» (حنين) واستعادة فارغة للماضي؛ بل هي شهادة على لحظة وعي: لن تُحلّ قضايانا ما دُمنا نُعامل أنفسنا كجزرٍ معزولة.
ولن يحترمنا العالم إذا لم نعد نرى أنفسنا كأمّة أولًا.
القضية ليست سياسية فقط، بل ثقافية:
حين نُربّي جيلًا على أن "الوطن" هو فقط الحدود الجغرافية التي ولد فيها.. سنخسر!
حين ننسى أن اللغة ليست مجرد حروف، بل جسد يفكر.. سنخسر!
حين نسمح لليأس أن يتحول إلى نظام تفكير.. سنخسر!
الأمة ليست شعارًا.. الأمة خيار.. الأمة مشروع.. الأمة مسؤولية.
لم يكن الوزير الأوروبي يتحدث بكُرهٍ أو احتقار، كان يتحدث بمنطق الدول، ولم يكن يطرح رؤية صدامية (shock value) بقدر ما كان مُتفحصًا للواقع (reality check).
لقد أراد أن يقول لي، دون أن يقول: «من لا يتوحَّد.. يُدار».
ومن لا يعرف نفسه.. سيُعرّفه الآخر.
ومن لا يصنع تاريخه.. سيُكتب تاريخه عليه.
واليوم.. ربما نحتاج لتلك الصفعة ذاتها.. لنهدم الصورة القديمة كي نصنع صورةً جديدة، صورة لا تُبنى على الحنين.. بل على الإرادة.
فالسؤال الحقيقي ليس: كيف يروننا؟ بل: كيف نريد أن نكون؟
والأخطر من ذلك: هل نملك الشجاعة أن نتوقف عن الغناء.. لنبدأ العمل؟ لأن الأمم لا تُعرَّف بالأغاني.. بل تُعرَّف بما تفرضه على طاولة العالم.
(5)
اختراع القُطريات..
إذا أردنا فهم كيف خرجنا من صورة «الأمة» إلى حالة «الملفات»، فيجب أن نعود إلى اللحظة التي تغيّر فيها شكل الوعي العربي نفسه.. فالأمة ليست جغرافيا، وليست حتى تاريخًا؛ الأمة تخيّلٌ جماعي. وما يُكسر أولًا في الأمم هو المخيّلة المشتركة.
أولا: عندما قسّمونا.. فلم نمانع؛ فبعد الحرب العالمية الأولى، وبتحديدٍ أدقّ بعد إسقاط الامبراطورية العثمانية، لم يسأل الغرب العرب: «إلى أين تريدون أن تذهبوا بمستقبلكم؟» بل طرح سؤالًا آخر تمامًا: «كيف نُقسّمكم؟». ثم جلس البريطاني والفرنسي حول خريطة لا تعرف الشعب ولا اللغة ولا الذاكرة ولا القبيلة ولا الحضارة… خطّوا حدودًا باردة بقلم رصاص، ثم مرّروا فوقها قلم حبر، فأصبحت دولًا.
ولأول مرة منذ 14 قرنًا، أصبح العربي ينتمي إلى دولة قبل أن ينتمي إلى الأمة.. صار المصري «مصريًا قبل أن يكون عربيًا» واللبناني «لبنانيًا قبل أن يكون عربيًا» والعراقي «عراقيًا قبل أن يكون عربيًا»، ولم يكن ذلك صدفة.. كان مشروعًا كاملًا.
ولهذه السردية المؤلمة بقية!!
رابط مختصر