لجريدة عمان:
2025-05-21@02:09:02 GMT

«لا هدنة مع الفقر».. توحش الكماليات وماذا بعد؟

تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT

هل هو قدر أن يعيش الإنسان فقيرا؟ هل هو قدر أن يعيش الإنسان غنيا؟ هل هو قدر أن يقفز فرد ما من حالة العسر إلى حالة اليسر؟ هل هو قدر أن يضحي الفرد بحالة اليسر، ليعيش في حالة العسر؛ من غير سابق إنذار؟ وإذا سلَّمَ الإنسان لمفهوم القدرية هذه؛ فما الداعي إذن لهذا الهيجان الحميم الماثل في مختلف الصراعات القائمة على وجه الأرض؟ وإذا كانت الموارد متاحة بالصورة التي يقيمها البعض بأنها «سهلة» فما المانع لدى كل فرد من أن يسير في اتجاه الغنى، ولا يقبع في مستنقع الفقر متحملا هموما وأعباء نفسية لا طاقة له بها؟ ومع الفهم الواعي بكل هذه التناقضات، والفهم المماثل لأسباب الفقر؛ على وجه الخصوص؛ لم لا تكون هناك نقطة نهاية لمارد الفقر؟ وإذا تم التسليم أن الفرد يدرك مسببات الفقر؛ فإذن كيف له ألا يتقاطع مع هذه الأسباب، ويذهب في الاستهلاك غير المقنن، مع معرفته أنه وحده من سوف يدفع ثمن فاتورة هذا الاستهلاك؟ وإذا تم تصنيف السلع الكماليات على أنها الوحيدة التي تقع في خانة الاستهلاك غير المقنن، فلم يبالغ في الإمعان فيه، ويغمض عينيه، وهو يدفع فاتورته المرتفعة؟ فـ «النفس راغبة؛ وإذا ترد إلى قليل تقنع».

تستوقفني هنا في سياق هذه المناقشة؛ مقولة: «إن الفرد إذا اشترى اليوم ما لا يحتاج إليه سيبيع غدا ما يحتاجه» وهذه المقولة واقعة في مستنقع الوفرة، والرغبة، بلا أدنى شك، لأنه عندما تستعر الرغبة، تتلبس الفرد حالة من اللا وعي، فيقبل على شراء ما لا يحتاج إليه، يحدث هذا انطلاقا من شيء اسمه المباهاة، أو التقليد، دون النظر إلى القيمة الحقيقية لذات المشترى، أو ماهية الضرورة التي اشتري من أجلها، ولحظة اللا وعي هذه هي التي تغرق مجموعة المهرولين نحو شراء ما لا يحتاجون في مستنقع الديون؛ غالبا؛ لأن صاحب الثراء، ووفق ما يكتب، وما نسمع أيضا؛ أنه ينأى بنفسه كثيرا عن الوقوع في ذات المستنقع للقناعة الموجودة عنده، أن عنده القدرة على أن يشتري ما يريد في أي وقت، وليست ثمة ضرورة لأن يخضع لهيلمان الإعلانات أو الدعاية التجارية التي تمارسها الشركات المصنعة لمختلف الأدوات، والتي تجعل الطرف الأول - غير الثري - يقبل وهو مغمض العينين، على اعتبار أن هذه العرض أو ذاك؛ ربما؛ لن يتكرر ثانية، وبالتالي فهنا الفرصة متاحة لأخذ هذه السلعة، ولو لزم الأمر ادخار ما تم شراؤه، ولو أن الحاجة الفعلية لا تقتضي ذلك إطلاقا في ذات اللحظة الزمنية، مع اليقين أيضا؛ أن السلع الأساسية لا تحتاج إلى كثير من الدعاية التجارية «إعلانات الترويج» وإنما لمن يستوقفه هذا الأمر؛ يجد أن أغلب الدعاية التجارية متركزة على الكماليات، لذكاء المعلن أن المستهلك لا يلتفت كثيرا إلى الحاجيات الأساسية، وإنما إلى الحاجيات الاستهلاكية، ومن الذكاء المفرط عند البائع أن يتعمد تضعيف جودة جل المواد الاستهلاكية، والعمل الجاد على تنوعها، وإضافة لمسات جمالية عليها، حتى يجعل المستهلك يقتفي أثره على امتداد خط السير الأفقي للسلع، بمعنى يجعل المستهلك لا يلتفت إلى الجودة بقدر ما يسعى إلى امتلاك ذات السلعة، ولو كانت ضعيفة الجودة، وهذا ما هو حاصل في جل؛ إن لم تكن؛ كل السلع الكمالية، وفي الآونة الأخيرة حتى السلع الأساسية بدأ التلاعب بها، والمسألة لا تقتصر على السلع، بل بدأت تمخر في حيوية البرامج المهمة في حياة الناس، كالتعليم، والصحة، والترفيه، فمع الحرص من قبل المؤسسات المعنية بهاتين الخدمتين على تجويدهما، إلا أن هناك دعاية؛ أغلبها تجارية تركز على البديل المتاح، وتتوسع في تبسيط هذا المتاح؛ وفي الحقيقة ليس متاحا بالمعنى المباشر، ولكن لأن تدافع الدعاية التجارية عليه بصورة مكثفة تحول هذا المنتج البديل إلى إغراء، ولذلك فهناك ما يشير إلى أن هذا النوع من المنتج لا يقدم منتوجا يفوق التصور، فالمسألة برمتها لا تخرج عن سياقاتها الطبيعية، بل ربما تكون الأسوأ، وهذا أمر واقع فيه جمع من الناس في كل بقاع العالم، ولكم شاهدنا ذلك التزاحم الشديد على مصائد الدعايات التجارية «إعلانات الترويج» في بقاع كثيرة من العالم، وصل إلى حد التشابك بالأيدي، والتدافع غير المسؤول، وكأن ما هو معروض نازل في فوق سبع سماوات؛ «شيء غريب فعلا».

فطر الإنسان على الرغبات أكثر من الحاجيات، على اعتبار أن الحاجيات في أغلب الأحيان في متناول اليد، وتؤدي إلى الاكتفاء، سواء هذا التناول بجهد الفرد نفسه، أو بمساعدة الآخرين من حوله «عطفا ورحمة» وتعاونا وتآزرا، فالإنسانية لن تتنازل عن إنسانيتها في مختلف الظروف الآمنة، فما بالكم بالظروف القاهرة؟ إذن الإشكالية الأزلية هي في الرغبات، وما ثَوَّرَ هذه الحروب منذ ذلك الزمن البعيد، وإلى اليوم، وسوف تستمر إلى الغد؛ إلا هذه الرغبات الموجودة عند الفرد، في أي بقعة جغرافية يكون، ومن أي ثقافة ينطلق، وذلك لسبب بسيط وهو أن «الرغبة تولد الشراهة». وهنا يمكن طرح التساؤلات التالية: هل لذلك علاقة بالسياسة؟ هل لذلك علاقة بالدين؟ هل لذلك علاقة بالثقافة؟ هل لذلك علاقة بالحالة المادية على مستوى الفرد والجماعة؟ هل لذلك علاقة بالسيطرة والتحكم؟ هل لذلك علاقة بمقاييس القوة والتسلط؟ هل لذلك علاقة بالوفرة والندرة (الفقر/ الغنى)؟ هل لذلك علاقة بالحاجة والرغبة (الكفاف/ الشراهة)؟ نعم كل ذلك وارد هنا، وكل هذه السياقات حاضرة ومطبقة، ومقبولة، ومستساغة، ونافذة، ولا ينكرها ناكر بمعرفة، ولا يسقطها جاهل بجهل، فالطفل؛ وهو للتو يبدأ في خطواته الأولى نحو الحياة، لو خيرته بين شيئين متماثلين وظيفة، ولكن أحدهما يفاضل الآخر بشيء ما، لاختار الثاني، مع أن الوظيفة التي يؤديها ذلك الشيء هي واحدة، هذا في تقييم طفل، ربما لا يتجاوز عمره السنوات الخمس الأولى على أكثر تقدير، فما بال الأمر عند من بلغ من العمر عتيا، وقد خبر الحياة كثيرا، وعايش الكثير من الأحداث والمواقف، والحرمان، فالفطرة البشرية سوف تقود الكبير؛ كما تقود الصغير إلى الرغبة، وليس إلى الحاجة.

يسعى المشروع التنموي الذي تتبناه المؤسسات إلى تأصيل الفهم الحقيقي للتنمية، على اعتبار أن التنمية ليست مقتصرة فقط على توفير الخدمات الاستهلاكية والمعيشية، وإنما التنمية في مفهومها الشامل تأخذ البعدين الرأسي والأفقي: الرأسي المتمثل في تنمية الوعي الذي يصل بصاحبه إلى القدرة على التمييز بين السلوك الإيجابي والسلوك السلبي، وعلى التفريق بين الخطأ والصواب، وعلى الانتباه عن الوقوع في مستنقع الاستغلال، وعلى القدرة على المفاضلة بين المهم والأهم منه، فالمركبة؛ على سبيل المثال مهمة للتنقل، ولكن ليس المهم هنا أن تكون المركبة بسعر ليس في متناول من يريد امتلاكها؛ فيجازف باقتراض أو استدانة لامتلاك مركبة باهظة الثمن، فالمشروع التنموي يحقق الكثير الكثير من الحاجيات الأساسية، من تعليم، صحة، حياة اجتماعية، أما ما زاد عن الحاجيات الأساسية في ذات الموضوعات أعلاه، فذلك ينتقل صاحبه وبإرادته المطلقة من الحاجة إلى الرغبة والشراهة، وعليه أن يتحمل تبعات ذلك بنفسه.

يقوم الصراع الأزلي؛ على امتداد عمر البشرية؛ بين مفهومين: الوفرة والندرة، وبين الغنى والفقر، وبين الحاجة والرغبة، ووفق هذين المفهومين؛ واللذين يعدان عاملين أساسيين في هذه الحياة، تنبري مساحات الصراع بين الناس، وهو صراع لا هوادة فيه، ولا رحمة، لأنه مصير، فإما أن تبقى وإما أن تموت، ولا خيار ثالث لهما، وهذا البقاء؛ المشار إليه هنا؛ نقطته الصفر هو الفقر، ويظل يتمدد إلى ما لا نهاية إلى الموت، وهذا الموت هو أيضا نقطته الصفر، ويظل في تراجعه إلى ما لا نهاية له إلى نفسه «الفناء» المطلق، ولذا نعيش هذا التكالب المحموم في العلاقات البشرية، لأن الجميع أمام مفترق طرق إما أن يكونوا، وإما ألا يكونوا، ولأن البشرية على مفترق الطرق هذه، فبتالي لن تكون هناك هدنة مع الفقر، وذلك ليبقى أمل الحياة في مقاومة الفقر، وليس التسليم له، وإن ظل أمل صغير على امتداد مساحة العمر المتاحة عند كل واحد فينا، فمقاومة الفقر يبقى قدرٌ محببٌ.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی مستنقع

إقرأ أيضاً:

سري الدين: الإنفاق على التعليم في مصر أقل من دول نامية.. وهذا يؤثر على التنمية

قال النائب هاني سري الدين، رئيس اللجنة الاقتصادية بمجلس الشيوخ، معلقًا على مشروع قانون باعتماد خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للعام المالي 2026/2025: لدينا خطة طموحة ولكن ينقصها التنفيذ المؤسسي الفعال، مطالبًا بأن يكون لمشروعات العدالة الاجتماعية الأولوية بسياسات أكثر وضوحًا ومشروعات بعينها وربط هذه الأمور بمحاربة الفقر، ورفع كفاءة الأسر الأكثر احتياجًا، ولابد أن يكون لنا مؤشرات، لأن هذا الأمر مرتبط بالأمن القومي المصري، ويجب مرعاته عند تنفيذ الخطة وأخذها بعين الاعتبار وبجدية.

وأكد سري الدين خلال الجلسة العامة لمجلس الشيوخ: أن إيجابيات كثيرة في خطة الدولة لهذا العام، وواضحة فيما يتعلق بالمستهدفات والملامح الرئيسية لها، مع ذلك فأي عمل لا بد أن يكون عليه ملاحظات؛ أولها غلب على خطة الحكومة الطابع الاستثماري الحكومي بقيمة 1.1 ترليون جنيه استثمارات عامة، وبالتالي ضعف إشراك القطاع الخاص، رغم التصريحات الحكومية لجذب مشاركة القطاع الخاص، وهذا يمثل خطورة كبيرة على التنمية المستدامة، وبمقارنة حجم الاستثمارات الخاصة بالناتج المحلي في مصر 6.5%، وفي دولة المغرب 65%، والبرازيل 70% أندويسيا 40%، وبالتالي نحن بعيدين كل البُعد عن هذه النسب، ويجب أن تؤخذ هذه الملاحظات مأخذ الجد.

محذرًا من الحرب الاقتصادية| بهاء أبوشقة: خطة التنمية ليست أرقامًا.. بل واقع ينبض بحلم المصريينفيبي فوزي: خطة التنمية للعام المالي المقبل تستجيب للتحديات العالمية وتدعم القطاع الخاصنائب: خطة التنمية 2026/2025 جاءت في ظل ظروف استثنائية وتحديات غير مسبوقةالشيوخ يناقش مشروع قانون باعتماد خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية 2026/2025

وأكد رئيس اللجنة الاقتصادية: أن خطة الدولة تستهدف 42 مليار دولار استثمارات أجنبية، لكن غير محدد كيف سيتم ذلك، أو خريطة التنفيذ، هناك أيضًا خطط للتنمية والإصلاح المؤسسي، وخطط طموحة لكن كيف سيتم تحقيقها دون جهاز إداري؟، وقال: "أنا أتحدث عن هذا الموضوع منذ 32 سنة، وأنه لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة دون رفع الكفاءة المؤسسية للدولة، وإصلاح الجهاز الإداري". فما كان للقطاع البنكي أن ينجح مثل هذا النجاح لو لم يقم بإصلاح مؤسسي شامل.

وتابع: طبقًا للخطة: هناك ارتفاع لمؤشرات التضخم، لكنها لم تحدد لنا كيفية مواجهة الفقر المدقع، والآثار السلبية للتضخم، حيث لا يزال الإنفاق الحكومي والاستثمارات في مجال التعليم متدني بنسبة 1.4% من الناتج المحلي على التعليم، أما في المغرب 6%، تركيا 4.5%، فنحن في أدنى المستويات حتى للدول النامية.

ورصد سري الدين عدة نقاط مفقودة في خطة الحكومة الاقتصادية والاجتماعية؛ فنحن نريد مزيد من الشفافية في تقييم المشروعات وأولوياتها والعائد الاقتصادي لها يجب أن تكون واضحة بالخطة.

كما لا يوجد أي ربط في خطة الحكومة بين القطاعات المختلفة التي لها أولوية في التنمية، وربطها بأهداف التنمية المستدامة في 2030، علاوة على ضعف مؤشرات أداء القياس، "نتمنى أن نرى مؤشرات ومعايير أكثر وضوحًا في المستقبل".

طباعة شارك النائب هاني سري الدين رئيس اللجنة الاقتصادية بمجلس الشيوخ مشروعات العدالة الاجتماعية محاربة الفقر الجلسة العامة لمجلس الشيوخ

مقالات مشابهة

  • الكاميروني أونانا.. من الفقر والحظر إلى المجد الكروي
  • إنما الأمور بخواتيمها.. وماذا بعد القمة؟
  • 2367 ريالاً إنفاق الفرد على التأمين
  • ما أقصى عدد للمشتركين في شراء الأضحية ونصيب الفرد الواحد؟..الأزهر يجيب
  • 1 من كل 5 عائلات في تركيا تعاني الفقر
  • أخنوش يؤكد استمرار الحكومة في معركتها ضد الفقر والبطالة والتفاوتات الاجتماعية
  • هل الأكل على جنابة يورث الفقر؟.. الإفتاء تحسم الجدل
  • 3 نصائح لتحقيق الحرية المالية .. فيديو
  • الجماز: صلاحيات بن نافل أكبر من رؤساء الأندية الأخرى لذلك يواجه انتقادات ..فيديو
  • سري الدين: الإنفاق على التعليم في مصر أقل من دول نامية.. وهذا يؤثر على التنمية