أيام ويرحل عام 2023، ويهل 2024، العام الراحل كان قد شهد فى آخر أيامه ماراثون الانتخابات الرئاسية، والتى سطر فيها الشعب المصرى، حالة من الاصطفاف التى ليس لها مثيل، وهو ما يعكس عودة الوعى لدى الشعب المصرى، فهذا الشعب استطاع أن يقول كلمته ويفرض إرادته، مرسل رسالة للعالم، بأن المصريين يقفون صفًا واحدًا خلف بلدهم لمواجهة التحديات التى تواجه وطنهم، وإصرارهم على استقرار الوطن وبنائه، حيث اختاروا رئيسهم بصورة مٌشرفة ومضيئة تدفعهم نحو بناء الحاضر والمستقبل، لذا كان الفائز الأكبر هو المواطن المصرى، وذلك لأنه سيبدأ عصرًا جديدًا من الديمقراطية وبناء الإنسان والحياة الاجتماعية وأيضاً زيادة الاستثمارات الاقتصادية.
.
وإذا كان 2023 سيرحل بعد ساعات بخيره وشره، فإن أحلامًا كبيرة وطموحات عريضه يتمنى المصريون تحقيقها فى العام الجديد.
فى الملف التالى ترصد «الوفد» توقعات الخبراء لعام 2024.. والعنوان الرئيسى لكل ما قاله الخبراء هو أن العام الجديد سيكون عام الخير لمصر ولكل المصريين.
فجر جديد.. للديمقراطية.. وتعزيز البناء والتنمية
طارق فهمي
الدول الغربية التى ترفع شعار الديمقراطية، تشهد كل انتخابات عامة بها معارك كلامية وتراشقًا متبادلًا بين المتنافسين، تصل أحياناً إلى التشكيك فى الذمم المالية والقوى العقلية للمرشحين وهو ما حدث بالفعل فى انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة بين ترامب وبايدن.
خليل منونولكن الحال فى مصر كان مختلفًا ومتميزًا وراقيًا ورائعًا، فبعد ماراثون الانتخابات الرئاسية وبعد أن قال المصريون كلمتهم واختاروا من يرونه الأنسب لقيادة مصرخلال السنوات الست القادمة، استقبل المرشح الفائز عبدالفتاح السيسى، منافسيه الثلاثة فى الانتخابات: الدكتور عبدالسند يمامة وفريد زهران وحازم عمر، ودار بينهم حديث ودى عن مستقبل مصر خلال الفترة القادمة.
هذا المشهد يعكس بزوغ فجر ديمقراطى جديد، يقوم على التعددية وقبول الآخر والتنافس فى حب مصر.
ويقول الدكتور طارق فهمى أستاذ العلوم السياسية: «لقاء الرئيس السيسى بمنافسية فى الانتخابات الرئاسية يعد سنة جيدة خاصة بعد توجيه كلمات الشكر والثناء والتقدير للمرشحين كما جاء فى البيان الرئاسى كما أن هذه المقابلة تعكس اهتمامًا كبيرًا من القيادة السياسية لكافة السياسيين والمعارضين، وأيضاً لما سيتم فى الفترة المقبلة، فضلاً عن أن هذا اللقاء يؤكد عودة صيغة 30 يونيو وما تلاها، إذ إن هذه الحالة السياسية الحالية تشير إلى طبيعة ما يجرى من تفاعل كبير شبيه بما جرى فى 2014».
وأضاف: «مصر تشهد حالة زخم سياسى كبير حاليًا، وهو ما يمكن استغلاله لتطوير الحياة السياسية والحزبية، خصوصًا وأن الدولة المصرية تواجه تحديات غير مسبوقة دوليًا وإقليميًا ومحليًا».
وأضاف أن لقاء الرئيس عبدالفتاح السيسى مع مرشحى الرئاسة يدل على حرص الجميع على المصلحة الوطنية العليا للدولة المصرية فى مواجهة التحديات والمخاطر التى تواجه الدولة المصرية على حدودها، إضافة إلى التحديات الاستراتيجية على جميع النطاقات فهناك تحديات ترتبط بالواقع الاقتصادى، تتضمن مراجعة بعض السياسات الحالية وترتيب الأولويات.
واتفق معه فى الرأى، النائب المهندس حازم الجندى عضو مجلس الشيوخ، مؤكدًا أن حرص الرئيس السيسى على لقاء المرشحين الرئاسيين الذين لم يحالفهم الحظ فى الانتخابات يشير إلى تميز المشهد السياسى فى مصر، ويؤكد أن الجمهورية الجديدة تتسع للجميع وأن الكل لا بد وان يعمل من أجل الوطن ورفعته، كما أن حرص الرئيس على أن عودة الحوار الوطنى خطوة من خطوات إثراء الحياة السياسية فى مصر التى تشهد زخمًا كبيرًا الآن بعد المشهد المشرف والحضارى الذى أنتجته الانتخابات الرئاسية، مشيرا إلى أن الحوار ساهم كثيرا فى تداول وتبادل الأفكار والرؤى المختلفة فى الكثير من القضايا المتعلقة بالوطن والمواطنين.
وأضاف «الجندى» فى بيان له، أن حرص الرئيس عبدالفتاح السيسى على استمرار الحوار الوطنى والإعلان عنه فى أول كلمة له بعد فوزه بمنصب رئيس الجمهورية لولاية جديدة، يؤكد فاعلية هذا الحوار وحرصه على إفراز الكثير من الأفكار النابعة من الثقافات المختلفة بشأن العديد من القضايا والملفات التى تهم الدولة المصرية وتدعم جهود بناء الجمهورية الجديدة.
وتابع عضو مجلس الشيوخ أن من أهم مكتسبات الحوار تعزيز دور الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات العامة والتقارب بين وجهات النظر تحت شعار مساحات مشتركة تهدف جميعها لترسيخ التعاون المشترك فى البناء والتنمية وتقديم كل ما هو فى خدمة الوطن وأمنه واستقراره وتنميته فى جميع الجوانب المختلفة، لافتًا إلى أن الحوار الوطنى يفتح الباب أمام تحقيق التوازن السياسى بين المؤيد والمعارض، وطرح بدائل ومقترحات عن القضايا المثارة، من خلال تفاعل مفهوم قبول الرأى والرأى الآخر فى كافة الموضوعات العامة، التى تهم المواطن المصرى الذى يستحق الأفضل دائما، ويسهم فى بناء مؤسسات الدولة من خلال التوجهات السياسية المختلفة.
وقال خليل منون- خبير الأنثربولوجى فى الثقافات الأفريقية: «مقابلة الرئيس بالمرشحين هى بداية مبشرة بالعمل الديمقراطى والسياسى بمصر، فمنذ بداية حكم الرسئيس السيسى وهو منحاز دائمًا للديمقراطية، وكل الأحزاب على مسافة واحدة من الرئيس، وعلى الأحزاب التواصل مع الجماهير، لكى تكون مرشحة بقوة لتولى مقاليد السلطة بعد 2030 فى مصر»
وتابع: رسالة الرئيس من خلال اللقاء، تؤكد دعمه وجود مرشحين منافسين للرئاسة آخرين، ودعمه وجود قوى سياسية على الأرض تتحمل المسئولية فى المستقبل، فهل ستستجيب المؤسسات السياسية؟
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: صناعية عام الخير مصر الشعب المصرى المواطن المصري الانتخابات الرئاسیة فى مصر
إقرأ أيضاً:
الهجرة في زمن الخذلان والبلطجة السياسية
أولا: نافذة التاريخحين نتناول حادث الهجرة النبوية الشريفة في سياقه الزمني نجد عجبا. فالشخصية المحورية التي تدور حولها أحداث الهجرة ليس رجلا عاديا، وإنما هو رسول يحمل رسالة فوق العادة في نصوصها وهدفها ومحتواها.
فأما من حيث نصوصها: فهي تمثل الأساس والمصدر الأول لدين معجزته "كتاب يتحدى"، والكلمة الأولى في هذا الكتاب "اقرأ".
وأما من حيث هدفها: فهي تستهدف هداية البشر أفرادا ومجتمعات، ويرتبط بها مصير البشر سعادة أو شقاء، ونجاة وفوزا.. أو هلاكا ودمارا. وهدف الرسالة الارتقاء بحياتهم وإنسانيتهم بقانون الامتداد في الإيمان والعمران ليتبوأوا ما يليق بهم في قيادة الحياة ضمن منظومة الكون والوجود الكبير.
وأما من حيث المحتوى: فمن خصائصها أن الحق فوق القوة، وأن العدل فوق الخصومة، وأن إنسانية الإنسان فوق كل اعتبار.
وقد تضمنت تلك الرسالة أعظم عناصر تربية الإرادة الحرة في التكوين الإنساني بعيدا عن الضغط والإكراه. واستهدفت أن تكون عملية ضبط السلوك الإنساني من قبيل الضبط الإرادي وليس الضبط القهري، فمراقبة الله للفرد وابتغاء رضاه هي الدافع الأقوى والحافز الأعلى في الإقبال على الفعل إيجابا وسلبا.
بين الحزن والأمل
لذلك يمزج التاريخ في تصويره وتوثيقه لحدث الهجرة بين أمرين:
الأول: نغمة الحزن والإحساس بالغربة حين قرر الهجرة ومفارقة الوطن، وتذكر الروايات أن رسول الله ﷺ بعد أن تمادى كفار قريش في إيذائه بكل صنوف الشر قرر الانتقال من تلك البيئة رغم أنها مسقط الرأس ومحضن الطفولة وموطن الذكريات، فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك".
الثاني: أن البطل المهاجر قسرا لم تنكسر إرادته أمام ضغط هؤلاء الذين هجَّروه، ولم تهن عزيمته في استرداد حقه في العودة إلى الوطن ولو بعد حين.
مخزون الأمل النبوي في العودة لذات الوطن لم يكن مجرد أحلام يقظة معطرة بحنين وشوق لفرحة الانتصار، وإنما كان ثقة مطلقة في معية الله له ولصاحبه حين راود القلق والحزن رفيق دربه فطمأنه قائلا: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
وفي الغار الضيق والمحاصر ومن طرف خفي، كانت الاستجابة فورية ومتوجة بتحقيق الوعد الحق، ومكللة بأكاليل النصر في حياة النبي العظيم محمد ﷺ بينما الإعلان عنها كان مؤجلا.
ثانيا: البلطجة السياسية
في ظروفنا الراهنة يعيش الوطن الإسلامي الكبير زمن الوجع المؤلم أو قل: عصر الأزمات وصفا وحقيقة وبالجمع. جموع بشرية مدفوعة للهجرة قسرا، باعثها الأول هو اليأس من الحصول على مجرد وجبة طعام، فضلا عن فرصة حياة؛ هروبا من أمطار القذائف التي تتساقط على رؤوس الناس، وتحصد كل يوم مئات القتلى والجرحى في عملية إبادة جماعية ليس لها نظير في تاريخ الحروب الحديثة.
ومن العجيب الغريب أن البلطجة السياسية العابرة للقارات لزعامات فقدت إنسانيتها، تعتمد القتل والإبادة سمة التنوير، ولا تكتفي بذلك وإنما تلوم الضحية وتجعل القاتل بطلا، وعلى المستوى الدولي تحميه من الملاحقة بجرائم الحرب التي ارتكبها، ثم تتدخل وتحميه داخل مجتمعه حتى من جرائم فساد مالي وأخلاقي بين بني قومه.
وعجيب أن تأتي هذه الذكرى وملايين النفوس من البشر تعاني انكسارا في كبريائها وكرامتها، لأنها لا تهاجر، وإنما تُهَجَّر قسرا من بلادها تحت قذائف المدافع وغارات الطيران واستعمال كل أدوات القتل والتدمير، وهناك من يطمع في أرضها ليجعل منها منتجع "الريفييرا" في الشرق الأوسط.
وإلى الآن كثير من هؤلاء المهجرين قسريا يعانون مرارة الاحتجاز في معسكرات المحتجزين المشردين لأنهم من جنس معين، وليسوا من أوكرانيا، ومن خلفية معينة، وليسوا من البيض، ومن ثم فلم يحظوا بما حظيت به بعض الحيوانات المائية من الحماية والرعاية وضمان المأمن مهما كانت قريبة من الصياد الغادر، حيث القانون الدولي يوفر الحماية لهذه الحيوانات المائية، بينما لا يوفرها لهؤلاء المهجرين "قسريا" الذين كانوا أعزّة في أقوامهم، ولهم حياة كريمة ومستقرة وآمنة، يملكون فيها حقولا وبيوتا ومصانع ومتاجر في أوطانهم.
وبينما تبلغ المعاناة ذروتها لملايين المهجرين قسريا ينظر إليهم العالم الغربي، وبخاصة اليمين المتطرف -في مجتمعات المهجر- على أنهم "مشكلة فائض سكاني" تهدد استقراره وتغير بنيته الاجتماعية وتؤثر في نسيجه النقي الذي يجب أن يظل نقيا.
وبرغم مخزون الحزن المحبط يتساءل العقل: هل يوجد في مقابل كل ذلك الحزن أمل بوعد جديد لعودة كل من هجروا قسرا..؟
ثالثا: زعماء الخذلان والعار
أزمة الهجرة رغم تكرارها وفداحتها لم يتعرض لها إلا قلة قليلة بالدراسات الجادة تحقيقا وتحليلا، ومع يقيننا أن هناك باحثين غاية في المنهجية العلمية إلا أن أصواتهم وربما نتائج أبحاثهم لن تكون محل عناية في ظل منظومة عربية مهترئة لا تنشغل بالبحث العلمي ولا تعيره اهتماما، ولا تعتمد غير القوة الخشنة في التعامل مع كل المشكلات، ولو كانت نفسية وأخلاقية أو اجتماعية، وهو منطق لا يؤمن بقوة العقل أو العلم بقدر ما يؤمن بمنطق "الفهلوة" والضحك على الناس وخداع الجماهير، واستغلال بساطتهم وسذاجتهم، والتغرير بهم واللعب في عقولهم عن طريق الأذرع الإعلامية التي تضمن مساحة من الجدل كوسيلة لتفريغ طاقات الغضب، أو تحويل الاهتمام لأمور بعيدة عن القضايا الحيوية التي تتمركز حولها اهتمامات الناس، وبخاصة الطبقات الشعبية.
رابعا: أسئلة مسكوت عنها
الهجرة من مكان إلى مكان لا تتم عادة إلا إذا كانت هناك مشكلة في المكان الأول، فهل الهجرة تشكل مشكلة في زمن العبث المعاصر؟ وإذا تحولت المشكلة إلى أزمة فكيف يمكن أن نواجهها وأن نوجهها؟ وكيف نطبق نصوص الهجرة في كتابنا الخالد لنواجه بها أزماتنا المعاصرة؟ وهل يمكن أن نجد تشابها في حقل التطبيق بين الواقع الذي فرضته الحروب العبثية وبين النصوص؟ فهل فعلا لدينا أزمة؟ أم أن كل شيء على ما يرام؟
الباحث الجاد سيواجه بأسئلة كثيرة مهمة ومشروعة تصدع الرأس بحثا عن الأسباب الحقيقية التي تجعل المواطن الحر يترك بلده ووطنه وأهله ويذهب بعيدا ليعيش معاناة الغربة والوحشة، والضياع أحيانا.
وهي أسئلة مهمة إذا أردنا توصيف الظاهرة وبحث أسبابها ودوافعها وبواعثها، وحالة المهاجر ذاته وظروفه وبيئته.
وهي أسئلة مشروعة لأن بعض هذه الأسئلة يتصل بغياب المشروعية القانونية لكثير من الممارسات التي تتم في غيبة القانون ذاته، أو بالازدواجية في تطبيقه من جهة، وبعضها الآخر يرتبط بدراسة سيكولوجية الناس على مدى نصف القرن الأخير وما طرأ عليها من تغييرات وعناصر جديدة أكثرها سلبي من جهة ثانية.
وقبل الدخول في الموضوع عرضا وتحليلا نود أن نسأل أسئلة تتصل بالواقع:
• لماذا يهاجر الإنسان أصلا ويترك وطنه وأهله ويتخلى عن كل الروابط التي جمعته بالمكان والزمان والناس..؟ ما الأشياء التي تجعل الوطن يضيق بأهله؟
• هل الضيق في المساحة المكانية أو الجغرافية ومن ثم الضيق في مصادر الثروة وفقدان فرص العمل هو الدافع إلى الهجرة..؟
• أم هو في غياب سلطان الدولة على مؤسساتها بعدما توغلت بعض هذه المؤسسات، وأصبحت تتصرف وتمارس دورها لا كمؤسسة في دولة، وإنما كدولة فوق الدولة لا تخضع للقانون العام، وكأن كل مؤسسة جزيرة منعزلة تفعل ما يحلو لها، وكأنه لا رابط يربطها بالنظام العام الذي يحكم المجتمع؟
• أم أن المسألة ظاهرة فساد تجتاح العالم كله بما فيها الدول الكبرى، نتيجة الديون العامة ونفوذ مؤسسات المال الدولية وشروط الممول، غير أنها تظهر جلية واضحة في الدول الصغرى ودول العالم الثالث نتيجة ضعف الأنظمة واهترائها وعدم قدرتها على ممارسة الشفافية خوفا من الفساد المتفشي..؟
• وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يهاجر مواطنو العالم الثالث بينما مواطنو الشمال لا يتركون بلادهم.؟
• هل التشرذم والهجرة والمعاناة لنا وحدنا، بينما هم لهم وحدهم الثراء والثروة والاستقرار؟
• وأين الخطط الخمسية والعشرية والإنجازات التي تحدثوا عنها في العالم الثالث؟ أين التنمية والنهضة والدخول في الركب الحضاري والاستفادة من التكنولوجيا الجديدة في تنمية الموارد والمواهب والاكتفاء الذاتي والعمل على استقلال القرار..؟
• أم هو الضيق في مساحة الحرية وفي فقدان الضمير، وانتشار الوساطة والمحسوبية، وشيوع الفساد وغياب الرقابة، والازدواجية في تطبيق القانون ذاته حيث يطبق بحزم على أناس بينما لا يُسأل آخرون من أين لكم هذا.. ومن ثم تكون الأزمة أخلاقية في الأصل والمنشأ، تولد منها الفساد والاستغلال والاحتكار وإساءة استعمال الثروة؟
خامسا: الاستبداد واختلال الحال
• أم أن الأزمة في اختلال الحال وإساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ، واحتلال الوطن بوجود مستعمر محتل من الخارج، أو دكتاتور محتل من الداخل يصادر الحريات ويحطم القدرات والكفاءات، ويحقر أهل العلم ويقرب الجهلاء.. فيُقَرّبُ الدنيء ويُتهم البريء، ويحب المنافق ويقدم الموافق؟
الواقع يخبرنا بأن كل هذه العوامل أدت إلى هجرة العقول من موطنها الأصلي لتُستثمر أو لتُستنزف في بلد آخر، كما يحدث الآن في الكفاءات والعقول العربية المهاجرة من أوطاننا.
أسئلة تجعل الباحث حيران لا يعرف من أين يبدأ في ترميم الصورة وإعادة رسم الملامح، ولا من أين تبدأ طرق المعالجة بعد أن اتسع الخرق وأصيب الإنسان في إرادته فأضحى مشلولا بين الحياة والموت، يصدق عليه بيت الشعر الذي يقول:
أمسلمون وأمة أشلاء لا ميتون ولا هم أحياء
وأخيرا: كارثة تسطيح العقول وتجريف القيم
أمام كل هذا الكم من تشخيص الواقع المؤلم يطمئنك كَتَبة الأنظمة وسدنة إعلامها فهم يجتهدون في تصوير الواقع بأنه وردي، وأن الحياة "بمبية" اللون، ويستدلون على ذلك بزيادة عدد الهواتف الجوالة وزيادة استيراد السيارات، ومن ثم فالناس يعيشون في التبات والنبات وينجبون صبيانا وبنات، كما يقول كتبة الأمن والطبقة المخملية!
كارثة تسطيح العقول هي أول تلك الأزمات، حيث تظهر آثارها في زمن الوجع الحاد، وترتد بقوة وبشدة مخيفة على من فعلوها وسطّحوا عقول هؤلاء وحولوهم إلى مجرد بلطجية واستعملوهم في فترة من الفترات وسيلتهم في إسكات الخصوم وتهديد حياتهم.
أحسب أن حالات اللا مسؤولية والفوضى والعبثية والإحباط أغلبها في التحليل النهائي يعود لغياب مشروع قومي أو وطني كبير تلتقي فيه إرادة الجماهير مع آمالها في التطور والتغيير والنهضة؛ تلاقيا حرا بعيدا عن حشد القوى الخشنة أو القوى الناعمة لشعارات مفرغة من محتواها تسببت في ضياع كبير يستشعره الآن الخاصة والعامة ومن يملكون ومن لا يملكون.
العبث السياسي الذي تعيشه جماهير الوطن الكبير مخيف وخطير، وينبئك بخبرة الواقع وتحليل الأحداث وتراكم المواقف المتشابهة أن القطار خرج بالقطع عن القضبان، وأن مهمة المحولجي لم تعد تجدي، وأن أدوات التحذير لديه لم تعد مسموعة وسط صراخ الركاب وضجيج العجلات التي تتعثر خارج الشريط الحديدي. عوامل الإغاثة والإنقاذ يجب أن تكون في حالة استعداد تام لإنقاذ الضحايا، لأنهم سيكونون بالملايين.
وأزمة الهجرة المعاصرة في سوريا وليبيا واليمن غيرها لن تكون النهائية، لأنها نموذج صغير لحالات الاستبداد والفساد والإحباط التي تنتشر وسط شعوب الأمة، والخوف كله أن يتحول هذا الإحباط إلى العقل الجمعي الذي يسود في الأزمات فلا يترك فرصة لعقل الفرد أن يفكر قبل الإقدام على الخطر، وهذا ما يخشاه المهتمون بالوطن شعوبا وثقافة وتاريخا، والخشية تحديدا من حدوث حالة هياج عشوائية تأكل الأخضر واليابس ولا تبقي ولا تذر، لأنها لا تملك أدوات التمييز بين ما هو من ممتلكات الشعب، وما هو ملك سادة الأنظمة وأعوانهم.
وثمة سؤال يرتبط بالحديث عن هجرة القلوب من الارتباط بغير الله ليكون ارتباطها بالله الواحد طلبا للهداية والرشد، "فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم" (العنكبوت: 26)؛ فهل لا يزال لهذه المعاني مكان بين ضجيج السعار العالي حول تحسين المعيشة، وهتافات الجائعين وتظاهراتهم للمطالبة بتحسين أحوالهم؟
وثمة سؤال آخر: هل المعاني الروحانية العظيمة عن الهجرة والفتح والجهاد والصبر وقيام الليل وأداء الفرائض؛ لا يزال لها سوق وسط سيطرة تجار العلمانية وأدعياء الحداثة على إعلامنا؛ صحفا وجرائد ومجلات وقنوات فضائية؟
• هل بقي لهذه الروحانيات مكان وسط بقايا الإنسان الذي تضافرت مؤسسات الشر على تحطيم قيمه وتغييب إيمانه؛ وضغط رسالته ووجوده وبقائه في البحث عن تأمين البيت والزيت والطعام والجنس فقط؟
• هل بقي وسط هذه الغرائب والخرائب مكان لسلطان العقل والقلب والمشاعر السامية والوجدان النظيف؟ "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَما كَثِيرا وَسَعَة وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورا رَحِيما" (النساء: 100).
• هل بقي من هذه المعاني العظيمة شيء.. أم أن تخريب شحرور وجهوده في هز الثوابت وخلخة العقائد، وغرور كيال الاكتشافات، وبحيرى سمسار التشكيك والتدليس، ومنتصر للباطل دوما، وعيسى بطل التزوير والتحرير من كل القيم، وماهر في الصراخ والنعي على البخاري ومناهج الأزهر، وذلك المجنون بحلم تحويل الحج من مكة إلى طور سيناء، وغيرهم من كتيبة الأذرع المستأجرة قد طال كل شيء، ونال من كل قيمة واستباح كل مقدس..؟
فإذا كانت الهجرة حدثا من أحداث التاريخ، فإن التاريخ هو ابنها البكر، فقد ولد من رحمها، وبها كانت بدايته. وليطمئن كل المهاجرين، فليست الهجرة إلا بداية التاريخ، وليست أبدا نهايته.
سلام على كل من هاجر، ولم يجد بعد مأواه.. وكل عام وأنتم بخير.