طريق مسدود وأزمة.. إيهود باراك يطرح الخطوط العريضة لخروج إسرائيل من مأزقها “الخطير” في غزة
تاريخ النشر: 30th, December 2023 GMT
إسرائيل – نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك امس الجمعة مقال رأي حلل من خلاله الحرب على غزة ومستقبل القطاع ومن سيحكمه في اليوم التالي.
وقال إيهود باراك في المقال الذي نشرته القناة “12” الإسرائيلية “على الرغم من الدعم الأمريكي الواضح وانفتاح العديد من دول المنطقة على دراسة أفكار جديدة لحل المشكلة في غزة في بداية الحرب، تجنب رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو بشكل منهجي أي نقاش حول ما سيحدث هنا في النهاية.
وأضاف باراك إن “7 أكتوبر 2023 أخطر حدث في تاريخ إسرائيل أدى إلى مقتل 1300 شخص واختطاف 250 آخرين، بالإضافة إلى الإذلال وعدم الكفاءة والخلل الوظيفي في أنظمة الدولة.
وأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أن ذلك خلق أزمة ثقة متعددة الأبعاد وغير مسبوقة.
وأفاد في السياق بأنه سرعان ما عاد الجهاز الأمني إلى رشده وذهب على الفور إلى الحرب مع حركة الفصائل الفلسطينية.
ما تم إنجازه حتى الآن؟
وذكر إيهود باراك أنه وبعد حوالي ثلاثة أشهر من القتال وفي ظروف صعبة، حقق الجيش الإسرائيلي إنجازات كبيرة، مؤكدا أن أهداف الحرب لا تزال بعيدة عن التحقيق.
وذكر الوزير السابق أن حركة الفصائل الفلسطينية. لا تزال تسيطر على منطقتي رفح والمواصي، حيث يتركز أكثر من مليون ونصف المليون نسمة وهم الأغلبية المطلقة لمواطني قطاع غزة.
وأوضح أن قدرات حركة الفصائل الفلسطينية. العسكرية تضررت بشدة في المناطق التي كان يعمل فيها الجيش الإسرائيلي، مؤكدا أن الحركة لا تزال تحتفظ بقدرات عملياتية كبيرة في أجزاء من قطاع غزة لم يتم تدميرها بعد.
وأفاد في مقاله بأنه لا يوجد اتفاق ملموس على الطاولة بشأن الرهائن، مشيرا إلى أن حركة الفصائل الفلسطينية. تطالب بـ”إنهاء الحرب” وهو ما لا يجب الاتفاق عليه كشرط للصفقة.
كما تطرق إلى المواجهة المواجهة مع حزب الله، حيث أكد وقوع أضرار جسيمة على الجانبين، وقد يتسع الأمر ليتحول إلى صراع شامل إذا اضطرت إسرائيل إلى استخدام القوة لإزالة حزب الله من الحدود إذا فشلت محاولة التوصل إلى اتفاق سياسي بشأن تنفيذ القرار 1701.
“اليوم التالي”
أمام هذه الظروف ومن أجل تحقيق أهدافها، كان على إسرائيل منذ اليوم الأول أن تناقش الخطوط العريضة لـ”اليوم التالي” مع الأمريكيين ومعهم أو من خلالهم مع مصر والأردن والإمارات والسعودية.
وبين أن هؤلاء الجيران هم جزء من “المحور المعتدل” الذي شكلته الولايات المتحدة أمام “المحور المتمرد” الذي يضم إيران وسوريا وحزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وغيرها.
وفي هذا السياق استشهد الوزير السابق بمثل روماني قديم يقول “إذا كنت لا تعرف أي ميناء تسعى للوصول إليه، فلن تصلك الريح إليه” وهذا ينطبق على الحكومة الإسرائيلية هذه الأيام”.
ماذا تريد إسرائيل؟
إن إسرائيل وهي محقة في ذلك، ليست مستعدة لاستمرار حركة الفصائل الفلسطينية. في حكم غزة وتشكيل تهديد لمواطنيها، وتسعى إلى إفشال قدراتها العسكرية والحكومية واستبدالها بحزب آخر، ومن ناحية أخرى فإن إسرائيل لا تنوي باستثناء بن غفير وسموترتش، البقاء بشكل دائم حاكما مدنيا في غزة وقبول 2.2 مليون فلسطيني تحت مسؤوليتها، لما يترتب على ذلك من آثار، مشيرا إلى أن الفلسطينيين لا يتحركون إلى أي مكان.
وتابع قائلا: “أولئك الذين يعتقدون أنه من الممكن في عام 2024 الشروع في “الهجرة الطوعية” لملايين سكان غزة وهو تعبير ملطف لكلمة “الترانسفير”، هم في أحلام اليقظة”.
“المخطط الصحيح”
من يستطيع تحمل المسؤولية؟ ولن يوافق أي حاكم عربي حتى لو كان صديقا لإسرائيل، على القيام بذلك بشكل منتظم.
والحل الأرجح هو قوة عربية مشتركة من الدول التي لديها اتفاقيات سلام أو تطبيع مع إسرائيل وكذلك السعودية، على سبيل المثال قوة تقودها مصر وتدعمها الولايات المتحدة والجامعة العربية وتتسلم القوة من إسرائيل السيطرة على القطاع مع انتهاء تقليص صلاحيات حكم حركة الفصائل الفلسطينية. لفترة محدودة تتراوح بين ستة أشهر وسنة مع إمكانية التمديد.
وستعمل القوة خلال هذه الأشهر تدريجيا على إعادة القطاع إلى السيطرة المدنية وإدارة “السلطة الفلسطينية المعززة”، كما يمكن للقوة أن تستمر في العمل إلى جانب السلطة الفلسطينية لفترة إضافية من الوقت الأمر الذي سيسمح بتفكيك ما تبقى من القدرة العملياتية لحماس وخاصة الصواريخ والأسلحة.
“ومع مراعاة احتياجات إسرائيل الأمنية المحيط وحرية العمل المضادة والإشراف الأمني ضد دخول الأسلحة وما إلى ذلك، يمكن لدول “المحور المعتدل” وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أن تكون عامل تمويل مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية في غزة من بينها محطة كهرباء ومياه محلاة وميناء تحت إشراف أمني”، وفق الطرح الذي يراه باراك.
الخطوط العريضة
وأردف الوزير الإسرائيلي قائلا: “هذه هي الخطوط العريضة للحل المعقول وهو الوحيد تقريبا ومن يحاول إحباطه سيكون مسؤولا عن بقاء إسرائيل عالقة في وحل غزة لسنوات عديدة وهو الوضع الذي سيكون مدمرا ودمويا للغاية أو البديل عودة حركة الفصائل الفلسطينية. إلى السلطة أو الفوضى الخطيرة تحت سيطرة العصابات العشائرية”.
وتابع قائلا: “يمكن أن ينضج الحل في بعض الاختلافات فيما يتعلق بهذا التفصيل أو ذاك، نتيجة للتفاوض والتنسيق المطلوب، ومن الواضح أن السلطة الفلسطينية يجب أن تحقق قفزة حقيقية في القدرة والإرادة على التحرك، ومن الواضح أيضا أن الجهاز الحكومي سيحتوي على العديد من سكان غزة ومن بينهم تكنوقراط ذوو خلفية إسلامية، ولكن أولئك الذين لم يشاركوا في أي شيء نشاط مسلح”.
وأكد إيهود باراك أنه لا يوجد حل مثالي، مشددا على أنه لا بد من اختيار بديل عملي يمحو حركة الفصائل الفلسطينية. من كونها منظمة ذات قدرات عسكرية على الحدود إسرائيل وهذا المخطط قادر على اجتياز هذا الاختبار في إشارة إلى الطرح الذي شرحه مسبقا.
وأشار إلى أن هذا المخطط حظي بدعم أمريكي واضح وفي الأسابيع الأولى بعد 7 أكتوبر كان هناك انفتاح كبير لدى العناصر في العواصم الصديقة في المنطقة للنظر فيه.
وانتقد رئيس الوزراء الأسبق الوزير الحالي بنيامين نتنياهو، حيث قال إن محاولته السافرة للتهرب من هذا الاتجاه والتهرب لمدة ثلاثة أشهر من أي نقاش حول “اليوم التالي” تلقي بظلال ثقيلة على قدرته على قيادة دولة في الحرب وفي نهاية المطاف”.
طريق مسدود
وقال باراك إن إسرائيل تتجنب الاندفاع إلى الخطوط الموصوفة أعلاه بعد 7 أكتوبر مباشرة، حيث أفاد بأن نتنياهو غير قادر على التحرك في هذا الاتجاه طالما أنه يتعرض لابتزاز بن غفير وسموتريتش، اللذين لا حكومة من دونهما.
وصرح بأن نتنياهو لا يريد التحرك في هذا الاتجاه لأن الخطوط العريضة تجعل من الممكن إنهاء “المرحلة الخشبية” من القتال خلال شهر تقريبا، وبالتالي وضعها أمام الجمهور الذي يطالب بالمحاسبة.
وحسب الوزير السابق وكجزء من الخطوط العريضة، يتعين على الزعماء العرب أن يتصرفوا بشكل صحيح منذ البداية وهم من عليهم اتخاذ القرارات والتعبئة وبناء القوة وفي الوقت نفسه كبح المظاهرات في شوارعهم ضدها.
وأوضح أنه من المفترض أن يتحركوا بينما يستطيع الجانب الإسرائيلي على الأكثر أن يضمن بالتنسيق مع الولايات المتحدة، استئناف العملية السياسية تجاه حل “الدولتين” في الوقت المناسب.
وأشار في هذا الصدد إلى أن نتنياهو حتى لو وعد بشيء على هذا المنوال فلا يوجد شخص واحد في البيت الأبيض أو في أي من العواصم الإقليمية يصدقه.
ما هو الحل؟
الاستنتاج المؤلم هو أن الخطوط العريضة الوحيدة المعقولة التي تلبي المصلحة الإسرائيلية والأمريكية والإقليمية لـ”محور المعتدلين” لا يمكن أن تكون في استسلام واحد مع نتنياهو رئيسا لوزراء إسرائيل، ومع بن غفير وسموتريتش وزيرين.
وشدد باراك على أن استمرار حكم هذه الحكومة سيؤدي حتما إلى ضياع الفرصة لاعتماد المخطط الوحيد الممكن والهبوط في أحد الأمرين “النزول المخزي عن الشجرة” دون تحقيق أهداف الحرب في غزة مع تزايد خطر اشتعال النيران في الشمال والاحتكاك الخطير مع الولايات المتحدة مع إلقاء اللوم على الوضع المخزي على الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن من جهة، وعلى الرئيس بايدن من جهة أخرى مقامرة جامحة على شكل محاولة جر الولايات المتحدة رغما عنها إلى صراع إقليمي مع إيران، مشيرا إلى أنه لا ينبغي السماح بحدوث أي منها.
واختتم مقاله بالقول: “الواقع يطرق الباب ويطالب بالإجابة إلى أين نتجه؟ نحن بحاجة إلى أن تقرر، ومن غير الممكن أن يكون الشخص الذي يتحمل المسؤولية الرئيسية عن الهاوية التي سقطنا فيها هو أيضا الشخص الذي سيوجه طريقنا من الهاوية إلى المناظر الطبيعية المضاءة بنور الشمس، لقد حان الوقت لانتخابات جديدة، الشعب، والشعب وحده هو الذي يستطيع أن يقرر من هم الذين ستسند إليهم عجلة القيادة، وما هو المسار المختار لتحقيق أهداف الحرب، وإعادة استقرار إسرائيل، وتحقيق الأمن وإعادة الثقة بالنفس والثقة بالقيادة”، مشيرا إلى أن طريق التصحيح لن يكون قصيرا أو سهلا.
المصدر: القناة “12” العبرية
المصدر: صحيفة المرصد الليبية
كلمات دلالية: حرکة الفصائل الفلسطینیة الولایات المتحدة الخطوط العریضة الیوم التالی مشیرا إلى أن إیهود باراک فی هذا فی غزة
إقرأ أيضاً:
الغرب يُسلّح “إسرائيل” ويُرسل الطحين ببطاقات عبور
في عالم باتت فيه الكلمة تُصاغ بمداد القوة، لا بالحقيقة، تتحول الكارثة الإنسانية في غزة إلى مشهد رمزي يكشف زيف النظام الدولي، وانهيار القيم التي طالما تباهى بها الغرب: حقوق الإنسان، القانون الدولي، العدالة. إذ بينما تمطر الطائرات «الإسرائيلية»، بدعم عسكري أميركي وأوروبي سافر، أحياء غزة بالصواريخ، تُرسل بعض الدول الغربية -بمنتهى النفاق- شاحنات طحين عبر مؤسسات دولية، محكومة ببطاقات عبور، إلى أولئك الذين نجوا من المجازر إلى حين.
إنّ المعضلة هنا ليست فقط في التواطؤ، بل في التأسيس لمنظومة إبادة جديدة، لا تتجلى فقط في أدوات القتل، بل في أدوات «المساعدة». لقد تحوّل الطحين إلى أداة سياسية بامتياز، يُوزّع بحذر شديد، ويُقرَّر من يستحقه ومن يُترك للجوع، كل ذلك تحت شعارات «العمل الإنساني»، في الوقت الذي تتكدّس فيه مخازن الأسلحة الأميركية في قلب فلسطين المحتلة، ويُمرَّر الدعم العسكري تحت بند «الدفاع المشروع عن النفس».
التجويع.. من الإبادة الصامتة إلى أداة الضبط الجيوسياسي
منذ بداية الحرب على غزة، كان من الواضح أنّ «إسرائيل» لا تستهدف المقاومة الفلسطينية فحسب، بل تخوض حربًا شاملة على المجتمع الفلسطيني، بكل مكوّناته. والغرب، بدلاً من أن يلجم هذا السعار الدموي، يزوده بكل ما يحتاجه للاستمرار: الغطاء السياسي، الدعم المالي، والمعدّات العسكرية.
لكنّ أخطر ما في هذا المشهد، هو «إدارة التجويع» بوصفها شكلاً متقدماً من الحرب النفسية والاجتماعية. لم تعد المجازر وحدها كافية لتروي عطش «المؤسسة الأمنية الإسرائيلية»، بل بات المطلوب تفكيك بنية المجتمع الفلسطيني بالكامل، عبر إيصاله إلى حافة الانهيار البيولوجي، ثم تقديم فتات المعونة بوصفه منّة دولية مشروطة.
في هذا السياق، لم تعد المساعدات تُرسل لرفع المجاعة، بل لضبطها. يُراد للموت ألا يكون شاملًا، بل انتقائيًا، منظّمًا، يمكن التحكم بإيقاعه ومساحته، بحيث يُبقي على غزة على قيد الحياة، بالكاد.
الطحين المشروط.. »الهولوكوست المدني« بنسخة ناعمة
حين يُمنح الفلسطيني في غزة كيس طحين فقط بعد أن يتعرض لإذلال مرير، ويُطلب منه السير لكيلومترات ما بين الركام، وتحت تهديد القنص، للوصول إلى مركز توزيع تسيطر عليه «إسرائيل» أمنياً، فهذا ليس «إغاثة»، بل نموذج دقيق لـ»الهولوكوست المدني» بنسخته الحديثة: لا غرف غاز، بل حفر رملية (الجورة) يُنتظر فيها «إذن الحياة».
هذا النموذج يُدار تحت شعار الإنسانية. ولكن أيّ إنسانية تلك التي تُرشد طائرات الاستطلاع الغربية، والطائرات «الإسرائيلية»، جموع الجياع نحو مركز الإعدام؟ وأي عدالة حين يُستشهد العشرات أثناء انتظارهم للغذاء، بينما لا يُحاسب أحد؟
إنّ ما يُسمّى بـ»الإنزال الجوي للمساعدات» ليس سوى صورة فاقعة من صور التواطؤ بين آلة القتل «الإسرائيلية» والهيئات الدولية التي ارتضت أن تتحوّل من أدوات إنقاذ إلى أدوات تلميع. فالاحتلال، الذي أغلق المعابر، ودمّر البنية التحتية الصحية، وجرّد مليونَي إنسان من شروط الحياة الأساسية، يدّعي فجأةً أن له دورًا «إنسانيًا» في إسقاط عُلب غذاء من السماء. هذا الفعل، بحد ذاته، يُعيد إنتاج منطق الاستعمار الخيري: الجلّاد يلبس قناع المُنقذ، في الوقت الذي يُمسك فيه بخنجر الحصار في يده الأخرى. لا يكفي أن نُدين محدودية المساعدات أو انعدام فعاليتها، بل علينا أن نُفكك بنيتها السياسية، لأنها لم تأتِ خارج سياق الإبادة، بل كجزء منها. فهي لا تعالج الجوع، بل تُديره. لا تنهي الحصار، بل تُعطيه شكلاً مقبولًا في أعين المتفرجين. إنها ليست خطّة طوارئ، بل سياسة ممنهجة لإبقاء القطاع تحت السقف الأدنى للحياة، بما يسمح باستمرار المشروع الاستيطاني دون حرج أخلاقي أمام الكاميرات.
الغرب الرسمي.. ديمقراطيات تموّل المجازر وتكتب بيانات إنسانية
الدول الغربية تعرف، بكل تفاصيلها، ما يجري في غزة. ليس لأنّ الفلسطينيين أو الإعلام المستقل يبلّغونهم، بل لأنّ طائراتهم وجنرالاتهم وخبراء أمنهم موجودون في الميدان. هم لا يجهلون الإبادة، بل يديرونها.
وحين تصدر بيانات من الاتحاد الأوروبي تدعو إلى «تحسين الوضع الإنساني» في غزة، أو تُفرض عقوبات شكلية على وزراء من أمثال بن غفير وسموتريتش، فإنّ الغرض ليس وقف الجريمة، بل التخفيف من ثقلها الأخلاقي على الرأي العام الغربي، الذي قد يستفيق للحظة. لكنّ هذه العقوبات، كما في العراق سابقًا، لا تُفرض على الدولة المعتدية، بل على هوامشها، ولا تمسّ جوهر المشروع: التجويع المُمنهج كسلاح شرعي.
وفي المحصلة، يُعاد تعريف القانون الدولي ليخدم بنية الهيمنة: ما يُعدّ «جريمة حرب» في أوكرانيا، يُصبح «تكتيكًا عسكريًا مشروعًا» في غزة. أما محكمة العدل الدولية، فتبقى أداة انتقائية لا تصمد أمام «الفيتو الأخلاقي» الأميركي.
الغذاء كسلاح استعماري.. التاريخ يعيد إنتاج نفسه
ليس ما يجري في غزة استثناءً، بل استمرارٌ لنمطٍ إمبريالي مألوف، حيث يُستبدل القصف بالتجويع، وتُغلف الإبادة بورقٍ إنساني مصقول. لقد فعلها الغرب والأمريكيون من قبل في العراق، حين أُخضِعَ شعبٌ بأكمله لحصارٍ دمّر البنية التحتية الصحية والتعليمية، وقُدّرت آثاره بمقتل نصف مليون طفل، وهو رقمٌ وصفته وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت آنذاك بأنه «ثمنٌ مستحق». وفي السودان، جُعل الغذاء مشروطًا بالولاء السياسي، وغُذّيت الانقسامات الداخلية عبر تجويف المجتمعات من الداخل. في كل مرة، يظهر الغرب كمن «يحاول المساعدة»، بينما يُبقي يده على صمّام الحياة، يفتحه ويُغلقه حسب مصالحه الجيوسياسية. فالتجويع ليس خللًا طارئًا، بل أداة متعمدة لإخضاع الشعوب وتفكيك قدرتها على الصمود والمقاومة.
الصمت العربي.. تواطؤ يشرعن الجريمة
وفي مواجهة هذا المشروع، تبدو الأنظمة العربية -خصوصًا الدول ذات الوزن الجغرافي كالسعودية ومصر والأردن- عاجزة أو متواطئة. القرارات الصادرة عن القمم الإسلامية والعربية بقيت حبرًا على ورق. لماذا؟ لأنّ المعضلة ليست في عدم القدرة على إرسال المساعدات، بل في الخوف من كسر التوازنات التي تُبقي هذه الأنظمة آمنة تحت المظلة الأميركية.
إنّ المساعدات تكدّست على الجانب المصري من الحدود، لا لأنّ مصر غير قادرة على إدخالها، بل لأنها لا تملك الإرادة السياسية لمواجهة ما يُعتبر «الخط الأحمر الإسرائيلي-الأميركي». وهذا الصمت، أخطر من القصف، فهو يمنح الإبادة شرعية عربية، يُوظّفها الغرب في خطاباته ليقول: «حتى العرب لا يعارضون ما يحدث».
بين الطحين والسلاح.. الغرب يُعرّي ذاته
لقد بات واضحًا أنّ الغرب، في صيغته الحالية، لا يمثل نموذجًا أخلاقيًا ولا مرجعية قانونية. إنه تحالف سلطوي، يُعيد إنتاج الهيمنة بأشكال متجددة. يُسلّح «إسرائيل» بأحدث أدوات القتل، ثم يُرسل الطحين على دفعات، محكومًا ببطاقات عبور، كي يبقي على الفلسطينيين في مستوى الصراع الأدنى: صراع البقاء لا التحرير.
لكنّ التاريخ لا يُكتب فقط من غرف مجلس الأمن، بل من الساحات. وإذا كان الغرب قد نجح في تحويل غزة إلى مختبر للإبادة، فإنّ ما بعد غزة، سيكون اختبارًا حقيقيًا للشعوب، لا للحكومات.
فما لا تستطيع الدول قوله، يجب أن تقوله الشعوب. وما لا تجرؤ الأنظمة على فعله، يجب أن يفعله الناس. وإلا فإنّ الطحين سيظل يُرسل ببطاقات عبور، فيما السلاح يُمنح بلا حساب، وتُكتب النكبة مجددًا باسم الإنسانية.
كاتب صحفي فلسطيني