تنوع عطاء اللغة العربية؛ فلم يقتصر علة جانب دون آخر. بل شمل جوانب المعرفة كلها ما بين نظرى وتطبيقى، وآداب، وفنون، وعمارة، وعلوم، واختراع وابتكار، ومن اللافت للنظر والمثير للدهشة أن يجمع العالم من هؤلاء العلماء بين أكثر من تخصص، ويبدع فى أكثر من مجال.
وقد درج كثير من الباحثين على الاقتصار على بيان الدور التراثى التاريخى للآداب العربية والإسلامية مع الآداب الأوروبية، وذلك لجمع العلماء آنذاك بين تخصصات متنوعة كالطب، أو العلم، من ناحية، والأدب والثقافة العامة، من ناحية أخرى، من أمثال: الطبيب الشاعر: الكندى، والجامعين بين الناحيتين كحنين بن إسحق، وولديه وابن أخته، والسرخسى، والمختار بن عبدون، وابن بطلان، وابن رضوان المصرى، وعلى بن سهل، وابن الطبرى، والرازى، وابن سينا، والفارابى، ومن أبناء آل زهر، وبنى شاكر، وأمثالهم، مما لا يكاد يحصى.
وقد وظف الدارسون ذلك فى مجال الدراسات التقارنية لتبرز أسماء وآثار كالكوميديا الإلهية، والتروبادور، ودانتى، وابن شهيد، وما إلى ذلك مما فصلنا القول فيه فى الفصول الأدبية.
وهذا حق لا مراء فيه. لكن المهم قطعاً وتأكيداً هو أن التأثير الأكبر والأقوى والأخلد والأشهر والمستمر عملياً وعلمياً دون شك كان للجانب العلمى فيما خلفته تلك الحضارة العريقة (الجامعة للأعراق والبيئات تحت سقف العربية) فى تاريخ العلوم عند العرب بأنواعها المتعددة، ذلك التأثير الذى استمرـ ولا يزال ماثلاً للعيان: مادياً ومعنوياً، فى المنجزات، والمكتشفات، والمخترعات، والأعلام، والمصطلحات، ومعترفاً به من المنصفين، وهم الأغلبية، برغم محاولات الانتحال والسرقة والحرق والنهب. بل فى اضطرارهم إلى نسبة تلك المنجزات العلمية إلى أصحابها العرب المسلمين، باسم كل منهم، أو لقبه، ينطقونه بمثل ما كان عند العرب بلفظه وحرفه. وإن كان بحرف لاتينى، كما حدث فى إبداع الخوارزمى غيره. وهذا ما أحاول أن أنتهجه فى الفصول التالية التى تمضى فى تدرجها من فروع الآداب إلى فروع العلوم.
من ناحية ثانية آن وقت التوضيح فى موقع المعاصرة للهيمنة السائدة والسيطرة الغربية، ومحاولتها طمس الهوية العربية، وتفتيت الكيان العربى والإسلامى، ومحو التاريخ والإنجاز العربيين، وطمس البصمة الحضارية العربية والإسلامية المتجذرة فى أعماق التاريخ؛ إذ لم ينعزل العربى القديم فى شبه الجزيرة العربية، وفوق كونه «وارث الآراميين البابليين، جغرافيا على الأقل»، كما ذهب «سزكين»، الذى رحل للتجارة، ومعها تم الاحتكاك بالشعوب وحضاراتها القديمة، كما ذهب «لوبون»، وذهبت «سيجريد هونكه»، وسقط الحكم السائد أن الحضارة اليونانية أساس الحكم على الحضارات، حيث رجع «أرنولد توينبى» عما كان قد سجله فى مرجعه الكبير، وذلك فى كتابه (Reconsideration إعادة نظر)، فى أكثر من سبعمائة صفحة، ومع الإسلام تفاعلت أطياف عديدة من البيئات، والمدارس، والألسنة، والأعراق وتلاقحت بلسان عربى مبين فى مرحلة «الأخذ والتمثل»، ثم كانت مرحلة «الإبداع العربى فى العلوم العربية»، كما عبر «سزكين»، أيضا، برغم محاولات «الانتحال» من علماء اللاتين، ثم مرحلة «روح العداء الغربى» الراميتين إلى إنكار الريادة العربية فى تاريخ العلوم، وفى فروع الإنسانيات.
كان ذلك بمنزلة إحياء قرون من العطاء والاستنارة العربية والإسلامية بلسان عربى مبين عبر ثقافات وعرقيات متنوعة، وعبـر قرون متتالية، وذلك فى جانبى الدراسات والبحوث والفكر فى المجالات:
الإنسانية، أو ما يعرف بالدراسات النظرية، أو الأدبية، مما عرف بالدراسات القرآنية، واللغوية، والأدبية، والتاريخية، والجغرافية، والاستشراقية، وتصنيف العلوم.
العلمية، أوالتطبيقية، وعلى رأسها ما عرف باسم (العلوم عند العرب؛ فعلى سبيل المثال نجد من العلماء «الفيلسوف الطبيب»، ومن ناحية أخرى نجد «الطبيب الفيلسوف»، ومن النوع الأول: نجد ابن سينا وأمثاله، ممن درس الطب على أنه جزء من المعرفة لتكتمل النظرة العلمية، ومن النوع الثانى: نجد الرازى وأمثاله، ممن كان المرض والمريض والتشخيص والعلاج شغلهم الشاغل، أما الفلسفة فوسيلتهم لإدراك الغاية وبلوغ الهدف.
عضو المجمع العلمى المصرى
وأستاذ النقد الأدبى بجامعة عين شمس
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: يوسف نوفل لغتنا العربية جذور هويتنا اللغة العربية من ناحیة
إقرأ أيضاً:
خالد الجندي: عطاء الدنيا ليس دليلاً على محبة الله للعبد
أجاب الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، عن سؤال حول قول الرجل المؤمن لصاحب الجنتين في سورة الكهف: «فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ»، موضحًا أن التعبير القرآني يحمل أدبًا رفيعًا، إذ قال «فعسى ربي» مراعاة لمشاعر صاحبه حتى لا يدفعه إلى التطاول أو الاعتراض بقوله: «لا، ربك وحدك!»، فيرد عليه المؤمن بأدب: «ربي لوحدي وخير لي»، مؤكداً أن كلمة «خيرًا من جنتك» لا تُفهم على أنها جنة في الدنيا، لأن نعم الدنيا زائلة مهما عظمت، بينما المقصود هو الخير الأبقى في الآخرة، جنة الخلد التي لا تزول ولا تتبدل.
وأضاف عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية خلال حلقة خاصة بعنوان "حوار الأجيال" ببرنامج "لعلهم يفقهون" المذاع على قناة "DMC" اليوم الأربعاء، أن طلب الرجل المؤمن ليس بالضرورة قصره على نعيم الدنيا أو الآخرة فقط، فالآية تحتمل رجاء الخير في الدارين، لكن نهاية السياق القرآني ترجّح أن «الخير» المقصود هو نعيم الآخرة؛ بدليل أن المؤمن نفسه قال بعدها مباشرة: «وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا»، أي أنه يعلم أن نعيم الدنيا قد يزول، وأن ما يبقى هو النعيم الدائم. وبيّن أن الفرق بين عطايا الدنيا والآخرة واسع، فالدنيا نعيمها زائل، محدودة، ويأتي معها تعبٌ وتكليف وحفظ ورعاية، وقد تكون اختبارًا للمؤمن والكافر معًا، بينما عطاء الآخرة باقٍ لا يزول، ولا مشقة فيه، وهو جزاءٌ خالصٌ للمؤمنين وحدهم، بلا حسد ولا تبعة ولا حساب.
وأوضح الشيخ خالد الجندي أن عطاء الدنيا لا يدل على محبة الله، فقد يعطيها الله لمن يحب ولمن لا يحب، بينما عطاء الآخرة دليل على الرضا والمحبة الإلهية، وأن نعيم الدنيا مرتبط بالموت ويعقبه حساب، بينما نعيم الآخرة لا موت فيه ولا انقطاع ولا سؤال عن كيفية حفظه وإنفاقه.
وأكد أن قول المؤمن: «خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ» لا يمكن أن يُفهم على أنه يطلب «جنينة مثلها»، لأن المِثل لا يكون خيرًا، أما «الخيرية» فلا تتحقق إلا في النعيم الأبدي، ومن ثم فإن المقصود بالآية هو دار البقاء وثواب الآخرة، لا جنة الدنيا المحدودة التي قد تصبح «صعيدًا زلقًا» في لحظة بحسابٍ إلهي دقيق.
اقرأ المزيد..