في خريف عام 2023 كنتُ مشاركة في مهرجان أدبي كندي «مهرجان تورنتو العالمي للمؤلفين» وكان لي شرف اللقاء المطول مع الكاتب الكندي من أصل أرجنتيني، ألبرتو مانجويل المعروف بولعه بالقراءة والكتابة. دار بيننا حديث متشعب طويل عن الأدب والترجمة والصنعة الأدبية وطريق تحسينها. جرى ذلك في الصالة التي يجتمع فيها الكتاب قبل محاضراتهم الرسمية أمام الجمهور.

كان الكاتب قد وصل مبكرا قبل موعد جلسته الرسمية وكان ذلك من حسن حظي. في سياق الحديث ذكر ألبرتو مانجويل بأنه لا يؤمن بجدوى المحاضرات والكتب التي تضع على عاتقها تلقين مهارات الكتّاب في الكتابة الأدبية.

كان تعقيبي: ولكنني أقرأ تلك الكتب وأتعلم منها وأحاول أن أطبق ذلك على كتاباتي في الصحافة والأدب.

أجاب ألبرتو مانجويل بابتسامة مربّتا على كتفي: هذا لأنكِ أنتِ وتقومين بذلك كفرد، وهذا لا ينطبق على كثيرين.

ابتسمت وأجبت: ولكنكَ مشارك في أكثر من محاضرة عن الكتابة الإبداعية في هذا المهرجان؟!

أجاب ألبرتو مانجويل: نعم سأشارك وأتحدث عن الكتابة والقراءة ولكنني لا أعطي نصائح وتوجيهات للكتّاب الجدد أو الراغبين في اقتحام حقل الكتابة. وأعرف أن هناك مناهج أكاديمية لتدريس الكتابة، لكنني أتصور أن كل ذلك يتم من أجل كسب المال.

سألته كاتبة صديقة: ما الذي يجعل الرواية عظيمة؟ وكيف أصل إلى ذلك؟ أريد أن أعرف من تجربتك.

أجاب ألبرتو مانجويل: هناك ثلاثة معايير أو نقاط لكتابة ناجحة، ثم توقف. الكاتبة حملت قلمها ودفتر الملاحظات وانتظرت بلهفة وقالت: وما هي؟ قل لنا.

أجاب: يوجد قواعد ولكن لا أحد يعرف ما هي تلك المعايير؟ فضحكنا. كان إنسانيا متواضعا وأنيقا بشكل لافت للنظر ومستمعا لطيفا. بعد ذلك حضرت جلسته عن الكتابة الإبداعية التي كانت ممتعة دون أن تزخر بالنصائح والتوجيهات بل بالتجربة والمعرفة. وكان بين الحضور كتّاب وطلبة جامعة وهواة قراءة وكتابة.

***

رغم ما قاله الكاتب مانجويل في تلك الجلسة، بقيت أنقّبُ عن تلك الكتب وأقرأها كما لو أنها دروس ممتعة في النقد الأدبي. هناك كتب بالإنجليزية، ودورات تدريبية في الجامعات أو بشكل فردي (أونلاين). التحقتُ شخصيا ببعض هذه (الدورات) عبر الجامعة وأونلاين في فصول متقطعة وكانت التجربة إيجابية.

***

من الذي لا يريد أن يكون كاتبا عظيما، ومن الذي يأتي إلى حقل الكتابة كي يكون ضحلا في تعبيره وطريقة إنجازه لعمله؟!

هنا كتاب صدر 2018 في إنجلترا بعنوان «اقرأ هذا الكتاب إذا أردت أن تكون كاتبا عظيما» تصفحته مستغربة الغلاف البارد الأزرق الذي لا يحمل سوى العنوان واسم المحرر «روس ريزن».

في المقدمة فكرة مفادها: الشيء المهم الذي يجب أن يعلمه الكاتب، أن يعانق لحظة الإبحار نحو المجهول، إذ من المستحيل على القارئ أو الكاتب متابعة القراءة إذا كان يعرف كل تفصيل سيحدث في الكتاب... من المهم التذكر أن «ليس هناك قواعد للكتابة»، وكل قاص هو فرد له عالمه وتفاصيله، ولكن هناك «صنعة» وبعض الأصول التي يجب أن يكتشفها ويفهمها، أو يرفضها أحيانا كي تكون نتيجة المشروع ممتعة وشهية.

***

نماذج للدراسة: إيتالو كالفينو ووضعية القراءة في رواية بعنوان: إذا كنت مسافرا في ليلة شتوية.

نحن الذين نتحدث عن الكتب والكتابة والقراءة نادرا ما نتحدث عن وضعية القراءة شخصية ومختلفة بين شخص وآخر ووفق الظروف وقت القراءة. أعرف أن بعضهم يقرأ في الخفاء أو تحت أغطية السرير بعيدا عن رقابة الأهل. بعضهم ينام في سريره كتاب أو يغفو فيسقط كتابه من يده. عن تلك العلاقة يكتب إيتالو كالفينو. الراوي هو الكاتب إيتالو كالفينو يخاطب القارئ مباشرة دون تكلف عن وضعيته الجسدية حين يبدأ قراءة الرواية فيقول له باختصار -وهذه ترجمتي: «أنت الآن على وشك أن تبدأ قراءة رواية ايتالو كالفينو الجديدة. استرح، ركّز، أهمل كل الأفكار الأخرى، دع العالم حولك يتلاشى، ومن الأفضل أن تقفل الباب والتلفزيون... ارفع صوتك اصرخ وقل: أنا سأقرأ رواية ايتالو كالفينو الجديدة، وإذا أردت لا تقل شيئا، فقط احلم أن يدعوك وشأنك... خذ وضعية الجلوس أو استلق منبطحا على ظهرك أو على جنبك، على بطنك، على كرسي، حتى يمكنك أن تقرأ في وضعية اليوجا ترتكز على يديك ورأسك إلى الأسفل... بالتأكيد، لن يكون بمقدورك على الإطلاق أن تجد وضعية مثالية للقراءة...».

هنا الكاتب له هوية ويتحدث مع القارئ بتلك الصيغة الخطابية المباشرة، ثم ينتقل الروائي إلى شخصيات تتمتع بطبقات من الوعي والتعقيد والتشابك. وهذا يقودنا إلى القول إن هذه الحرية اللامحدودة في الخلق الخيالي تقربنا من الكاتب وتجعلنا كقراء معنيين بكل كلمة. وقبل أن يصل الكاتب إلى هذه الصيغة الأجمل والنسخة الأخيرة من الكتابة لا بدّ أن يقوم بالبحث في الموضوع الذي يتطرق إليه ويكتب الملاحظات والتواريخ وذلك حسب النوع الإبداعي المكتوب.

(ويذكر أن كالفينو كاتب إيطالي مرموق، صحفي وناقد رحل عام 1985 وله شهرة عالمية وبعض كتبه مترجمة إلى العربية).

في مثل هذه الكتب -عن الكتابة الإبداعية- يتم انتخاب مقتطفات مهمة كدليل للقارئ، أو كأسلوب للربط بين الفكرة النظرية والنموذج التطبيقي سواء في باب القصة القصيرة، أو الرواية. ومن خلال هذه النماذج نتعرف على تفاصيل العمل الأدبي، كالمكان، والشخصيات، واللغة، والصورة، والرمز، والحوار، والجنس، والعنف وما إليه. الكاتب الذي يريد أن يرتفع فوق المستوى المتوسط يجب أن يخصص وقتا لمعرفة هذه المفاتيح التي ترفع من قيمة العمل الإبداعي الذي يمر بمراحل كالتنقيح أو الاستشارة مع ناقد-محرر أو صديق للوصول إلى الصيغة النهائية الأفضل قبل إطلاق الكتاب ووضعه في يد القارئ الذي قد يلتهمه أو يرميه جانبا.

قد يكون للروايات نهايات غير متوقعة وربما مخالفة للمخطط الأول للمشروع وهذا جزء من متعة الرحلة مع الكتابة. للكاتب أن يحرر المخيلة كي تقوده إلى المجهول قبل أن يذهب المخطوط إلى الناشر وتبدأ عملية التحرير التي قد تنقذ النص من الثغرات، سواء كحقائق تاريخية وجغرافية، أو تلك المتعلقة باللغة والترابط بين الفصول. هذه العلاقة بين القارئ والكتاب يمكن تلخيصها بكلمات كتبتها مارجريت أتوود وتتصدر الكتاب «كل قصة هي في البداية كما لو أننا نفتح بابا على فضاء مجهول كليا».

***

أعود إلى الكاتب العالمي ألبرتو مانجويل وتوقيع كتابه الأخير بعد نهاية الحوار في مهرجان تورنتو سبتمبر 2023. كانت الساعة تقارب السادسة مساء وهناك مكتبة لبيع كتب المشاركين في المهرجان الذي استمر 11 يوما. اشتريت الكتاب، ووقفت مع الآخرين كي أحظى بتوقيع الكاتب على نسختي. حين كنت أنتظر رأيت رجلا يحمل حقيبة ووقف بجواري. حييته وقلت: وجهك مألوف، هل أنت كاتب؟

ابتسم وقال: أنا ناشر كتاب ألبرتو مانجويل الذي في يدك. وربما علي أن أسرع كي أقتني نسخة من المكتبة قبل أن تقفل كي يوقعها لي.

دار في رأسي مونولوج صامت: الناشر الكندي يشتري نسخة من الكتاب الذي نشره وأشرف على تحريره! وهذا ما لا يقارن بناشري العالم العربي وطريقة تحرير ونشر الكتاب. وفي كل الأماكن والأزمنة سنحتاج إلى تلك الكتب التي تجعلنا نتعرف على أنفسنا والمجتمعات عبر الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل.

ويبقى السؤال: هل تصبح عظيما لمجرد أنك نشرت كتابا؟ بالتأكيد لا، رغم أن هناك تصورات لدى البعض على أنهم عباقرة وفوق الجميع وينعكس ذلك على سلوكهم مع أقرانهم من الكتّاب الأقل شهرة وفي علاقاتهم مع المجتمع المحيط.

جاكلين سلام كاتبة سورية مقيمة في كندا

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: عن الکتابة

إقرأ أيضاً:

قبل عرضه الأول بمهرجان تورنتو.. مخرجة فيلم فلسطين 36: أصعب مغامرة في حياتي

يشارك فيلم فلسطين 36 للمخرجة آن ماري جاسر بعروض "الجالا" الاحتفالية بمهرجان تورونتو السينمائي الدولي، وهو دراما تاريخية تدور حول الثورة الفلسطينية ضد الحكم البريطاني والدعوة إلى الاستقلال عام 1936. 
 

انطلاق تصوير فيلم "ريد فلاج".. تعرف على أبطالهابنة لطفي لبيب تكشف تفاصيل حالته الصحية (خاص)



تدور أحداث الفيلم في فلسطين عام 1936، بين منزله الريفي ومدينة القدس المتأججة، يتنقل يوسف توقًا إلى مستقبل يتجاوز الاضطرابات المتزايدة في فلسطين جراء الثورة على الحكم البريطاني، وهو إنتاج دولي مشترك بين فلسطين وبريطانيا وفرنسا والدنمارك وقطر والسعودية والأردن، وتتولى التوزيع MAD Distribution مهام توزيعه في العالم العربي.

يتتبع الفيلم شخصية يوسف وهو يتنقل بين منزله الريفي ومدينة القدس المتأججة، توقًا إلى مستقبل يتجاوز الاضطرابات المتزايدة في فلسطين الانتدابية عام 1936، حيث كانت عدة قرى تثور ضد الحكم البريطاني. لكن التاريخ لا يتوقف؛ فمع تزايد أعداد المهاجرين اليهود الهاربين من أوروبا الفاشية المتصاعدة، والمطالبات الفلسطينية بالاستقلال، تتجه جميع الأطراف نحو صدام حتمي في لحظة حاسمة للإمبراطورية البريطانية ومستقبل المنطقة بأسرها.

عندما سُئلت عن مصدر الإلهام والرؤية للفيلم، تحدثت جاسر عن حلمها الطويل بصنع فيلم عن ثورة عام 1936، "لكن بطريقة حميمية، شخصية، وواقعية.

وأضافت: "تتبع القصة مجموعة من الأشخاص يجد كل منهم نفسه في موقف لم يختره، بينما يخيّم عليهم شيء أعظم بكثير مما يدركون. الفيلم يتناول تلك اللحظات في حياتنا التي نُجبَر فيها على اتخاذ قرار، خيار يغيّرنا إلى الأبد.
وتابعت: صناعة فلسطين 36 كانت أصعب مغامرة في حياتي. لم أكن لأتخيل أن يكون هذا العام المنصرم المليء بالدم والعنف، هو نفسه العام الذي أصنع فيه عملًا جُمِع من أيادٍ وقلوب كثيرة، ومن حب وتحدٍ لا يُوصف".

الفيلم من تأليف وإخراج آن ماري جاسر، وتصوير هيلين لوفارت (Invisible Life)، مونتاج تانيا ريدين (Dirty Filthy Love)، وتصميم الديكور نائل كنج (عمر)، وتصميم أزياء حمادة عطاالله، وموسيقى بن فروست (Dark).

يضم الفيلم طاقم عمل دولي يضم العديد من الأسماء الكبيرة ومنهم الممثل البريطاني الحائز على جائزة الأوسكار جيرمي آيرونز (Kingdom of Heaven) ، والممثلة الفلسطينية الكبيرة هيام عباس (Succession)، والممثل الفلسطيني الكبير كامل الباشا (قضية رقم 23)، وصالح بكري (أزرق القفطان)، وياسمين المصري (شكرًا لأنك تحلم معنا)، وجلال الطويل (ولد من الجنة)، وبيلي هاول (Dunkirk)، وظافر العابدين (إلى ابني)، ووليام كانينغهام (Game of Thrones)، وروبرت أرامايو (Nocturnal Animals)، مع الوجوه الجديدة ورد حلو، وورد عيلبوني، ويافا بكري، وكريم داوود عناية.

قام على إنتاج الفيلم كل من أسامة بواردي (فيلم واجب ممثل فلسطين في الأوسكار) وعزام فخر الدين لشركة أفلام فلسطين، ويشارك في إنتاجه كل من كات فيليرز لشركة أوتونوموس (The Proposition)، وهاني فارسي ونيلز أستراند لشركة كورنيش ميديا (الزمن المتبقي) في المملكة المتحدة، وأوليفييه باربييه لشركة إم كي برودكشنز (The Worst Person In The World) في فرنسا. ويشارك في الإنتاج أيضًا كاترين بورس لشركة سنو جلوب (Godland) في الدنمارك، وإليسا بيير في النرويج وحمزة علي لشركة بطيخة بيكتشرز.

حصل الفيلم على تمويل من عدة جهات وهي معهد الفيلم البريطاني (BFI)، ومؤسسة البث البريطانية BBC Film، ومؤسسة الدوحة للأفلام، واستوديوهات كتارا، وبطيخة بيكتشرز، وصندوق البحر الأحمر، ومجموعة رؤيا الإعلامية (ميشيل الصايغ وفارس الصايغ)، وشركة ميتافورا للإنتاج، وشركة كوكون للأفلام، وTRT، وصندوق الأردن للأفلام، والهيئة الملكية للأفلام، وشركة Koala VFX، والمعهد الدنماركي للأفلام، وFilm I Väst، وSørfond، ومؤسسة السينما الفرنسية، ومنطقة إيل دو فرانس، وآفاق، ومؤسسة منيب وأنجيلا المصري، ومؤسسة غياث ونادية سختيان، ومؤسسة خالد شومان، وستوديو رايز، وتلفاز 11.

طباعة شارك مهرجان تورنتو آن جاسر فيلم فلسطين 36

مقالات مشابهة

  • فيروس سي بين حديثي الولادة.. خطر صامت يهدد آلاف الأطفال سنويًا
  • الدبيبة يلتقي الكاتب «محمود البوسيفي» ويبحث دعم الإعلام الوطني وترسيخ حرية التعبير
  • جولة كاوبوي كارتر لبيونسيه تصبح الأعلى إيرادات في تاريخ موسيقى الكانتري
  • الابراهيمي كاتبا إقليميا ل " البيجيدي" في القنيطرة
  • قبل عرضه الأول بمهرجان تورنتو.. مخرجة فيلم فلسطين 36: أصعب مغامرة في حياتي
  • سيارة ملياردير خارقة قد تصبح أغلى مكلارين في العالم
  • محمد نزار يشارك في مهرجان تورنتو بـ “Sink”: “قصة تطلبت منا الكثير”
  • الكتابة من تحت الأنقاض.. يوسف القدرة: في الشعر لغة فرط صوتية ضد عار العالم
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • وسيم السيسي: المصري يظل عظيما.. وعبقريته ظهرت في 6 أكتوبر و30 يونيو