في أمسية شعرية أقيمت في السفارة العراقية بمسقط، مشى إلى المسرح بخطى بطيئة متكئا على عصاه، لكنّ الرجل الثمانيني حين بدأ إلقاء قصائده لم يفرش أمامه ورقة، بل استعان بذاكرة كثيرا ما ردّدت قصائد الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي لازمه سنوات، وكان يحفظ شعره ويرويه، فتجلّى في تلك الليلة، وعاد إلى عشرينياته.

ذلك الشاعر هو عبدالوهّاب كريم الحلّي، الذي غادر عالمنا مؤخرا بعد سنوات طويلة من العمل في سلك التعليم، وخلال تلك الرحلة تخرّج على يديه مئات الطلبة في بغداد وعدن ومسقط التي عمل فيها حوالي عشرين سنة مديرا لمدرسة (عُمان الخاصّة)، وكان عاشقا للغة العربية، بدأ هذا العشق من دراسته في النجف الأشرف والحلّة في العراق، وتتلمذه على أيدي أساتذة أجلّاء في مجالس الأدب، وكان الأساتذة، كما كان يقول، يولون دراسة الأصوات عناية بالغة، وكذلك توالف الألفاظ والنسج اللغوي والصورة الشعرية، وعزّز هذا العشق ممارسته التدريس في المرحلة الثانوية أستاذا لمادّة اللغة العربية، على مدى ثلاثين سنة، وتبحّره في الشعر العربي القديم، فكانت آراؤه حجّة في النحو والصرف وعروض الشعر العربي، كذلك كانت تجربته الحياتية غنية بالأحداث الثقافيّة، فلقد عايش مرحلة شعرية مهمة، وشهد بدايات ظهور حركة تجديد الشعر العربي في الخمسينيات -فهو من جيل الدكتور علي جعفر العلاق وحسين الرفاعي والدكتور سعيد الزبيدي- وكان السياب والبياتي يمثلان تيارا جديدا في الشعر، آنذاك، فوقف على ضفاف هذا التيار، مراقبا المشهد وكثيرا ما كان يجلس مع السيّاب في مقهى (الفرات)، والبياتي في مقهى (البرازيلية)، ولم تكن تربطه علاقة مباشرة معهما، مثلما كانت مع الجواهري الذي التقى به للمرّة الأولى حين زار مدينته الحلة أواخر الأربعينيات، وبعد تخرّجه تمّ، تعيينه مدرّسا بمدرسة الأرمن الشرقية ببغداد، فكانت فرصة للاقتراب من الوسط الثقافي ولقاء الشاعر محمد مهدي الجواهري عن قرب، وكان يرتاد مقهى حسن عجمي، فيعرض عليه الأدباء الشباب تجاربهم، وكان الحلّي من بينهم، وكانوا، في تلك المرحلة عقب الحرب العالمية الثانية، يفضّلون الشعر الوطني على سواه، نظرا للحراك السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا، فكانوا يحفظون الأشعار الوطنية وفي مقدمتها أشعار الجواهري، عن ظهر قلب، وعن تلك المرحلة كان يروي أنه حفظ قصيدة (بريد الغربة) التي مطلعها:

مَنْ لهمٍّ لا يُجارى ولآهات حيارى

بعد نشرها بساعات قليلة وهي التي تزيد على 160 بيتا، وكان أصدقاؤه يمسكون بالجريدة ويتابعونه، وهو يلقيها دون أي خطأ، فذاع صيته.

فكان يروي أشعار الجواهري إلى جانب مجموعة من الأساتذة من بينهم: عبدالغني الخليلي والدكتور عبدالكريم الدجيلي ورشيد بكتاش وآخرون، فتوثّقت علاقته بالشاعر الكبير. يذكر الدكتور سعيد الزبيدي الذي زامل الحلي أيام الدراسة الجامعية «إن الجواهري عندما كان يلقي قصائده كان الحلي يعينه على تذكرها من مكانه بين الجمهور»

وبقي ملازما له حتى مغادرته العراق إلى براغ عام 1979م.

ومن يقرأ شعر الحلّي يلاحظ تأثّره بشعر الجواهري الذي ينتمي إلى المدرسة النجفية الكلاسيكية وهي مدرسة شعرية تتميز بالرصانة والبناء الشعري المتين، وربما هذا التأثّر الواضح في النسج والصياغة الشعرية جعله يتردّد في نشر شعره، يقول في إحدى قصائده:

دعي التشاغل بالعتبى فحيينا

عدنا بقايا شخوص من ليالينا

عدنا رماد طماح تحتها انكفأت

رغائب العمر نضريها وتضرينا

عود لمغناك لا ألف يقاسمنا

بعض الذي يغتلي من لاعج فينا

فبعض بعض الذي نخفي مكابدة

أنا نعيش اغترابا بين أهلينا

إذا ضحكنا جفانا كل مبتئس

وإن بكينا عدمنا من يواسينا

ونسرج الجرح للساري فإن دلجت

تسري على لمع سكين عوادينا

وتناول في شعره عدّة أغراض، من بينها الغزل، ففي قصيدة حملت عنوان (قيثار الهوى) يقول:

ولرب قائلة كبرت ولم تثب

أنّى وكيف عن الغواية تردع؟

أنا يا ابنة العشرين نبع صبابة

وضرام لذّاتٍ تشب وتولعُ

خُلقت جفوني للسهاد ملاعبا

وبمقلتيّ لكلّ نجم مخدع

جُبلت خطاي على الضياع فوقعها

فوق الدروب تشرّدٌ وتسكّع

وقد بذلنا محاولات كثيرة لإقناعه بنشر شعره لكنّه كان يأبى ويقول «أين قصائدي من شعر الجواهري، وبقيّة العمالقة !؟»، فرحل بصمت حاملا معه ذاكرته التي دوّن عليها أشعاره، ليعيد إلى الذهن قول الجواهري:

لغز الحياة وحيرة الألباب

أن يستحيل الفكر محض تراب

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحل ی ی الذی

إقرأ أيضاً:

قراءات وانطباعات عن المجموعة الشعرية (شهوة الخيال) للشاعر عبد الكريم العفيدلي

دمشق-سانا

أقام المركز الثقافي في أبو رمانة ندوة أدبية تضمنت قراءات وانطباعات في المجموعة الشعرية الجديدة (شهوة الخيال) للشاعر عبد الكريم العفيدلي شارك فيها عدد من الأدباء والإعلاميين، وذلك على صالة المركز.

الشاعر والإعلامي علي الدندح الذي أدار الندوة أشار إلى المكونات الأساسية للنصوص في المجموعة وقدرة العفيدلي على عكس الواقع، وما فيه من إيجابيات وسلبيات بأساليب فنية مختلفة شملت كل أشكال الشعر التي تمكن من خلالها من جمع الأصالة والتراث والمعاصرة .

كما عرف الدندح بالمشاركين ودورهم الثقافي والإعلامي .

بدوره بين الشاعر والإعلامي جمال الجيش أن الشاعر كان وما زال ديواننا وطموحاتنا، وهو عالم من المتعة والجمال والبراءة والصدق والثقافة يعكس المحبة وحركة الإنسان ويحمل معه التاريخ وهذا ما وجدناه في شعر العفيدلي في مختلف الأشكال التي كتبها كالنثر والتفعيلة والشطرين موضحاً أنه مطلع على الشعر العربي ومتابع للحركة الثقافية واستطاع تطويع ما يملك من معرفة لخدمة الشعر، فهو شاعر سوري صادق.

كما أوضحت الإعلامية أنسام السيد أن الشاعر العفيدلي يذهب إلى الأبجدية لصوغها شعراً، ومن خلاله رسم كثيراً من المعاني، وروحه حاضرة في نصوصه لأن كلماته جاءت طوع إحساسه وعكس ما عاشه على ضفاف الفرات ونقل الحاضر إلى المستقبل، مولعاً بالمحبة ومتجدداً بالحضور، وقصيدته إحساس يتسلل إلى القلب والروح إضافة إلى ثقافته ومعرفته.

وألقى الشاعر شفيق ديب عدداً من النصوص الزجلية التي حرص على صياغتها بأسلوب امتلك الصورة والموسيقا والإحساس والقافية، وذكر فيها علاقة الشاعر العفيدلي بوطنه وبأصدقائه، إضافة إلى نصوص عبر فيها عن محبته للحضور والمشاركين .

ورأى الدكتور الباحث مهدي دخل الله من خلال كتاب شهوة الخيال الشعري أن أعذب الشعر أصدقه، وعنوان المجموعة فلسفي ومبتكر إضافة إلى أن الشاعر كشف كثيراً مما لا يعرفه المجتمع عن مدينة الرقة، بما فيها من حضارة تاريخية، مبيناً أنها أول مدينة زرعت القمح في العالم وهذا من مكونات الحضارة العريقة، وأن الرقة لعبت دوراً كبيراً في مواجهة الإرهاب.

وعلى حين قال الدكتور الباحث خلف المفتاح: تميز شعر المجموعة وصاحبها بالصدق والتسامح والانتماء وفيض المحبة والتمسك برقي الرقة وحضارتها وفي المجموعة ما يتحدث عن أهمية وجود الشعراء في المجتمع لتأدية رسالة نبيلة وحضارية وإنسانية، ومنها ما يتحدث عن حب الإنسان لأخيه الإنسان، ويؤكد على الانتماء لمحافظته الحبيبة والفرات والأصالة.

وقدم صاحب المجموعة الشاعر العفيدلي عدداً من قصائده التي انتقاها وكانت قد تركت أثراً عذباً في الحضور لما فيها من ملامسة للهم والوجع ولمتانة الأسلوب ورقته، إضافة إلى قصيدة خص بها دمشق وما فيها من جمال ومحبة وعلاقة بالأصالة والتاريخ بأسلوب الشطرين وصدق العاطفة.

وأهدى الشاعر العفيدلي مجموعته (شهوة الخيال) الصادرة عن دار العراب في دمشق للحضور وعدد من الإعلاميين والمثقفين.

محمد خالد الخضر

مقالات مشابهة

  • جلسة حوارية تناقش إشكاليات التلقي في الشعر العربي
  • الحوثيون يفرجون عن القاضي عبدالوهاب قطران بعد أشهر من إختطافه
  • الركراكي حول تغيير أسلوب اللعب وفك دفاعات الخصوم: المدربين الكبار ومازال مالقاو الحل
  • صوت من البعيد «8»: الشعر والتاريخ في ديوان «صقر عماني»
  • كنز الجمال الطبيعي.. كيف يمكن لـ "الموز" تحقيق شعر صحي ولامع
  • تعرف على تفاصيل حفل عمرو دياب في دبي
  • المقاومة وفلسطين ومواضيع متنوعة في مهرجان شعري باتحاد الكتاب العرب
  • حج المخالفين بين الفتوى الشرعية وضيق اليد والمبالغة في التكاليف.. ما الحل؟
  • قراءات وانطباعات عن المجموعة الشعرية (شهوة الخيال) للشاعر عبد الكريم العفيدلي
  • أطعمة تنشط ذاكرة مرضى الزهايمر