إسرائيل.. انكِسارات الواقع والشّك الوجودي
تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT
انكِسارات الواقع والشّك الوجودي لإسرائيل
استمرار العدوان على غزة، يفاقم تعقيدات المشهد الإقليمي المرشّح لمزيد من التصعيد، الذي سيتحوّل إلى ثقوب سوداء في مستقبل الكيان الصهيوني.
أوقع 7 أكتوبر زلزالا هزّ أركان الكيان الصهيوني ومؤسساته سياسيا وعسكريا وأمنيا وشرخاً غائراً في يقين مجتمعه وشكًا وجوديًا حول مستقبله واستقراره.
تغيّرت نظرة العالم للكيان الصهيوني من دولة ديمقراطية متحضّرة إلى كيان محتل عنصري سادي فاشي يرتكب أسوأ مجازر وجرائم بحق الأطفال والمدنيين العُزْل.
أزمة الاحتلال تدفع بموجات هجرة معاكسة في مجتمع قلق مضطرب لا يقوى على الصمود والثبات في أرض ليست أرضه، بل أوهم نفسه أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض!
* * *
شهدت المجتمعات الغربية تحوّلات في الرأي العام، فتغيّرت نظرتها للكيان الصهيوني من دولة ديمقراطية متحضّرة إلى كيان محتل عنصري سادي فاشي يرتكب المجازر ويمارس أسوأ الجرائم بحق الأطفال والمدنيين العزّل.. الأناضول
بَنَت إسرائيل واقعها ومستقبلها على محددات وأسس سياسية أمنية داخلية وخارجية، رسّختها منذ قيامها قبل خمس وسبعين سنة، حتى أصبحت من سمات شخصية الكيان الإسرائيلي المحتل، ومواطنيه الذين عاشوا على استقرار تلك الصورة، مستبعدين اهتزازها أو تراجعها.
ولا سيّما مع تراجع حضور قضية فلسطين إقليمياً ودولياً باتّساع دائرة التطبيع مع العديد من الدول العربية في السنوات الأخيرة في ظلال اتفاقيات أبراهام وتحوّلها إلى منصّة سياسية بعيداً عن استحقاقات قضية فلسطين التي تعامل معها الاحتلال وشركاؤه العرب كأزمة اقتصادية أمنية اندثرت ملامحها الوطنية والقومية، حتى أضحت بضاعة يمكن المقايضة بها لاكتساب رضا واشنطن عبر البوابة الإسرائيلية، لتعزيز شرعية هذا النظام أو ذاك.
لقد اتّكأ الاحتلال في استقراره على استمرار الدعم الخارجي الغربي المفتوح، وخاصة واشنطن التي ورثت مكانة بريطانيا العظمى ودورها بعد الحرب العالمية الثانية، فتعاملت مع إسرائيل كركيزة استراتيجية في سياساتها الخارجية، فدعمتها عسكرياً بأفضل الأسلحة وأحدثها، واقتصادياً بمنحة سنوية تقارب الثلاثة مليارات دولار ناهيك عن الشراكات الاقتصادية، وحمايتها سياسياً وقانونياً في كافة المحافل والمؤسسات الدولية دون محاسبة أو انتقاد فاعل يمكن أن يؤثّر على دولة إسرائيل كمدلّلة للمنظومة الغربية.
هذا عزّز قوة إسرائيل، في جيشها وأجهزتها الأمنية التي هزمت جيوشاً عربية، واقتصادها النشط، ووحدتها الداخلية المستندة إلى قوة الجيش والاقتصاد معاً، وتحوّلها إلى قلعة محصّنة في نظر خصومها السابقين وأصدقائها الحاليين من أنظمة عربية هادنتها باعتبارها قدراً لا يُقهر.
تلك الحالة من القوّة المحميّة، صنعت كياناً متغطرساً، متبجحاً، متعالياً لشعوره بالمتانة الإقليمية والحصانة الدولية؛ فمن يجرؤ على نقد إسرائيل حتى تنهال عليه الاتهامات بمعاداة السامية وكراهية اليهود، في استدعاء لمظلمة تاريخية يُجلد بها كل رافضٍ أو منتقد، ليس لإسرائيل فحسب بل لسلوكها حتى لو خالف القوانين الدولية أو ما أجمعت عليه الأمم من قيم ومعتقدات أخلاقية.
جاء 7 أكتوبر وطوفان الأقصى زلزالا هزّ أركان الكيان ومؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية، وأحدث شرخاً غائراً في يقين المجتمع الصهيوني، محدثاً علامة استفهام كبيرة حول مستقبل الكيان واستقراره الذي ترسّخ عبر عقود خلت.
تجلّت أهم الانكسارات التي تعرّض لها الكيان الصهيوني، في العديد من المسارات التالية:
أولاً، فقدان الهيبة والردع، الذي شكّل حصناً عالياً من القوّة الباعثة على الخوف، باعتبار إسرائيل تعلم كل شيء عبر مجسّاتها الأمنية المنتشرة في كل مكان، وهي قادرة على توجيه ضربة عسكرية لكل من يفكّر في إيذائها أو التعرّض لها، وهي تملك الجرأة على محاسبة الآخرين على النوايا قبل الأفعال؛ فكانت معركة طوفان الأقصى أشبه بمعجزة متخيّلة، أطاحت بأهم حاجز اصطناعي ذكي اخترعه البشر للفصل بين غزة وفلسطين المحتلة عام 48، ومن ثم تجاوزه لإيقاع هزيمة مدوّية بفرقة غزة، ذات الصيت والخبرة، في أقل من خمسة ساعات، ناهيك عن فشل الاحتلال وبكل ما أوتي من وقوة ودعم أمريكي وغربي على تحقيق أي من أهدافه أمام صمود الشعب الفلسطيني والمقاومة وكتائب القسام في قطاع غزة. وهذا يعدّ سابقة لم تحصل في تاريخ الكيان منذ نشأته.
ثانياً، فقدان الأمن تدريجياً، على مدار نحو 4 أشهر من المعارك الدائرة في قطاع غزة وعند الحدود الشمالية لفلسطين مع لبنان، حيث نزح نحو نصف مليون مستوطن من الجنوب والشمال إلى داخل الكيان ومناطق الوسط، وخاصة تل ابيب، التي تتعرض بين الفينة والأخرى لرشقات صاروخية تنطلق أثناء المعارك البرية والانتشار الكثيف لسلاح الطيران الحربي والاستطلاع في سماء قطاع غزة، ما شكّل حالة من الاضطراب النفسي والقلق المتعاظم لدى الجمهور الصهيوني، وتحوّله إلى حالة مَرَضيّة تعجز عن مواجهتها مؤسسات الصحة النفسية التي اشتكت من خروج الأمر عن السيطرة بأرقام قياسية منشورة، (وفق المصادر الإسرائيلية؛ تم معالجة 9 آلاف جندي، و300 ألف إسرائيلي في مؤسسات الصحة النفسية بعد السابع من أكتوبر).
ثالثاً، تصدّع الوضع الاقتصادي؛ لا سيّما بعد أن ترك نحو 350 ألف عامل وموظف مواقعهم في كافة القطاعات الانتاجية وانضموا كقوة احتياط إلى جيش الاحتلال، ما أثّر على الاقتصاد الكلي من زراعة وصناعة وتكنولوجيا وخدمات..، بخسارة إجمالية وصلت لنحو 165 مليار دولار في أحدث دراسة، وتكلفة مباشرة للحرب بقدر 58 مليار دولار في ثلاثة أشهر ونصف الشهر منذ 7 أكتوبر حسب البنك المركزي الإسرائيلي.
وهذا يشكّل تحدٍ كبير أمام أفراد المجتمع الصهيوني واستقراره الذي يركن إلى قوّة الاقتصاد والدخل العالي، والسؤال ماذا سيكون مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي لو استمرت الحرب وتوسّعت؟
رابعاً ـ انهيار السردية والصورة؛ لا سيّما بعدما قبلت محكمة العدل الدولية النظر في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا باتهامها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، في وقت شهدت المجتمعات الغربية تحوّلات في الرأي العام.
فتغيّرت نظرتها للكيان الصهيوني من دولة ديمقراطية متحضّرة إلى كيان محتل عنصري سادي فاشي يرتكب المجازر ويمارس أسوأ الجرائم بحق الأطفال والمدنيين العزّل، ما خلق صدمة وتحوّلات عميقة في الوعي العالمي، وخاصة في جيل الشباب، تجاه إسرائيل المارقة، الأمر الذي أضفى مزيد من الشرعية على النضال الفلسطيني، ونزع الشرعية عن الاحتلال وممارساته الوحشية.
خامساً ـ تراجع الثقة في الجيش والقلق من المستقبل؛ فلطالما مثّل الجيش والأجهزة الأمنية قلعة حامية لجمهور قلقٍ مضطرب، لشعوره اللا واعي بسطحية علاقته بهذه الأرض، فهذا الجيش وهذا الجندي الذي لا يقهر انهار في السابع من أكتوبر بطريقة "مخزية" لدولة إسرائيل.
واستمر في تجرّع كأس الفشل في قطاع غزة، لا سيّما بعد الفشل الكبير في تحقيق أي من الأهداف التي رفعتها قيادة الاحتلال ووزارة الحرب من القضاء على حركة حماس، والإفراج عن الأسرى بالقوة المسلحة، وتأمين محيط قطاع غزة لعودة المستوطنين إلى مستوطناتهم، علاوة على إبداء الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية صموداً أسطورياً أذهل القريب والبعيد، ما عزّز اليقين لدى الفلسطينيين بالتحرير والعودة، وعمّق الشك لدى الصهاينة في شرعيتهم واستقرارهم البعيد على هذه الأرض.
تلك المعطيات وغيرها من الانكسارات الواقعية شكّلت تحديات جديدة أمام مجتمع الاحتلال الذي كان يعاني من انقسام سياسي وصراع على هوية الدولة، قبل 7 أكتوبر.
صعود اليمين الصهيوني الديني المتطرف، المؤمن بخرافة إسرائيل الكبرى، وقدرته على فرض سيطرته الكاملة على فلسطين بعد تهجير أهلها منها، يعيد الصراع إلى جذوره، ويؤسّس لصدام وجودي عميق ليس فقط مع الفلسطينيين وحدهم بل مع شعوب أمة عربية إسلامية آخذة في امتلاك زمام المبادرة والتحرك في مواجهة مجتمع صهيوني نازي تقوده زمرة حالمة متطرفة مقامرة.
إنّ استمرار العدوان على غزة، سيزيد من تعقيدات المشهد في الإقليم المرشّح لمزيد من التصعيد، الذي سيتحوّل إلى ثقوب سوداء في مستقبل الكيان الصهيوني الذي لا يملك القدرة على استمرار الصراع والمواجهة المفتوحة، وهي تجربة لا يقوى عليها مجتمع تعوّد على رفاهية العيش، وجيش تعوّد على حسم معاركه المدبّرة في أيام وأسابيع معدودة.
وهذا بدوره سيؤسّس لموجات هجرة معاكسة في مجتمع قلق مضطرب لا يقوى على الصمود والثبات في أرض ليست أرضه، في أرض أوهم نفسه بأنها بلا شعب لشعب بلا أرض، وسيُدرك قريباً أنه عبارة عن نبتة موسمية بلا جذور، وأكذوبة مصطنعة لا تقوى على الصمود أمام عاصفة التحرير والعودة التي بدأت ترسم معالمها منذ 7 أكتوبر، وهذا ما تشير له العديد من الدراسات والاحصائيات العبرية التي تشير إلى مستويات متقدّمة من عدم اليقين لدى شرائح واسعة من الجمهور الإسرائيلي الذي بدأ يفكّر بالهجرة إلى أوطانهم الأصلية، بحثاً عن أمانٍ ورغد عيشٍ بدأوا يفقدونه في كيانهم؛ إسرائيل المحتلة.
*د. أحمد الحيلة كاتب وباحث فلسطيني
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: إسرائيل احتلال فلسطين غزة 7 أكتوبر طوفان الأقصى عدم اليقين معاداة السامية كراهية اليهود العدوان على غزة الکیان الصهیونی قطاع غزة رة إلى
إقرأ أيضاً:
إسرائيل تصعّد اقتحاماتها واعتداءاتها في الضفة
تشهد الضفة الغربية المحتلة تصعيدا ميدانيا خطيرا ومتواصلا من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، يشمل عمليات اقتحام واعتداءات واسعة في مختلف المحافظات، وسط موجة قمع متصاعدة منذ بدء الحرب على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
واقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي – أمس الخميس – مدينة البيرة وعدة بلدات وقرى في محافظة رام الله والبيرة.
وأفادت مصادر أمنية بأن الاقتحامات شملت حي أم الشرايط في مدينة البيرة وبلدة ترمسعيا وقرية عجول شمال المحافظة، إلى جانب بلدتي بيتونيا وبيت عور الفوقا غربا، وقرية دير نظام شمال غرب رام الله.
وخلال الاقتحامات، داهمت قوات الاحتلال عددا من المنازل والبنايات السكنية، وسط ترويع السكان وتحطيم محتويات منازل في بعض المناطق.
ولم ترد حتى الآن تقارير مؤكدة عن عدد المعتقلين أو الإصابات في هذه العملية، لكن شهود عيان أكدوا وقوع عمليات تفتيش عنيفة ومواجهات محدودة مع شبان فلسطينيين.
متابعة .. جانب من اقتحام قوات الاحتـلال دوار المنارة وسط مدينة رام الله بالضفة الغربية pic.twitter.com/V1vzoD1ksT
— المركز الفلسطيني للإعلام (@PalinfoAr) May 8, 2025
وفي جنوب نابلس، اقتحمت قوات الاحتلال قرية اللبن الشرقية مساء الخميس، حيث أطلقت قنابل الغاز السام والصوت بكثافة تجاه الفلسطينيين ومنازلهم، ما أدى إلى إصابة العشرات بحالات اختناق.
إعلانوأكدت مصادر محلية أن قوات الاحتلال منعت تحرك المركبات داخل القرية طيلة ساعة من الاقتحام.
إصابات واعتقالاتكذلك، شهدت بلدة الخضر جنوب بيت لحم اقتحاما جديدا من قوات الاحتلال، التي تمركزت في منطقة "البوابة" ونشرت قناصة على الأسطح.
وأطلقت القوات الرصاص الحي وقنابل الغاز، ما أسفر عن إصابة شاب بعيار ناري في القدم، وطفل بشظايا في الصدر والوجه. كما ألحق الجنود أضرارا بمحل تجاري بعد تكسير واجهته الزجاجية.
وفي بلدة طمون جنوب طوباس، أصيب فلسطينيان، أحدهما مطارد كان هدفا للعملية، حيث أطلقت قوات الاحتلال الرصاص عليه قبل أن تعتقله، وسط حصار لمنزله ومنع طواقم الإسعاف من الوصول إليه.
وتمت العملية بعد تسلل وحدة إسرائيلية خاصة إلى البلدة، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات مسلحة مع مقاومين فلسطينيين قبل انسحاب القوة.
دمار ممنهجوفي سياق متصل، تواصل قوات الاحتلال عدوانها على مدينة جنين ومخيمها، حيث تقوم بعمليات تجريف وهدم واسعة النطاق داخل المخيم.
ووفقا لمسؤولين محليين، تهدف عمليات التجريف إلى تغيير معالم جنين بالكامل وطمس هويتها. وتشير تقديرات البلدية إلى أن إسرائيل هدمت ما يقرب من 600 منزل بالكامل، بينما تضررت مئات المنازل الأخرى بشكل كبير.
كما حوّلت قوات الاحتلال مدرسة الإناث التابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى ثكنة عسكرية، استخدمت لتخزين العتاد والطعام والنوم، وسط أعمال تخريب في الصفوف والمرافق.
وفي بلدة برطعة شمال غرب جنين، اقتحمت قوات الاحتلال منزلا واعتقلت منه شابا بعد تدميره وتفتيشه. كما واصلت القوات إغلاق حاجز برطعة، وهو المعبر الحيوي الوحيد لسكان البلدة وقرية طورة.
وتعيش محافظة جنين حالة من الشلل الاقتصادي والاجتماعي، مع نزوح أكثر من 22 ألف شخص، وخسائر مادية تجاوزت 300 مليون دولار، بسبب الدمار الكبير في البنية التحتية والمنشآت التجارية.
إعلانوفي تطور مأساوي آخر، استشهد الأسير الفلسطيني المحرر والمبعد معتصم رداد في أحد مستشفيات مصر، متأثرا بمرض أصيب به داخل سجون الاحتلال.
وأفرجت إسرائيل عن رداد، المنحدر من بلدة صيدا شمال طولكرم، ضمن صفقة تبادل في يناير/كانون الثاني الماضي، قبل أن يتم نقله إلى مصر بسبب تدهور حالته الصحية.
ومنذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، صعدت قوات الاحتلال من اعتداءاتها في الضفة الغربية، حيث استشهد أكثر من 961 فلسطينيا، وأُصيب نحو 7 آلاف آخرين، بالإضافة إلى اعتقال أكثر من 16 ألفا و400 فلسطيني.