عن الطفل الشهيد يوسف أبو شعر كيرلي وأمثاله
تاريخ النشر: 5th, February 2024 GMT
يظهر الطبيب الفلسطيني محمد حامد أبو موسى على الفضائيات حتى وقت قريب كالآلاف من ذوي الشهداء في غزة؛ ثابت الجنان، يراعي عمله بمهنية ورقي رغم جرحه الشديد باستشهاد نجله الأصغر يوسف (7 سنوات).. اشتهر الأخير عربيا بسبب وصف والدته أثناء البحث عنه في المستشفى قبل أن تعرف باستشهاده: "شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"، خاصة أن صوتها كان ممتلئا بالشجن وكادت تبكي في منتصف الكلمات.
عرف الغرب الشهيد الصبي بسبب ترجمة مجموعة من الشباب العرب لقصة حياته واستشهاده عبر تقنية "الذكاء الاصطناعي"، وهو ما يتمنى كل مخلص لأمته أن يتوافر للآلاف من شهداء غزة وفلسطين صغارا وكبارا. فخلف كل شهيد اليوم وأمس ومنذ بداية المعركة الممتدة مع العدو الصهيوني قصة تستحق أن تُروى وتُدرسَ وتخلد، ليبقى النضال من أجل نصرة القضية الفلسطينية المركزية من قضايا الأمة العربية والمستضعفين بعامة.
ستبقى ذكرى يوسف أبو موسى العطرة في دنيانا، كما سيبقى مصيره وجميع أمثاله من الشهداء في حواصل طير أخضر في أعلى الجنان.. شاءت الأقدار أن يكون مصور شاب بارع بكاميرا ثابتة قريبا من أبيه الطبيب في المستشفى لحظة لقائه بأمه؛ التي كانت ما تزال تبحث عن أصغر أبنائها متمنية أن يكون حيّا. تتبعهما المصور وهما يسألان في قسم الطوارئ، اختصر الفيديو وجزّأه لمشاهد لم تُخل بالمضمون، شملت هرولة الأب وخلفه زوجته في أنحاء المستشفى، بينما في الواقع سبقهما قصف في نفس الليلة في المخيم القريب من منزل الطفل. استشهد يوسف وعدد من صغار وكبار العائلة التي تقيم في بيوت متجاورة، كان الصبي يعاني الجوع نتيجة للحصار اللا آدمي، خرجت أمه لتستعير من جيرانها ما يستر جوعه فتم قصف الحي وهدم البيت عليه!
عايش الملايين الأم وهي تصرخ بلهجة مصرية -نظرا لأمها المنتمية لمحافظة الشرقية-: "يارب نلاقيه.. يا رب"، يرد الأب في محاولة للتمسك بالأعصاب المتوترة: "ما أنا قاعد بدور عليه".. يمضي الموكب الصغير حتى يجد شبابا تطوع بنقل المصابين والشهداء وتوثيقهم بكاميرا أخرى، يرى الأب صورة ابنه فيها، يكرر السؤال: "أين وجدته؟!"، يصمت الشاب حياء ووجعا، يعيد الأب السؤال الملهوف، يجيبه زميل الشاب في أسى وتوتر مكتوم: "حملتُه للثلاجة"، يمسك الأب برأسه، يشعر بالدوار، يكاد يسقط، يدرك أن عليه الانتقال للمشرحة في مبنى آخر من المستشفى، يقف بعد دقائق قليلة عند درجات السلم القليلة المؤدية إليه، يتوقف الركب البشري القليل العدد محتارا ومضطرا، تصرخ زوجته:
- اطلع، "يمكن مش هو"؟!
يدخل الأب المشرحة لثوانٍ، تتخلى قدما الأم عنها، تجلس في الخارج، ترن الكلمات من فم شاهدة على ما يحدث، تقول باختصار ووجع متمنية أن تكون الإجابة بالنفي: "أهو؟!"، يخرج الأب مهرولا، يجيء ضمير الغائب في المرة الثانية مفجوعا: "هو"! تبدأ كلمات التعزية والتصبير في التتالي، يحسم المشهد الأب المكلوم، يقول في استسلام المُجهد:
- دعوني جميعا.. الحمد لله على كل حال وحسبنا الله ونعم الوكيل.
يخرج إلى حيث تجلس زوجته، لا يجيب عن أسئلتها، تحاول امرأة مقربة منها تهدئتها تصرخ:
- وجدتم يوسف.. رأيتم حبيبي.. خدوني ليه.
تحاول المرأة التراجع، تبكي الأم صارخة "يجب أن أراه"، فيما أخو الشهيد الذي يكبره بعام أو أكثر قليلا يصرخ، تعود القافلة الصغرى للمشرحة، تميل الأم لتقبيل ابنها الراحل، يحذر شقيقها الواقف وراءها -دون أن تراه- من أن يكشف الطبيب الذي يعرض الجثمان وجه الشهيد بالكامل لئلا ترى الأم ما خلّفه القصف عليه، تُقبله وتقول في أحد الفيديوهات بعدها إنها كانت حريصة على أن تكون "قوية" لئلا ينهار زوجها، أرادت أن تبقى صلبة لئلا "يقع".. تحمد الله بعدها أن ابنها لم يمزق القصف جثمانه لكي يبقى "جميلا" في مخيلتها طوال عمرها.. يتمنى الأهل في فلسطين وغزة اليوم أن تنجو جثامين أحبابهم من التمزيق!
تمنى كل محب لأمته ولكفاح الأشقاء الفلسطينيين أن تأخذ هيئة أو مؤسسة عربية منصفة على عاتقها ترجمة مثل هذا الفيديو للإنجليزية وغيره ليفهم الغرب معاناة الفلسطينيين "أكثر"، وليعرفها الذين لا يعرفونها. ما يزال العالم يرى أفلاما من "بوليود الهندية" و"هوليود الأمريكية" وغيرهما لتمجيد الذين هم أقل شأنا بمراحل، ويبقى شهداؤنا دون أن يعرف العالم عنهم شيئا. لم يعرف أحد معلومات تفصيلية عن الشهيد يوسف أبو موسى والآلاف من الأطفال من أمثاله الذين يُستشهدون منذ الساعة الأولى ومن الأسبوع الأول للمحرقة الهائلة على غزة وفلسطين، من مثل يوسف والآلاف غيره، حتى جاءت مجموعة شباب في مؤسسة إعلامية فقدمت الصورة شبه كاملة عنه وكأنها على لسانه، باللغة الإنجليزية.
لكَم يتمنى كل مناضل حر ألَّا تهدر قصص هؤلاء في الدنيا مثلما أُهدرت دماؤهم، يوقنون -أيضا- أن الشهداء جميعا في خير حال لدى خالقهم، أحياء، ولكن سكان الأرض حتى حين بحاجة لقصصهم كي يستمروا في رفع رؤوسهم مفتخرين بهم، غير متناسين ولا متعودين على سفك دمائهم كما يتمنى العدو بإدامة العدوان، حتى ليتجاوز يومه المائة على غزة وأطراف من فلسطين الحبيبة. دوامُ تذكّر مثل هذه القصص ووضعها أمام أعين العرب والعالم يعين على تغيير واقع أليم، ليبقى أمام الأجيال أن أمة العرب تستحق الحياة مهما أحاطت بها الأحزان!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطيني الشهداء الأطفال فلسطين الاحتلال أطفال شهداء مجازر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
تفاصيل من حياة المصور الشهيد حسن اصليح لم تُرو من قبل
غزة- كان يُقلّب الكاميرا بين يديه كمن يحمل كنزًا ينقّب عن مفاتيحه، يدور بها بين المصورين في أوقات فراغهم حين كان بينهم متطوعا في أروقة قناة القدس، يسأل عن أزرارها، ويتأملها بعينين تقدح فيهما شرارة الحلم، لم يكن حسن اصليح مجرد شاب متدرب في مطلع الـ20 آنذاك، بل كان صاحب حلم مدفوعًا بطاقة داخله لا تهدأ، ونهَم لا يشبع من التعلم.
قابلت الجزيرة نت درويش بلبل مدير المصورين في قناة القدس سابقا، الذي عاد بذاكرته 15 عاما إلى الوراء، حين صعد حسن سلّم التصوير درجةً درجة، من مساعد يحمل العدسة لأول مرة، إلى مصور محترفٍ يقع عليه الاختيار لتصوير أعقد اللحظات وأكثرها تأثيرا.
يقول درويش "كان حسن يؤمن أن ما يفعله ليس مهنة، بل رسالة يُعبر فيها عن شغفه بهوايته وحبه لعمله، فلا عطلة تُغريه، ولا راحة تستوقفه".
أخذ حسن على عاتقه أن يكون ظلا للطبقات المهمشة والهشة، يوصل صوتهم ويركز على نقل قصصهم، مما جعله قريبا منهم، وعن ذلك يقول درويش "لم يكن حسن عابرًا في حضوره ولا في أثره، لقد كان له قبول لافت، لدرجة أننا كنا نقول له لو ترشحت للرئاسة لفزت بلا منافس".
ويرى درويش أن ما ساعد حسن خلال عمله هو ذكاؤه الاجتماعي، وبناؤه لعلاقات مع المسؤولين وأصحاب القرار الذين كان يقابلهم، مما عزز من مصادره التي اعتمدها فيما بعد في خطوات مسيرته العملية.
بعد 5 أعوام قضاها حسن في قناة القدس، عبر خلالها العتبة الأولى في حلمه بثقة، بدأ عقب ذلك عمله الحر، الذي قفز خلاله بخطوات واسعة نحو القمة، حيث صنع لنفسه اسما على منصات التواصل الاجتماعي، وصار مصدرا إعلاميا موثوقا لملايين المشتركين في قنواته ومنصاته.
إعلانلاحقا، أطلق حسن وكالة أنباء "علم 24" الخاصة به، كما عمل مع عدد من المؤسسات الإعلامية الدولية الأجنبية والعربية بالتزامن مع ذلك.
ورغم أن حسن ولد وعاش في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، فإن كل زوايا القطاع كانت ميدانه، متنقلا بين أرجائه من أقصى الجنوب لأقصى الشمال في يوم واحد، فكان في كل مرة أول مصور يقتحم بعدسته ميدان التغطية، بين الناس ومعهم، ملاحقا الخبر والصورة أينما كانت.
لا عقبات أمامه
يكشف صديق حسن المقرب منه الصحفي أشرف أبو عمرة، للجزيرة نت، أن حسن كان يعاني مرضا نادرا اسمه حمى البحر الأبيض المتوسط، حيث كان يمر بنوبات من الحمى والألم الجسدي والطفح الجلدي دون وجود علاج له داخل القطاع، لكنه كان يقاومه وينطلق للميدان في أول لحظات تعافيه دون أن يستسلم له.
"لم يقعده مرض ولم يوقفه تهديد" يقول أشرف واصفا صلابة صديقه، ويتابع "كان التهديد لحسن متواصلا، حيث أُنشئت صفحات خاصة للتحريض عليه، ونظمت حملات إعلامية لمهاجمته منذ اليوم الأول للحرب".
سألته الجزيرة نت عن كيفية تعاطي حسن مع هذه التهديدات، فأجاب "كان حسن يقول لنا: إن كانت تهمتي أنني أوثق معاناة الناس المطحونين في غزة فليقتلوني وأنا على رأس عملي، لن أمنحهم مرادهم ولن أتوقف عن التغطية".
لم تتوقف محاولات إسكات الصوت وحجب الصورة التي كان لحسن السبق في نشرها، حيث حُذفت منصاته على مواقع التواصل أكثر من 15 مرة، ورغم اشتراك الملايين من المتابعين فيها، فإن "المحارب حسن" كما يصفه صديقه لم يعرف اليأس، وكان يعود من جديد في كل مرة.
يقول أشرف "كانت قناة التلغرام الخاصة بحسن مصدرا أول للفلسطينيين، الذين كانوا يقولون دوما: إذا لم ينشر حسن الخبر فالخبر ليس أكيدا".
يختم أشرف حديثه للجزيرة نت بصوت متهدّج "لم يكن حسن رفيق مهنة، بل كان أخي وجزءا مني، ملازما لي في حلي وترحالي، وما زال صوته يتردد في أذني، أفتقده في كل لحظة ولا أتخيل حقا أنه رحل بلا عودة".
نجا حسن من أولى محاولات استهدافه في السابع من أبريل/نيسان الماضي، حين قُصفت خيمة الصحفيين مقابل مستشفى ناصر في خان يونس، والتي استشهد فيها عدد من الصحفيين واحترقوا، بينما أصيب هو مع زملاء آخرين.
إعلانوبينما كان حسن يتلقى علاجه على سرير مشفى ناصر، لم يعر الاحتلال أي اعتبار للزمان أو المكان، إذ لاحقه بصاروخ في غرفته في المشفى في مايو/أيار ليستشهد على الفور.
مكث بين الاستهدافين 35 يوما، والتي رأت فيها زوجته آلاء مسمح الفرصة لتجلس مع زوجها، الذي حرمتها الحرب من رؤيته سوى عبر لقاءات خاطفة لبضع دقائق سريعة.
تقول آلاء "كان زوجي يخشى أن يُستهدف وهو معنا، فكنا نلتقي سريعا في أماكن عامة عدة دقائق، نحاول فيها إطفاء الشوق، فكانت مليئة بعناق أطفاله والوصايا والحاجيات، إلى أن أصيب، فصرت أتردد عليه يوميا لتلمس حاجاته والاطمئنان عليه".
قبل 14 عاما، بدأت آلاء حكايتها مع حسن، كشاب بسيط حالِم، يملك وظيفة متواضعة وقلبًا كبيرًا، وإصرارًا على صناعة حياة مختلفة، لم يرضَ خلالها أن تبقى زوجته بلا شهادة جامعية، فأصر على أن تكمل تعليمها رغم بساطة الحال.
أنجبا 4 أطفال، أكبرهم عبد الفتاح و3 فتيات هن منى وإيمان وميلا، كان قوله الذي يكرره لهم دوما مبررا غيابه عنهم "كل شيء أفعله في حياتي من أجلكم".
بعد سنوات من العمل، قرر حسن أن يبني منزلا يتّسع لعائلته، وعلى مدار عامين بدأ بتأسيسه حجرا حجرا، حتى أصبح البيت حقيقة ماثلة على الأرض، قبل الحرب بأيام كان وزوجته يختاران الأثاث، ويخططان للانتقال، لكن الصواريخ الإسرائيلية لم تمنحهم العيش فيه لحظة واحدة.
أيام الحرب
"يبدو أنها ستكون حربًا طويلة وقاسية" قال حسن لزوجته في صباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين كان يجمع معداته ويتجهز للخروج من المنزل، لم تكن تعلم أنها وأبناءها قضوا الليلة الأخيرة في كنفه، وأن هذا آخر عهدها به، لتبدأ آلاء وحدها رحلات النزوح المتكرر دونه.
تقول للجزيرة نت "نار كانت تضرم في صدري في كل ليلة من شهور الحرب الأولى، خاصة في الوقت الذي انقطعت فيه الاتصالات، فلم أكن أعلم هل هو حيّ أم في عداد الشهداء"، لكن رسائله التي كان يباغتها بها بين كل فينة وأخرى كانت تضخ الحياة في شرايينها، حسب وصفها.
إعلانطلب حسن من زوجته إحضار ابنته الوسطى إيمان قبل قدومها إليه، حيث كانت تصحب أطفاله إليه في المشفى بالتناوب، تقول آلاء عن تفاصيل لقائهما الأخير "أجلس ابنته في حجره وظل يتأملها ويقبلها، كان وداعا صامتا وفائض حب لا يُفسر، لم أتوقع قط أن يكون الأخير".
خلال جلوس آلاء مع زوجها، قام بتسديد كل ديونه، كفل عددا من الأيتام، وأطلعها على تفاصيل جديدة، وأوصاها كثيرا، تقول "لا أعرف كيف غاب عني أنه يودعني، ثم أهديته قميصين ارتدى أحدهما، ولم أكن أعلم أنه سيزف إلى الجنة فيه".
وحين همّت آلاء بالمغادرة، وقفت عند باب الغرفة كأن شيئا ثقيلا يكبل قدميها ويمنعها من الخطو، التفتت إليه فسألها "ما بك؟" فأجابته "حين أغادر من هنا أشعر أن روحي تنسلخ مني، لا أعرف الراحة أو السكينة وأنا بعيدة عنك".
تختم آلاء حديثها للجزيرة نت بقولها "أكثر ما واساني بعد استشهاد حسن، لم يكن الصبر وحده، بل ذلك الحب الجارف الذي غمرني من الناس، حبهم له فاجأني، وجعلني أشعر أنني لا أعيش فقط بوصفي زوجته، بل زوجة رجل عظيم ترك أثرا لا يُنسى في قلوب الجميع".
رحل حسن عن عمرٍ ناهز 38، حمل فيها هموم شعبه على كتفيه، وواجه آلة القتل الإسرائيلية بكلمة وصورة وحق لا يزول، ظنّت إسرائيل أنها بخلاصها منه تُسكت صوته، لكن ما لم تدركه هو أن حسن لم يكن فردا، بل كان بداية لجيش كامل من الصحفيين الذين تعلموا منه، والذين سيكملون الطريق من بعده كما يقولون.