موقع النيلين:
2025-10-15@04:52:00 GMT

نحن راجعين المعيلق

تاريخ النشر: 16th, February 2024 GMT


في طريق العودة رأيتُ قطار الجزيرة الأخضر يخب مُسرعاً تحت سحابة داكنة، كأنها تطارده، تذكرت أول مرة اعتليت ظهره وفي يدي كتاب، بدا مثل قطار غار دي ليون وهو يطوي المسافات بين باريس وجنيفا، بدت لي محطة المعيلق أشبه بمحطة حيدر باشا التي تقع في النطاق الآسيوي من إسطنبول، تذكرت أول رحلة لي إبان الحقبة البشيرية، وقد (دور حديدو) بالفعل في موعده المضروب من محطة بحري، تحركت الحجرات تباعًا، لاح لنا القصر الجمهوري، ذلك العرين الرحب للسُلطة، أسير الحرب الأكثر تعاسة اليوم، لم يعد يملك وصفة للحصول على الخبز والسكر والحليب والأمن، دعك من أن يخطط للمستقبل في بلد يموج بالكوارث ويتحفز لمجاعة ليست أقل فداحة من مجاعة سنة ستة، في ذلك الوقت انشغل الخليفة عبد الله التعايشي بالحرب وأهمل الزراعة والتجارة، عطفاً هلاك الماشية والمرض والهجرة، مثل ما يحدث حاليًا تماماً، عبرنا جسر الحرية، علّق أحدهم قميصه على الجسر، أظنه عامل حكومي لم يفهم المفارقة العميقة لجسر حرية يطل على السجانة! فوق مدخل حجرة القطار الأولى كانت تنتصب شاشة بلازما أنيقة، يغني منها محمد النصري بصوته المحزون ” طوّل وفجأة بان ذكّرني أيامنا الزمان يا حليلو .

.” فجأة رأيتها، هى نفسها تلك التي عرفتها لسنوات طويلة، أعرفها من ندبة في القلب، بدت حزينة وساهية وكبيرة، أكبر من كل الهموم حولنا، اقتربت منها بحذر، قصدت جرح ذاكرتها: “بالله شوفي كمية الحنية في يا حليلو دي؟” ابتسمت بحفاوة، دون أن ترفع رأسها. كم وقت يلزمني لصب (الياحليلات) على كأس الفجائع، على الخرطوم، على الجزيرة والمعيلق تحديدًا، على دارفور والجامعات والمصانع المُدمرة، والجدان العتيقة المُدمّاة، أم على نزق الصبا، وزفة المولد ورمضان أحلى في السودان، طلة الحُجاج أمام بيوتهم المزينة بعبارات على شاكلة “حجا مبروراً وسعياً مشكورا” كل شيء تتذكره تنسحب فوقه عنوة يا حليلو تلك. نظرت إلى السماء مجدداً فلم أرَ طيور الجنة والرهو والسحب التي تفك أزرارها لتسقينا، فقط سمعت صوت النصري” دق الرعد،، طبلو المخيف،، قامت تلاقيح الخريف،، ختتنا في حدوة حصان، ياحليلو ..” كمية رهيبة من الأسى، رأيت المعزولين بين قنطرتين، العابرون في زمن عابر، شارع الموت نفسه، والأرواح العزيزة التي صعدت منه إلى السماء، وكيف كان رحيماً مقارنة بهجمات وحوش الدعم اليوم، تذكرت الأمهات المفجوعات، ودعوت لهن، لحياة أقل فداحة، لأجل الإنسان المنكوب، لأجل مرضى السرطان والفشل الكلوي الذين فقدوا حقهم في العلاج، هربوا بأوجاعهم وماتوا في الطريق، للهاربين من ذكائهم، على وصف المجذوب، فجأة وقفت شامخة، كنخل الحجاز، هى نفسها تلك الجميلة المُسافرة، بسمتها وقوامها المنخرط في الدلال، قالت بصوت حنون: لم أنساك بالطبع. مسحت عن قلبها صدى لحن قديم، ضمن عشرات الأغاني التي أبدع فيها حمد الريح، علقت تلك الأغنية في ذاكرتي وروحها، عرفتني حين نبهتني إلى شريط الكاست وكيف كنت أقوم باسترجاعها بطريقة يدوية، عدة مرات في اليوم، في قريتنا هنالك بالجزيرة غرب السكة حديد، في منتصف سنوات الحرمان، لا تملك حيلة للاستماع للأغاني التي تحبها، إلا من خلال ما تجود به الإذاعة أو أشرطة الكاست، أو حفلات الزفاف الموسمية بالطبع، ومن بينها حفل زواج يؤرخ به في الأرجاء هنالك، صحوتُ مفزوعا من نومي المجذوذ، صحى القلب أولاً تحت وقع ضربات المندولين، ماندولين تريفيلا، وتسخينة الساوند ” ون تو ثري “، وقد تناهى إلى سمعي صوت اللمين الضو، المُبهج الطروب، غني فبرزت سنه الذهبية، ثمة ما يشتبه على الذاكرة بما يسمونها الحنجرة الذهبية، وتلك السِن، سيغني أيضاً حتى الفجر، وينتهي إلى لحن الختام وتختفي العروس والمكان والدنيا ” نحن راجعين في المغيرب، نحن راجعين المعيلق .. المعيلق في المغيرب.
عزمي عبد الرازق

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

سلام القبور.. وشرم الشيخ التي صمتت على بكاء غزة

ذهب اليوم ترامب إلى الكنيست، وخطب لمدة ساعة، يطلب من الرئيس الإسرائيلي العفو عن نتنياهو، واصفًا إياه بأنه “أعظم رجل رأيته أثناء الحرب”. ثم غادر مسرعًا إلى شرم الشيخ، حيث كانت طائرات الأمراء والرؤساء العرب مصطفة، تنتظر “الرجل الفاتح” الذي جاء ليعلن السلام، بعد سبعين ألف قتيل من الأطفال والنساء والشيوخ، وبعد أن دُمّرت غزة عن بكرة أبيها. جاء ليمنح جزار الحرب ميدالية “السلام” على أكبر إبادة شهدتها البشرية المعاصرة.

هنيئًا للأمة العربية والإسلامية بهذا اليوم “التاريخي”، وبهذا الاستقبال “الدستوري” للرجل الذي أطلق على النار اسم “السلام”. فبعد هذا اليوم سيعود نتنياهو ليعلّق من جديد خارطة “إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات، وستُرفع رايات الوصاية على القدس تحت مسمى “الوصاية المسيحية الإنجيلية”، فيما تتحول القاهرة – وفق أوهامهم – إلى عاصمة الدولة العبرية الجديدة. تلك ليست خيالات سياسية، بل خرافة توراتية تتحول إلى مشروع سياسي-عسكري تدعمه العقيدة الصهيونية-الإنجيلية، التي يتبناها ترامب ومن خلفه تكتل الإنجيليين الجدد في واشنطن.

نحن لسنا ضد اليهود، ولا ضد الديانة اليهودية التي نؤمن بأنها ديانة سماوية منبعها الوحي الإلهي، وأتباعها أبناء عمومتنا في التاريخ والإيمان. ولكننا ضد المشروع الصهيوني-الإنجيلي الذي اختطف الدين ليبرر الاحتلال والقتل والتطهير العرقي. هذا المشروع لا يستهدف أرضًا فقط، بل يسعى لإلغاء هوية الأمة، ومحو إرثها الديني والحضاري، تحت خرافة “عودة المسيح” التي تتطلب – في عقيدتهم – إبادة ملايين المسلمين وهدم المسجد الأقصى لإقامة “الهيكل”.

المفارقة أن ذات اليوم الذي اصطف فيه الزعماء في شرم الشيخ لرسم خارطة “السلام”، كان هو نفسه اليوم الذي مات فيه أطفال غزة جوعًا تحت الأنقاض. “آمنة”، و“علي”، و“أيمن” وغيرهم من أطفال غزة، لفظوا أنفاسهم الأخيرة بينما كانت الأضواء تلمع في قاعة الاستقبال، وعدسات الكاميرات تلتقط ابتسامات القادة. أي سلام هذا الذي يُرسم على موائد الدم؟ وأي شرعية أخلاقية يمكن أن يحملها اتفاق تُوقع أوراقه على أنقاض البراءة؟

لقد انقلب مفهوم “السلام” في القانون الدولي إلى أداة تبرير لهيمنة الأقوياء. فبدل أن يكون وسيلة لحماية المدنيين، صار وسيلة لشرعنة القتل وتجميل الاحتلال. المبدأ القانوني القائل بأن “العدالة أساس السلام” تم استبداله بسياسة “السلام مقابل الصمت”، في تناقض صارخ مع مقاصد ميثاق الأمم المتحدة الذي نصّ على “حظر استخدام القوة ضد سلامة أراضي الدول”. واليوم يُكافأ المعتدي ويُعاقَب الضحية، ويُسدل الستار على جريمة الإبادة باسم “السلام الشامل”.

من الناحية القانونية، ما جرى ويجري في غزة لا يندرج إلا تحت مفهوم جرائم الحرب والإبادة الجماعية المنصوص عليهما في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، وخاصة المادتين 6 و8 منه. أما الصمت العربي والدولي فهو مشاركة ضمنية في الجريمة، لأن القانون الدولي لا يعترف بـ“الحياد” في مواجهة الإبادة. إن الامتناع عن إنقاذ المدنيين، أو دعم من يرتكب الجريمة، يشكل مشاركة غير مباشرة في الفعل المجرّم.

لكن أخطر ما في المشهد ليس القتل ذاته، بل تحويل القتلة إلى “صنّاع سلام” والمجرمين إلى “أبطال دبلوماسية”. إن العالم اليوم يعيش انقلابًا أخلاقيًا حقيقيًا، حين تُمنح الميداليات على أنقاض الطفولة، ويُكرم السفاح باسم الإنسانية. والأنكى أن بعض الحكومات العربية باتت تُصفق لذلك بدعوى الواقعية السياسية أو المصالح الاستراتيجية، متناسية أن القانون الدولي ذاته قام على فكرة أن “الحق لا يسقط بالتقادم، وأن دماء الأبرياء لا تُقايض بالصفقات”.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد انحراف سياسي، بل انهيار لمفهوم العدالة في العلاقات الدولية. لقد سقطت الأقنعة، وسقطت معها هيبة القانون، حين أصبحت شرم الشيخ مسرحًا لتكريم المجرمين بدل محاكمتهم، وحين صار الصمت هو الثمن الذي يُدفع لقاء البقاء في مقاعد السلطة.

سلام بلا عدالة هو سلام القبور، وسلام بلا كرامة هو هدنة الجبناء. ولعنة الله على سلام الزعماء حين يُبنى على موت الأطفال، وعلى كل يد صافحت الجزار بينما يداه ما زالتا ملطختين بدماء غزة. فالتاريخ لا ينسى، والقانون لا يُدفن، والضمير الإنساني – مهما خُدر – سيستيقظ يومًا ليحاكم الجميع.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

مقالات مشابهة

  • سلام القبور.. وشرم الشيخ التي صمتت على بكاء غزة
  • القدس.. الحرب التي لا تنتهي!
  • تعرفوا على قلادة النيل التي منحها السيسي لترمب
  • جمارك مطار الإسكندرية الدولي تضبط محاولة تهريب كمية من أدوات ومستلزمات طب وجراحة العظام
  • الجيش يضبط كمية كبيرة من المخدرات ويقبض على عصابة إتجار بها
  • عمرو أديب: ترامب يتلقى كمية تطبيل تاريخية.. ومشهد غير مسبوق في الكنيست
  • من هي المرأة الحديدية التي غيرت بريطانيا؟
  • شرم الشيخ.. مدينة السلام التي تحتضن الأمل من جديد
  • مصر.. ما الهدية التي قدمها وفد النادي الأهلي إلى حسن شحاتة في المستشفى؟
  • ضبط كمية من الشيكولاتة منتهية الصلاحية ببورسعيد