الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا
تاريخ النشر: 10th, December 2025 GMT
خالد بن حمد الرواحي
حين يصبح القياس هدفًا لا وسيلة أمام لوحةٍ إلكترونية مزدحمة بالأرقام والألوان، يقف مديرٌ يراقب مؤشرات خضراء ونسب إنجاز مرتفعة وتقارير أسبوعية محكمة. كل شيء يبدو متقنًا على الشاشة، فتعلو ابتسامة اطمئنان على وجهه. لكن حين يغادر مكتبه إلى الميدان، يكتشف صورةً أخرى: معاملات متأخرة، موظفين مرهقين، ومراجعين ينتظرون أكثر مما ينبغي.
لم تكن المشكلة في الأرقام، بل في الطريقة التي صارت تُستخدم بها. فالمؤشرات التي صُمِّمت لتكون بوصلةً للتطوير تحوّلت تدريجيًا إلى غايةٍ في ذاتها. صار همُّ بعض المؤسسات أن ترفع النسب وتُحسّن الرسوم البيانية، لا أن تُصلح المسار أو تُشخِّص الخلل. وهكذا، تزداد الأشرطة الخضراء بينما تتراكم الشكاوى، وتُكتب تقارير النجاح في الوقت الذي يشعر فيه الناس أن شيئًا لم يتغيّر.
وفي أحد الاجتماعات، عُرض تقريرٌ يوضح أن المؤسسة عقدت خلال شهرٍ واحد 42 اجتماعًا مقارنةً بـ18 في الشهر الذي سبقه، فصفّق الحاضرون. لكن السؤال الذي لم يُطرح كان: ماذا تغيّر بعد كل تلك الاجتماعات؟ فزيادة اللقاءات لا تعني زيادة الفهم، وكثرة المؤشرات لا تعني تحسّن الأداء. ما يُقاس غالبًا ليس النتائج، بل النشاط؛ لا الأثر، بل الجهد المبذول.
السبب في هذا الانفصال بين الصورة الرقمية والواقع العملي أننا نقيس ما هو سهل لا ما هو مهم. فعدد الاجتماعات أسهل من قياس جودة القرار، وعدد المعاملات أسهل من فهم تجربة المستفيد. ولأن الأسهل يتغلب على الأهم، تمتلئ التقارير بالأرقام التي يمكن جمعها بسرعة، لكنها لا تشرح شيئًا عمّا يجري حقًا. إنها أرقام بلا روح؛ تصف النشاط بحماس، لكنها تصمت حين يُسأل عن المعنى والغاية.
ومع مرور الوقت، تنشأ حالة من الرضا الزائف، فيظن المسؤول أن الإنجاز متحقق لأن المؤشرات خضراء، بينما يشعر الموظف والمستفيد أن الواقع لا يتحرك. وهنا تكمن أخطر مشكلة: فالفجوة بين الشعور بالنجاح وتحقيقه فعليًا قد تبتلع أعوامًا من الجهد دون نتيجة، لأننا اكتفينا بقراءة الأرقام دون قراءة الحياة داخلها.
الحل لا يحتاج إلى ثورة في الأنظمة، بل إلى مراجعة في الفهم. فالمؤشرات ليست خصمًا، بل أداة حين تُستخدم بحكمة. المطلوب العودة إلى السؤال الجوهري: ماذا نريد أن نفهم؟ هل نبحث عن زيادة الأرقام أم عن تحسين الواقع؟ حين يكون الهدف واضحًا، يصبح القياس تابعًا له لا متقدمًا عليه.
ولعل الخطوة الأولى تبدأ بتقليل الأرقام لا زيادتها. فبدل عشرات المؤشرات التي تشتت الانتباه، يكفي اختيار خمسة مؤشرات تمسّ جوهر الأداء، مثل رضا المستفيد، ووقت إنجاز الخدمة، وجودة القرار، ومستوى التعاون بين فرق العمل. ومع الوقت، يتحوّل القياس من سباقٍ لملء الجداول إلى ممارسةٍ للتعلّم والتحسين، تُحرّر المؤسسة من عبء الشكل وتعيدها إلى روح العمل.
وفي سياق التحول الرقمي الذي تتبناه «رؤية عُمان 2040»، لا تكفي الشاشات الذكية ما لم تُترجم بياناتها إلى قرارات تُحسّن تجربة المواطن وترفع كفاءة الجهاز الإداري. فالرؤية لا تدعو إلى مزيدٍ من المؤشرات بقدر ما تدعو إلى حوكمةٍ أفضل للبيانات وربطها بما يعيشه الناس، حتى يصبح كل رقم خطوةً ملموسة على طريق التغيير، لا مجرد قيمة تُضاف إلى ملف العرض.
في نهاية المطاف، لا تُقاس المؤسسات بعدد الشرائح في العروض، ولا بكثرة المؤشرات التي تتلوّن بالأخضر، بل بما يتغيّر في حياة الناس. فالأرقام قد تمنح شعورًا بالنجاح، لكنها لا تصنع النجاح ذاته إلا إذا رافقها فهمٌ لما وراءها. وحين نضع الواقع قبل الرسم البياني، ونبحث عن الأثر قبل النسبة، يصبح القياس أداةً للتطوير لا غايةً للتزيين. وعندها فقط، تصبح المؤشرات شاهدةً على التقدم لا ستارًا يخفي هشاشة الإنجاز.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العلامة مفتاح يشارك في ورشة إطلاق خط الأساس الوطني الموحد للمؤشرات الاقتصادية
الثورة نت /..
شارك القائم بأعمال رئيس الوزراء العلامة محمد مفتاح في إطلاق خط الأساس الوطني الموحد للمؤشرات الاقتصادية، وتوحيد المرجعية لقياس الأداء الاقتصادي على مستويات الدولة، القطاعات، المحافظات، وذلك خلال الورشة التي نظمها قطاع السياسات والدراسات والتخطيط بوزارة الاقتصاد والصناعة والاستثمار بمشاركة الجهات المعنية.
وفي افتتاح الورشة أكد القائم بأعمال رئيس الوزراء أهمية الورشة للخروج بخطط أساس لكافة القطاعات، والتخطيط للمستقبل وفق معلومات واقعية دقيقة وشاملة.
وشدد على أهمية وضع رؤية متكاملة لكافة المحافظات بما فيها المحتلة ودمجها في الاحصائيات الوطنية.. مؤكدا قناعة كل اليمنيين بأن اليمن موحد شعبيا واجتماعيا، رغم المؤامرات الخارجية لتقسيمه وتمزيقه.
وقال العلامة مفتاح ” مصير اليمن واحد ولن نسمح بتمزيقه “.. مشيرا إلى أهمية تكامل وتضافر جهود كافة الجهات ذات العلاقة لإيجاد بيانات صحيحة، لوضع خطط تكفل نهوض وتطور اليمن، ومواجهة الضخ الإعلامي المعادي وإيضاح الحقائق التي تحاول فرض عتمة من التضليل على بلادنا، وإجهاض خطط النمو والتطور.
من جانبه أوضح القائم بأعمال وزير الاقتصاد والصناعة والاستثمار سام البشيري أن الورشة تأتي في إطار خطة حكومة التغيير والبناء.. مشددا على أهمية استيعاب الملاحظات وإثراء المؤشرات ليكون التخطيط أكثر دقة.
وأشار إلى أهمية توحيد المرجعيات والمؤشرات الاقتصادية لوضع الخطط والبرامج التنموية المتوسطة والطويلة وتوفير بيانات دقيقة لصانع القرار.. لافتا إلى أن وجود بيانات اقتصادية موحدة وشفافة وموثوقة يعزز من أداء الاقتصاد الوطني وثقة المستثمرين.
من جهته أشار وكيل وزارة الاقتصاد لقطاع السياسات والدراسات والتخطيط فؤاد الجنيد، إلى أهمية امتلاك الدولة لقدراتها الخاصة لقياس تقدمها وتحدياتها.. لافتا إلى أن تدشين خط الأساس الوطني الموحد للمؤشرات الاقتصادية يعد بمثابة استرداد الذاكرة الاقتصادية الوطنية ووضع حد للتشتت المعرفي والبيانات المضللة.
وأوضح أن هذه الورشة تعد نواة لعمل وطني متواصل وشامل وغرس البذرة الأولى في درب طويل من الأعمال القادمة وترسيخ اليات جمع البيانات وضمان استدامة تحديث هذه المؤشرات.
بدوره أشار وكيل وزارة الإعلام لقطاع العلاقات محمد منصور إلى أهمية مشاركة الإعلام في الفعاليات الاقتصادية لضمان تحقيق الأهداف المرجوة، وخلق تفاعل مجتمعي مع الخطط والبرامج الاقتصادية.
وفي الفعالية التي شارك فيها وكيلا وزارة الاقتصاد لقطاع الصناعة والمدن الاقتصادية المهندس سامي مقبولي، وقطاع التجارة الخارجية وتنمية الصادرات فؤاد هويدي، والمدير التنفيذي للهيئة اليمنية للمواصفات والمقاييس عبد الله العاطفي، ثمن نائب مساعد مدير مكتب رئاسة الوزراء لقطاع التخطيط علي المتميز مبادرة وزارة الاقتصاد الصناعة والاستثمار لإطلاق خط الأساس للمؤشرات الاقتصادية.. مؤكدا على أهمية تعاون كافة الجهات، كون المسؤولية مشتركة وجماعية وليست على وزارة او جهة بعينها.
وفي كلمة القطاع الخاص أكد نائب رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية والصناعية محمد صلاح أهمية إطلاق خط الأساس لتعزيز الاستثمار.. مبينا أن القطاع الخاص لا يستطيع بناء دراسات جدوى لمشاريع المستقبل بأدوات وبيانات قديمة.
وخلال الورشة تم استعراض عدد من أوراق العمل حول أهمية مراحل تنفيذ المشروع ومحاور المؤشرات الاقتصادية والمجالات المستهدفة وعرض نماذج من المؤشرات على المستوى الكلي والقطاعي والمحافظات.