إعداد: جان لوك مونييه | حسين عمارة تابِع إعلان اقرأ المزيد

في الوقت الذي تواصل فيه الدول الوسيطة مفاوضاتها في القاهرة بهدف التوصل إلى هدنة بين إسرائيل وحماس، يشن الجيش الإسرائيلي هجوما، منذ الخميس الماضي، على مستشفى ناصر في خان يونس، قال الأحد المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة أشرف القدرة إن ثاني أكبر مستشفى في قطاع غزة "خرج عن الخدمة".

وأضاف القدرة أن هناك أربعة فقط من أفراد الأطقم الطبية يتولون رعاية المرضى داخل مستشفى ناصر في مدينة خان يونس جنوب القطاع. وتابع "خروج (مستشفى) ناصر عن الخدمة هو حكم بالإعدام على مئات الآلاف من المواطنين والنازحين بمنطقة خان يونس ورفح، وذلك لأن مجمع ناصر الطبي يعتبر العمود الفقري للخدمات الصحية جنوب غزة". 

وأردف أن إمدادات المياه إلى المستشفى توقفت بسبب توقف مولدات الكهرباء عن العمل منذ ثلاثة أيام، كما أن مياه الصرف الصحي تغمر غرف الطوارئ، وليس لدى الأطقم الطبية المتبقية أي وسيلة لعلاج مرضى العناية المركزة. وتابع قائلا إن نقص إمدادات الأكسجين نتيجة لانقطاع الكهرباء أيضا تسبب في وفاة سبعة مرضى على الأقل.

اقرأ أيضامباشر: ثاني أكبر مستشفى في غزة "خرج عن الخدمة" ونتانياهو يصر على تنفيذ هجوم بري في رفح

 

إليكم ما نعرفه إلى الآن عن هذه العملية العسكرية الجارية في أكبر مؤسسة طبية واقعة في جنوب قطاع غزة.

 لماذا اقتحم الجيش الإسرائيلي مجمع ناصر الطبي؟

إن الهجوم الذي يشنه الجيش الإسرائيلي هو تتويج لعملية عسكرية جارية منذ ثلاثة أسابيع في الجزء الأوسط من قطاع غزة حيث تقع مدينة خان يونس. وحتى نهاية الأسبوع الماضي، بدأ القتال في الاقتراب تدريجيا من مستشفى ناصر.

وقبل هجوم الخميس بأيام، حاصرت القوات الإسرائيلية بدباباتها وقناصتها المستشفى. وبحسب الحصيلة الأخيرة، فإن ما لا يقل عن 23 فلسطينيا قد قتلوا خلال هذه الفترة بنيران القناصة بالقرب من محيط المستشفى أو داخل حرمها، وذلك وفقا لمكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، الذي يستند إلى أرقام تنشرها وزارة الصحة التابعة لحماس.

وقد أمر الجيش الإسرائيلي الثلاثاء بإخلاء المؤسسة الطبية قبل اقتحامها بعد ذلك بيومين. وأعلنت السلطات الإسرائيلية أنها تقوم "بعملية مركزة ومحدودة" في هذا المستشفى، وذلك بعد تلقيها "معلومات موثوقة" تشير إلى أن حماس تحتجز رهائن إسرائيليين هناك "وأنه قد تكون هناك جثث لبعضهم" في المكان.

وكانت رهينة إسرائيلية أطلق سراحها قد قالت لوكالة أسوشيتد برس في يناير/كانون الثاني إنها وأكثر من عشرين أسيرا آخرين احتجزوا في مستشفى ناصر. وفقا لإسرائيل، لا يزال 134 رهينة إسرائيلية محتجزين في غزة، يعتقد أن 30 منهم قد لاقوا حتفهم، من بين نحو 250 شخصا اختطفوا من على أراضيها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وإلى الآن، لم يعثر الجيش الإسرائيلي على "أدلة" تؤكد وجود رهائن في مجمع المستشفى، لكنه يدعي أنه صادر "أسلحة وقنابل يدوية وقذائف هاون" هناك. والجمعة، أشار الجيش إلى أنه اعتقل أيضا أكثر من 20 "إرهابيا" شاركوا "في هجمات حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، من بين "عشرات المشتبه بهم" اعتقلوا داخل حرم مستشفى ناصر.

من جانبه، قال دانيال هاغاري، كبير المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي، مساء الخميس إن قوات جيشه قد عثرت على قنابل يدوية وقذائف هاون في المكان، وأنه وفقا لمعلومات أجهزة الرادارات الإسرائيلية فإن مسلحين فلسطينيين أطلقوا قذائف هاون من حرم المستشفى قبل شهر من هذا التاريخ. وهي ادعاءات لا يمكن تأكيدها من مصادر مستقلة.

فيما وصف عضو المكتب السياسي لحماس، عزت الرشق، الجمعة هذه الادعاءات الإسرائيلية بأنها "كذب"، مثل كل الاتهامات الإسرائيلية بأن مستشفى ناصر وغيرها في المنطقة، تستخدم كقواعد عسكرية من قبل حماس.

مقتل العديد من المرضى، ومئات لا يزالون في المستشفى

وقد اضطر آلاف الأشخاص - بمن فيهم المرضى - الذين لجؤوا إلى المستشفى إلى إخلائه، وفقا لتصريحات وزارة الصحة في القطاع. في حين نفى دانيال هاغاري الخميس رغبة جيشه في إخلاء المجمع الطبي. وقال: "أصرينا على أن المرضى والموظفين غير ملزمين بإخلاء المستشفى"، في إشارة إلى المناقشات الأخيرة مع المسؤولين الطبيين.

بينما قالت جميلة زيدان إحدى النازحات في مستشفى ناصر لوكالة الأنباء الفرنسية "غادر زوجي وابني محمد الأربعاء مع آلاف الأشخاص الآخرين ولا أعرف ماذا حدث لهم". وأضافت هذه المرأة البالغة من العمر 43 عاما والتي بقيت في المستشفى مع بناتها الست: "نحن خائفون للغاية".

ولا يزال عدة مئات من الأشخاص في داخل المجمع الطبي في ظروف صعبة، وفقا لوزارة الصحة في قطاع غزة. وقد كان لتطويق المرفق الطبي من قبل الجيش الإسرائيلي عواقب وخيمة على المرضى والعاملين في المستشفى: فقد أدلى شخص تم إجلاؤه إلى رفح بشهادته لوكالة أسوشيتد برس قائلا إن أيام الحصار تركت المرفق بدون ماء أو طعام. "انتشرت القمامة في كل مكان. وغمرت مياه الصرف الصحي قسم الطوارئ"، يؤكد رائد عابد.

كما يبدو أن هجوم الجيش الإسرائيلي قد أدى إلى تعقيد مهمة الأطباء في المجمع. فخلال عملية التفتيش، أمرت القوات الإسرائيلية 460 موظفا ومريضا وأقاربهم بالانتقال إلى مبنى قديم غير مجهز، وفقا لوزارة الصحة الفلسطينية.

وهو ما كانت له عواقب جسيمة، وفقا للمصدر نفسه، الذي أعلن الجمعة أن خمسة مرضى لاقوا حتفهم بعد انقطاع التيار الكهربائي الذي تسبب في توقف توزيع الأكسجين في المستشفى. وأضافت الوزارة أنها تخشى على حياة تسعة مرضى آخرين في جناح العناية المركزة والأطفال الخدج في الحضانات، وحملت "القوات الإسرائيلية المسؤولية عن حياة المرضى والفرق الطبية" هناك.

"الوضع الفوضوي" والعقبات التي لاحظتها منظمة الصحة العالمية ومنظمة "أطباء بلا حدود"

يصف طبيب ومنظمة غير حكومية، على الشبكات الاجتماعية، وضعا لا يمكن السكوت عنه في المستشفى. وتظهر العديد من مقاطع الفيديو ظروفا صعبة للغاية، وبخاصة أثناء عملية الإجلاء من المجمع الطبي.

وصور الطبيب محمد حرارة، على وجه الخصوص، أروقة المستشفى المشبعة بالغبار والحطام بعد حدوث انفجار، ويمكننا من خلال مقطع الفيديو سماع طلقات نارية في الخلفية. نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرا عن مقطع فيديو آخر صوره الصحافي الفلسطيني محمد سلامة "يعرض المرضى الذين تم إجلاؤهم في حالة من الفوضى، بعد قصف وقع على قسم جراحة العظام، مما أسفر عن مقتل مريض".

وتضاف هذه الشهادات إلى شهادات المنظمات غير الحكومية الموجودة في المكان، مثل منظمة "أطباء بلا حدود"، التي أبلغت الخميس عن وجود "حالة فوضوية": "بعد القصف هذا الصباح، أبلغ موظفونا عن حالة فوضوية، مع عدد غير محدد من القتلى والجرحى".

وفي رسالة أخرى، أوضحت المنظمة غير الحكومية أن جزءا من طاقمها الطبي "اضطر إلى الفرار من المستشفى، تاركا المرضى وراءه". كما أكدت أن أحد فرقها استمر في العمل في مستشفى ناصر "في ظل ظروف شبه مستحيلة".

الصحة العالمية تشكو منع بعثاتها من الوصول للمستشفى

بالإضافة إلى ذلك، أفاد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة يوم الأربعاء أنه تم منع بعثتين تابعتين لها من الوصول إلى المستشفى. "إن مستشفى ناصر هو العمود الفقري للنظام الصحي في جنوب غزة. ويجب حمايتها بكل السبل. كما ينبغي السماح بوصول المساعدات الإنسانية إليها"، هكذا كتب على منصة "إكس"، مدير المنظمة تيدروس أدهانوم غيبرياسوس. وحثت منظمة الصحة العالمية إسرائيل على السماح لموظفيها بالوصول إلى المستشفى حيث قالت إن الحصار والغارات التي تشنها القوات الإسرائيلية منذ أسبوع بحثا عن مقاتلي حماس منعتهم من مساعدة المرضى.

واضطر أيضا المدنيون الذين فروا من هجوم يوم الخميس إلى المرور عبر نقطة تفتيش أقامتها القوات الإسرائيلية لفحص الأشخاص الذين يغادرون المستشفى. وذكرت المنظمة غير الحكومية أنه تم اعتقال العديد من الأشخاص، ومنهم موظف في منظمة "أطباء بلا حدود".

والخميس، ندد مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان على إكس بـ"ميل القوات الإسرائيلية لمهاجمة البنى التحتية الأساسية المخصصة لإنقاذ الأرواح في غزة، ولا سيما المستشفيات". وأضافت الوكالة الأممية: "هذه الهجمات محظورة بموجب القانون الإنساني الدولي".

بيانات وزارة الصحة الفلسطينية التابعة لحماس

وتقوم وزارة الصحة بجمع المعلومات المقدمة من مستشفيات القطاع ومن الهلال الأحمر الفلسطيني. ولا تشير وزارة الصحة في غزة إلى الكيفية التي قتل بها الضحايا الفلسطينيون، سواء بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية أو بنيران الجنود على الحواجز أو بسبب الصواريخ الفلسطينية التي تخطئ أهدافها. فهي تصف جميع القتلى بأنهم ضحايا "العدوان الإسرائيلي"، كما أنها لا تميز بين المدنيين والمقاتلين.

وخلال الحروب الأربع والاشتباكات العديدة التي وقعت بين إسرائيل وحماس، استشهدت دائما وكالات الأمم المتحدة وبانتظام بأرقام وزارة الصحة في تقاريرها. وتستخدم اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر الفلسطيني هذه الأرقام أيضا.

في أعقاب حلقات الحروب السابقة، نشر مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية أرقام الضحايا بناء على أبحاثه الخاصة في السجلات الطبية الفلسطينية. تتوافق أرقام الأمم المتحدة إلى حد كبير مع أرقام وزارة الصحة في غزة، مع بعض الاختلافات الضئيلة.

 

لمعرفة المزيد عن تقييمات وزارة الصحة في غزة لأعداد الضحايا، رجاء النقر على أحد هذين الرابطين 1، 2.

 

النص الفرنسي:  جان لوك مونييه | النص العربي: حسين عمارة

المصدر: فرانس24

كلمات دلالية: الحرب بين حماس وإسرائيل ألكسي نافالني ريبورتاج الحرب بين حماس وإسرائيل غزة حماس إسرائيل فلسطين معبر رفح مستشفى مرض للمزيد إسرائيل روسيا فرنسا الحرب بين حماس وإسرائيل الجزائر مصر المغرب السعودية تونس العراق الأردن لبنان تركيا القوات الإسرائیلیة الجیش الإسرائیلی الصحة العالمیة وزارة الصحة فی الأمم المتحدة إلى المستشفى فی المستشفى مستشفى ناصر خان یونس قطاع غزة فی غزة

إقرأ أيضاً:

تحولات العقيدة العسكرية الإسرائيلية.. من الردع إلى الحرب الدائمة

عقدت قيادة الجيش الإسرائيلي، برئاسة الجنرال إيال زامير، أول وأهم منتدى فكري لمناقشة العقيدة الأمنية للدولة العبرية في عهد ما بعد 7 أكتوبر. وبدا أن الهدف الأساس من هذا المنتدى هو التكيف مع تعليمات القيادة السياسية اليمينية المتطلعة إلى "الحرب الدائمة" أولا، وتطوير القدرات العسكرية لاحقا، وفقا لذلك وبما يتناسب مع الواقع. وكان أبرز استخلاص للمنتدى هو وجوب العمل على وقف إطلاق النار ومنح الجيش فرصة لإعادة تشكيل نفسه وقدراته وفق الرؤية الجديدة.

وطبيعي أنه لا يمكن استيعاب ما يراد من تغييرات في العقيدة العسكرية الإسرائيلية من دون عودة ولو موجزة إلى أصولها. ويعتبر أول رئيس حكومة ووزير للدفاع في إسرائيل، ديفيد بن غوريون، واضع أسس العقيدة العسكرية الأولى. وقد انطلقت أساسا من واقع أن إسرائيل قليلة المساحة وتحيط بها دول عربية معادية تريد تدميرها. لذلك كانت أول مبادئ هذه العقيدة هي الضربة الاستباقية ونقل الحرب إلى أراضي العدو وتوفير قدرات عسكرية واستخبارية لهزيمة الدول العربية المحيطة مجتمعة أو متفرقة. وبني الجيش الإسرائيلي وفقا لذلك على أساس جيش نظامي قوي وجيش احتياطي هائل. وتلخصت هذه العقيدة التي أثبتت نفسها في حربي 1956 و1967 بمبادئ الردع والإنذار والحسم.

لكن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء وهضبة الجولان بعد هزيمة الجيوش العربية، وفر لإسرائيل عمقا لم يكن يتوافر لها، كما أنه عمق التحالف مع أميركا بما لا يستدعي البحث عن حلول سياسية. وبدأ منطق التوسع عبر مشروع ألون في الضفة، والاستيطان في سيناء، ما قاد موشي ديان لإعلان أن إسرائيل مع شرم الشيخ من دون سلام أفضل من سلام من دون شرم الشيخ. وقد تضعضعت ثقة إسرائيل بذلك بعد حرب 1973 واتفاقيات فصل القوات وبدء تراجع الاحتلال. وجاءت اتفاقيات كامب ديفيد وإبرام سلام مع مصر بتغيير البيئة الإستراتيجية لمحيط إسرائيل. ووفقا للعقيدة العسكرية التي صارت تتبلور، لم يعد الجيش فقط للدفاع عن إسرائيل، وإنما أيضا عامل لتغيير محيطها. وهكذا كانت حرب لبنان، وصولا إلى احتلال عاصمة عربية لأول مرة.

دبابات إسرائيلية من طراز سنتوريون تتحرك في جبهة الجولان في حرب 1973 (الفرنسية-أرشيفية) تغيير العقيدة

فالسلام مع مصر، الذي أتاح إبعاد خطر أكبر وأقوى دولة عربية، فتح الباب واسعا لتغيير جوهري في العقيدة العسكرية الإسرائيلية. وقد ترافق ذلك مع تطورات تكنولوجية وتسليحية هامة تمثلت في امتلاك قدرات لم تكن إسرائيل تحلم بها في الماضي. صحيح أن إسرائيل أدخلت السلاح النووي في عقيدتها، كعنصر ردع قيل إنها فكرت في استخدامه العام 1973، لكن ذلك لم يغير جوهر عقيدتها. لكن امتلاك إسرائيل أقمار تجسسية من طراز "أفق" من ناحية، وامتلاك غواصات دولفين ألمانية قادرة على حمل سلاح نووي، وفرت أهم أساس لتغيير العقيدة. فلم يعد الأمن القومي الإسرائيلي يقاس ببعدي المساحة، وإنما بثلاثة أبعاد الحجم. وهذا ما أنشأ نظرية حدود الأمن القومي من مراكش إلى بنغلاديش، والذراع الطويلة للجيش الإسرائيلي.

وفي هذا الوقت بالذات صارت العقيدة العسكرية تستند إلى التكنولوجيا، أكثر من أي وقت مضى. ولهذا السبب وفي عهد رئاسة إيهود باراك لأركان الجيش تبلورت نظرية "جيش صغير وذكي"، وهي النظرية التي قادت إلى تقليص عديد الجيش النظامي والقوات الاحتياطية. وحسب قائد عسكري إسرائيلي كان يخدم في العام 1984 فإن عديد القوات النظامية حاليا يكاد يبلغ ثلث عديد القوات حينما كان في الخدمة. وتأكيدا على ذلك يدور الجدل واسعا هذه الأيام عن حاجة الجيش إلى كثير من المجندين، لتقليص أعباء الخدمة على القوات الاحتياطية.

عموما في هذه الفترة نشأت مفاهيم جديدة جوهرها الاحتواء، خصوصا بعد تطوير وسائل دفاعية ضد الصواريخ، وكذلك خوض ما سمي بمعارك ما بين الحربين ونظرية "جز العشب". وقامت هذه المفاهيم الجديدة في جوهرها على نظرية ردع تستند إلى أن العداء دائم والهدنة مؤقتة. ولكن بسبب اتفاقيات السلام وتوسعها صارت تتبلور نظرية تعاون، ولو أمني، مع الدول العربية التي أبرمت معها هذه الاتفاقيات. وبسبب تطوير نظريات عسكرية منها "نظرية الضاحية" التي بلورها الجنرال غادي آيزنكوت في الحرب على لبنان عام 2006، وتقضي بتدمير حي بكامله مقابل أي إضرار ببناية في إسرائيل، صار الركون أكثر إلى نظرية الردع. ولذلك كان تعبير "حماس مرتدعة" أكثر التعابير استخداما في وصف الفشل الاستخباري الإسرائيلي في 7 أكتوبر.

دمار الضاحية الجنوبية لبيروت خلال عدوان تموز 2006 (الجزيرة) رد فعل انتقامي

وهذا بالذات ما قاد القيادة السياسية والأمنية بعد صدمة 7 أكتوبر إلى الانتقال بنوع من رد الفعل الانتقامي إلى المطالبة بعقيدة عسكرية تستند إلى مبدأ الحرب الدائمة. وبرر هؤلاء هذا الانتقال بالقول إن الاستناد إلى مبدأ الردع، يعتمد أساسا على نوايا العدو التي يمكن أن نخطئ في قراءتها. لذلك ينبغي على إسرائيل أن تلاحق كل احتمال للخطر يقع في محيط أمنها القومي، وتزيله. وبعدما كانت هذه الفكرة جوهر "عقيدة بيغن" وتبلورت لمنع أي دولة عربية من إنشاء مشروع نووي خاص بها، كما حدث مع العراق وبعدها مع سوريا، ثم بتعاون أميركا على ليبيا، صارت هذه نظرية واسعة تغطي أي خطر. وواضح أن هذه النظرية تنسف من أساسها العقيدة، التي كانت تقول بمراقبة الخطر أثناء تبلوره ثم ضربه عندما يتحول إلى خطر فعلي.

إعلان

في كل حال، ومع أن الجنرال زامير وصل إلى رئاسة أركان الجيش في نوع من التوافق السياسي بين قوى اليمين، فإنه اضطر لمكاشفة هذه القوى بالواقع. والواقع يقول، إن جيش إسرائيل، ورغم التكنولوجيا المتقدمة التي يمتلكها في سلاحي الاستخبارات والجو، فإنه جيش يحتاج إلى إعادة بناء حتى يتوافق مع العقيدة الجديدة المطلوبة. وهذا يعني زيادة عديد الجيش، خصوصا قواته البرية والمدرعة بعد أن ثبت أنه ومهما بلغت قدرات سلاح الجو، فإنه أعجز عن حسم الحروب.

وهكذا، وعلى مدى أيام، عقد في قاعدة غليلوت منتدى القيادة العليا في الجيش الذي يضم كل من يحمل رتبة عميد فما فوق، لمناقشة التعديلات والمتطلبات اللازمة للتعامل مع الوضع الجديد. وأعلن زامير أن عام 2026 سيكون عام الاستقرار وإعادة بناء قوة الجيش حيث "سنعود إلى الكفاءة والأساسيات خلال عام مع تعظيم إنجازاتنا واستغلال الفرص العملياتية ". واعتبر زامير أن مسرح العمليات انطلق من غزة، وهو يعود إليها في إشارة للتحدي الذي تمثله غزة باعتبارها ساحة رئيسية. وللمرة الأولى يتحدث رئيس أركان عن مبادئ مثل الدفاع من خلال الهجوم، وأحزمة أمنية على طول الحدود في أراضي العدو، وجيش يواجه التحديات ولا يهمل النوايا والقدرات. ويوضح أن ساحات القتال ليست متشابهة وعلى الجيش أخذ التغييرات الجيوسياسية في المحيط بالحسبان.

رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير (وسط) أثناء زيارته مواقع في الجولان السوري المحتل (الصحافة الإسرائيلية) شفافية زامير

وأشار زامير أساسا إلى ما فعله القتال في غزة في المجتمع والجيش عموما. وقال إنه في ظل غياب الدعم الشعبي الواسع للقتال في غزة، وعلى النقيض من الوضع بعد 7 أكتوبر يجب على الجيش، أن يظل شفافًا تجاه الجمهور الذي يرسل أبناءَه للقتال. وقصد كل ما يتعلق بأساليب القتال في غزة والأهداف الحقيقية للقتال في قطاع غزة.. وشدد على وجوب "أن نكون متواضعين ومتشككين في تقييماتنا، وعلى القادة أن يأخذوا ما يُقال في الاعتبار عند اتخاذ القرارات".

عموما وعلى مستوى هيئة الأركان العامة، فإن إعادة بناء قوة الجيش الإسرائيلي، بإنشاء المزيد من الألوية والوحدات التي يطالب رئيس الأركان بتشكيلها، يتطلب ليس فقط جنودا جددا، وإنما أيضا سعي لتشكيل "جيش إسرائيلي جديد". وهذا الجيش سيكون أقوى وأكبر، وأشد حرصا على تحقيق الأهداف المرصودة له. وفي نظر زامير فإن أي دفاع عن الحدود سيكون من خلال عمليات هجومية داخل أراضي العدو وخارجها، مع تمركز الجنود بعيدًا عن المدنيين، مُلمّحًا بذلك إلى استمرار وجود جيش الدفاع الإسرائيلي في الأحزمة الأمنية المُقامة في ثلاث مناطق معادية حول إسرائيل: في خمسة مواقع في جنوب لبنان؛ وفي تسعة مواقع في الجولان السوري؛ وفي أكثر من عشرة مواقع قيد الإنشاء في قطاع غزة.

وأكد زامير: "لم نعد نتجاهل نوايا وقدرات العدو"، بعد أن تبيّن "أن التغييرات الهائلة التي يشهدها الأعداء في كل مكان وفي جميع الساحات تتطلب المزيد من الاستثمار والموارد للاستخبارات وأدوات جديدة". ولذلك أمر بتشكيل إدارة تدريب جديدة تابعة للكليات العسكرية، والتي ستستوعب دروس القتال الطويل في العامين الماضيين في جميع أنحاء الجيش. ومعروف أن الجيش أنشأ أخيرا قيادة مركزية جديدة تسمى "قيادة جبهة العمق" وهي تختلف عن قيادات الجبهات الشمالية والجنوبية والوسطى والداخلية وأن تركيزها سيكون على عمق محيط الأمن القومي الإسرائيلي.

صورة وزعها الجيش الإسرائيلي تظهر جنودا يتوغلون في تل السلطان برفح (رويترز) نتائج صعبة

وفي نظر معلقين عسكريين بدت كلمات زامير أقرب إلى عناوين غامضًة، لكنها تعبر عن قلق بشأن العواقب الإشكالية لمثل هذا القتال المطول في أراضي العدو، لأكثر من 20 شهرًا، دون تحقيق أهداف الحرب. بل إن قادة القوات جادلوا أثناء المناقشات، بأن القتال المتواصل والنظرة إلى الجنود كمورد لا ينضب ولا ينضب يؤديان إلى… نتائج ميدانية صعبة.

إعلان

وفي هذا السياق حذر البروفيسور بوعز أتزيلي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية بواشنطن، متخصص في الدراسات الأمنية والنزاعات الحدودية، من مخاطر تغيير العقيدة العسكرية. ونشر مقالا في موقع "زمان إسرائيل" رأى فيه أن حكومة إسرائيل وجيشها غيّرا من أكتوبر 2023 وجذريا العقيدة العسكرية للدولة، ولاحظ أنه "مع قلة الوعي العام، وضعف الوعي داخل المؤسسة الأمنية على ما يبدو، تم التخلي تمامًا عن أحد ركائز السياسة الأمنية الإسرائيلية -الردع التقليدي- ووُضع على الرف ليتراكم عليه الغبار. انتهى الأمر، كما هو الحال في حالات أخرى كثيرة في عالم الارتجال و"كل شيء سيكون على ما يرام"، دون أي تفكير مسبق. هذا التغيير الحاسم خطِر للغاية على مستقبل البلاد، ويستحق نقاشًا معمقًا وشاملًا، وهو ما لم يُناقش حتى الآن".

واعتبر أن "المشكلة هي أنه لم يكن هناك، ولن يكون هناك، تفكير منهجي وعميق في آثار التغيير -في مزاياه وعيوبه الإستراتيجية. لطالما اتجهت الثقافة الإستراتيجية لجيش الدفاع الإسرائيلي، منذ القدم، إلى تجاهل التفكير المتعمق والاعتبارات طويلة الأمد. جيش الدفاع الإسرائيلي ممتاز في التكتيكات وضعيف جداً في الإستراتيجية. والحكومة الإسرائيلية، التي تولت هذا الدور أحيانًا، منشغلة باعتبارات انتخابية ومسيحانية، لا باعتبارات عقلانية تتعلق بمصالح الدولة".

 

مقالات مشابهة

  • حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة تتخطى 60 ألف شهيد منذ بدء الحرب
  • صحة غزة: ارتفاع متواصل في أعداد الشهداء والمصابين جراء العدوان الإسرائيلي المستمر
  • بإشادة وزارة الصحة.. استئصال ورم معقد من وجه سيدة بمستشفى قنا العام
  • الهزائم العسكرية العجيبة.. لماذا نتفاجأ مما نعرفه؟
  • محافظ سوهاج يفتتح تشغيل مستشفى دار السلام المركزي بعد توقف 11 عامًا
  • في جولته الجنوبية الأولى على المستشفيات... ماذا أعلن وزير الصحة؟
  • وزير الثقافة: نقل الكاتب صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر
  • وزير الثقافة: نقل الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر بالتنسيق مع وزارة الصحة
  • تحولات العقيدة العسكرية الإسرائيلية.. من الردع إلى الحرب الدائمة
  • وزير الصحة: مستشفى مأدبا الجديد بشراكة استثمارية والدفع بعد التسليم الكامل