صحيفة التغيير السودانية:
2025-06-25@15:56:49 GMT

الحرب من الانغلاق إلى الفضاء العام

تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT

الحرب من الانغلاق إلى الفضاء العام

زين العابدين صالح عبد الرحمن

أن الأزمة السياسية الاجتماعية التي يعيشها السودان، هي أزمة فكر و مادام العقل السياسي السوداني عاجز على إنتاج الفكر ستظل الأزمة تتعمق أكثر.. أن الأفكار ظلت ثابته طوال النظم السياسية السابقة، و التغيير الذي حدث في مسيرة الإنقاذ كان تغييرا طفيفا طوال الثلاثين سنة عمر الإنقاذ، و يعود ذلك لأن الصراع كما قال الدكتور التجاني عبد القادر لم يخرج من دائرة ” القبيلة و السوق و جهاز الأمن” و حتى السوق حكمته البنية الطفيلية ذات الأفق المغلق، الذي لا يستطيع أن يغادر فكرة الأعمال الهامشية ذات العائد السريع.

و هذا الثالوث أيضا كان متعلقا بالسلطة و أدواتها و تسخيرها من أجل فئة محدودة، و الأهم كيفية الحفاظ عليها مما جعلها تدور في نسق واحد لا يساعد على اتساع قاعدة التفكير و الحوار حول المطروح.

أن الأفكار الثابتة غير المتجددة تجعل المواقف السياسية ثابته، و لن يحدث فيها أي نوع من التغيير. و بعض الفاعليات التي تنشط تكون محكومة بهذه الأفكار الثابته، لذلك يصبح نشاطها تكتيكا لا يفضي لتغيير. أما إذا استطاعت فئة أن تخرج من دائرة ثبات الأفكار و تقدم أفكارا جديدة سوف تحدث تغييرا كليا في العمل السياسي، لأن الأفكار سوف تغير طريقة التفكير السائدة و تجعلها تتجاوز النسق القديم إلي نسق جديد يتلاءم مع الأفكار الجديدة. لأنها هي التي تهيئة البيئة التي يجب أن تنمو فيها الديمقراطية، و لكن البيئة السياسية الحالية غير صالحة، حتى الآن القوى السياسةعاجزة أن تخرج من دائرة الفعل و ردة الفعل المضادة، غير قادرة تتجاوز المعادلات الصفرية و دعوات الإقصاء و المصطلح الجديد “لا نريد الإغراق السياسي” الذي طرحته ” قحت المركزي” في الساحة السياسية، فكلها تشكل إعاق لأي ألإكار جديدة يمكن أن تساعد على تهيئة البيئة للديمقراطية. و الحرب نفسها تشكل تحديا للمسار الديمقراطي لأنها تفرض شروطا جديدة للعملية الأمنية.

إذا نظرنا إلي واقع التجربة السياسية نجد في محطات الثبات و التضييق على شغل العقل الذي كان يقعد بالأحزاب السياسية نجد أن الأفكار الجديدة هي التي كانت تفتح نفاجات للحل، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي جاء السيد الصادق بأفكار جديدة تهدف لتحديث الحزب و تطويره لكي يتحول من موروث الاقطاع للقوى الحديث، و استطاع الصادق أن ينافس عمه الهادي عبد الرحمن المهدي، و يسحب منه أغلبية القوى الحديثة بالأفكار التي كان قد طرح ذلك الوقت. و أيضا في عام 1956م دعت وثيقة الحزب الشيوعي في مؤتمره الثالث إلي تحويل الحزب إلي قوة أجتماعية كبرى.. و في عام 1963 نادت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وضع الترتيبا الازمة لتأهيل الحزب لاستقبال التطورات المرتقبة في الحياة السياسية بعد ما تصاعدت معارك الحركة ضد نظام عبود العسكري.. و كانت الدعوة لعملية

توحيد قوى اليسار و تحويل الحزب الشيوعي إلي ” حزب اشتراكي” و لكن توقفت الدعوة بعد نصيحة قدمها السوفيت إلي عبد الخالق محجوب أن تحويل الحزب إلي حزب اشتراكي يعني التخلص تماما من إرث الحزب النضالي السابق. و تراجعت القيادة. لكنها كانت فكرة و وجدت تأييدا من قبل القاعدة. و كانت قيادة الحزب سوف تنجز ذلك لولا تدخل قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي. و ايضا فكرة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان التي وحدة الحركة الوطنية في فكرة واحدة.. فالأفكار هي التي تحرك الساكن في السياسية و تفتح منافذ للحل و ليس التمسك باراء أحادية لا تخدم إلا مصالحة حزبية و شخصية ضيقة.

هناك بعض أصوات اليسار تقول أن أي تحالف سياسي بين قوى مدنية و عسكرية يعد مشروعا لشمولية جديدة، لآن العسكر هم الذين سوف يتحكمون في مسار العمل السياسي، و يرسمون له طريق السير. و تصبح الأهداف غير واضحة، لآن العملية الشمولية لا تؤسس على مشروع سياسي واضح.. لكن الذين يقولون ذلك لا يقدمون أي رؤية أخرى بديلة، أو حتى تقديم أفكار يمكن أن تتطور عبر الحوار السياسي المفتوح.. الشمولية لا يقيمها العسكر لوحدهم أنما العقل السياسي المغلق ذو البعد الواحد هو أيضا مسار لشمولية، رغم محاولات فئات من اليسار تكثيف و نشر الشعارات الديمقراطية و لكن لا تجد لها أي سند في مرجعياتهم الفكرية.. أن عملية التحنيط للعقل و جعله لا ينظر إلا في مسار واحد غير واضح المعالم مشكلة تعمق الأزمة أكثر و لا تساعد على الانفراج، فالذي يؤمن بالديمقراطية يؤمن بدور الجماهير فيها و لا يحاول أن يسلبها هذا الحق بنشر الفزاعات و أدوات التخوين و غيرها، لأنها هي حجة المفلس فكريا.

كان الإمام الصادق المهدي أكثر القيادات السياسية إنتاجا للأفكار، و كان لا يطيق إغلاق المنافذ التي تحجب دخول الضوء، فكان يبادر بطرح المبادرة تلو الأخرى بهدف تحريك عملية الاشتغال على العقل، و رحل الإمام و وجد الحزب نفسه في دوامة غير قادر على الخروج منها، لآن الكل ينظر للعملية السياسية هي العمل من أجل الاستحواذ على السلطة، و من ثم فرض شروط تأسيسها على الأخرين في نيل أكبر حصة منها. هذا الرهان خاسر لآن اصحابه ينظرون للتاريخ و لا يعطوا أي أهتمام للمتغيرات التي حدثت في 34 سنة الماضية. فالتفكير العقلاني يبدأ بالنظر للمتغيرات التي حدثت في المجتمع، وأثرها على العملية السياسية. فالديمقراطية التي يتطلع لها العقل التقليدي ليس ديمقراطية نخبة محددة يتم أختيارها من بيوتات بعينها أو من أحزاب صفوية أو أحزاب تحاول أن تدثر التقليدية بأثواب جديدة لا تملك لها تاريخا نضاليا، أنما الديمقراطية هي التي يتحكم فيها الوعي الاجتماعي، و أيضا تتطلب الإغراق السياسي لكل الذين يرغبون في التغيير.. و نسأل الله حسن البصيرة.

الوسومزين العابدين صالح عبد الرحمن

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: هی التی

إقرأ أيضاً:

لماذا تموت الأفكار الجيدة بصمت وتنتشر الأفكار السيئة كالنار في الهشيم؟

عندما وُلد الإنترنت، بدا وكأنه أعظم اختراع في زمنه. في عصور شح المعرفة، لم يكن أمام البشر إلا العمل بمبدأ «المعرفة عند الحاجة». فالحقائق الدقيقة والمشتركة بين الناس كانت نادرة، لا لغيابها، بل لصعوبة حفظها وتداولها. أما المعلومات العشوائية غير الدقيقة، فكانت منتشرة. لكن مع تطور الحضارة، بدأت أدواتنا تنظم عملية جمع المعلومات وتوزيعها.

ظهرت أنظمة تحدد من يحق له أن يعرف، ومتى، مثل نقابات الحِرَف في العصور الوسطى أو نشرات الأخبار الرسمية. وكان يُفترض أن تكون هذه البُنى في خدمة الجميع، إذ لا يستطيع الفرد بمفرده مواجهة هذا العالم المعقّد والمليء بالتفاصيل. لكن ما إن أصبح هذا التنظيم أكثر مركزية، حتى بدأ الناس يرونه نوعًا من الوصاية المزعجة، بل والمؤامرة أحيانًا. رأى كثيرون أنفسهم ناضجين بما يكفي للتعامل مع الحقيقة بأنفسهم، دون وسيط أو موجّـِه.

كانت فكرة الإنترنت في جوهرها بسيطة، وهي أن تتخلَّص من كل من يُملي عليك ماذا تقرأ، ثم ابدأ بترتيب الأمور بنفسك. ومنذ ذلك الحين، لم تكن النتيجة واضحة تمامًا، لكن أحد الآثار القليلة الإيجابية كان ظهور جيل كامل من الكتابات التي تحاول الإجابة على سؤال: لماذا لم ينجح هذا المشروع كما كنا نظن؟

بدأت هذه المحاولة لفهم الفشل بداية مرتبكة. فبعد عام 2016، صار كثير من الليبراليين يحمّلون الإنترنت مسؤولية تفشي أفكار «سيئة»، سواء لأنها كاذبة مثل: «التغير المناخي كذبة»، أو «اللقاحات تسبّب التوحد»، أو لأنها مؤذية مثل: «ينبغي أن يحكمنا مدير تنفيذي»، أو «الأجانب مجرمون». وقد بدا لهم أن هذه الأفكار تنتشر لأن الإنترنت فتح الباب لأصحاب النوايا السيئة كي ينشروها على نطاق واسع.

هذا التفسير كان مغريًا، لأنه مبسّط ويمنحك شعورًا بأن الحل بمتناول اليد، وهو أنه ما علينا سوى منع هؤلاء الأشخاص من الوصول إلى المنصة، وسينتهي الأمر. لكن المشكلة أن هذا المنطق يفترض ضمنًا أن «المعلومة المضلّلة» هي فقط تلك التي تختلف معها، وأننا قادرون على إيجاد حكم محايد يُقرّر ما يصح وما لا يصح. وهو وهم أقرب إلى الخيال الطفولي.

الخلل الأكبر في هذا الطرح أنه تجاهل جانب «الطلب». فحتى وإن كان بعض الليبراليين يعتقدون في قرارة أنفسهم أن من يعتنقون أفكارًا خاطئة أو خطيرة هم أناس سذج أو خطرون، إلا أن الاعتراف بذلك علنًا بدا لهم أمرًا وقحًا. فاختاروا طريقًا أكثر تهذيبًا، فقالوا إن هؤلاء الناس تعرضوا لـ «تلاعب»، وهي كلمة فضفاضة، كثيرًا ما تُستخدم كناية عن السحر.

وبحسب هذا الفهم، فإن الأشخاص محدودي المعرفة كانوا فريسة لهذا «السحر»، لأنهم يفتقرون إلى «الوعي الإعلامي». وكل ما يحتاجونه هو «علاج معرفي» على هيئة جرعات من الحقائق الصائبة. لكن هذه الرؤية بأكملها تبدو متناقضة، فهي من جهة تنظر إلى الحقيقة أنها شيء محايد وواضح بذاته، ومن جهة أخرى، لا تعترف بها كحقيقة إلا حين تعتمدها نخبة تمتلك سلطة «تحديد الصحيح».

لكن في المقابل، ظهرت نظرية بديلة. لم يكن الإنترنت، في جوهره، وسيلة لنقل المعلومات من خلال الأدلة والحقائق، بل كان أقرب إلى قناة لبثّ الثقافة في صورة «ميمات»، وهي أفكار ورموز تنتشر بين الناس بسرعة لأنها تعبّر عن هوية أو شعور، لا بالضرورة لأنها صحيحة.

لم يكن مستخدمو الإنترنت يتلقون كمًّا من الحقائق ليبْنوا منها تصوّرًا للعالم، بل كانوا في الواقع يتلقون تصورًا جاهزًا للعالم، ثم يستخدمونه كعدسة يقيّمون من خلالها كل معلومة جديدة. لم يكن تبنّي هذا التصور مسألة عقل أو منطق، بل مسألة رغبة وهوية. من أنا؟ من أريد أن أكون؟ هل أنا شخص متحضر «يتبع العلم»؟ أم شخص شكاك يرى أن وراء كل خطاب رسمي نفاقًا ناعمًا؟

هذا المنظور بات مرتبطًا بالمستثمر والكاتب (بيتر ثيل)، الذي عرّف جيلًا من المحافظين على أفكار المنظّر الفرنسي رينيه جيرار. ورغم أن هذه القصة طُرحت مرات كثيرة حتى استُهلكت، إلا أن الفكرة الأساسية التي اقتبسها ثيل من جيرار ظلت لافتة، وهي أن الناس، أو معظمهم على الأقل، لا يملكون رغباتهم الخاصة حقًا؛ بل يرغبون فيما يرغبه الآخرون.

وهذا يولّد شعورًا بالانسجام المجتمعي، حيث يرغب الجميع في الشيء ذاته، لكنه في الوقت نفسه يغذّي المنافسة والعداوة لأن الجميع يتسابق على الشيء نفسه. وعندما تصل هذه التوترات إلى ذروتها، تبحث الجماعة عن «كبش فداء» للتضحية به، أي شخص لا يشبههم، يعرّفونه بأنه «الآخر» الذي لا ينتمي إليهم.

على اليمين، يظهر ذلك في أشكال من كراهية الأجانب وفقدان الثقة التام في كل ما هو مؤسسي. وعلى اليسار، يتضح في ظواهر مثل «ثقافة الإلغاء» وبيئاتها الرقابية. في الحالتين، تكون الغاية هي حماية الهوية الجمعية، وترسيم حدود «نحن»، والتمييز بين من ينتمي ومن يجب أن يُقصى.

ما حدث في الحقيقة لم يكن تخلي الناس عن المبادئ، كما حاول الليبراليون القول في كتبهم المملة عن «عصر ما بعد الحقيقة»، ولا تخليهم عن التقاليد، كما ردّ المحافظون في كتب لا تقل مللًا عن «زمن الانحطاط». كل ما في الأمر أن أشخاصًا اعتادوا تلقي ما يحتاجونه من معلومات فقط، وجدوا أنفسهم فجأة مطالبين بالحُكم على كل شيء، طوال الوقت. فكان الحل الأبسط «هيّا ننضم إلى من يشبهوننا في الرأي، ونمضي معهم».

شخص لا يعرف شيئًا عن جهاز المناعة، لاحظ أن أصدقاءه يعارضون اللقاحات، فاختار تلقائيًا أن يفعل مثلهم. وآخر لا يفقه في علم الفيروسات، وجد أن محيطه يرفض فرضية تسرّب الفيروس من المختبر، فقرّر أن يسير في الاتجاه ذاته.

لا يعني هذا أن كل الآراء متساوية في القيمة، بل يعني ببساطة أن معظم الناس ليس لديهم الوقت ولا الطاقة لملاحقة تعقيد دائم. ومن الطبيعي، كخيار أولي، أن نختصر الطريق وننضم إلى الفريق الذي نشعر أنه الأقرب.

كان الليبراليون قلقين من هذا التوجّه، لأنه بدا وكأنه استسلام، وتخلٍ عن حلم الديمقراطية أمام نزعات تحزّب وحماية متضاربة. لكن ما أزعجهم حقًا هو أن أوراقهم كُشفت، وأن «حلّهم المفضّل» لمواجهة فوضى المعلومات هو إقصاء بعض الأفكار وبعض الأشخاص لأنهم «خطرون» أو«خاطئون»، لم يكن أنبل كثيرًا.

رغبتهم في «إلغاء المنصة» عن الأصوات المختلفة جعلتهم يبدون ضعفاء، وكأنهم لا يثقون تمامًا في قدرتهم على الانتصار بالحُجّة. أما الرواية المحافظة، فكانت تقوم على الولاء والقوة، لكنها على الأقل لم تدعُ عكس ذلك. لقد كانوا صريحين بشأن طبيعتهم القبلية.

في السنوات الأخيرة، كثُر الحديث عمّا يُعرف بتحوّل «المزاج العام»، وقد بات هذا التحول يُفهم في بعض الأوساط الليبرالية، التي كانت حتى وقت قريب تُحافظ على قدر من الانضباط الثقافي، على أنه قبول متزايد بمواقف متطرفة أو متخلفة، كإزالة القيود عن استخدام بعض الألفاظ العنصرية أو المهينة. غير أن ثمة قراءة أعمق لهذا التحول، ترى فيه انتقالًا جذريًا في طريقة التفكير السياسي، وهي أننا لم نعد نحاكم الظواهر من منطلق المبادئ أو الأدلة، بل من خلال «الشعور العام» أو «الإحساس الجمعي».

وبمعنى آخر، اعترف الليبراليون، ولو ضمنيًا، بأن ردّهم الأولي على فوضى المعلومات كان ضعيفًا ومليئًا بالتناقضات. وقد وُجّهت انتقادات إلى هذا التحوّل، وعدّ نوعًا من الميل الساذج إلى التفسيرات الغامضة بدلًا من التحليل الواقعي المبني على بيانات. لكن «المزاج»، في جوهره، ليس أكثر من طريقة لاختزال كمٍّ هائل من المعطيات إلى قرار واحد بسيط: «نعم» أو «لا»، «مع» أو «ضد». لقد كان الصراع محتدمًا، لكن تحوّل المزاج العام لم يكن سوى اعتراف غير مُعلن بانتصار خيار «الرفض».

ومن نتائج هذا التحول أن المؤسسة الإعلامية بدأت تتقبّل وجود ما يُسمّى بـ«المفكر السيليكوني». وهنا لا نقصد أولئك المتفاخرين الذين يغردون بكل ما يخطر في بالهم، بل المفكرين الذين يكتبون في الهوامش، بإسهاب وعمق. ناديا أسباروهوفا واحدة من هؤلاء، فهي كاتبة وباحثة مستقلة، شغلت مناصب في كل من موقع GitHub (منصة إلكترونية لتخزين الشيفرات البرمجية ومشاركتها بين المطورين) ومنصة Substack (منصة إلكترونية تتيح للكتّاب إرسال مقالاتهم إلى القرّاء عبر البريد الإلكتروني مقابل اشتراكات مجانية أو مدفوعة)، لكنها كانت دائمًا أقرب إلى «الغريبة المحترفة» في بيئات عملها، إذ كان مسمّى وظيفتها الرسمي في إحدى الشركات ببساطة: «نادية».

كتابها الأول، «العمل في العلن»، كان دراسة إثنوغرافية لعالم البرمجيات مفتوحة المصدر. ذلك المجال الذي تحيط به أوهام تفاؤلية عن الإنتاج الحر والفوضوي، لم يُظهر في تجربتها أدلة كافية على هذا الحلم. في الواقع، لم تكن المشاريع المفتوحة تُدار عبر فرق متساوية من المتطوعين، بل غالبًا ما كان يتحمّل عبء العمل شخص أو شخصان يقضيان معظم ساعات يومهما في متابعة شكاوى المستخدمين. التكنولوجيا، كما اكتشفت، لم تكن تدفع نحو تنوع إبداعي أو مهني أو أيديولوجي. حتى الأدوات المصممة لتنظيم العمل الجماعي، تحوّلت في بعض شركات التقنية التي عملت بها إلى وسائل رقابية تعكس توجهات سياسية ضيقة.

وفي إحدى التجارب التي أثّرت فيها بشدة، تلقّت ناديا توبيخًا من فريق «الأثر الاجتماعي» في شركتها بعد أن كتبت تعليقًا في تطبيق «Slack» أثناء حالة طوارئ بسبب إطلاق نار في الحي. قيل لها إن كلامها افتقر إلى الحساسية، لأن «الفوضى المجتمعية هي نتيجة لمعاناة أعقد مما يمكننا فهمه». منذ تلك اللحظة، قررت أن تصمت.

ومع الوقت، بدأت ناديا تلاحظ أنها ليست وحدها في هذا الشعور بالخذلان من فضاءات الإنترنت العامة، التي كانت يومًا ما واعدة. شيئًا فشيئًا، بدأت تنسحب من الساحات المفتوحة، وتلتحق بما أصبح يُعرف لاحقًا بـ “هجرة المستخدمين نحو مجموعات الدردشة الخاصة»، وهي شبكة خفيّة من المحطات الصغيرة، حيث لا أحد يريد أن يُرَى أو يُسمَع أو يُراقَب، فقط كي يتمكن من الحديث بحرّية مع أصدقائه.

وسرعان ما بدأ عدد من منظّري الإنترنت يتناولون قنوات الرسائل الخاصة باعتبارها موضوعًا للدراسة. ففي عام 2019، نشر يانسي ستريكلر، وهو أحد مؤسسي منصة (Kickstarter)، وهي منصة تمويل جماعي تتيح للأفراد دعم المشاريع الإبداعية والمبادرات الناشئة عبر الإنترنت، نشر مقالًا بعنوان «نظرية الغابة المظلمة للإنترنت».

لاحقًا، توسّع كل من الكاتب فينكاتيش راو والمصممة ماغي أبلتون في شرح مفهوم «الويب الدافئ». كانت فكرتهم الأساسية بسيطة، وهي أنّ الناس على الإنترنت العام يبدون متعصبين وغليظين، لكنهم أكثر لطفًا وتفهّمًا عندما يكونون في بيئات محدودة وضيقة النطاق.

وهذا ما قادهم إلى طرح تساؤل جوهري: هل فعلاً تنتصر الأفكار الأفضل؟ أم أن ما ينجح في الانتشار هو ببساطة ما يسهل تكراره وهضمه داخل المجموعات القائمة؟ لقد اهتزّ إيمانهم بثقافة «الميمات» الرقمية. لم تكن هذه الثقافة تنتقي الأفضل، بل تنتقي الأسرع في الانتشار والأكثر توافقًا مع ما هو قائم.

في خريف عام 2021، أدركت أسباروهوفا أن سلسلة الأفكار الغامضة التي كانت تشغلها قد سبق أن تناولها عمل أدبي طريف وغريب بعنوان «لا وجود لقسم مضاد الميمات». هذا الكتاب لافت وفريد وأشبه بلغز حي. نُشر في الأصل كسلسلة على الإنترنت بين عامي 2008 و2020، تحت الاسم المستعار qntm (تُنطق: «كوانتوم»)، الذي تبيّن لاحقًا أنه الكاتب البريطاني ومطور البرمجيات سام هيوز، وذلك ضمن مشروع تعاوني واسع النطاق يُعرف باسم (SCP Foundation Wiki)، وهو موقع إلكتروني أدبي تفاعلي يكتب فيه مؤلفون من جميع أنحاء العالم قصصًا خيالية على شكل ملفات سرّية عن منظمة غامضة تُدعى «مؤسسة SCP»، تتولى احتواء الكائنات الخارقة والظواهر غير الطبيعية من أجل حماية البشرية.

ومن المنتظر أن تُنشر الرواية، بصيغة منقّحة ومطورة، في نسخة ورقية لأول مرة خلال خريف 2025. أما حبكتها، فيصعب تلخيصها بقدر ما يصعب إعطاء تعليمات للوصول إلى القمر بالسيارة. ومع ذلك، يمكن القول إنها تدور حول فريق من الباحثين يسافرون في حلقات زمنية لمحاولة إنقاذ العالم من «تجمّع ميمي» خارج أبعاد الواقع، يتخذ أحيانًا شكل مخلوقات عملاقة تشبه الحشرات ويمكن فقط القضاء عليها من خلال نسيانها.

الفكرة المحورية للرواية تقوم على تجسيد المفهوم المجازي للميم، وتحويله إلى كائنات ثقافية تتكاثر ذاتيًا، على هيئة وحوش خارقة، بعضها طريف، وبعضها مخيف، تحتاج إلى أن تُحتجز وتُدرس في منشآت آمنة، حفاظًا على البشرية. ما لفت انتباه أسباروهوفا على وجه التحديد كان ما قدّمه الكتاب من مفهوم جديد، وهو «السر الذي يصون نفسه»، أو ما يُعرف بـ «المضاد الميمي». فإذا كانت الميمات، بحكم تعريفها، سهلة الانتشار وصعبة النسيان، فإن المضادات الميمية هي العكس تمامًا، فهي أفكار يصعب تذكّرها، ويستحيل تقريبًا نشرها أو تداولها. وإذا كانت الميمات قد تسببت بالكثير من الأذى، فربما تكون المضادات الميمية هي العلاج الذي نحتاج إليه. هذا التناقض بين الميم والمضاد الميمي هو ما شكّل روح كتاب أسباروهوفا الجديد «المضادات الميمية: لماذا تقاوم بعض الأفكار الانتشار». وقد صدر الكتاب ضمن سلسلة (Dark Forest Collective) التي يشرف عليها يانسي ستريكلر. في مقدمة الكتاب، توضّح الكاتبة أنها تكرّس عملها لفهم «الأفكار التي يصعب تذكّرها أو استيعابها أو التفاعل معها، رغم أهميتها الكبيرة».

إنها مهتمة بالأفكار التي تكلّفنا شيئًا، تلك التي تتطلّب جهدًا أو تضحيات. أمثلتها الأولى قد تبدو غريبة أو حتى مضلّلة. على سبيل المثال: لماذا لا نزال نلتزم بتوقيت الصيفي رغم أن لا أحد يحبه؟ لماذا لا يغسل البعض أيديهم رغم معرفتهم بضرورة ذلك؟ (ربما كان مثالًا أوضح هو ما يُعرف الآن بـ «أجندة الوفرة» التي تُحاول كسر الهوس بالبيروقراطية والاستعراض الخطابي، لصالح التفرغ للعمل الفعلي والبطيء على مشكلات البنية التحتية الأساسية).

لكن في النهاية، ما تسعى إليه أسباروهوفا أكبر من ذلك بكثير: لماذا نعجز عن حلّ مشاكل واضحة وضخمة وتجمعية؟ أو بصيغة أبسط: لماذا لا يمكننا امتلاك أشياء جيدة؟

تقول: «إن عجزنا عن إحراز تقدم في قضايا مصيرية، يمكن تفسيره جزئيًا على الأقل بكون هذه القضايا تحمل خصائص مضادة ميمية، تجعل من الصعب بشكل غريب أن تبقى حاضرة في أذهاننا».

هذه الأفكار المجهدة والمُهمَلة تتوارى في زحام الإشارات الرقمية السطحية على الإنترنت. تقول: «في ظل هيمنة الميمات على حياتنا، أصبحنا نؤدي أدوارًا كمجرّد ناقلين لها، ونعيد تشكيل سلوكنا وهويتنا لنُشبه نماذج الرغبة الأقوى. وغالبًا الأكثر بدائية وسطحية. وإذا تمادت الأمور، فقد نواجه فقدانًا مرعبًا لقدرتنا الإنسانية على الإبداع والابتكار».

كان بإمكان أسباروهوفا أن تختار عناوين أخرى لهذا المشروع، إذ إن هناك العديد من الزوايا الممكنة لتحليل العلاقة بين البنية التقنية لأي وسيلة تواصل، ونوعية وسرعة المعلومات التي يمكن أن تنقلها. لكنها اختارت مصطلح «المضادات الميمية»، رغم غرابته، لأنه يُعبّر عن موقفها المعقّد من مجموعة من الأفكار التي كثيرًا ما تُصنَّف ضمن اليمين.

وكحال كثير من مفكري وادي السيليكون، ترى أسباروهوفا أن شخصيات مثل اليميني المتطرف كيرتس يارفين، رغم رفضها العلني لبعض آرائه، وبيتر ثيل، امتلكوا فهمًا أدق لسلوك الناس على الإنترنت من كثير من الليبراليين.

فلقد توقّع ثيل، عبر توظيفه لمفهوم «كبش الفداء» عند جيرار، بروز ما يُعرف اليوم بـ«ثقافة الإلغاء» كظاهرة بنيوية، في حين أشار يارفين منذ وقت مبكر إلى أن الحل لما يشهده الفضاء الرقمي من فوضى فكرية هو اللجوء إلى «مساحات صغيرة، غنية بالسياق».

تتفق أسباروهوفا مع هذا الوصف، لكنها ترفض أن تنجرّ وراء مواقفهم المهادِنة لمستبدّي العصر الرقمي الجدد. تكتب قائلة: «سلوك الميمات قد أوصلنا إلى ما نحن فيه، لكن إذا كنا نبحث عن طريق للنجاة، فعلينا أن ننتبه إلى سلوك آخر، خفيّ ومهمَش، سلوك مضاد ميمي، فهو ما قد يرشدنا إلى المخرج».

ترى أسباروهوفا أن النظريتين السائدتين حول المعلومات في عصر الإنترنت كانتا خاطئتين من الأساس. فالأولى ترى أن الفضاء الرقمي يجب أن يكون منظمًا ومحكومًا بالكامل؛ والثانية، تفترض أن من الطبيعي أن تظل المعلومات خاضعة لتأثير الكاريزما والشخصيات المؤثرة.

لقد كان من السذاجة، في رأيها، أن نُراهن على أن توسيع المجال العام بشكل جذري وفوضوي، بمعنى “إضافة مزيد من الأصوات إلى الغرفة”، سيساعدنا في اكتشاف عبقريتنا الجماعية في التفكير والتفاهم. لكنها، في الوقت نفسه، لا ترى أن الحل هو الاستسلام الكامل لانهيار السياق واستمرار الحرب الميمية بلا نهاية.

إنها لا تعتقد أن كل أشكال التواصل ما هي إلا صراع على السلطة. ولا تزال تؤمن بقيم الديمقراطية والحضارة، ولا ترى أن الوقت قد حان لوداعهما. بل تعدّ نفسها واحدة من «اللاجئين الفارّين من عدوى الميمات»، من أولئك الذين يحاولون بناء بنية معرفية وتواصلية جديدة، لا تُغرق الناس ولا ترهقهم، بل تنشأ في فضاءات خاصة أو شبه خاصة، يكون فيها الحد الأدنى من الثقة وحسن النية أمرًا مُسلّمًا به، ويصبح الخلاف فرصة للإثراء لا للتدمير.

تقول أسباروهوفا: «إذا كانت مدينة الميمات تُشبه تايمز سكوير، بمبانيها اللامعة وضجيجها المستمر، فإن مدينة المضادات الميمية أقرب إلى خيام متناثرة في صحراء لا نهاية لها. بعضها أكبر وأكثر شهرة، مثل المنتديات القديمة أو النوادي الرقمية المغلقة أو خوادم الديسكورد، لكن الوحدة الاجتماعية الأساسية فيها تظل هي مجموعة الدردشة. تلك المساحة الصغيرة التي تتيح لك أن تبني جدارًا افتراضيًا حول أي نقاش، متى ما احتجت لذلك.»

أما كتاب «المضادات الميمية» نفسه، فهو يبدو أقرب إلى مسودة تفكير حيّ منه إلى عمل نظري صارم. أسلوبه غير منتظم، وأفكاره لا تأتي دائمًا بشكل واضح أو ممنهج، لكن هذا جزء من طبيعته المضادة للميمات.

في بعض الأحيان، تصف أسباروهوفا المضاد الميمي على أنه فكرة معينة، كأهمية تمديد إجازة الوالدين، وهي فكرة منطقية لكن لا تجد دعمًا دائمًا في أي تيار سياسي أو اجتماعي. وفي مواضع أخرى، تشير إلى أن المضاد الميمي هو تذكير مقدّس بضعفنا الإنساني، وأننا مخلوقات محدودة نستحق الرحمة والتسامح.

ومن الواضح أن هذا المشروع تشكّل تحت تأثير جائحة كورونا، إذ تعود الكاتبة مرارًا إلى تشبيه المضادات الميمية بالأمراض الكامنة، فهي لها «فترة أعراض طويلة»، وتُقاوم الانتشار بشدة. وإذا ما خرجت هذه الأفكار من سياقها الأصلي وانتشرت داخل شبكات تتمتع بمناعة فكرية عالية، فإنها تُقابل بمقاومة فورية وشرسة تُجهضها قبل أن تنضج.

من هذا المنطلق، قد يُنظر إلى فكرة المضاد الميمي على أنها مجرد اسم جميل لفكرة «معقدة» أو «تستحق الجهد». وفي أحيان أخرى، تبدو كمصطلح بديل لكلمة «مُرهقة» أو«صعبة الاكتساب». في بعض المواضع، توحي الكاتبة بأن هذه الأفكار جيدة بطبيعتها، بينما في مواضع أخرى تعتبرها حيادية أخلاقيًا، لا تُصنّف ضمن الخير أو الشر.

أحيانًا، تأخذ المضادات الميمية شكل عمليات بيروقراطية. وأحيانًا أخرى، تبدو وكأنها أهداف ملموسة تسعى لتحقيقها. وما يجعل هذا التداخل المفاهيمي ممتعًا بدلًا من مربك، هو أن أسباروهوفا لا تدّعي أن لديها نظرية نهائية. هي ببساطة تُفكّر بصوت مرتفع، وتُشارك القارئ في عملية بحثها.

الكتاب لا يُشعرك بأنه يفرض عليك فكرة جاهزة، بل يبدو وكأنه نابع من مجموعة دردشة حيّة، يتطوّر من فكرة إلى فكرة، ويمنحك المساحة لتفكر معه، لا فيه فقط. وكما هو الحال في معظم كتب نظريات الإنترنت، حتى الجيدة منها، ينتهي المطاف بأسباروهوفا إلى اقتراح علاج بسيط في جوهرهن وهو أنه علينا أن نُعيد تعلُّم كيفية التمييز بين ما يستحق انتباهنا وما لا يستحق. وهي، في هذا السياق، تُدرك أن مثل هذه النصيحة قد تبدو مبتذلة أو أشبه بدعوة رومانسية لـ «الاستمتاع برائحة الزهور»، لكنها تحاول تجاوز هذا التصور.

المفارقة أنها تستلهم رمزًا للصبر والقدرة على مواجهة التعقيد ليس من كتب التنمية الذاتية، بل من شخصية مثيرة للجدل مثل «روبرت موزس»، المخطط العمراني الشهير في نيويورك. وهذا في حد ذاته يُعد خروجًا جريئًا عن نمط السرد المعتاد في الأدبيات التي تمجّد «الانتباه» كقيمة روحية.

ومع ذلك، تؤكد أن الانتباه الفردي ليس كافيًا. الأهم منه هو المشاركة الواعية في نوع أدق من «فرز المعلومات»، ذلك الذي تمارسه المجتمعات الصغيرة الغنية بالسياق، حيث يمكن للنقاش أن يكون عميقًا، والخلاف مثمرًا. لكنها لا تدعو إلى الانعزال الكامل داخل جدران افتراضية عالية. الفكرة ليست في الهروب أو بناء الملاجئ. بل في تصوّر «هندسة تكرارية» للعالم الفكري، حيث تُختبر الأفكار في بيئات ضيّقة وآمنة قبل أن تُطرح في الساحة العامة.

تقول: «مجموعات الدردشة الخاصة هي أماكن نَبني فيها الثقة مع من يشبهوننا، قبل أن يسهم كل منا في تضخيم أفكار الآخر في المجال العام. فمدن الميمات ومدن المضادات الميمية تعتمد على بعضها، فكلما قويت الميمات، زادت حاجتنا إلى أماكن خاصة لصقلها.»

وتعترف بأن هذا الاقتراح ليس سهلاً. إنه، عمليًا، دعوة لإعادة بناء الحضارة المعرفية من الصفر. ولكنها تضيف أن الطريق السهل لو كان قد نجح، ولو أن كل ما احتجنا إليه هو التخلص من «حرّاس البوابات» وإعطاء الجميع صوتًا، أو مجرد تذكير الناس بأن هؤلاء الحراس كانوا محقّين، لما كنا بحاجة إلى هذه المحادثة من الأساس.

ويأتي كتاب «المضادات الميمية» في لحظة مناسبة لسببين رئيسيين. أولهما أن مجموعات الدردشة الخاصة أصبحت بالفعل ما كانت أسباروهوفا تتوقعه، وهو أنها المنصة الأساسية لما هو مهم ومثير حقًا. تقول: «في مكان ما، يجلس مشاهيرك المفضلون، وساستك، ومديرو الشركات الكبرى، يكتبون على لوحات مفاتيحهم في مجموعات على سيغنال أو تيليغرام أو واتساب، يخططون لحملات إعلامية، وثورات رقمية، واستحواذات مالية.»

وقد دعم الصحفي بن سميث هذه الرؤية قبل أسابيع، حين نشر في موقع (Semafor) تقريرًا يُظهر أن المستثمر الشهير مارك أندريسن يدير عددًا هائلًا من مجموعات الدردشة، يُنسّق من خلالها نشر ما يُعرف بـ «الساميزدات»، وهي الأفكار الجريئة أو الخارجة عن المألوف. ووفقًا لإحدى المصادر، يقضي أندريسن «نصف حياته داخل مائة مجموعة دردشة في وقت واحد».

أما الاقتصادي نوح سميث، فكتب ساخرًا: «مجموعات الدردشة أصبحت المكان الذي يحدث فيه كل ما هو مهم.» ومع أن بعض تنبؤات أسباروهوفا لم تتحقق بدقة، مثل قولها إن «الصحفيين لا يملكون أدنى وصول إلى هذه المجموعات المؤثرة»، فإن الأحداث الأخيرة أثبتت أن الإنترنت المفتوح لم يعد ساحة للحوار، بل مجرد صدى لصراخ عشوائي أو دعم منسَّق لحملات خُطط لها في الظل.

السبب الآخر لأهمية الكتاب في هذا التوقيت هو ما يمكن تسميته بـ «الفحص الأخلاقي الذاتي» الذي بدأ يظهر في أوساط مفكّري وادي السيليكون، ومنهم أسباروهوفا، الذين بدأوا يتساءلون: هل كانت أفكارهم غير التقليدية في العقد الأخير سببًا غير مباشر في نتائج سياسية كارثية؟

في عمل أدبي قصير نُشر على الإنترنت بعنوان «غروب سادة الحواف»(Twilight of the Edgelords)، يكتب سكوت ألكسندر، مؤلف مدونة (Astral Codex Ten)، حوارًا على لسان إحدى شخصياته يقول فيه: «كل أفكارنا الجيدة، تلك التي كان خبراء المعلومات المتغطرسون سيُلغوننا بسببها، انتهى بها الأمر إلى أن تُشوَّه بطريقة حزينة ومروعة».

ثم يبدأ باستعراض أمثلة: «كنا نأمل فقط أن نتمكن من الاحتفاظ بوظائفنا دون أن نُجبر على ترديد شعارات (التنوع، والعدالة، والمساواة)، أو أن نضطر للإجابة على اختبارات سطحية وسخيفة، مثل: (كيف يتسبب الأشخاص البيض في حدوث الزلازل؟).

لكن بدلاً من ذلك، أصبحت الأجواء مشحونة إلى درجة أن آلاف الدراسات العلمية أُلغيت أو أسكتت لمجرد أنها احتوت على كلمة (trans-) في مصطلحات علمية بريئة مثل (transmembrane proteins = بروتينات عابرة للغشاء)، والتي لا علاقة لها إطلاقًا بقضايا الهوية الجندرية أو (transgender = المتحولين جنسيًا)، لكن الحساسية المفرطة تجاه الكلمات أصبحت عائقًا حتى أمام البحث العلمي الجاد.

ما فعله ألكسندر كان، في جوهره، قريبًا مما كانت ستدعو إليه أسباروهوفا، وهو تنظيم نقاشات دقيقة ومعقّدة داخل دوائر مغلقة يتوافر فيها قدر من الفهم والسياق المشترك، على أمل أن تنعكس لاحقًا إيجابًا على الخطاب العام.

لكن ما يؤلمه اليوم هو أن كل ذلك الجهد الفكري، وكل تلك الحوارات الثرية، انتهت في النهاية إلى تبسيط مخلّ وهو إما معنا أو ضدنا. وكأنه، دون أن يقصد، أسهم في تغذية الضجيج الذي كان يسعى لتجاوزه.

استنادًا إلى ما كشفه بن سميث في تقاريره، وخاصة زعمه بأن مجموعات الدردشة التي يديرها مارك أندريسن كانت «المكان الأهم على الإطلاق في تشكيل تحالف مذهل حول دونالد ترامب، وصياغة شراكة بين وادي السيليكون واليمين الجديد»، فإن مراجعة سكوت ألكسندر الذاتية، رغم صدقها، بدت وكأنها مجرد جلدٍ زائدٍ للذات، لا أكثر.

أما من وجهة نظر ناديا أسباروهوفا، فالعبرة الأهم لا تكمن في ضرورة قمع الأفكار السيئة، بل في أهمية أن تحظى الأفكار الجيدة بدعم من مؤسسات قوية وموثوقة قادرة على مقاومة الرغبة المتكررة في هدم كل شيء من أساسه.

رغم الغرابة التي تطبع رواية «لا وجود لقسم مكافحة الميمات» للكاتب كوانتوم، فإن رسالتها في هذا السياق واضحة بشكل مدهش. في عالم الرواية، تواجه البشرية خطرًا دائمًا من أفكار قاتلة تنتشر كالفيروسات، تتغذى على مشاعر الخوف والعداء، وتعيد إنتاج نفسها باستمرار. إنها أفكار تشيع مفاهيم مثل: «العالم يفتقر إلى الموارد»، و«البشر في صراع دائم»، و«لا يمكن الوثوق بأحد»، و»بعض الناس لا يستحقون المساواة. وهي مشاعر تنفذ سريعًا إلى الوعي وتحوّل البشر إلى ما يشبه الزومبي، وهي كائنات خاملة، تسير بلا عقل أو تعاطف.

وفي قلب الرواية، يتجسّد هذا الخطر في كيان رهيب يُدعى (SCP-3125)، وهو تجمع فكري شرير ينتمي لعالم آخر، ولا يحمل هدفًا سوى أن يُظهر قوّته وأن يُقنع الجميع بأن هذه القوّة لا يمكن مواجهتها. لكن البطلة تكتشف أن هذا في حقيقته مجرّد كذبة؛ كذبة تقول، في اقتباس مأخوذ من الرواية: «SCP-3125 لا يمكن هزيمته». والرواية تؤكد: «لكنه كذب».

أما العلاج، فهو استحضارٌ واعٍ ومدروس لكل ما يُنسى بسهولة، لأفكار مضادة للميمات مثل: «الحياة الفردية قصيرة وعابرة»، «الغرباء يعانون كما نعاني»، و«أحبب جارك». في عالم الرواية، يتصارع هذان النوعان من القوى، ما يسهل تذكّره، وما يُنسى بسرعة، في دورة لا تنتهي من الدمار والانبعاث من جديد.

وغالبًا، كان لا بد من كارثة حضارية جديدة حتى نتذكر تلك الحكم الصعبة التي تحملها المضادات الميمية. ومع كل دورة، تأخذنا التكنولوجيا إلى مستوى جديد من الخراب العاطفي والمعرفي.

لكن هذه المرة، كما تقترح أسباروهوفا، ربما يمكننا أن نتدارك الأمر قبل فوات الأوان.

جيديون لويس-كراوس كاتب في مجلة ذا نيويوركر منذ عام 2020، يغطّي موضوعات تتعلّق بالتكنولوجيا والأوساط الأكاديمية والكتب، من بين قضايا أخرى. عمل سابقًا ككاتب متجوّل في مجلة نيويورك تايمز ماغازين، وكاتب مساهم في وايرد، ومحرر مساهم في هاربرز، وكان باحثًا في برنامج فولبرايت في برلين

مقالات مشابهة

  • خبراء لـ "الفجر": السودان بين جحيم الحرب وبوادر التحول السياسي
  • هل يعود كليتشدار أوغلو إلى رئاسة حزب الشعب الجمهوري؟
  • ليست مسرحية بل لعبة العروش السياسية
  • تعرف على الفئات المحرومة من التصويت فى الانتخابات وفقًا لقانون مباشرة الحقوق السياسية
  • لماذا تموت الأفكار الجيدة بصمت وتنتشر الأفكار السيئة كالنار في الهشيم؟
  • رشاد عبد الغني: وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل يؤكد رؤية مصر التي تنادي بالحلول السياسية لا الحروب
  • حزب الاتحاد: يجب تحصين المنطقة من سيناريوهات الانفجار التي تهدد الشرق الأوسط
  • عاشور يشيد بقرارات القيادة السياسية بإنشاء 12 جامعة أهلية جديدة
  • هل يعمّق ترشيح الحسن واترا لولاية رابعة الأزمة السياسية بساحل العاج؟
  • تبدّل في الخطاب السياسي لاستيعاب الحزب