عبد الباري عطوان عندما تلجأ الإدارة الامريكية الى دفاترها القديمة، وترسل هنري كيسنجر وزير خارجيتها قبل 50 عاما الى بكين، فهذا يعني أمرين أساسيين: الأول: ان استراتيجيتها الدبلوماسية في احتواء الصين وأبعادها عن روسيا قد فشلت، والثاني: انها بدأت تشعر بإرهاصات بالهزيمة في الحرب الأوكرانية التي أشعلت فتيلها، وتبحث الآن يائسة عن مخارج منها عبر دبلوماسية الأبواب الخلفية.

هنري كيسنجر الذي تجاوز المئة عام من عمره، لم يذهب الى بكين دون التنسيق المسبق مع إدارة الرئيس جو بايدن، وربما وبتكليف مباشر منها، وفي هذا التوقيت بالذات حيث تواجه العلاقات الصينية الامريكية حالة من التوتر تقترب من المواجهة العسكرية خاصة في تايوان، والمواجهة السياسية الاقتصادية على أرضية الحرب على الدولار والبحث من إيجاد البديل له ونظامه المالي في قمة “بريكس” الشهر المقبل في جنوب افريقيا، التي ستضع خريطة طريق لإنهاء الهيمنة الامريكية على مقدرات العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية. *** الدهاء الصيني يدرك جيدا جميع الحقائق السابقة الذكر، مثلما يدرك أيضا، ان الحزبين المتنافسين على السلطة في واشنطن ومرشحيهما لخوض الانتخابات الرئاسية والتشريعية العام المقبل، يتفقان على العداء للصين، والتحذير من خطورتها كمنافس عالمي لبلادهم، ولهذا قامت (الصين) بعملية دبلوماسية التفافية، وفرشت السجاد الأحمر لكيسنجر الذي حظي بإستقبال الرئيس شي جين بينغ، وكبير دبلوماسييه ووزير دفاعه الذي رفض لقاء نظيره الأمريكي لويد اوستن، كما استقبلت اكبر شخصيتين اقتصاديتين امريكيتين هما بيل غيث، وايلون ماسك، وهدف هذه الدبلوماسية الصينية الذكية الوصول الى قادة الرأي في أمريكا في الحقلين السياسي والاقتصادي، وممارسة ضغوط مباشرة على الرئيس بايدن وادارته، ويبدو ان هذه الاستراتيجية الصينية حققت اختراقا كبيرا في هذا المضمار. لنترك الجانب الاقتصادي جانبا، ونتجنب الحديث عن التبادل التجاري بين البلدين الذي تضاعف اكثر من ثلاثة مرات ووصل الى 140 مليارا عام 2022 بالمقارنة مع عام 2018 (60 مليارا)، فهذه مسألة أخرى تحتاج الى مقال آخر، فالسياسية هي العمود الفقري لزيارة كيسنجر ولهذا يجب التركيز على أهدافها التي يمكن اختصارها في النقاط التالية: أولا: محاولة فك الارتباط السياسي والعسكري المتسارع بين الصين وروسيا، وجر الصين الى المعسكر الأمريكي مجددا، ومن المعروف ان كيسنجر حذر الرئيس الأمريكي بايدن في اول لقاء له بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية من هذا التقارب الصيني الروسي واخطاره السياسية والعسكرية المحتملة على الولايات المتحدة وزعامتها للعالم. ثانيا: البحث عن مخارج دبلوماسية سريعة من الحرب في أوكرانيا التي تورطت فيها إدارة بايدن، واللجوء الى الوساطة اذا ما نجحت ستصب في الهدف الرئيسي وهو الحياد الصيني المأمول، ولو في حدوده الدنيا، ففي حال نجاح هذه الخطة، فأن هذا سيكون مكسب كبير لأمريكا. ثالثا: يؤمن كيسنجر بأن أي حل سياسي لهذه الازمة الأوكرانية يتطلب تقسيم أوكرانيا، هو الحل، على غرار ما حدث في الحرب الكورية عام 1952 بإنشاء دولتين، واحدة موالية لروسيا (في الأقاليم الخمسة التي ضمتها موسكو)، وأخرى موالية لامريكا في ما تبقى من أوكرانيا، صحيح ان كيسنجر لم يفصح عن موقفه هذا بشكل مباشر، ولكنه أكده بطريقة خبيثة بإقتراحه بعدم انضمام أوكرانيا الى حلف “الناتو”، او الاتحاد الأوروبي، وبقائها على الحياد، وحتمية تفهم المطالب الجغرافية والاثنية الروسية وتقديم تنازلات ترابية جغرافية. الرئيس بايدن يعلم جيدا بمواقف كيسنجر هذه، ولهذا شجعه “مضطرا” على زيارة بكين، وان كانت ادارته قد استاءت من الحفاوة التي حظي بها، ولم يحظ بربعها المسؤولين الأمريكيين الذين زاروا العاصمة الصينية قبل بضعة اشهر، مثل انتوني بلينكن وزير الخارجية، وجانبت يلين وزيرة الخزانة، وجون كيري وزير المناخ، ولهذا ينتظر بايدن عودة كيسنجر على أحر من الجمر لمعرفة رؤيته التحليلية للموقف الصيني من الحرب الأوكرانية، والعلاقات الثنائية، والقضايا الخلافية الأخرى في تايوان وغيرها، والرسائل الصينية المباشرة وغير المباشرة التي يحملها، وكشف جون كيربي المتحدث باسم مجلس الامن القومي الأمريكي امس عن هذه الرغبة عندما اكد ان الإدارة الامريكية ستكون حريصة على الاستماع لما في جعبة كيسنجر من آراء بعد عودته.

 

***

 

صحيح ان كيسنجر بلغ المئة عام من عمره، وان آخر مرة زار الصين كوزير خارجية كانت قبل خمسين عاما، ولكن الصحيح أيضا ان زيارته الحالية هذه قد تكون آخر فرصة، ليس لإصلاح العلاقات الصينية الامريكية فقط، وانما أيضا تخفيف حدة التوتر، وتجنب المواجهة مع الصين عسكريا على أرضية الخلاف حول تايوان، والحرب الأوكرانية. أمريكا تعيش مأزقا خطيرا متشعب الجبهات هذه الأيام، وتبحث عن مخارج بأي طريقة، ولعل لجوئها الى كيسنجر المُغرق في الهرم، لمساعدتها في هذا المضمار، هو احد اكبر عناوين هذا المأزق، وحالة الضعف التي تعيشها على الصعد كافة. كيسنجر لا يملك طوق النجاة حتى يلقيه لإنقاذ الغريق بايدن للخروج من هذا المأزق، ووقف الانهيار الأمريكي المتسارع سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فأفكاره قديمة، والصين اليوم هي غير الصين التي زارها عام 1972، ودبلوماسية البينغ بونغ اندثرت، ولم تعد موجودة على الخريطة السياسية، والعالم يتغير بسرعة، وهناك معادلات جديدة تتبلور، وقوى جديدة تصعد بسرعة، ولا يعرف كيسنجر الذي يعيش في الماضي الكثير من تفاصيلها، والحل الوحيد لبايدن ان يذهب بنفسه الى بكين، وبعدها موسكو مسلما بالحقائق الجديدة، وباحثا عن نهاية تنقذ ماء الوجه في تايوان والحرب الأوكرانية، تقليصا للخسائر، وتجنبا للهزيمة الكبرى، فأمريكا لم تعد الدولة الأعظم، والصين وروسيا هما القوتان الصاعدتان بقوة حاليا، ومرحلة الزعامة الغربية للعالم على أرضية الحرب العالمية الثانية ونتائجها، ولت الى غير رجعة، ونحن نقف على اعتاب عالم جديد بمعادلات جديد.. وقيادات جديدة.. والأيام بيننا.

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: الحرب الأوکرانیة

إقرأ أيضاً:

وسط ضغوط الحرب الأوكرانية.. موسكو تنفي تجنيد إيرانيين وتهاجم أوروبا

البلاد (موسكو)
في خضم التعقيدات المتصاعدة للحرب في أوكرانيا، تحولت موسكو خلال الساعات الماضية إلى واجهة الحدث عبر جبهتين متوازيتين (نفي رسمي لإعلان مزيف انتشر في إيران حول تجنيد مقاتلين للقتال في أوكرانيا، وتصعيد سياسي حاد ضد الاتحاد الأوروبي على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف)، حيث نفت السفارة الروسية في طهران بشكل قاطع صحة إعلان متداول على وسائل التواصل الاجتماعي، يزعم أن موسكو تدعو مواطنين إيرانيين بين 18 و45 عاماً للالتحاق بالقوات المسلحة الروسية مقابل مبالغ مالية كبيرة.
وأوضحت السفارة، عبر بيان على قناتها الرسمية في “تليغرام”، أن الإعلان الذي تضمن وعوداً بدفع 20 ألف دولار كمكافأة أولية و2000 دولار شهرياً، ما هو إلا رسالة مزيفة، أعدّها أفراد “يسعون للربح” عبر عمليات احتيال رقمية تستغل الوضع الدولي.
وأكد البيان أن “الرسالة وأي وثيقة مشابهة لها مزيفة بالكامل ولها طابع إجرامي”، مشدداً على أن السفارة وأي جهة روسية رسمية لا علاقة لها بالإعلان المتداول. كما دعت السفارة المواطنين الإيرانيين إلى التواصل مع الأجهزة الأمنية فور تلقي أي إشعار مشابه، والتحقق من أي تعامل رسمي عبر القنوات الموثوقة فقط.
ورغم النفي الرسمي، أشارت إذاعة “أوروبا الحرة” إلى أن عمليات تجنيد مقاتلين أجانب ـ إن حدثت ـ غالباً ما تتم عبر قنوات غير رسمية، أو شركات أمنية خاصة، وليست بالضرورة مرتبطة مباشرة بالحكومة الروسية، في إشارة إلى تعقيدات هذا النوع من الملفات خلال الحرب.
وبالتزامن مع الضجة المثارة حول الإعلان المزيف، وجّه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف انتقادات حادة إلى الاتحاد الأوروبي، معتبراً أن التكتل “يوهم نفسه بإمكانية هزيمة روسيا”، ومتهماً إياه بالمعاناة من “عمى سياسي ميؤوس منه”.
وفي كلمة أمام الجلسة العامة لمجلس الاتحاد الروسي، قال لافروف إن موسكو “لا تنوي شن حرب ضد الدول الأوروبية ولا تفكر في ذلك مطلقاً”، لكنه أكد أن روسيا سترد “بقوة” إذا قررت أي دولة أوروبية نشر قوات في أوكرانيا. كما اتهم الأوروبيين بتحريض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وإطالة أمد الحرب.
وفي سياق متصل، ثمّن لافروف ما سماه جهود الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لإيجاد حل سياسي للحرب، مؤكداً توافق موسكو وواشنطن على مواصلة العمل لإبرام تسوية.
الموقف نفسه عبّر عنه المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، الذي شدد على أن روسيا تسعى لـ “سلام مستدام وطويل الأمد” وليس مجرد وقف لإطلاق النار، مشيراً إلى أن تصريحات ترامب بشأن عضوية أوكرانيا في “الناتو” تتوافق مع الرؤية الروسية.

مقالات مشابهة

  • ترامب: إرسال ممثل إلى أوروبا بشأن الحرب الأوكرانية بشرط
  • تهديد بهدم قبر عزّ الدين القسّام.. ما الرسالة التي يسعى بن غفير إلى إيصالها؟
  • مقارنة بالنماذج الصينية.. شات جي بي تي يفشل في بناء المواقع
  • وسط ضغوط الحرب الأوكرانية.. موسكو تنفي تجنيد إيرانيين وتهاجم أوروبا
  • أكسيوس: ترامب يبحث جهود الأزمة الأوكرانية مع قادة أوروبا
  • بوتين: دونباس أراضٍ روسية وسنواصل الحرب لتحقيق الأهداف
  • الاقتصاد الألماني أمام أعمق أزماته منذ الحرب العالمية الثانية
  • دونالد ترامب: بايدن يتحمل أزمة الاقتصاد وحرب أوكرانيا
  • 6 مبادئ تتبناها الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.. التفاصيل
  • مدير مركز تغير المناخ يوضح أسباب التقلبات الجوية التي تشهدها البلاد حاليا