الجزيرة:
2025-12-12@08:44:32 GMT

أهم 10 أحداث أثرت في الاقتصاد العالمي خلال 2025

تاريخ النشر: 12th, December 2025 GMT

أهم 10 أحداث أثرت في الاقتصاد العالمي خلال 2025

نحن نقف اليوم على أعتاب نهاية عام 2025، العام الذي شهد سلسلة من الأحداث الاقتصادية والجيوسياسية التي غيرت شكل العالم.

فقد حمل هذا العام تحولات كبيرة أثرت في شكل التحالفات وفي نماذج التمويل والتجارة وفي خريطة النفوذ الاقتصادي، وفتح الباب أمام مرحلة مختلفة يختلط فيها البعد الاقتصادي بالجيوسياسي بشكل أوضح من أي وقت مضى.

وقد كان لعودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب دور بارز في زيادة حدة هذه التقلبات، سواء عبر السياسات التجارية أو عبر التغيرات في النهج الإستراتيجي للولايات المتحدة، الأمر الذي مهّد لتحولات ما زالت تتفاعل حتى الآن وقد تستمر في تشكيل مسار عام 2026.

ولكي نفهم إلى أين نتجه من الضروري أن ندرك ما الذي حدث خلال هذا العام، وكيف تراكمت هذه التطورات وشكلت واقعا اقتصاديا عالميا أكثر حساسية وتعقيدا.

وفي هذا المقال سنستعرض أبرز الأحداث الاقتصادية التي أثرت على النظام الاقتصادي العالمي في 2025، ونحاول من خلالها فهم الاتجاهات المحتملة في عام 2026.

1- عودة ترامب وإعادة تشكيل الدور الأميركي

شهد عام 2025 تحولا مهما مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو حدث ترك أثرا مباشرا على بنية النظام العالمي، خصوصا من ناحية السياسات التجارية والتحالفات الدولية جاءت هذه العودة ضمن سياق سياسي مشحون داخليا في الولايات المتحدة، ورافقتها خطوات واضحة نحو إعادة تعريف دور أميركا في العالم، سواء من خلال مراجعة اتفاقيات تجارية، أو التشكيك في التزامات سابقة، أو تبنّي نهج أكثر تشددا في الملفات المتعلقة بالهجرة والعولمة وسلاسل التوريد.

هذا التغيير في اتجاه السياسة الأميركية لم يكن مجرد تغيير في الوجوه، بل شكّل انتقالا إلى سياسة أكثر تشددا وأقل انفتاحا على النظام العالمي، الأمر الذي خلق حالة من القلق في الأسواق العالمية وفتح الباب أمام موجة واسعة من إعادة تموضع إستراتيجي لدى العديد من الدول، خاصة تلك التي تعتمد بشكل مباشر على السوق الأميركي أو المظلة الأمنية والسياسية لواشنطن.

السياسات الحمائية الأميركية تفرض موجة جديدة من إعادة التموضع التجاري وتهديد الاستقرار الاقتصادي الدولي (الفرنسية)2- "يوم التحرير".. تعريفة جمركية تفتح مرحلة اقتصادية جديدة

شهد أبريل/نيسان 2025 ما عُرف بـ"يوم التحرير"، وهو اليوم الذي أعلنت فيه الإدارة الأميركية حزمة واسعة من التعريفات الجمركية على واردات رئيسية من الصين وأوروبا ودول أخرى، في خطوة اعتُبرت نقطة تحول في مسار التجارة العالمية.

إعلان

هذا القرار لم يقتصر أثره على العلاقات الثنائية بين واشنطن وبكين، بل امتد ليشمل الأسواق المالية التي سجلت تراجعا حادا، خصوصا أسهم التكنولوجيا والرقائق، مع تبخر مئات المليارات من القيم السوقية خلال ساعات.

كما ردت دول عدة بفرض تعريفات مضادة، مما أدى إلى تصاعد التوتر التجاري وإعادة تسعير السلع عالميا ومخاطر التضخم.

وشكّل هذا اليوم بداية مرحلة جديدة تتجه فيها الولايات المتحدة نحو حمائية أشد، في حين بدأ العالم يعيد تقييم مصادرة التجارية والبحث عن مسارات بديلة لتقليل التعرض للصدمات المتوقعة في القترة المقبلة.

الضربة الإسرائيلية لإيران أعادت مخاطر الشرق الأوسط إلى الواجهة ودفعت أسعار الطاقة للصعود المستمر (أسوشيتد برس)3- ضربة إسرائيل لإيران.. الأمن والطاقة تحت الاختبار

شهد عام 2025 تصعيدا حادا في الشرق الأوسط بعد تنفيذ إسرائيل ضربة عسكرية ضد إيران، في تطور أعاد تغيير التوازنات الأمنية بالمنطقة.

هذا الحدث لم يكن مجرد مواجهة محدودة، بل فتح بابا واسعا لاحتمالات التصعيد مستقبلا، وأثار مخاوف من امتداد العمليات العسكرية إلى نطاق أوسع قد يشمل منشآت حيوية للطاقة أو ممرات إستراتيجية للشحن.

وانعكس هذا التوتر فورا على الأسواق العالمية، حيث ارتفعت أسعار الطاقة، ورغم أن التصعيد لم يتحول إلى حرب شاملة فإنه أعاد إدراج المخاطر الشرق أوسطية كعامل رئيسي في تسعير الطاقة والسلع بالأسواق العالمية.

4- قيود الصين على المعادن النادرة وصدام التكنولوجيا

في منتصف عام 2025 أعلنت الصين فرض قيود واسعة على تصدير عدد من المعادن النادرة والإستراتيجية المستخدمة في الصناعات التكنولوجية والعسكرية الأميركية، وهو قرار شكّل واحدة من أكثر الصدمات تأثيرا في المشهد الاقتصادي.

فقد أظهر هذا الإجراء حجم الاعتماد الأميركي على المواد الخام القادمة من الصين، خصوصا في مجالات الرقائق والبطاريات والسيارات الكهربائية والروبوتات، مما أدى إلى اضطرابات مباشرة داخل المصانع والشركات الأميركية وزيادة كبيرة في التكاليف.

ومع اتساع نطاق الأزمة بدأت الولايات المتحدة البحث بشكل عاجل عن مصادر بديلة، سواء عبر استثمارات مكثفة في أفريقيا وغرينلاند أو عبر تفاوض مع دول أخرى لتأمين الإمدادات.

ومع ذلك، تبين لواشنطن أن تعويض القدرة الإنتاجية الصينية ليس أمرا سهلا أو سريعا، الأمر الذي دفع الإدارة الأميركية إلى تخفيف حدة مواقفها تجاه بكين والدخول في هدنة مؤقتة وُصفت بأنها "هشة"، إذ جاءت أقرب إلى وقف تصعيد مرحلي فرضته الضرورات الاقتصادية أكثر من كونه تفاهما إستراتيجيا طويل المدى.

5- الحرب الروسية الأوكرانية.. مرحلة تصعيد جديدة

شهد عام 2025 تحولا واضحا في مسار الحرب الروسية الأوكرانية بعد دخولها مرحلة تصعيد جديدة تمثلت في دعم أوكراني مقدم من بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة لاستخدام أسلحة أكثر تطورا وصواريخ بعيدة المدى مثل "توماهوك".

ورغم أن هذه الخطوة لم تنفذ فإن مجرد طرحها شكّل تغييرا في طبيعة الصراع.

وردّت روسيا بتشديد موقفها وإعلان أن العمليات تحولت إلى حرب مفتوحة، قبل أن تحقق مكاسب ميدانية مستمرة حتى ديسمبر/كانون الأول 2025، في ظل إرهاق أوكراني وفقدان ما يقارب 20% من أراضيها.

هذا الوضع دفع الولايات المتحدة إلى تهديد مستوردي النفط الروسي الصين والهند واليابان بعقوبات للحد من الإيرادات الروسية، لكن هذه الدول رفضت الامتثال، مما أجبر واشنطن على التراجع.

إعلان

وكشفت هذه التطورات عن محدودية التأثير الغربي في تغيير المسار العسكري على الأرض.

الاعتداء الإسرائيلي على قطر أبرز أهمية الخليج في أمن الطاقة العالمي (الفرنسية)6- الاعتداء الإسرائيلي على قطر.. معادلات أمن الخليج وميزان الطاقة

شهد عام 2025 حادثة غير مسبوقة في منطقة الخليج العربي تمثلت في اعتداء إسرائيلي على دولة قطر، في تصعيد غيّر شكل التوازنات والتحالفات الجيوسياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط.

وتُعد دولة قطر من أهم مراكز الطاقة والإمدادات العالمية وذات ثقل سياسي في الخليج والشرق الأوسط.

وأسهم الاعتداء في إعادة صياغة محددات الأمن الإقليمي ومسارات التعاون العربي، كما سلط الضوء على أهمية استقرار هذه المنطقة في ضمان استمرار تدفقات الطاقة العالمية في مرحلة يشهد فيها العالم ارتفاعا في مستويات عدم اليقين الاقتصادي والجيوسياسي.

7- البحر الأحمر.. اضطرابات الممر البحري الأكثر حساسية

من بين الأحداث البارزة في عام 2025 موجة جديدة من التوترات في البحر الأحمر أدت إلى اضطراب واحد من أهم الممرات البحرية في العالم، مما تسبب في ارتفاع تكاليف الشحن بنسب تجاوزت 300% خلال فترات معينة من العام.

وبفعل هذا التطور تأثرت حركة تجارة السلع بشكل مباشر، ولا سيما البضائع الأساسية والمواد الخام، مما أعاد ضغوط التضخم إلى الواجهة بعد فترة من الهدوء النسبي.

ومع تأخر وصول الشحنات وارتفاع تكاليف النقل وارتفاع تكاليف التأمين ازدادت الأعباء على الشركات الصناعية والتجارية، خصوصا في أوروبا وآسيا اللتين تعتمد سلاسل توريدهما بدرجة كبيرة على هذا الممر الحيوي.

8- الضغوط الاقتصادية الأميركية وتزايد مخاطر الركود

عاش الاقتصاد الأميركي خلال عام 2025 تباطؤا واضحا انعكس في مؤشرات أساسية أكدت ضعف الزخم وتزايد احتمالات الركود، فقد هبطت ثقة المستهلك إلى أدنى مستوياتها التاريخية، وتباطأ التوظيف وارتفعت تسريحات العمالة، في حين تراجع مؤشر الشحن الداخلي كمؤشر مباشر على ضعف النشاط الاقتصادي.

وفي الوقت نفسه، ارتفعت أسعار البقالة والسلع الأساسية، مما زاد الضغوط على الأسر التي تواجه ديونا تجاوزت 17.5 تريليون دولار، إلى جانب ديون الطلاب التي بلغت نحو 1.77 تريليون دولار.

وعلى الصعيد المالي، ازداد اعتماد الحكومة على إصدارات الدين، وسط ارتفاع العوائد وعلاوات المخاطرة، في حين تجاوزت تكلفة خدمة الدين 1.2 تريليون دولار سنويا، واقترب إجمالي الدين العام من 38 تريليون دولار، وهو ما زاد الضغوط على السياسة المالية والنقدية.

كما تراجع الدولار بنحو 10% منذ تولي الرئيس ترامب، وانخفضت حصته ضمن الاحتياطيات العالمية مع توجه البنوك المركزية نحو تنويع أصولها.

ويشير هذا المزيج من التطورات إلى تحديات هيكلية عميقة تؤثر في مسار الاقتصاد الأميركي وترفع المخاطر المرتبطة بالاقتصاد العالمي خلال عام 2026.

9- هزة العملات المشفرة وارتباطها بالذكاء الاصطناعي

اهتزت أسواق الأصول الرقمية في عام 2025، مما أدى إلى تراجع حاد في العديد من العملات المشفرة، خصوصا تلك المعتمدة على المضاربات والرافعات المالية المرتفعة.

وتزامن ذلك مع تقلبات واسعة في قطاع الذكاء الاصطناعي الذي أصبح المحرك الرئيس للأسواق، حيث أدى أي تصحيح في أسهم الرقائق والخوارزميات المتقدمة إلى انتقال موجة بيع نحو الأصول الرقمية عالية المخاطر، وهو ما دفع المستثمرين والمضاربين فيها إلى تصفية العديد مراكزهم والانتقال الى أصول أخرى، مما أدى إلى خسائر.

وأظهرت هذه التطورات ترابطا متزايدا بين أسواق التكنولوجيا والتشفير وحساسيتهما للمخاطر.

أسواق السندات العالمية باتت مرآة ضاغطة للمخاطر الاقتصادية والمالية التي تواجه الاقتصادات الكبرى (الفرنسية)10- اضطراب أسواق السندات العالمية.. مرآة المخاطر الكبرى

شهدت أسواق السندات في عام 2025 موجة واسعة من التقلبات التي عكست حالة عدم اليقين المتزايدة في الاقتصادات الكبرى، إذ ارتفعت العوائد في الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وفرنسا إلى مستويات تشير إلى تخوف المستثمرين من الضغوط المالية وتباطؤ النمو وارتفاع عبء الديون.

إعلان

وبات واضحا أن أسواق السندات أصبحت تعكس بدقة حجم المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية التي تمر بها هذه الدول، حيث مثلت الارتفاعات المتتالية في العوائد إشارة مباشرة إلى تراجع الثقة في قدرة بعض الحكومات على احتواء التضخم أو إدارة مستويات الدين المتصاعدة.

وبرزت اليابان بوضوح هذا العام بعد أن سجلت علاوات المخاطر على سنداتها أعلى مستوى منذ عام 2008 نتيجة مخاوف من احتمالات رفع الفائدة لأول مرة منذ سنوات طويلة، وتزايد القلق بشأن مسار التضخم في الاقتصاد الياباني في ظل حجم دين ياباني عام هو الأكبر في التاريخ.

وأظهرت هذه التطورات أن أسواق السندات العالمية لم تعد تتحرك فقط وفق سياسات البنوك المركزية، بل أصبحت مرآة شاملة للمخاطر الاقتصادية والمالية والجيوسياسية التي تواجه الدول، مما يجعلها أحد أهم المؤشرات التي تجب مراقبتها عند تقييم اتجاهات الاقتصاد العالمي في 2026.

النتيجة وتوقعات 2026

أدت التحولات العشرة التي شهدها عام 2025 إلى تغيير عميق في سلوك المستثمرين والدول على حد سواء، إذ أصبح واضحا أن البيئة الاقتصادية الجديدة تختلف جذريا عما كان عليه الوضع في العقديين الماضيين.

فمع عودة الرئيس ترامب وتوسع السياسات الحمائية وارتفاع حدة التوترات الجيوسياسية بدأت الدول في اتخاذ خطوات احترازية مبكرة، سواء عبر تنويع شراكاتها الاقتصادية أو إعادة تشكيل تحالفاتها الإستراتيجية بعد أن أدركت أن الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة بات يحمل مخاطر سياسية واقتصادية متزايدة.

وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة بدأت دول حليفة لواشنطن في البحث عن موازنة علاقاتها، فاتجهت إلى تعزيز روابطها مع المعسكر الشرقي، سواء عبر البريكس أو الآسيان أو عبر شراكات ثنائية جديدة مع الصين والهند وروسيا، في تحول يعكس إدراكا متزايدا بأن النظام العالمي يتجه نحو تعددية حقيقية في مصادر القوة.

هذا التحول لم يقتصر على الحكومات وحدها، بل شمل أيضا المستثمرين الذين أعادوا تقييم رؤيتهم للأسواق.

ومع تزايد المخاطر الناتجة عن الحروب التجارية والاضطرابات الجيوسياسية والتحديات في قطاع التكنولوجيا والديون المرتفعة ارتفع الطلب على الذهب والأصول الدفاعية والأدوات ذات المخاطر الأقل، وهو ما يفسر الارتفاع الملحوظ في أسعار هذه الأصول خلال العام.

كما أظهر المستثمرون ميلا أكبر للتحوط والانتقال نحو محافظ أكثر توازنا، مع تقليل الاعتماد على الأصول عالية الحساسية للتقلبات.

ورغم حجم هذه التحولات فإن عام 2025 لم يشهد حلولا حقيقية لأي من التحديات التي واجهت الاقتصادات الكبرى، فالحرب التجارية مستمرة، وملفات الطاقة والتضخم والديون لم تتراجع حدتها، كما أن أسواق الدين والسندات مرشحة بقوه لمواجهة اضطرابات لم تشهدها منذ عقود قد تنهي عصر العوائد الرخيصة على الديون لعقود قادمة، بالإضافة إلى أن أغلب المشاكل الجيوسياسية ما زالت دون مخرج واضح.

ولذلك، فإن قراءة كل هذه المؤشرات معا تُظهر أن عام 2026 سيكون على الأرجح مليئا بالتقلبات، ليس لأنه عام أزمات جديدة، بل لأن أزمات 2025 لم تُحل، وتم ترحيلها إلى السنة التالية حيث قد تتفاقم أو تتفاعل بطرق أكثر تعقيدا.

وهذا يجعل 2026 عاما حاسما في تحديد اتجاه النظام الاقتصادي العالمي.

لذلك، على دول منطقة الشرق الأوسط أن تراقب الوضع الاقتصادي والجيوسياسي بشكل دقيق، وأن تتخذ الاحتياطات المناسبة لما هو قادم، خاصة في ظل بيئة عالمية تتميز بالتقلبات المستمرة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات الولایات المتحدة تریلیون دولار أسواق السندات هذه التطورات الشرق الأوسط مما أدى إلى سواء عبر عام 2026 فی عام عام 2025

إقرأ أيضاً:

أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد

يعيش العالم أزمات اقتصادية طاحنة: دول ثرية وآخرى يقتلها الجوع والفقر، دول تتحسن مؤشرات أدائها الاقتصادي وباتت تشكل قوة صاعدة على المستوى السياسي الدولي، ودول يهوي بها قادتها إلى مهاوي التبعية والتخلف والتفريط في المقدرات. لذلك، يكتسب الكتاب الذي بين أيدينا اليوم ، "لماذا نزداد فقرا؟ دليل واقعي للاقتصاد وكيفية إصلاحه"، أهمية خاصة حيث ينكأ الجراح، ويجيب على تساؤلات مهمة، ويرسم طريق الحل. ومؤلفه هو عالم الاقتصاد البريطاني كاهال موران المتخصص في علم الاقتصاد السلوكي. والكتاب صدر عن دار هابر كولين للنشر بنيويورك في 2025.

عرض موجز للكتاب

لطالما شكّلت الأزمات الاقتصادية مسار حياة الشعوب. ورغم كارثية الركود، فإنه يصبح هو الوقت مناسب لدراسة الاقتصاد. ولكن الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم بين عامي 2007 و2009، أثبتت أن السنوات الخمس والعشرون اللاحقة كانت فترة مثالية لدراسة الاقتصاد. إذ كان ذلك الركود هو الأكبر منذ سبعين عاماً، وشهد ارتفاعاً حاداً في معدلات البطالة، وتراجعاً في مستويات المعيشة، وإغلاق عدد لا يحصى من الشركات. ووجد كثيرون حول العالم أن حصولهم على الضروريات الأساسية كالغذاء بات مهدداً. لكن حتى تلك الأحداث الصعبة بدت ضئيلة مقارنة بما سيأتي.

نهاية التاريخ؟

منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.

الفقاعة العقارية

كشفت الأزمة 2007-2009 عن مشاكل عميقة في الاقتصاد كانت مخفية مؤقتًا وراء طفرة غير مستدامة. وطوال العقد الأول من الألفية الجديدة، منحت البنوك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قروضًا عقارية لأشخاص غير قادرين على السداد، مما أدى إلى تضخم فقاعة في أسعار المنازل. رغم أن هذا وحده كان كافيًا لإحداث ركود اقتصادي، إلا أن الأمر تفاقم بسبب شبكة الأدوات المالية المعقدة التي أنشأتها البنوك حول العالم استنادًا إلى هذه الرهونات العقارية.

منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.وعندما انفجرت الفقاعة، امتدت آثارها إلى النظام المالي بأكمله، وشعرت المؤسسات المالية الكبرى بانهيارها. ومن الأمثلة على ذلك، إفلاس بنك ليمان براذرز في بداية الأزمة، وهو ما كان كارثيًا لدرجة أن الخيار الوحيد المتاح أمام الحكومات كان ضخ الأموال العامة في البنوك لإنقاذها.

السياسات التقشفية وآثارها في الدول الغربية

في أعقاب الأزمة المالية، انتهجت العديد من الحكومات الغربية سياسات تقشفية لتحقيق التوازن في الميزانية العامة. وكان هذا تشخيصًا خاطئًا وتوجيهًا خاطئًا: فقد أدت الأزمة إلى انهيار الإيرادات الضريبية وارتفاع إعانات البطالة المصاحبة لأي ركود اقتصادي، وهو ما يفسر اختلال الميزانية. ولم تحقق سياسة التقشف في المملكة المتحدة هدفها المعلن المتمثل في تحقيق التوازن في الميزانية على وعد تحقيق فائض بحلول 2015، ولكن مع حلول ذلك العام، كانت الحكومة لا نزال تقترض 4,4% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تسفر التخفيضات فقط عن توقف النمو بين طلاب المدارس، بل أدت أيضًا إلى انهيار سقف مدرسة في مقاطعة كينت. ولا تزال آثار التقشف محسوسة، حيث علقت المملكة المتحدة في "حلقة مفرغة"، إذ يعني ضعف الأداء الاقتصادي انخفاض الموارد المالية المتاحة، مما يعني مزيدًا من التخفيضات في الخدمات العامة.

أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو

شهدت منطقة اليورو أزمة ديون سيادية خاصة بها في نفس الفترة تقريبًا، في دول البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا، التي كانت تعاني جميعها من انخفاض النمو وارتفاع الديون. ونظرًا للاختلالات الاقتصادية في جميع أنحاء القارة، فإن استخدام عملة واحدة لم يمنح هذه الدول مجالًا كبيرًا للمناورة بعد انهيار 2007-2009. كان اليورو بمثابة قيد، يمنع كل دولة من اتباع سياساتها الخاصة. ولذلك، رُئي أن إجراءات تقشفية أشد قسوة من تلك المطبقة في المملكة المتحدة ضرورية. وكانت النتيجة تدهورًا حادًا في الخدمات العامة، وانخفاضًا في مستويات المعيشة، واضطرابات في اليونان. وعندما تم تقويض شبكة الأمان الاجتماعي، ارتفعت ديونهم على الفور بدلًا من أن تنخفض على عكس التوقعات. وكان على أثينا أن تحترق حرفيًا لإثبات أن التقشف كان مأساويًا وغير فعال. وفي النهاية، اعترفت السلطات بأن هذه الإجراءات لم تكن مجدية، مما استدعى مزيدًا من المرونة. على الرغم من أن بعض هذه الدول وأبرزها إسبانيا - قد تحسنت أوضاعها كثيراً في الآونة الأخيرة، إلا أن آثار أزمة منطقة اليورو ستستمر لعقود.

أفول العصر الذهبي للاقتصاديات الغربية

تفاقمت هذه الكوارث بسبب تراجع نسبي شهدته العديد من المدن والبلدات في الغرب منذ "العصر الذهبي" (1945-1973)، حيث اختفت الصناعة خلال ثمانينيات القرن الماضي، وتراجعت اقتصاداتها المحلية. عانت ريكسهام في المملكة المتحدة من اختفاء مناجم الفحم، وعانت ديترويت من انحسار صناعة السيارات الشهيرة فيها، وشهد شمال فرنسا انتقال صناعة الملابس إلى مناطق أخرى. ولم تقتصر هذه المشكلة على العالم الغني فحسب، بل تحولت البرازيل بأكملها من تصدير الآلات الصناعية إلى تصدير سلع أساسية كالحديد والنفط. وشهدت الهند نموها الرئيسي في أشكال العمل غير المستقرة: وظائف قطاع الخدمات منخفضة الأجر. وبينما قابلت هذه الاتجاهات نمو ملحوظ في أماكن أخرى، تجسد بشكل خاص في صعود الصين، إلا أنها تركت أثراً بالغاً في مناطق أخرى مع نضوب الفرص ومعاناة المجتمعات.

تحولات في المشهد السياسي

في 2016، رفعت المجتمعات صوتها. ففي المملكة المتحدة، صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، أكبر تكتل تجاري في العالم؛ وفي الولايات المتحدة، انتخبوا دونالد ترامب، الذي وعد بوضع أمريكا في المقام الأول؛ وبعد عامين، انتخب البرازيليون جاير بولسونارو المعروف بـ"ترامب الاستوائي". وشعرت دول أوروبية أخرى بقلق مماثل، مع انتخاب فيكتور أوربان رئيسًا لجمهورية المجر عام 2010، واستمرار صعود اليمين المتطرف في أوروبا حتى يومنا هذا، بما في ذلك دول تُعتبر نمطيًا تقدمية مثل السويد وهولندا. وفي 2024، اتجهت بريطانيا وفرنسا نحو اليسار؛ لكن اليمين المتطرف لا يزال حاضرًا بقوة فيهما.

يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟!
هذه التحولات السياسية، التي شكلت صدمة للنخب، كانت تداعيات سياسية لاقتصادات فاشلة. ورغم أن لكل حالة تعقيداتها الخاصة، إلا أن جميعها تُشير بوضوح إلى تحول عن العولمة لإعطاء الأولوية لمواطني الوطن. وانتهج جو بايدن ودونالد ترامب، ورغم اختلافاتهما الواضحة، سياساتٍ تُعطي الأولوية لأمريكا، ومن أبرزها فرض تعريفات جمركية على البضائع الصينية. ويبدو أن عهد العولمة والتجارة الحرة قد ولّى.

وجه واحد من أوجه عدم المساواة

لم يكن تراجع المراكز الصناعية القديمة سوى وجهٍ واحدٍ من أوجه تفاقم عدم المساواة. فقد ازداد عدد المليارديرات في العالم عشرين ضعفًا بين عامي ١٩٨٧ و٢٠٢٤، وتضاعفت ثرواتهم الإجمالية أربعين ضعفًا، من ٢٩٥ مليار دولار إلى ١٤.٢ تريليون دولار. وسمحت هذه الثروة لقلةٍ مختارةٍ بالسيطرة على الاقتصاد: فقد تمكّن إيلون ماسك، أغنى رجلٍ في العالم آنذاك، من شراء أهم منصة تواصل اجتماعي في العالم، على ما يبدو بدافعٍ من نزوة، وإدارتها وفقًا لمصالحه ومعتقداته.

والحقيقة المُرّة هي أن عدم المساواة والفقر كانا سمتين مُلازمتين للعالم، فبأي مقياس معقول، يعيش معظم سكان العالم في فقر؟!! حفنةٌ من الدول فقط، معظمها في جنوب شرق آسيا، استطاعت أن تُصبح "غنية" خلال العقود القليلة الماضية. العديد من دول أمريكا اللاتينية، رغم أنها شهدت بعض النمو الإجمالي، تبدو عالقةً في مرحلة متوسطة من التنمية الاقتصادية، ولا تزال تضم نسبةً كبيرةً من فقر العالم. ولا تزال دول في أفريقيا تُعاني من سوء التغذية المُنتشر. وكل ذلك يعني فشلًا ذريعًا لاقتصادنا العالمي.

أزمة دائمة

قال المؤرخ الإنجليزي جي. إم. يونغ ذات مرة إنه لفهم شخص ما، عليك أن تنظر إلى ما كان يحدث في العالم. لقد دفعت تجربة الأزمة المالية المبكرة الكاتب إلى دراسة الاقتصاد في الجامعة، وشكل مع طلابه حيث مجموعة أطلقوا عليها اسم "جمعية اقتصاديات ما بعد الأزمة"، والتي تساءلت علنًا عن سبب عدم تدريس أي شيء في جامعتهم عن الأزمة التي شكلت حياة الناس. وأصدر الكاتب مع مجموعته تقريرًا عن حالة التعليم في جامعة مانشستر عام 2014، اتهموا فيه نظامهم التعليمي يركز بشكل مفرط على النظرية الرياضية المجردة، المنفصلة عن الواقع، والعاجزة عن تزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي التي يتوقعونها في الجامعة.

خارج قاعات الدراسة، ألقوا بعض المؤلفين باللوم في الأزمة على المصرفيين والاقتصاديين أنفسهم. كان هذا اللوم رغم أنه مبالغ فيه جزئيًا، إلا أنه مرتبط بلصورة العامة التي يُحب علم الاقتصاد إظهارها بمظهر العارف بكل شيء، أو كما قال كتاب تحرير الاقتصاديات، الصادر عام 2006، إن علم الاقتصاد قادر على كشف "الجانب الخفي لكل شيء"، ومطبق أفكار الاقتصاديين على الجريمة والمدارس والعنصرية. ولم يُشر الكتاب، ولو تلميحًا بسيطًا، إلى ما كان يجري في القطاع المالي قبيل انهياره.

لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، ولا سيما أن مهنة الاقتصاد قد خضعت لمراجعة شاملة لأوجه قصورها. لكن الحقيقة المُحزنة هي أنه لا تزال دراسة الاقتصاد مُجردة للغاية، وضيقة الأفق، وتُغفل العديد من الأزمات التي نواجهها.

الأسوأ لم يأتِ بعد

مع تقلبات المناخ العالمي، أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة أكثر شيوعًا: الفيضانات والأعاصير ودرجات الحرارة القصوى في كلا الاتجاهين. ومع ارتفاع منسوب مياه البحر، ستشهد مدن ساحلية لا حصر لها فيضانات، وقد تختفي العديد من جزر المحيط الهادئ تمامًا. وستواجه البشرية صعوبات جمة في إنتاج الغذاء، وانتشار الأمراض، والهجرة الجماعية، بل وحتى الحروب. وبطبيعة الحال، سيؤدي كل هذا إلى تكاليف اقتصادية باهظة، تعيق النمو وتعطل سبل العيش في جميع أنحاء العالم.

وعندما اجتاح كوفيد-19 العالم في عام 2020، دخل العالم في عمليات إغلاق غير مسبوقة، أدت إلى توقف نصف اقتصاداته. كان ما يقرب من 93% من العاملين في العالم يعيشون في دول فرضت عمليات الإغلاق. ووصل عدد وفيات إلى الملايين. وقُدرت الخسائر في الناتج الاقتصادي بتريليونات الدولارات. وشهدت شمال أفريقيا والشرق الأوسط ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الفقر حتى قبل الجائحة.

وبمجرد أن خرج العالم من الإغلاق، اعتقد البعض أننا قد نتجه نحو انتعاش اقتصادي قوي، على غرار "العشرينيات الصاخبة" التي أعقبت جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918. إلا أن إعادة تشغيل اقتصادنا العالمي المعقد بشكل متكرر خلق مشاكل أكثر مما كان متوقعًا، حيث تعطلت سلاسل التوريد، وظهرت اختناقات في جميع أنحاء العالم. لقد ظلت هذه الاختناقات في كيفية إنتاج سلعنا وشحنها مخفية لسنوات لأن الأمور بدت وكأنها تسير على ما يرام؛ ولكن ظهرت مواطن الخلل بمجرد تعرضها لاختبار حقيقي. وفي سردية بدأت تتكرر، لم يحصل العمال الذين اعتمدنا عليهم للحفاظ على استمرار هذه الأنظمة على حقهم.

بالنظر إلى الماضي، ندرك أن النظرة إلى نهاية التاريخ تتطلب دائمًا نظرة متفائلة. ولكن اليوم، يُذكّر غزو روسيا لأوكرانيا عام ٢٠٢٢ الغرب بأن عالمنا ليس عالم سلام ووئام. وإن احتمالية نشوب حروب متجددة بين القوى العظمى، بما في ذلك التداعيات النووية، تُثير قلقًا بالغًا، وتعزز هذا القلق بتصاعد "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين. وتهدد حرب غزة بتصعيد التوترات في الشرق الأوسط وخارجه.

إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.إن الحرب تُزعزع مفاهيم الازدهار، فضلًا عن الأضرار المباشرة والجسيمة التي تُسببها الصراعات نفسها. بالنظر إلى اعتماد الاقتصاد العالمي الكبير على الاستقرار في المناطق المحيطة بروسيا والصين، فإن تداعيات هذه الصراعات ستكون واسعة النطاق. فقد عانت أوروبا من العقوبات المفروضة على روسيا، إذ نفدت إمدادات النفط والغاز التي اعتمدنا عليها لفترة طويلة. وارتفعت أسعار الطاقة عدة مرات في بعض الحالات، مما فاقم ما يُسمى بأزمة غلاء المعيشة. وتُعد أوكرانيا أيضًا من كبار منتجي القمح، وقد ارتفعت أسعار الحبوب فيها أيضًا، وكان التأثير الأشد وطأة على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المجاورة.

من السهل النظر إلى كل أزمة على أنها مُنعزلة؛ ولكننا يجب أن نتبنى عقلية حل المشكلات عبر النظر إلى ترابط مفرداتها ومظاهرها وأسبابها. فمثلاً، يُعدّ تغير المناخ وعدم المساواة قضيتين متلازمتين. ومن الظلم التاريخي الفادح أن الدول التي تُعدّ تاريخياً مسؤولة عن أكبر قدر من الانبعاثات هي الأقل تضرراً من تغير المناخ. وفي المقابل، ستعاني الدول الأشد فقراً، التي لم تُصدر ولن تُصدر نسبة كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، أكثر من غيرها. حتى داخل الدولة الواحدة، تُصدر الدول الأغنى انبعاثات أكثر بكثير من الدول الأفقر. فاليخوت الفاخرة، والرحلات الجوية الخاصة، والسلع النادرة، والمنازل المتعددة، ومستويات الاستهلاك المرتفعة عموماً، ليست سوى بعض الأمثلة على كيفية مسؤولية الأغنياء عن الانبعاثات أكثر من الفقراء. ولذلك، يجب على أي حل لتغير المناخ أن يُعالج عدم المساواة بالضرورة.

إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.

لماذا نزداد فقرًا؟

يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟! والجواب يكمن فيما يلي:

1 ـ اقتصاد غير متكافي: توجد تفاوتات هائلة بين الناس تتجلى بطرقٍ عديدةٍ ومؤذية. ولا يحظى العديد من عمالنا الأساسيين بالتقدير اللائق مقارنةً بمن يؤدون وظائف نعلم يقيناً أنها أقل أهمية. إنه اقتصاد يهيمن فيه الأثرياء والشركات العملاقة على بقية أفراد المجتمع. ويواجه الناس عوائق اقتصادية لا حصر لها بسبب عوامل خارجة عن إرادتهم، كالطبقة الاجتماعية والعرق والجنس. ولا يزال معظم سكان العالم يعيشون في فقر. يمكن معالجة جميع مشاكل الاقتصاد غير المتكافئ بكبح جماح الأغنياء وأصحاب النفوذ، ودعم الفقراء والمهمشين، مع وجود مجال للاختلاف المعقول حول كيفية تحقيق ذلك.

2 ـ الخلل الوظيفي: يبدو أن سوق الإسكان لا يخدم مصالح أحد تقريباً، مما يخلق ظروفاً معيشية غير مقبولة لكثير الناس. إضافة إلى أن النظام النقدي غير مفهوم جيداً، وقد أدى هذا النقص في الشفافية إلى خيارات سياسية خاطئة. ولا تمتلك الدول الأنظمة المناسبة لتوقع التضخم الهائل وإدارته. وأخيرًا، فإن نظامنا التجاري العالمي هشٌّ، مُرهَق، وقائم على الاستغلال، مما يجعله عرضةً للانهيار. هذه المشكلات تؤثر علينا جميعًا، ولذا فإن الحلول أكثر تحديدًا من مجرد إعادة توزيع المال والسلطة. إنها حلولٌ واعدةٌ تعود بالنفع على الجميع، أغنياء وفقراء على حدٍ سواء.

3 ـ سياسات التقشف: تُجسد الرعاية الصحية حقيقةً جوهريةً وهي أن الاقتصاد والأهداف الإنسانية ليسا متعارضين. كثيرًا ما يُرادف مصطلح "الاقتصاد" مصطلح "القسوة" و"اتخاذ القرارات الصعبة"، وكأن ما يُفيد الاقتصاد لا يُمكن أن يُفيد الناس. والحقيقة هي أن خفض الإنفاق على الصحة والمدارس يُعدّ بمثابة إلحاق ضرر اقتصادي جسيم، مع تفاقم معاناة المرضى والأطفال بشكل غير ضروري. فقد أشار أحد التقارير إلى أن سوء الصحة يُكلّف سكان المملكة المتحدة حوالي 2200 جنيه إسترليني من دخلهم السنوي بسبب ترك الوظائف، وتقليص ساعات العمل، وتكاليف الرعاية الصحية.

وللمقارنة، يُمثّل هذا المبلغ حوالي 7% من متوسط الدخل في المملكة المتحدة، وهي زيادة ملحوظة في الأجور. حتى لو كان الهدف هو "اقتصاد قوي يُولّد الإيرادات"، فإن انخفاض الدخل والبطالة يعنيان وظائف متدنية الأجر أو البطالة التامة. كما أن التهاون في الإنفاق على الصحة يُمكن أن يُضاعف التكاليف لاحقًا. ولهذا السبب، فإنه في المملكة المتحدة: كل 200 مليون جنيه إسترليني تُخفض من إنفاق هيئة الخدمات الصحية الوطنية  تُكلف مليار جنيه إسترليني لاحقًا. ولا تقتصر هذه الحقائق على الدول الغنية كالمملكة المتحدة، إذ يظلّ الاستثمار في تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية هو السبيل الأمثل للمضيّ قدمًا في كافة الدول غنية أو فقيرة.

4 ـ  الأفكار الاقتصادية الخاطئة: تكلف هذه الأفكار ثمنًا باهظًا. وبسبب دخول بعض هذه الأفكار علم الاقتصاد، وبدعمٍ من جهاتٍ سياسية، يسود اعتقادٌ واسعٌ بأنّ الأوقات العصيبة حتمية. وميثال ذلك ما حدث في ٢٠٢٣، عندما زعم الخبير الاقتصادي في بنك إنجلترا، هيو بيل، أنّ على البريطانيين "تقبّل أنّهم أفقر حالًا".

سؤال جوهري

السؤال المحوريّ الذي يطرحه الكتاب هو: هل يُمكّن الهيكل الحاليّ للاقتصاد الناس ليس فقط من البقاء، بل من الازدهار؟

هناك من يعتبر هذا السؤال ضربًا من العبث: فبحسب رأيهم، يُعرَّف علم الاقتصاد غالبًا بأنه دراسة "تخصيص الموارد النادرة"، ما يعني ضمنيًا أنه لا يُمكننا فعل الكثير حيال هذه الندرة المتأصلة، على الأقل في المدى القريب. وبالتالي، فإن الاقتصاد نفسه ليس إلا تعميمًا لعدد لا يُحصى من القرارات الفردية المُرتبطة بمواردها، لذا فإن التدخل في هذه القرارات يعني التدخل في الواقع، وهو ما لا يُؤدي أبدًا إلى نتائج إيجابية. على الرغم من أن هذا رأي متطرف، إلا أن التشاؤم بشأن قدرتنا على تحسين الاقتصاد بشكل ملحوظ منتشر على نطاق واسع. قد يتفق الكثيرون بشكل عام مع أهداف الكتاب ويرغبون في رؤية بعض التغييرات، مثل الإصلاحات المنطقية في التعليم والصحة والإسكان. ومع ذلك، فهم أيضًا مترددون في إحداث تغييرات جذرية، خشية أن نُعرِّض للخطر المكاسب المادية التي حققها العالم على مدى القرون القليلة الماضية.

كلا هذين الرأيين ـ سواءً كان يدعو إلى عدم التدخل أو إلى تدخل محدود في الاقتصاد ـ خاطئان بنفس القدر، بل ويقتربان من الخرافة. يكشف بحث معمق في كيفية عمل الاقتصاد عن شبكة معقدة من الممارسات والقوانين والمؤسسات القوية التي تُشكِّله بطرق مُتعمَّدة وقابلة للتغيير. إن اعتبار هذه المؤسسات القائمة أمراً طبيعياً أو حتمياً أمرٌ لا يُمكن تبريره. بإمكاننا فهم كيفية بنائها وتعلم كيفية تغييرها. تُبيّن أمثلةٌ لا حصر لها عبر التاريخ أنواع التحولات الاقتصادية التي يُمكن تحقيقها والتي تُحسّن حياة الناس دون أن تُشكّل خطراً كبيراً على المزايا التي لا جدال فيها لمجتمعنا الحالي. ليس هناك طريقة أفضل لفهم ذلك من النظر إلى كيفية نشأة الاقتصاد نفسه.

مقالات مشابهة

  • أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد
  • انطلاق “قمة إسطنبول الاقتصادية” بنسختها التاسعة
  • حمية عرض حجم الأضرار في لبنان بعد العدوان خلال القمة الاقتصادية العربية-الفرنسية
  • خطوات الوطن الاقتصادية فوق صخب الظنون
  • اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني
  • وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تستقبل النائب الأول لرئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية لبحث نتائج الزيارة ومستقبل العلاقات الاستراتيجية مع البنك
  • الفجوة بين المؤشرات الاقتصادية والواقع الفعلي للناس
  • الاقتصاد الألماني أمام أعمق أزماته منذ الحرب العالمية الثانية
  • تعرف على أبرز الشخصيات التي واجهت التحريض الإسرائيلي خلال 2025؟