Sovereignty and imperialism: International business, finance and the position of Sudan in the British empire
Simon Mollan and Chris Corker سايمون مولان وكريس كوركر
ترجمة بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: نُشِرَ هذا المقال في 22 صفحة بعنوان "السيادة والإمبريالية: الأعمال التجارية الدولية والتمويل وموقع السودان في الإمبراطورية البريطانية" في عام 2023م بدورية "تاريخ الأعمال (التجارية) Business History".

https://doi.org/10.1080/00076791.2023. ويعمل الكاتبان في مدرسة الأعمال والمجتمع (School for Business and Society) بجامعة يورك (York) البريطانية. وهذه محاولة لترجمة موجز الورقة (abstract)، ونتائجها المستخلصة ((conclusions.
المترجم
*********** ************* **************
الموجز
نتناول بالدراسة في هذا المقال العلاقات بين السودان ومصر إبان فترة الحكم الكلولونيالي من أجل استكشاف الكيفية التي بها أدت السيطرة على الأعمال التجارية والتمويل الدولي إلى دمج السودان داخل الإمبراطورية البريطانية. وندرس أيضا الكيفية التي بدأ بها مركز القوة والسيطرة على تلك العوامل الاقتصادية في التغيير، وكيف غيّر ذلك من موقف السودان. ومن أجل ذلك، قمنا باستكشاف موضوعات ثلاثة: قمنا أولاً بدراسة الكيفية التي ينظر بها مجال العلاقات الدولية إلى مسألة السيادة. واستخدمنا ذلك لطرح عملية تجريد الفهم المشترك أو التقليدي (problematize) لموضوع السيادة من أجل الحصول على رؤى جديدة حول كيفية تأثير العلاقات الإمبريالية على مفاهيم السيادة في سياق الدولة الاستعمارية، وقمنا ثانياً بدراسة تاريخ الأعمال (business history) في السودان فيما يتعلق بهيكل الاقتصاد السوداني. واستكشفنا ثالثاً الكيفية التي ساهم بها التمويل في تشكيل العلاقات بين السودان والإمبراطورية البريطانية. ثم ناقشنا أخيراً الآثار المترتبة على تاريخ الأعمال والتمويل في السودان فيما يتعلق بتاريخ الإمبريالية والكولونيالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
*********** ************ **********
النتائج المستخلصة
أوضحنا في هذا المقال كيف أن الدولة الكلولونيالية في السودان كانت قد أكدت، وبصورة متدرجة، على سيطرتها المتعاظمة على الأعمال التجارية الدولية، وبالتالي على الاقتصاد الكولونيالي الأوسع، وعلى عمليات تمويل الدولة.
لقد قدمنا الحجة على وجود تلك القدرة المعززة لدى الدولة، وعلى زيادة المستوى النسبي لسيادة الدولة، مما أفضى لانفصال أكبر عن مصر، وفي النهاية حدوث استقلال أكبر داخل النظام الإمبريالي البريطاني. وفي بداية هذه المقالة، حددنا أربعة أنواع من السيادة التي يمكن استخدامها – بصورة أشد عمقاً - لاستكشاف المزيد حول كيفية حدوث ذلك التغير مع مرور السنوات، وذلك فيما يتعلق بالنقاط التي غطتها هذه المقالة. وكان النوع الأول من السيادة هو السيادة القانونية الدولية، والتي تم التعبير عنها بالاعتراف المتبادل بين الدول. وكان الثاني هو "سيادة وستفالين" (1)، التي تم التعبير عنها من خلال استبعاد الجهات الفاعلة الحكومية الخارجية من الإقليم. وفيما يتعلق بهاتين الفئتين، نرى أنه من خلال تعزيز السيطرة على جزء الاقتصاد الموجه للتصدير، وتأمين مصادر الإيرادات المالية، ومن خلال عملية تدريجية للانفصال المالي عن مصر، عزز السودان سيادته في كلا المجالين. ومع مرور السنوات، غدت حكومة السودان قادرةً – وبشكل متزايد – على إقامة علاقاتها الخاصة مع شركاء أو دول أجنبية، أو أن ترفض تجديد تلك العلاقات (كما حدث مع الشركة الزراعية السودانية Sudan Plantation syndicate (2))، من دون تأثير أو تدخل من وزارتي المالية أو الخارجية البريطانية، أو من الحكومة المصرية في القاهرة. وكان النوع الثالث من السيادة الذي تطرقنا له في هذا المقال هو السيادة المحلية (domestic sovereignty) التي يعبر عنها بالدولة التي تمتلك السلطة داخل إقليم ما، وغالباً ما ترتبط "السيادة المحلية" باحتكار العنف المحلي. وفيما يتعلق بهذا النوع من السيادة، فإن التأثير المباشر للتغيرات في وضع الأعمال والتمويل - الذي تمت مناقشته هنا - محدود لدرجة ما، إلا بحسبانه مصدراً للدخل لدعم مؤسسات الدولة التي تمارس هذه السلطة. أما النوع الرابع من السيادة، فهي سيادة تمثل نطاق كل الأنشطة التي يمكن للدول أن تمارس عليها سيطرة أحادية بشكل فعال (interdependence sovereignty)، مثل السيطرة على الحدود ومرور البشر والبضائع ورؤوس الأموال والمعلومات عبر تلك الحدود. وفي هذه الشأن على وجه الخصوص كان هناك تعزيز للسيادة فيما يتعلق بقدرة حكومة السودان على السيطرة على صناعة التصدير الرئيسية - زراعة القطن - والبدء في عملية التأميم وسحب رأس المال – مثل ما حدث مع الشركة الزراعية السودانية؛ ودور الدولة بحسبانها مستثمرة ومديرة لمشروع الجزيرة. ويقدم هذا أيضاً مساهمة صغيرة ولكنها جديرة بالملاحظة والاهتمام في تأريخ الشركة البريطانية القائمة بذاتها (Free – Standing Company)، من خلال التأكيد على أن الشركات الدولية القائمة على الامتيازات والتي تمتلك أصولًا ثابتة كانت عرضة للتأميم – وهذا هو أحد الأسباب المقترحة لتراجع شكل الشركات الحرة / القائمة بذاتها في العالم إبان منتصف القرن العشرين.
ومن خلال زيادة السيطرة على الأعمال التجارية الدولية والاقتصاد والتمويل، غيرت الدولة الكلولونيالية موقف السودان مؤسسياً داخل النظام الإمبريالي، وعلى هذا النحو أظهرت قدرتها السيادية. ويمكن القول إن هذا جعل إنهاء الكولونيالية (decolonization) أكثر احتمالا. وبالتالي فإن هذا المقال يكمل الأدبيات المنشورة عن إنهاء الكولونيالية في السودان (3)، وذلك من خلال تقديم منظور طويل المدى حول القوة النسبية للعوامل المسببة للإمبريالية (التي تتمثل تحديداً في رأس المال الدولي/الأعمال التجارية الدولية، والمصالح المالية والسياسية لكل من بريطانيا ومصر) من أجل أن يكون لها تأثير دائم وعسير التغيير على المستعمرة. ويشير هذا أيضاً لعمليات التفكك الأعمق التي أصابت النظام الإمبريالي البريطاني بأكمله، خاصة بعد عام 1945م.
وبالإضافة إلى هذه المساهمة التأريخية (historiographical)، يمكننا كذلك استخلاص عدد من الاستنتاجات المحددة فيما يتعلق بطبيعة النظام الإمبريالي في شمال إفريقيا، والتي ترتبط بالموضوع (في هذا العدد الخاص من المجلة). وحين شرعت الإمبريالية البريطانية في الميل نحو إنهاء الكلولونيالية، تنافست الجهات الفاعلة المؤسسية المختلفة داخل النظام الإمبريالي مع بعضها البعض. ومع مرور الوقت غدت الدولة الاستعمارية السودانية - على مستوى الجهات الفاعلة في الدولة - منفصلة بشكل متزايد عن مصر (خاصة في مجال السيطرة المالية)، وهو ما يتوافق أيضاً مع التفسير القائل بأن حكومة السودان الكولونيالية كانت قادرة على اتباع سياسات تخدم مصالح السودان (كما كانت تراها) بصورة مستقلة نسبياً عن الحكومة الإمبريالية في لندن أيضاً. وفي هذا السياق، يمكننا أن نبدأ في رؤية نظام "عالمي" في طور الظهور، والذي غدا لاحقاً "نظام الدول العالمية في فترة ما بعد الحرب post -war international states system"، الذي كان على النقيض تماماً من فترة "نظام الحكم الإمبريالي ما قبل عام 1940 ".
وعلى مستوى الأعمال التجارية الدولية، صارت حكومة السودان أقل ترحيبا وأكثر تدخلا في سعيها للسيطرة على الأصول الزراعية الحيوية للقطن، وذلك في تناقض صارخ مع فكرة أن المستعمرات البريطانية كانت دوماً متقبلة وداعمة للأعمال التجارية. ويقدم لنا ذلك نظرة ثاقبة للطبيعة الديناميكية والمرنة للإمبريالية البريطانية في الشرق الأوسط، وخاصة شمال أفريقيا في ذلك الوقت. وتغيرت مقاليد السلطة وتحولت داخل السودان، وبين السودان وجارتها المباشرة مصر. وكانت كل تلك الأمور مرتبطة ببعضها البعض، ومثلت جزءًا من مجموعة من القرارات السياسية التي اُتُّخِذَتْ من أجل تعزيز سلطة الدولة - في هذه الحالة، على حساب الأعمال البريطانية الدولية، وعلى حساب النفوذ السياسي المصري. وفضلاً عن ذلك، زودت تلك التغييرات الدولة القومية المستقبلية بالهياكل والمؤسسات التي بقيت حتى لما بعد الفترة الكلولونيالية. وبالتالي أصبحت الأعمال الروتينية وخيارات وهياكل قوة الحكم الكلولونيالي جزءًا من مستقبل السودان، مع كل المشاكل التي قد يجلبها الاعتماد على مسار الاستقلال، والتركيز (المفرط) على محصول نقدي واحد.
*********** *********** ***********
إحالات مرجعية
1/ بحسب تعريف موسوعة الويكيبديا، فإن "سيادة وستفالين Westphalian sovereignty" هو مبدأ القانون الدولي بأن لكل دولة سيادة على أراضيها وشؤونها الداخلية، ويتم استبعاد جميع القوى الخارجية، والتدخلات في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، كل دولة متساوية في القانون الدولي. بعد انتشار النفوذ الأوروبي في جميع أنحاء العالم، أصبحت هذه المبادئ المثل العليا في القانون الدولي. https://shorturl.at/acmzH
2/ كون رجل الأعمال الأمريكي لي هنت Leigh Hunt (1855 – 1933م) تلك الشركة الزراعية في لندن عام 1900م. وكان الرجل قد طاف بأرجاء السودان، وكان شديد الحماسة والثقة في توفر فرص تجارية جمة لزراعة القطن فيه. وكون هنت شركة (زراعية) ذات مسؤولية محدودة في السودان. وكانت له من قبل ذلك استثمارات في أمريكا وكوريا. وهناك كتاب عن سيرة حياة الرجل عنوانه:
Leigh S.J. Hunt High Stakes: The Life and Times of
3/ استشهد المؤلفان هنا بكتاب هيذر شاركي المعنون "العيش مع الاستعمار
"Living with Colonialism: Nationalism and Culture in the Anglo-Egyptian Sudan

alibadreldin@hotmail.com
///////////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: حکومة السودان السیطرة على من السیادة هذا المقال فی السودان فیما یتعلق السودان فی من خلال فی هذا من أجل

إقرأ أيضاً:

من البرج إلى الميدان- عبد الله علي إبراهيم يُنَظِّر، وعلي كرتي يطلق النار!

من البرج إلى الميدان- عبد الله علي إبراهيم يُنَظِّر، وعلي كرتي يطلق النار!

خالد كودي

عن مأساة التكرار وأسطورة النخبة

تُصرّ النخبة في السودان على إعادة إنتاج فشلها، لا عبر تحالفاتها السلطوية وخطاباتها المراوِغة فحسب، بل من خلال عجزها البنيوي عن الاعتراف بجذر الأزمة التاريخية التي كرّست اختلال الدولة السودانية الحديثة. لقد تأسست هذه الدولة كنظام نخاسي مركزي قائم على التهميش الممنهج واستغلال موارد الأطراف، وتحكّمت نخبتها في إعادة تعريف مفاهيم الوطنية، والمواطنة، والدين، والثقافة، وفق معاييرها الخاصة التي تخدم استمرار سلطتها الرمزية والمادية.

في هذا السياق، يبرز الدكتور عبد الله علي إبراهيم، بوصفه أحد منظّري هذه النخبة، مجسّدًا أحد أشد تمثلاتها بؤسًا وتناقضًا. إذ لم يكن خطابه في لقائه مع الأستاذ أحمد ود اشتياق، في تعليقه على التحالفات الجديدة التي تشكّلت حول مشروع “السودان الجديد” و”تحالف تأسيس”، مجرّد اجتهاد أكاديمي، بل كان تعبيرًا مكثّفًا عن عجز مركّب – أخلاقي، وسياسي، وتاريخي – عن إدراك تحوّلات الواقع، والانفكاك من أسر الامتياز النيلي الذي يحكم مسارات هذه النخبة منذ الاستقلال.

وما يجمع عبد الله علي إبراهيم بعلي كرتي، رغم التباين الظاهري في الأدوات والتموقعات، هو ذلك الولاء البنيوي العميق لبنية الدولة النيلية المركزية؛ الدولة التي قامت على الاستعلاء العربي–الإسلامي، ومارست الهيمنة على الشعوب السودانية غير العربية وغير المسلمة باسم “الوطنية”، ثم باسم “الثورة”، وأخيرًا تحت لافتة “الكرامة”. فإذا كان علي كرتي قد خدم هذا المشروع بالبندقية والتعبئة العقائدية، فإن عبد الله علي إبراهيم قد خدمه بالقلم وبالإنتاج الرمزي والتأريخ المُوجّه، عبر دفاعه المستميت عن مركزية الدولة وعن “الجيش الوطني” الذي لا يحتكر الوطنية إلا بوصفه امتدادًا لأمة مختزلة في خطاب الجهاد والولاء “الصفوي” لكتائب البراء بن مالك والدفاع الشعبي.

أولًا: عبد الله علي إبراهيم الاحتيال الإيديولوجي ومحاولة تشويه نضالات الهامش:

في لقائه الأخير مع الأستاذ أحمد ود اشتياق، حين طُرح على الدكتور عبد الله علي إبراهيم سؤال حول التحالفات الجديدة، وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان/ شمال، جاء رده مشبعًا بالعدائية، مرتبكا، جافًا في لغته، ومفتقرًا لأدنى درجات امانة  التحليل. لم يتوقف عند طبيعة هذه التحالفات أو ما تمثله من تحوّل في البنية السياسية السودانية، بل لجأ إلى الاحتيال المباشر، زاعمًا أن هذه الحركات “تقاتل بلا قضية”، وأن رئيس الحركة الشعبية “ما داير المركز”… الخ، دون أن يتساءل عمّا يعنيه “المركز” في سياق تاريخي طويل من الاستعمار الداخلي، أو عن الأسباب الموضوعية التي تدفع قوى الهامش لرفض النموذج المركزي المُهيمن ودفعت الي القطيعة مؤخرا عبر تحالف تأسيس .

يتعامل عبد الله علي إبراهيم مع المركز وكأنه حيّز منصف، فضاء إداري محايد يمكن أن تُنقل إليه السلطة بقرار إداري أو بترتيب سياسي ديمقراطي، متجاهلًا أنه، تاريخيًا، كان أداة للهيمنة، ومركزًا لإعادة إنتاج الاستعلاء العرقي، الديني، والتهميش المنظم ونهب الموارد. إن وصف الحركات المسلحة بأنها “تقاتل بلا قضية” ليس مجرد اختزال، بل تشويه متعمد لنضال تاريخي واسع من أجل العدالة والمساواة، وتفكيك بنية استعمار داخلي ترسّخت منذ ما قبل الاستقلال. هذا التوصيف يكشف إمّا عن جهل معرفي بطبيعة الصراع، أو عن إنكار واعٍ يعبّر عن موقع إيديولوجي منحاز لمصلحة النخب التي طالما مثّلت أدوات سيطرة المركز.

وما يضاعف بؤس هذا الخطاب هو محاولة تصوير نضال قوى الهامش كمجرد فعل انعزالي، لا يبتغي سوى “الاحتفاظ بكاودا”، كما ورد في حديثه. يتجاهل عبد الله علي إبراهيم، عن قصد أو جهل، أن كاودا ليست ملاذًا إثنيًا أو مساحة معزولة، بل هي رمز سياسي لتحرير المركز من تمركزه المرضي، وموقع ميداني لتأسيس بديل جذري يُعيد تخيّل الدولة السودانية ضمن مشروع “السودان الجديد.”

إن عبد الله علي إبراهيم، حين يقول إن الجيش الشعبي لتحرير السودان  شمال “مجرد مقاتلين”، ويتساءل ساخرًا: “ما هي قضيتهم؟”، لا يمارس نقدًا معرفيًا مشروعًا، بل يعيد إنتاج سلطة رمزية متعالية، تستند إلى برج كولونيالي متخيل من المفاهيم المشوّهة. يتجاهل المشروع السياسي الذي تحمله هذه القوى، ويتعامى عن الدستور الانتقالي، وميثاق “تأسيس”، وعن التحالفات العريضة التي تشق طريقها اليوم نحو التأسيس الجديد للدولة رغم انفه.

إن ما يزعجه، في جوهر الأمر، ليس غياب المشروع، بل حضوره المدوّي؛ حضور يفضح زيف الرواية المركزية، ويُحرج منظّريها، ويكشف حدود شرعيتهم المتآكلة. فحين لا يجد المفكر من وسيلة سوى التهكّم على نضال الشعوب، فإنه لا يُعبّر عن رأي أكاديمي، بل يمارس عنفًا رمزيًا يُضاف إلى سجل طويل من اللامبالاة الذي لطالما كان سلاح المركز في مواجهة أي مشروع تحرري خارج لغته، وخارج جغرافيته.

ثانيًا: ما يُرعب النخب حقًا: مشروع السودان الجديد وتحالف “تأسيس”

ليس ما يثير قلق الدكتور عبد الله علي إبراهيم وعلي كرتي ومن يتقاطعون معهم في الولاء لبنية الدولة المركزية، هو امتلاك الحركات الثورية للسلاح، بل ما يُقلقهم بعمق هو ما تحمله هذه الحركات من فكر سياسي تحرّري يسعى لتقويض أسس الهيمنة القديمة. الفكر الثوري الذي يحمله مشروع “السودان الجديد” وتحالف “تأسيس” لا يدعو إلى تقاسم السلطة داخل بنية معطوبة، بل إلى إعادة صياغة الدولة نفسها على أسس جديدة: علمانية، لا مركزية، ديمقراطية، تعترف بالحقوق الثقافية والإثنية، وتؤمن بالعدالة التاريخية بوصفها شرطًا للمواطنة المتساوية.

الميثاق الذي وقّعته الحركة الشعبية لتحرير السودان– شمال مع عدد من القوى المدنية والسياسية والمناطقية، لا يقدّم شعارات طوباوية، بل مشروعًا تأسيسيًا متماسكًا: دستور انتقالي علماني، إعادة بناء القوات المسلحة على أسس وطنية غير عنصرية، وضمانات حق تقرير المصير. إن جوهر هذا المشروع هو تفكيك الامتيازات المتوارثة، وبناء عقد اجتماعي جديد يربط بين شعوب السودان على قاعدة المساواة، لا الهيمنة.

هذا التصور يهدد عمق البنية المركزية التي نشأت على مفاهيم مزيفة: وحدة وطنية مفروضة بالقوة، وطنية مشروطة بالدين والهوية الإثنية، وجيش متمركز يحتكر الشرعية ويمارس الإقصاء. ولذلك، فإن رفض المشروع لا يأتي من موقع الاختلاف السياسي، بل من خشية وجود بديل حقيقي يُعيد تعريف السودان من جذوره.

فحين يسخر عبد الله علي إبراهيم من تمركز الحركة الشعبية في “كاودا”، ويعتبرها لا تكترث بالمركز، فإنه لا يكتفي بتبسيط الجغرافيا، بل يعيد إنتاج نظرة استعمارية ترى في الهامش فضاءً هامشيًا بالضرورة، لا مشروعًا للتحول. كاودا، في الواقع، لم تكن يومًا مجرد موضع على الخريطة، بل أصبحت رمزًا لمقاومة الهيمنة، ونقطة انطلاق لبناء نموذج بديل للدولة، من موقع الهامش لا من رحم المركز.

والحركة الشعبية اليوم لا تحتفظ بكاودا كملاذ، بل تُدير مناطق واسعة من جنوب كردفان والنيل الأزرق بالسلطة المدنية للسودان الجديد، وتنفذ نظام عدالة، وخدمات عامة، لم تصلها يد الدولة المركزية إلا بوصفها أداة للقصف أو التجويع. إن توصيف هذا الواقع بوصفه انعزالًا، ليس سوى استمرار لنظرة استعلائية تستبطن المركز كمعيار، وتُقصي كل ما سواه.

فما يُرعب النخب ليس الخروج من المركز، بل إعادة تعريفه من خارج معاييره.  “السودان الجديد” ليس حركة احتجاج، بل مشروع تأسيس، وتحالف “تأسيس” ليس مجرد اصطفاف سياسي، بل إعلان عن ميلاد دولة لم تعد تحتمل أن تُحكم من فوق، أو تُختزل في نخبة واحدة، مهما تنكرت لذلك بلغة الحداثة أو المعرفة أو حتى الوطنية.

ثالثًا: تفكيك أسطورة “الجيش الوطني السوداني” في خطاب عبد الله علي إبراهيم:

يقدّم الدكتور عبد الله علي إبراهيم سردية متهافتة حين يصف الجيش السوداني، الذي يقاتل اليوم في الحرب الجارية، بأنه “جيش وطني شعبي” يتمتع بدعم جماهيري، ويضفي عليه مسحة وطنية. غير أن هذا التوصيف، في جوهره، لا يعكس الواقع، بل يعبّر عن محاولة لإضفاء الشرعية على مؤسسة عسكرية لطالما شكّلت أحد أعمدة العنف المنظّم في السودان. فبعيدًا عن الصورة الخطابية التي يرسمها، الجيش السوداني ليس كيانًا وطنيًا جامعًا، بل امتداد تاريخي لمؤسسة تأسست منذ الاستقلال على عقيدة إقصائية وعنصرية، وأدينت بارتكاب انتهاكات جسيمة في مناطق الهامش: من جبال النوبة ودارفور، إلى النيل الأزرق وجنوب السودان، وصولًا إلى مجازر المدن، بما فيها فض اعتصام القيادة العامة في 2019

ما يسميه عبد الله علي إبراهيم بـ”جيش الشعب” ليس سوى إعادة تدوير لمنطق التعبئة العقائدية الذي تبنّته أنظمة الإنقاذ عبر “الدفاع الشعبي”، حيث جرى تسليح المجتمع واستغلال الدين في تحويل الصراع إلى حرب مقدسة ضد “التمرد”، في حين أن جوهره كان حربًا ضد التعدد والتنوع. هذه البنية الإيديولوجية تعبّر عن نفسها بلغة تُذكّر بأنظمة استبدادية حديثة الطابع، كالنازية والفاشية، حيث يُعاد تعريف الوطنية كاحتكار، ويُقدَّم القمع بوصفه حماية للهوية.

ليست المقارنة بين جيش البشير وجيوش العقيدة الشمولية الأخرى من باب المبالغة، بل من باب التحليل البنيوي: فكلتاهما مؤسستان عسكريتان مؤدلجتان، تنطلقان من عقيدة تفوق ديني-عرقي، وتعملان على إنتاج “العدو الداخلي” لتبرير العنف الممنهج. وهذا بالضبط ما يتجاهله عبد الله علي إبراهيم حين يُحيل المؤسسة العسكرية إلى فاعل وطني محايد، متغاضيًا عن بنيتها الطبقية والإثنية، وتاريخ استخدامها ضد مكونات بعينها من الشعب.

في المقابل، يمثّل “تحالف تأسيس” انقطاعًا حاسمًا مع هذه البنية: فالميثاق الذي عبر عن مشروع الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال وشركاؤها لا يدعو فقط إلى إصلاح شكلي، بل إلى إعادة تأسيس الدولة من جذورها. إن المشروع التأسيسي الذي يطرحه التحالف يقدّم تصورًا لدولة علمانية، لا مركزية، تستند إلى مبادئ فوق دستورية، تُقرّ بالعدالة التاريخية وتفكك الدولة الكولونيالية القديمة لصالح عقد اجتماعي جديد. وهذا بالتحديد ما يُربك عبد الله علي إبراهيم؛ فالمشروع لا يناقش الامتياز، بل ينقضه، ولا يطلب الإصلاح، بل يؤسس للقطيعة.

إن مقاومة هذا المشروع من قبل النخب القديمة ليست ناتجة عن خلاف فكري، بل عن إدراك عميق بأن مشروع “تأسيس” يهدّد سرديتهم، ويقوّض شرعيتهم الرمزية، ويُخرج مفاتيح تعريف الوطن من يد المركز إلى أفق جديد تتشارك فيه الشعوب، ولا تصطف فيه خلف السلاح أو خلف المعبد، بل خلف الدولة بوصفها عقدًا أخلاقيًا جامعًا، لا امتيازًا عرقيًا موروثًا.

رابعًا: وهم “الجيش الوطني” وتواطؤ الخطاب

يقدّم الدكتور عبد الله علي إبراهيم سردية مضلّلة عن الجيش السوداني، تصوّره كـ”جيش وطني” استعاد الجزيرة وسنار بفضل “دعم الجماهير”، متجاهلًا أن هذا الدعم لم ينبثق من شرعية شعبية حقيقية، بل من تعبئة أيديولوجية ممنهجة، تستند إلى الدين والهوية، وتعيد إنتاج منطق الفاشية: تجييش عَقَدي، وتسليح إثني، وتجنيد قسري، في مشروع لا يسعى لبناء دولة المواطنة، بل لحماية الامتيازات التاريخية للنخب.

ما يصفه عبد الله علي إبراهيم بالوطنية هو، في الواقع، استمرارية مباشرة لمنظومة “الإنقاذ”: ذات الكتائب، ذات العقيدة، وذات البنية التي دفعت بآلاف الأطفال إلى جبهات الحرب باسم “الجهاد”، تحت رعاية منظّرين أمثال علي كرتي. الجيش الحالي، من حيث التكوين والوظيفة، لا يمثّل السودان، بل يعيد إنتاج مركزية الدولة في أشدّ صورها استعلاءً وقمعًا، باعتباره أداة لإخضاع الشعوب، لا لحمايتها.

وعليه، فإن تسويق هذا الجيش بوصفه “قوميًا” لا يندرج ضمن نقاش سياسي مشروع، بل يمثل فعلًا أيديولوجيًا يهدف إلى تبرير العنف، واحتكار تعريف الوطنية، وإقصاء كل من لا ينتمي إلى النموذج النيلي الحاكم. في المقابل، الجيوش الثورية الحقيقية تنشأ من رحم الشعوب، وتتسلح بقضية عادلة، وتحمل مشروعًا تحرريًا يعيد تعريف القوة بوصفها التزامًا أخلاقيًا لا أداة للهيمنة

خامسًا: عنف المركز واستعلاء التمثيل

يتجلّى جوهر المشروع العربي–الإسلامي المركزي في السودان في بنية فكرية استعلائية ترى في الهامش كيانًا ناقصًا ينبغي تهذيبه، وتعمل على إخضاعه قسرًا تحت رايات الثقافة الرسمية، والدين الواحد، واللغة المفروضة. هذا ما تصفه غاياتري سبيفاك بـ”عنف التمثيل المعرفي” (epistemic violence) حيث يُقصى الآخر ليس فقط من السلطة، بل من حق الوجود الرمزي، ومن امتلاك صوته الخاص في تعريف ذاته وهويته وتاريخه.

في هذا السياق، يتقاسم عبد الله علي إبراهيم وعلي كرتي تمثيل أدوار متكاملة داخل منظومة السيطرة: الأول ينتج الخطاب الذي يشرعن الهيمنة، والثاني يفعّل هذا الخطاب بالقوة، من خلال المليشيات والعسكرة والتجييش الإثني. عبد الله يصوغ سردية التدجين الثقافي، وكرتي يترجمها إلى أدوات حرب.

ما نبّه إليه نغوجي واثيونغو حين وصف الدولة كمصنع لصهر التعدد وتحويل الشعوب إلى نسخ متماثلة، يتجلّى بوضوح في السودان؛ حيث يصبح التنوع عبئًا، وتُعاد صياغة الآخر في صورة “أنا مكرر”، كما حذر إيمانويل ليفيناس. وهنا، لا تكتفي الدولة المركزية بالسيطرة على الأرض، بل تسعى لاحتلال الوعي ذاته.

علي كرتي: الفاشية المغلّفة بالدين:

علي كرتي لم يكن مجرّد جنرال أو سياسي، بل كان مهندسًا لمنظومة تعبئة عقائدية تقوم على عسكرة المجتمع وتجييشه تحت شعارات دينية، استندت إلى تصور فاشي يُشبه من حيث الجوهر تجارب النازية: خلق عدو داخلي، تسليح على أسس إثنية، واستخدام الدين لتبرير الحروب الداخلية. جيشه لم يكن شعبيًا، بل طائفيًا، مهمته الأساسية قمع المختلفين لا حمايتهم، وكان امتدادًا مباشرًا لمشروع الهيمنة المركزية على السودان المتعدد.

القضية لا السلاح: دروس من التاريخ:

ما علّمنا إياه التاريخ هو أن النصر لا يُصنع بالقوة العسكرية وحدها، بل بالشرعية الأخلاقية والسياسية. من فيتنام إلى الجزائر، ومن إريتريا إلى البوسنة، انتصرت حركات التحرر التي امتلكت قضية عادلة وشعبًا يقف خلفها. في السودان، لا يكمن الأمل في الكتائب العقائدية ولا في الأكاديميين الذين يبرّرون الفاشية بثياب الفكر، بل في المواطن البسيط الذي يطالب بدولة تعترف بكرامته وإنسانيته.

شرعية الهيمنة: التنظير والتسليح:

يتجلى العنف البنيوي للمركز في التقاء التنظير القمعي بالتنفيذ العسكري. عبد الله علي إبراهيم يمنح الغطاء الرمزي لمشاريع الإقصاء، عبر لغة تبدو حداثية لكنها تخدم بنية سلطوية، فيما يمضي علي كرتي في تطبيق هذه الرؤية على الأرض، بقوة السلاح والمليشيات. كلاهما يتحرك داخل منطق استعماري: ليس فقط لأنهم يقمعون الآخر، بل لأنهم يرون فيه كائنًا ناقصًا يحتاج إلى إعادة تشكيل. إنها إمبريالية داخلية تستهدف الذاكرة واللغة والعقل، لا الأرض فحسب..

ما الذي يُقلق عبد الله علي إبراهيم؟

ما يرعب عبد الله ليس البندقية في يد الهامش، بل المشروع الذي تحمله تلك اليد. فـ”السودان الجديد”، الذي تبلور في فكر جون قرنق ويتطوّر اليوم بقيادة الحركة العبية لتحرير السودان/شمال، لا يسعى للمساومة، بل للقطيعة. هو مشروع يطيح بكل امتيازات النخب، ويقترح دولة علمانية، تعددية، لا مركزية، تُبنى على العدالة التاريخية لا على الإنكار. ودستور “تحالف تأسيس” الانتقالي لعام 2025 ليس مجرّد وثيقة سياسية، بل إعلان نهاية دولة “الجلابة” بمفهومها الإقصائي، ونقطة انطلاق لبناء دولة يعترف فيها الجميع بالجميع.

خاتمة: بين مشروعين – إما الهاوية أو التأسيس.

يقف السودان اليوم على مفترق وجودي حاسم بين مشروعين متعارضين لا يمكن التوفيق بينهما:

أولًا، مشروع السودان القديم:

– إعادة إنتاج النخب المركزية بذات خطابها المراوغ.

– وطنية زائفة تُبنى على الإقصاء الديني والثقافي.

– جيش عقائدي مشبع بالعنصرية والتعبئة الإثنية.

– دولة تُدار من المركز، ضد الأطراف، وبالنيابة عن مصالح الامتياز لا المصلحة الوطنية.

وثانيًا، مشروع السودان الجديد:

– دولة علمانية، ديمقراطية، تعددية.

– مساواة إثنية وثقافية، تُقرّ بالحقوق لا تُصادرها.

– لا مركزية سياسية تُعيد توزيع السلطة والموارد.

– جيش وطني موحّد، يُبنى على الكفاءة والمواطنة، لا على الولاء والهوية

عبد الله علي إبراهيم، كغيره من حراس الموروث المأزوم، يكتب من موقع الدفاع عن الماضي، خائفًا من المستقبل، متردّدًا أمام التحوّل، متمسكًا بسردية فقدت صلاحيتها. أما الحركات الثورية ذات الرؤية، وعلى رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال، فتحمل مشروعًا واضحًا، لا يستجدي الإصلاح بل يعلن التأسيس، ويعيد صياغة الدولة من الجذور، لا من هوامش التعديل.

الثورة السودانية، رغم كل التضحيات، لم تعد مجرد انتفاضة موسمية، بل تحوّلت إلى مسار تاريخي، يصحّح مفاهيم الوطن، ويضع حداً لاحتكار التعريف والتأويل. لم يعد الصراع بين جيش وآخر، ولا بين سلطة ومعارضة، بل بين مشروعين: أحدهما يسعى لتكريس الظلم باسم الدولة، والآخر يناضل لبناء دولة تحقّق العدالة بوصفها شرطًا للعيش المشترك.

إن “تحالف تأسيس”، بما يحمله من دستور انتقالي ومبادئ فوق دستورية، لا يقدّم تسوية، بل يؤسس لانفكاك جذري عن الدولة الكولونيالية السودانية القديمة. هو إعلان لحضور المهمّشين، لا كمستضعفين، بل كمؤسِّسين. إنه تجسيد لحلم ملايين السودانيين الذين سئموا إعادة تدوير القهر تحت مسمّيات مختلفة.

كتب فرانتز فانون يومًا: “حين يعجز الاستعمار عن قهرك بالبندقية، يحاول أن يقنعك بأنك بلا قضية.”

لكن الثورة السودانية اليوم ترد، باسم أرضها، ودمها، ودستورها الجديد:

لدينا القضية، وأنتم لديكم الفشل.

النضال مستمر والنصر اكيد.

بوسطن

17/ 6/ 2025

الوسومالبشير الجيش الوطني القومي الدفاع الشعبي السودان السودان الجديد المركز والهامش تحالف تأسيس خالد كودي دولة علمانية عبد الله علي إبراهيم علي كرتي

مقالات مشابهة

  • من البرج إلى الميدان- عبد الله علي إبراهيم يُنَظِّر، وعلي كرتي يطلق النار!
  • البعثة الدولية: تصاعد الحرب في السودان يؤدي إلى عواقب مميتة للمدنيين
  • حالة الجمود التي يعاني منها خريجي مدرسة الحركات المسلحة في فهم وتفسير الأحداث
  • المعجزة التي يحق لكل سوداني أن يفتخر بها
  • رئيس غرفة القاهرة التجارية يشارك في المنتدى الاقتصادي المصري الصربي.. ويؤكد أهمية تعميق الشراكة بين البلدين
  • عواقب مميتة للمدنيين.. البعثة الدولية تحذر من تصاعد الحرب في السودان
  • الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم
  • السيادة الأردنية فوق كل اعتبار… وصمت الجاهلين أبلغ..
  • رسالة في بريد رئيسي مجلس السيادة والوزراء.. الفراغ أرض خصبة للفساد والتآمر
  • لتوسيع نطاق الخدمات المقدمة عبر منصة "حافز "بالمحافظات.. وزير التخطيط تبرم اتفاقًا مع "الصناعات "و "الغرف التجارية"