شلل الإرادة العربية أمام الغرب رغم مصالحه الحيوية في العالم العربي
تاريخ النشر: 9th, April 2024 GMT
تقف الحكومات العربية اليوم عاجزة أمام السياسات الأمريكية التي تشارك في حرب الإبادة على الشعب الفلسطينيّ في غزة مع القوات الإسرائيلية، ورغم كثرة المصالح الغربية والأمريكية لدى العرب غير أن الوزن الاعتباري النسبي للمواقف العربية والمصالح العربية، بما فيها القضية الفلسطينية، لا يشكّل وزناً أمام الاعتبار الأمريكي لإسرائيل كحامية لمصالحه وحجر الزاوية في النظام الإقليمي الأمني الذي يسعى لبنائه، وذلك رغم العبء الأخلاقي والسياسي والقانوني الذي تحمّله إسرائيل للولايات المتحدة ولحلفائها الغربيين.
ومنذ وعى العرب، ما بعد عهد الاستعمار المباشر وبعد الحرب العالمية الثانية، والأمريكيون والأوروبيون يردّدون أنّ وجود إسرائيل وتفوّقها على كامل العالم العربي، بل والإسلامي، وحمايتها، مصلحة استراتيجية لهم، وفي المقابل هناك حديث عن شركاء إقليميين، وربما أحياناً حلفاء من العرب في الأدبيات الأمريكية والأوروبية، لكنّ الترجمة لهذه الاستراتيجيات والمفاهيم اصطدمت خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة بإطار فكريّ غربيّ حاكم وإطار مفاهيميّ، وربما حضاريّ عميق، يرى في إسرائيل دولة وظيفية متعددة الأغراض، وأنها امتداد للمشروع الاستعماري الغربيّ، وأنها أداته في تفكيك المنطقة والهيمنة عليها، ومنعها من النهوض الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ المستقلّ.
وقبل أن نسترسل في التحليل يجب أن نؤكد أن الغرب ليس واحداً، وأن أوروبا ليست مثل الولايات المتحدة، وأنّ هناك قوى شعبية متنوعة المذاهب والأفكار في الغرب يتلاقى بعضها مع الفكر العربي، وأنّ في الغرب مجتمعات عربية وإسلامية تمثّل قاعدة وأساساً للمشروع الحضاريّ العربيّ العالميّ، ولذلك فإنّ الحديث ينصبّ على الحكومات الغربية بشكل عام، والاتجاهات الحليفة للصهيونية منها بشكل خاصّ.
فعلى صعيد الإطار الفكري الحضاريّ يُنظر إلى العالم العربيّ، ومن هذه المجموعات خصوصاً، بأنه مصدر تهديد حضاريّ لما يسمى بالحضارة الغربية (متنوعة التعريفات)، ويمكن رصد بعض العناوين والشعارات الرئيسة التي أطلقها الغرب وأبدعها في تصوير طبيعة نظرته للعالم العربي والإسلامي، من قبيل صدام الحضارات ونهاية التاريخ ومحاربة الإرهاب ومحور الشر والإسلاموفوبيا والحملات الصليبية، والنظام العالمي الجديد، والشرق الأوسط الجديد، والعالم الظلامي.
حيث يتربع على الإطار الفكري وتوجيهه مجموعة من المفكرين المتطرفين والسياسيين المتشددين في عدد من دول الغرب، وهو الأمر الذي شكل محضناً لتنامي اليمين بقوة في العقدين الأخيرين ضد المهاجرين العرب والمسلمين بعنف وحدة.
يجب أن نؤكد أن الغرب ليس واحداً، وأن أوروبا ليست مثل الولايات المتحدة، وأنّ هناك قوى شعبية متنوعة المذاهب والأفكار في الغرب يتلاقى بعضها مع الفكر العربي، وأنّ في الغرب مجتمعات عربية وإسلامية تمثّل قاعدة وأساساً للمشروع الحضاريّ العربيّ العالميّ، ولذلك فإنّ الحديث ينصبّ على الحكومات الغربية بشكل عام، والاتجاهات الحليفة للصهيونية منها بشكل خاصّ.وعلى صعيد الإطار المفاهيمي فإنّ هذه الحكومات والمجموعات الحاكمة إنما ترى في الحضارة الغربية مرجعاً لكل العالم، كما ترى أنّ السيطرة والهيمنة من أهم قواعد هذه الحضارة، وأن الشعوب العربية مثلاً إنما تشكّل حالة التخلّف الحضاريّ، بل إنّ بعض المستشرقين والمنغمسين في الجدال الحضاريّ يعتقدون أن تاريخ الحضارة العربية الإسلامية كان فترة عصيبة، بل وظلامية، وأنّ هذه الأمة يجب أن تعتقد وتعترف بأنها لم تكن شيئاً يوماً ما، وأنها الآن لا تشكّل قيمة في التنافس الحضاريّ، كما أنّها لا تملك الأفق المستقبليّ لتشكّل منافساً للحضارة الغربية ولا حتى حليفاً لها.
في مقابل أطروحات عنيفة وحادّة في الإطار المفاهيمي تعتقد أنّ الصراع الحضاري مع العالم العربيّ والإسلامي حتميّ، ولا بد من الإعداد له، بل وتزويده بالوقود اللازم، حيث تطرح هذه الأطر مفهوم التحالف مع الأجناس والحضارات التاريخية الأقل خطورة، مثل الهندوسية والمجموعات اليهودية المتصهينة والمجموعات الصهيونية من غير اليهود، للإعداد للقضاء على أيّ محاولة لنهوض حضاريّ عربيّ أو إسلاميّ مهما كانت محدودة، وأن امتلاك القوة العالمية لأيّ دولة عربية أو إسلامية إنما يشكّل تهديداً وجودياً واستراتيجياً للمشروع الاستعماريّ الغربيّ المسمّى بالحضارة الغربية، بما في ذلك الحدّ من فرصة امتلاك القوة النووية، حتى السلمية منها، وكذلك الحدّ من قدرات الاستقلال الاقتصادي، ومنها العمل على منع أيّ فرصة لأيّ وحدة إقليمية اقتصادية أو سياسية عربية أو إسلامية مستقلة وقادرة، ولذلك تسود الثقافة الغربية عن العرب وحكوماتهم ونخبهم الكثير من المفاهيم والأفكار المرتبطة بهذه الادّعاءات والتوجهات الاستراتيجية.
واستناداً لما ورد أعلاه فإن الاهتمام الغربي ما بعد الحرب العالمية الثانية بحماية إسرائيل وتثبيت وجودها في قلب العالم العربيّ والإسلاميّ في فلسطين إنما ينطلق من هذه الأطر، وتشتق الاستراتيجيات والسياسات من خلالها، ولذلك يقول بعضهم: لو لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها، لحماية مصالحنا في المنطقة (في العالم العربيّ والإسلاميّ)، ما يعني أن ما تقوم به الولايات المتحدة وحلفاؤها الدول الأربع الأوروبية على وجه التحديد (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) مع دول أخرى أقلّ أهمية، يشير بوضوح إلى أننا في معركة حضارية، وأننا في معركة يُنظَر إليها من قبل هذه الدول في بعدها العالميّ، وهذا ما كان سبباً لاستدعاء حاملات الطائرات والغواصات والبوارج الحربية، وتشغيل الجسر الجوي بالإمداد بالأسلحة الفتاكة لإسرائيل، لمواجهة محاولة المقاومة الفلسطينية القوية الناجزة في 7 أكتوبر في إحداث الزلزال النفسيّ في المؤسسة الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية، الأمر الذي يمكن أن يفقدها القدرة على القيام بالوظائف التي يتطلع إليها الغرب المتوحش بالمفهوم الذي ساقه المقال آنفاً.
إنّ السعي العربي والإسلامي لإقناع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية بوقف الحرب على غزة لم ينجح طوال ستة شهور كاملة، لأنّ المهمة المنوطة بهذه الحرب لم تنجز بعد، وأن التهديد الذي برز بوضوح لهذا الكيان الضعيف الهشّ (إسرائيل) المعتمد كلياً على الدعم الغربي، ما زال قائماً،اعتبر الغرب أنّ تنامي حركة المقاومة عسكرياً وأمنياً لهذه الدرجة يعني أن هذه الدولة الوظيفية المتوحشة (إسرائيل) في خطر استراتيجي فعليّ على المديين المتوسط والبعيد. حيث رسم استراتيجيته لاستعادة ثقتها بنفسها أولاً، وتهديد أي تحركات رسمية أو شعبية في المنطقة يمكن أن تسند الشعب الفلسطيني ومقاومته، أو تتضامن معه، وقام بتهديد عشرات الحكومات العربية والإسلامية بأنها ستدفع الثمن وتتلقّى العقاب إن هي منعت إسرائيل، ومن ورائها الغرب، من تأديب هذه القوة المهدِّدة (المقاومة الفلسطينية)، بل والقضاء على قدراتها العسكرية والأمنية والسلطوية التي من خلالها تشكّل هذا التهديد لإسرائيل، وهذا ما انعكس على العرب بمواقف محزنة جداً في بداية الحرب، وحتى في بيان القمة العربية الإسلامية الذي انحسر في شعارات رفعتها دول تمتلك الجيوش والثروات والقدرات الاقتصادية والنفطية والاستثمارات الدولية بتريليونات الدولارات، ولكنّ الدول التي تملك هذه القدرات عليها أن تتخذ قرارات وإجراءات مباشرة، وهو ما لم يحصل في هذه القمة "اليتيمة" طبعاً.
ولذلك فإنّ السعي العربي والإسلامي لإقناع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية بوقف الحرب على غزة لم ينجح طوال ستة شهور كاملة، لأنّ المهمة المنوطة بهذه الحرب لم تنجز بعد، وأن التهديد الذي برز بوضوح لهذا الكيان الضعيف الهشّ (إسرائيل) المعتمد كلياً على الدعم الغربي، ما زال قائماً، وفي المقابل لم تحاول أي دولة عربية أو إسلامية مثلاً قطع العلاقات مع إسرائيل (17 دولة عربية وإسلامية تقيم علاقات متنوعة مع إسرائيل) أو التهديد بقطعها، ناهيك عن التهديد بقطع النفط عن المصانع الغربية خاصة مصانع السلاح الفتّاك الذي تستخدمه إسرائيل، ولا بالتهديد بسحب أو تجميد الاستثمارات العربية والإسلامية القائمة في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تقدّر بأكثر من 2 تريليون دولار على الأقل، وترك العرب غزة والمقاومة فيها لقدرها أمام البطش والإبادة والتجويع، وحاول البعض منهم اتخاذ مواقف إنسانية ربما سمح الهامش الاستعماريّ بها، كما حاول البعض رفع سقف الضغط السياسي على إسرائيل من خلال العمل الدبلوماسي مع الدول الغربية والولايات المتحدة، وهي الدول التي تدير الاستراتيجية الإسرائيلية في هذه الحرب.
انطلاقاً من هذا المدخل الموسّع في النظر إلى طبيعة المعركة الجارية اليوم على أرض غزة، فإن مدى الشلل في الإرادة العربية اتّضح، بل ومدى التسليم للولايات المتحدة لتقود الموقف الدولي، وهي التي تقود المعركة في آن واحد، والقبول بالحدّ الذي تسمح به الدول الغربية، وبالتالي اتجهت جهود معظم الحكومات العربية للضغط على شعوبها بسبب الانزعاج الأمريكي والإسرائيلي والغربي من نداءات الشعوب في شوارعها هنا وهناك، حتى إنّ بعض الحكومات منعت كل أشكال التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة، ولاحقت وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تستطع مجموع الدول العربية والإسلامية (57 دولة) أن تُدخل حتى المساعدات الإنسانية والطبية، وهو ما تحاول القيام به منظمات مجتمع مدني دولية ومحلية ودول عربية محدودة.
وعندما نمعن النظر في واقعية ما جرى ومخاطره من شلل في الإرادة العربية فإن التاريخ قد سطّر أن حال النخب التي تُسلّم أمرها وإرادتها وسيادتها وثرواتها للآخرين من الدول والحضارات تصبح أسيرة لتوّجهات هذه الأطراف الخارجية، وأن إمكانية النهوض الحضاري لديها تؤول إلى الصفر، وأنّ حكمها ومستقبل سلطتها أصبح مرهوناً وتحت الابتزاز المستمر، وأنه عندما يتغير موقف الغرب ويجد بدائل تقوم بالمهمة أفضل من هذه النخب فهو ذاته سوف يعمل على استبدالها، ولعل تجربة فرديناند ماركوس في الفلبين عام 1986 مثال صارخ أمام النخب العربية والإسلامية الحاكمة اليوم، لتنهض من هذا الحال وتستخدم إرادتها وسيادتها وتلتحم بشعوبها وقواها الحية، وتتخذ مواقف وإجراءات في مناصرة الشعب الفلسطيني لكسر شوكة الفكر الاستعماريّ الصهيونيّ التي تفرض على الأمة الصمت على المجازر، بل ومنع الإنقاذ حتى من قبل القوى العربية الشعبية، لأنّ استمرار حالة الاعتماد على الأطراف الخارجية بالتأكيد سوف يرتدّ على الأوضاع العربية والإسلامية، وربما يشكّل محضناً لعوامل الفوضى وعدم الاستقرار، ونهوض الشعوب في موجة جديدة من الربيع تغير الأوضاع وبقوة أكثر مما كانت في الموجتين السابقتين عامي 2011 و2019.
*رئيس مركز دراسات الشرق الاوسط ورئيس تحرير مجلة دراسات شرق أوسطية العلمية المحكمة في الأردن.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه حرب غزة الفلسطينية احتلال فلسطين غزة حرب تداعيات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العربیة والإسلامیة الولایات المتحدة الشعب الفلسطینی العالم العربی الدول الغربیة فی الغرب
إقرأ أيضاً:
مفاجأة زلزلتني: من «العالم العربي» إلى «الملفات».. (1- 3)
د. مجدي العفيفي
كيف تحوّلنا من أُمَّة إلى حدود؟
(1)
حدث أن جلستُ ذات يوم مع رجل كان يحمل على كتفيه ثقل دولةٍ تعدّ من أقدم الديمقراطيات الغربية، ومن أشرس القوى العسكرية في العالم: وزير الدفاع الفرنسي في الثمانينيات.
حوار طويل دار بيننا، تجوّلنا فيه بين خرائط التاريخ وموازين الجغرافيا وإيقاعات القوة والنفوذ..
كان ذلك وانا أعيش في سلطنة عُمان، وكنت مراسلًا صحفيًا لعشر صحف ومجلات عربية وأجنبية في عنفوان الشباب والصحافة، في ضياء عملي التأسيسي المشارك في الإعلام العُماني ابداعا وانتاجا وصناعة وصياغة..
كنت أتحدّث مع ذلك الرجل «الغربي» بعفوية «العربي» الذي تربّى على لغة المجد والقصائد، على الأغاني الوطنية والصور المثالية المكتنزة بالأساطير.
فسألته.. بتوقٍ صحفي أكثر مما هو سؤال واقعي:
كيف ترون العالم العربي؟
هذه قلب العروبة النابض.. وهذه لؤلؤة الخليج.. وتلك بوابة العرب الشرقية.. وهذه سلة الغذاء العربي. وتلك أم الحضارة.. وهذه أصل العرب.. و..و..و..
توقعت أن يبتسم.. أن يوافق.. أن يدير حديثًا دبلوماسيًا.
لكنّه قلب الطاولة بكلمة واحدة زلزلت وجداني، وهدمت ألف نشيد كنت أحمله في صدري:
«ما هذه الألقاب»؟ نحن لا نعرف شيئًا اسمه «عالم عربي» نحن نتعامل مع (ملفات): الملف المصري، الملف السوري، الملف السعودي... وهكذا.
(2)
توقفت الكلمات داخلي.
كانت اللحظة كافية لأفهم أن الفجوة ليست في السياسة فقط، بل في الوعي.
الفجوة ليست في القوة، بل في إدراك القوة.
نحن نحب أن نسمي أنفسنا: أمة.. لكن الآخر لا يرانا كذلك.
نحن نغني: "بلاد العرب أوطاني".. بينما هو يضع كل دولة منا في سطر منفصل، جدول منفصل، خريطة نفوذ منفصلة، و"أجندة" لا تشبه الأخرى.
نحن نتماهى مع صورة رومانسية.. وهو يتعامل مع واقع استراتيجي صارخ.
نحن نحلم.. وهو يخطط.
نحن ننفعل.. وهو يحسب.
(3)
قلت في نفسي: أيّ مأساة هذه؟ من المسؤول عن تحويل الأمة التي امتدت من طنجة إلى بغداد إلى مجرد أوراق في درج موظف عسكري في دولة أجنبية؟
الصدمة ليست في أنه قال ذلك.. الصدمة في أنه كان صادقًا.
نحن من صنعنا هذه الحقيقة.. بتواطؤٍ ناعم، بتفككٍ طوعي، بنظام عربي يشبه "عمارة" قديمة كل شقة فيها تضع لنفسها بابًا حديديًا مضادًا للسرقة.. ليس خوفًا من الأجنبي.. بل من الجيران.
لقد نجحنا بامتياز: أن نحيا معًا.. لكن منفصلين.
أن نتحدث لغة واحدة.. لكن دون وعي واحد.. أن نحمل تاريخًا واحدا.. لكن دون مصير واحد.
الغرب لا يصنع لنا صورتنا.. نحن من قدمنا له الصورة جاهزة على طبق من ضعف.
حين انقسمنا.. قالوا: ملفات.
حين تحاربنا.. قالوا: ملفات.
حين جعلنا كل قُطر "أُمة" بذاته.. قالوا: ملفات.
فالسياسة ليست شعارات.. السياسة سجلات ومصالح وتوازن قوى، والقوة لا تُقاس بعدد الخطب.. بل بمدى حضورك على طاولة القرار.
(4)
لكن ما الذي جعلني أكتب هذا الآن؟
لأننا في هذه اللحظة التاريخية، في هذا الزمن الذي تتفكك فيه الخرائط ويتغير شكل العالم، نكرر الخطأ نفسه:
نصفق للألقاب.. نتمسّك بالروايات.. نرسم صورًا لا يسكنها إنسان.. نقول: واقع عربي واحد، بينما الحقيقة: ألف واقع.. نقول: مصير مشترك.. بينما المصير أصبح مزادات نفوذ.
نقول: تاريخ واحد...والتاريخ يُعاد كتابته كل يوم على يد غيرنا.
المسألة ليست يأسًا، وليست «نوستالجيا» (حنين) واستعادة فارغة للماضي؛ بل هي شهادة على لحظة وعي: لن تُحلّ قضايانا ما دُمنا نُعامل أنفسنا كجزرٍ معزولة.
ولن يحترمنا العالم إذا لم نعد نرى أنفسنا كأمّة أولًا.
القضية ليست سياسية فقط، بل ثقافية:
حين نُربّي جيلًا على أن "الوطن" هو فقط الحدود الجغرافية التي ولد فيها.. سنخسر!
حين ننسى أن اللغة ليست مجرد حروف، بل جسد يفكر.. سنخسر!
حين نسمح لليأس أن يتحول إلى نظام تفكير.. سنخسر!
الأمة ليست شعارًا.. الأمة خيار.. الأمة مشروع.. الأمة مسؤولية.
لم يكن الوزير الأوروبي يتحدث بكُرهٍ أو احتقار، كان يتحدث بمنطق الدول، ولم يكن يطرح رؤية صدامية (shock value) بقدر ما كان مُتفحصًا للواقع (reality check).
لقد أراد أن يقول لي، دون أن يقول: «من لا يتوحَّد.. يُدار».
ومن لا يعرف نفسه.. سيُعرّفه الآخر.
ومن لا يصنع تاريخه.. سيُكتب تاريخه عليه.
واليوم.. ربما نحتاج لتلك الصفعة ذاتها.. لنهدم الصورة القديمة كي نصنع صورةً جديدة، صورة لا تُبنى على الحنين.. بل على الإرادة.
فالسؤال الحقيقي ليس: كيف يروننا؟ بل: كيف نريد أن نكون؟
والأخطر من ذلك: هل نملك الشجاعة أن نتوقف عن الغناء.. لنبدأ العمل؟ لأن الأمم لا تُعرَّف بالأغاني.. بل تُعرَّف بما تفرضه على طاولة العالم.
(5)
اختراع القُطريات..
إذا أردنا فهم كيف خرجنا من صورة «الأمة» إلى حالة «الملفات»، فيجب أن نعود إلى اللحظة التي تغيّر فيها شكل الوعي العربي نفسه.. فالأمة ليست جغرافيا، وليست حتى تاريخًا؛ الأمة تخيّلٌ جماعي. وما يُكسر أولًا في الأمم هو المخيّلة المشتركة.
أولا: عندما قسّمونا.. فلم نمانع؛ فبعد الحرب العالمية الأولى، وبتحديدٍ أدقّ بعد إسقاط الامبراطورية العثمانية، لم يسأل الغرب العرب: «إلى أين تريدون أن تذهبوا بمستقبلكم؟» بل طرح سؤالًا آخر تمامًا: «كيف نُقسّمكم؟». ثم جلس البريطاني والفرنسي حول خريطة لا تعرف الشعب ولا اللغة ولا الذاكرة ولا القبيلة ولا الحضارة… خطّوا حدودًا باردة بقلم رصاص، ثم مرّروا فوقها قلم حبر، فأصبحت دولًا.
ولأول مرة منذ 14 قرنًا، أصبح العربي ينتمي إلى دولة قبل أن ينتمي إلى الأمة.. صار المصري «مصريًا قبل أن يكون عربيًا» واللبناني «لبنانيًا قبل أن يكون عربيًا» والعراقي «عراقيًا قبل أن يكون عربيًا»، ولم يكن ذلك صدفة.. كان مشروعًا كاملًا.
ولهذه السردية المؤلمة بقية!!
رابط مختصر