مفاجأة زلزلتني: من «العالم العربي» إلى «الملفات».. (1- 3)
تاريخ النشر: 9th, December 2025 GMT
د. مجدي العفيفي
كيف تحوّلنا من أُمَّة إلى حدود؟
(1)
حدث أن جلستُ ذات يوم مع رجل كان يحمل على كتفيه ثقل دولةٍ تعدّ من أقدم الديمقراطيات الغربية، ومن أشرس القوى العسكرية في العالم: وزير الدفاع الفرنسي في الثمانينيات.
حوار طويل دار بيننا، تجوّلنا فيه بين خرائط التاريخ وموازين الجغرافيا وإيقاعات القوة والنفوذ.
كان ذلك وانا أعيش في سلطنة عُمان، وكنت مراسلًا صحفيًا لعشر صحف ومجلات عربية وأجنبية في عنفوان الشباب والصحافة، في ضياء عملي التأسيسي المشارك في الإعلام العُماني ابداعا وانتاجا وصناعة وصياغة..
كنت أتحدّث مع ذلك الرجل «الغربي» بعفوية «العربي» الذي تربّى على لغة المجد والقصائد، على الأغاني الوطنية والصور المثالية المكتنزة بالأساطير.
فسألته.. بتوقٍ صحفي أكثر مما هو سؤال واقعي:
كيف ترون العالم العربي؟
هذه قلب العروبة النابض.. وهذه لؤلؤة الخليج.. وتلك بوابة العرب الشرقية.. وهذه سلة الغذاء العربي. وتلك أم الحضارة.. وهذه أصل العرب.. و..و..و..
توقعت أن يبتسم.. أن يوافق.. أن يدير حديثًا دبلوماسيًا.
لكنّه قلب الطاولة بكلمة واحدة زلزلت وجداني، وهدمت ألف نشيد كنت أحمله في صدري:
«ما هذه الألقاب»؟ نحن لا نعرف شيئًا اسمه «عالم عربي» نحن نتعامل مع (ملفات): الملف المصري، الملف السوري، الملف السعودي... وهكذا.
(2)
توقفت الكلمات داخلي.
كانت اللحظة كافية لأفهم أن الفجوة ليست في السياسة فقط، بل في الوعي.
الفجوة ليست في القوة، بل في إدراك القوة.
نحن نحب أن نسمي أنفسنا: أمة.. لكن الآخر لا يرانا كذلك.
نحن نغني: "بلاد العرب أوطاني".. بينما هو يضع كل دولة منا في سطر منفصل، جدول منفصل، خريطة نفوذ منفصلة، و"أجندة" لا تشبه الأخرى.
نحن نتماهى مع صورة رومانسية.. وهو يتعامل مع واقع استراتيجي صارخ.
نحن نحلم.. وهو يخطط.
نحن ننفعل.. وهو يحسب.
(3)
قلت في نفسي: أيّ مأساة هذه؟ من المسؤول عن تحويل الأمة التي امتدت من طنجة إلى بغداد إلى مجرد أوراق في درج موظف عسكري في دولة أجنبية؟
الصدمة ليست في أنه قال ذلك.. الصدمة في أنه كان صادقًا.
نحن من صنعنا هذه الحقيقة.. بتواطؤٍ ناعم، بتفككٍ طوعي، بنظام عربي يشبه "عمارة" قديمة كل شقة فيها تضع لنفسها بابًا حديديًا مضادًا للسرقة.. ليس خوفًا من الأجنبي.. بل من الجيران.
لقد نجحنا بامتياز: أن نحيا معًا.. لكن منفصلين.
أن نتحدث لغة واحدة.. لكن دون وعي واحد.. أن نحمل تاريخًا واحدا.. لكن دون مصير واحد.
الغرب لا يصنع لنا صورتنا.. نحن من قدمنا له الصورة جاهزة على طبق من ضعف.
حين انقسمنا.. قالوا: ملفات.
حين تحاربنا.. قالوا: ملفات.
حين جعلنا كل قُطر "أُمة" بذاته.. قالوا: ملفات.
فالسياسة ليست شعارات.. السياسة سجلات ومصالح وتوازن قوى، والقوة لا تُقاس بعدد الخطب.. بل بمدى حضورك على طاولة القرار.
(4)
لكن ما الذي جعلني أكتب هذا الآن؟
لأننا في هذه اللحظة التاريخية، في هذا الزمن الذي تتفكك فيه الخرائط ويتغير شكل العالم، نكرر الخطأ نفسه:
نصفق للألقاب.. نتمسّك بالروايات.. نرسم صورًا لا يسكنها إنسان.. نقول: واقع عربي واحد، بينما الحقيقة: ألف واقع.. نقول: مصير مشترك.. بينما المصير أصبح مزادات نفوذ.
نقول: تاريخ واحد...والتاريخ يُعاد كتابته كل يوم على يد غيرنا.
المسألة ليست يأسًا، وليست «نوستالجيا» (حنين) واستعادة فارغة للماضي؛ بل هي شهادة على لحظة وعي: لن تُحلّ قضايانا ما دُمنا نُعامل أنفسنا كجزرٍ معزولة.
ولن يحترمنا العالم إذا لم نعد نرى أنفسنا كأمّة أولًا.
القضية ليست سياسية فقط، بل ثقافية:
حين نُربّي جيلًا على أن "الوطن" هو فقط الحدود الجغرافية التي ولد فيها.. سنخسر!
حين ننسى أن اللغة ليست مجرد حروف، بل جسد يفكر.. سنخسر!
حين نسمح لليأس أن يتحول إلى نظام تفكير.. سنخسر!
الأمة ليست شعارًا.. الأمة خيار.. الأمة مشروع.. الأمة مسؤولية.
لم يكن الوزير الأوروبي يتحدث بكُرهٍ أو احتقار، كان يتحدث بمنطق الدول، ولم يكن يطرح رؤية صدامية (shock value) بقدر ما كان مُتفحصًا للواقع (reality check).
لقد أراد أن يقول لي، دون أن يقول: «من لا يتوحَّد.. يُدار».
ومن لا يعرف نفسه.. سيُعرّفه الآخر.
ومن لا يصنع تاريخه.. سيُكتب تاريخه عليه.
واليوم.. ربما نحتاج لتلك الصفعة ذاتها.. لنهدم الصورة القديمة كي نصنع صورةً جديدة، صورة لا تُبنى على الحنين.. بل على الإرادة.
فالسؤال الحقيقي ليس: كيف يروننا؟ بل: كيف نريد أن نكون؟
والأخطر من ذلك: هل نملك الشجاعة أن نتوقف عن الغناء.. لنبدأ العمل؟ لأن الأمم لا تُعرَّف بالأغاني.. بل تُعرَّف بما تفرضه على طاولة العالم.
(5)
اختراع القُطريات..
إذا أردنا فهم كيف خرجنا من صورة «الأمة» إلى حالة «الملفات»، فيجب أن نعود إلى اللحظة التي تغيّر فيها شكل الوعي العربي نفسه.. فالأمة ليست جغرافيا، وليست حتى تاريخًا؛ الأمة تخيّلٌ جماعي. وما يُكسر أولًا في الأمم هو المخيّلة المشتركة.
أولا: عندما قسّمونا.. فلم نمانع؛ فبعد الحرب العالمية الأولى، وبتحديدٍ أدقّ بعد إسقاط الامبراطورية العثمانية، لم يسأل الغرب العرب: «إلى أين تريدون أن تذهبوا بمستقبلكم؟» بل طرح سؤالًا آخر تمامًا: «كيف نُقسّمكم؟». ثم جلس البريطاني والفرنسي حول خريطة لا تعرف الشعب ولا اللغة ولا الذاكرة ولا القبيلة ولا الحضارة… خطّوا حدودًا باردة بقلم رصاص، ثم مرّروا فوقها قلم حبر، فأصبحت دولًا.
ولأول مرة منذ 14 قرنًا، أصبح العربي ينتمي إلى دولة قبل أن ينتمي إلى الأمة.. صار المصري «مصريًا قبل أن يكون عربيًا» واللبناني «لبنانيًا قبل أن يكون عربيًا» والعراقي «عراقيًا قبل أن يكون عربيًا»، ولم يكن ذلك صدفة.. كان مشروعًا كاملًا.
ولهذه السردية المؤلمة بقية!!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عودة الكتاتيب.. ضرورة لإحياء روح القرآن في مصر والوطن الإسلامي
في زمنٍ تتسارع فيه الحياة، وتتزاحم فيه الفتن، وتضيع فيه القيم بين شاشات مضيئة وعقول منشغلة، يظلّ القرآن الكريم هو النور الذي لا يخبو، والهدى الذي لا يضلّ من تمسّك به. ولأنّ الأمة لا تنهض إلا بكتاب ربها، فإن عودة الكتاتيب لم تعد مجرد فكرة تراثية، بل ضرورة حضارية وتربوية وأخلاقية لمصر ولجميع بلاد العالم الإسلامي.
ما معنى الكُتّاب؟
الكُتّاب كان مدرسةً قرآنية بسيطة، يجلس فيها الأطفال أمام شيخ متقن، يتعلمون القرآن حفظًا وتجويدًا وفهمًا وأدبًا. لم تكن الكتاتيب مجرد مكان للحفظ، بل كانت مصنعًا للرجال، تُبنى فيه الشخصية من جذورها:
الأدب، احترام الكبير، طهارة اللسان، قوة الذاكرة، الانضباط، وحبّ القرآن.
لماذا نحتاج إلى عودة الكتاتيب الآن؟
1. علاج لحالة الضعف في حفظ القرآن
كثير من الأبناء اليوم يحفظون ثم ينسون بسرعة بسبب ضعف المتابعة والانشغال بالتكنولوجيا. الكُتّاب يُعيد النظام اليومي الملتزم الذي يثبت الحفظ ويقوّيه.
2. غرس الأدب قبل العلم
كان الشيوخ يقولون: "تعلّموا الأدب قبل العلم". الكُتّاب بيئة تعيد للطفل احترام الشيخ، وتهذيب النفس، والوقوف عند آداب القرآن.
3. تقوية الذاكرة والانتباه
الحفظ اليومي، التلقين الصحيح، وإعادة الترديد الجماعي… كل ذلك يعالج ضعف التركيز الذي أصبح مشكلة عامة عند الأطفال.
4. سدّ الفراغ الروحي والأخلاقي
الكتاتيب ليست مكانًا تربويًا فقط، بل ملجأ أخلاقيًا يعيد للطفل ارتباطه بالله، ويزرع قيمة المراقبة الداخلية، فيكبر وعينه على رضا الله.
5. حماية الهوية الإسلامية
عودة الكتاتيب تعني عودة الجذور. تعني بناء جيل يفهم القرآن ويتخلق به، في زمن تتعرض فيه الهوية لمحاولات التغيير والذوبان.
الكتاتيب بين الماضي والحاضر
لم تكن الكتاتيب في مصر مجرد دور لتحفيظ القرآن، بل مؤسسات تربوية خرّجت:
– علماء الأزهر.
– الأدباء والمفكرين.
– القضاة والمعلمين.
– وحاملي القرآن الذين كانوا أساس بناء الأمة.
واليوم يمكن إحياؤها بصورتها الحديثة:
كتاتيب منظمة، تضم معلمين متخصصين، مناهج واضحة، حلقات صباحية ومسائية، متابعة يومية، وتدريب للآباء على متابعة أولادهم.
دعم القيادة السياسية لعودة الروح الدينية
وطلبنا هذا ونحن طامعون في كرم سيادتكم،
وبإذن الله تعالى، فإن دعم سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي – رئيس جمهورية مصر العربية – والذي عهدناه دائمًا على الحفاظ على الدولة ومؤسساتها وحماية هويتها من كيد الأعداء الداخلي والخارجي، سيكون عاملًا أساسيًا في عودة الكتاتيب لتؤدي دورها في بناء جيل قرآني ملتزم.
كيف نُعيد الكتاتيب؟
1. دعم الدولة بإدراجها ضمن مشروع قومي كبير.
2. دعم الأزهر بالإشراف العلمي والتربوي.
3. مشاركة المجتمع عبر فتح الكتاتيب في المساجد والمنازل.
4. تعليم المعلمين مهارات التحفيظ والتجويد والتربية.
5. تقديم حوافز للطلاب المتميزين لتحبيبهم في القرآن.
وفي الختام
إن الأمة التي تُعيد بناء الكتاتيب، هي الأمة التي تقول للعالم:
"نحن أمة القرآن، ننهض بعزّة ربنا، ونصون هويتنا وعلومنا وحضارتنا من الضياع والفرقة."
فلنقف جميعًا مع هذا المشروع المبارك، ولنُحيِ الكتاتيب من جديد، فعودتها ليست مجرد استعادة لماضٍ عريق…
بل بداية لمستقبل مشرق، يحمل القرآن في قلب كل طفل، ويزرع الهداية في كل بيت، ويصنع جيلًا يُعلي كلمة الله ويحفظ أمة الإسلام من الضياع.
وبإذن الله تعالى، وبدعم فخامة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ستكون عودة الكتاتيب على أفضل هيئة وأحسن حال، لتحمل رسالتها المباركة في بناء أجيال ملتزمة بالقرآن والسنة.