مقدمة الترجمة

مع موجة الجدل التي أثارها فيلم "أوبنهايمر" الصادر مؤخرا من إخراج كريستوفر نولان، جاءت الأسئلة عن العلاقة بين العلم والسياسة من كل حدب وصوب، خاصة أن الفيلم ركز على هذه القضية في جانب منه، حيث إن العلماء لعبوا دورا رئيسيا في فعل يمكن أن نعده غير أخلاقي أيًّا كانت المبررات، فما الذي وقع فيه العلماء من أخطاء؟ وما الذي يمكن أن نتعلمه مما سمي بعد ذلك "لحظة أوبنهايمر"، تلك اللحظة التي أصبح العالم بعدها شيئا مختلفا تماما.

جون هانسن أستاذ العلوم السياسية من جامعة شيكاغو يتعمق في الأمر عبر هذا التقرير السلس.

نص الترجمة

قضى روبرت أوبنهايمر، عالم الفيزياء الأميركي الذي قاد الجهود نحو تطوير القنبلة الذرية، سنوات من عمره في صراع بين علمه وما يُمليه عليه ضميره. لم يتوانَ أوبنهايمر في التعبير علنا عن مخاوفه بشأن القنبلة الهيدروجينية وسباق التسلح النووي، وهو ما أنهى مسيرته بصورة مأساوية ووقع ضحية للصراع السياسي والتوترات النووية في تلك الفترة. ومع ذلك، فإن العديد من الخبراء الأوائل في الطاقة النووية، بما في ذلك علماء جامعة شيكاغو -الذين أنتجوا أول تفاعل نووي متسلسل- راودهم شعور بواجب المساعدة في منع إساءة استخدام العلوم الذرية لعلهم بذلك يتفادوا نهاية محزنة.

لقد فهم هؤلاء العلماء شيئا يحتاج رواد التقنية الحديثة اليوم في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية إلى إدراكه، وهو أن الأشخاص المسؤولين عن تحقيق التقدم الثوري في العالم لا بد أن تحتِّم عليهم خبرتهم ومسؤولياتهم الأخلاقية أن يساعدوا المجتمع في التعامل مع تلك المخاطر الناجمة عن أعمالهم. يعمل الباحثون اليوم في مختبرات الجامعات والشركات الربحية على تقنيات تُثير لجة متقافزة من الأفكار الأخلاقية العميقة على غرار: هل يمكننا تعديل جينات النباتات والحيوانات لجعلها كائنات مُقاومة للحيوانات المفترسة دون الإخلال بتوازن الطبيعة؟

ينوء صدر العلماء بالشكوك حول أسئلة أخلاقية أخرى مثل: هل يجب أن نسمح بحقوق الملكية الفكرية (براءات الاختراع) على الكائنات الحية المُعدلة وراثيا؟ (بمعنى أن المخترع يملك حقوقا حصرية لاستخدام وتسويق تلك الكائنات المُعَدلة وراثيا)، وهل من السليم أو المقبول أخلاقيا إجراء تعديلات جينية على الجينوم البشري لتصحيح الأخطاء الوراثية التي من المُفتَرض أنها موجودة في البشر؟ وهل يجب أن نسمح للآلات باتخاذ قرارات مصيرية لها تبعات جسيمة، كاستخدم القوة للرد على تهديد ما، أو شن ضربة نووية انتقامية ردا على هجمة ما؟ في ذلك الوقت، ترك علماء الذرة في شيكاغو وغيرها وراءهم معايير وأخلاقيات لممارسة العلم بطريقة تضمن المسؤولية والحذر، وهي معايير ما زالت مهمة وقابلة للتطبيق في وقتنا الحاضر كما كانت في أيام أوبنهايمر.

سباق نحو صنع القنبلة تضمنت الرسالة التي كتبها زيلارد ووقع عليها أينشتاين تحذيرا للرئيس فرانكلين د. روزفلت من إمكانية تطوير ألمانيا لسلاح نووي، وكانت بمنزلة إشارة لبدء العمل على مشروع مانهاتن. (غيتي)

في 2 ديسمبر/كانون الأول عام 1942، بدأ السباق نحو صنع القنبلة الذرية في مختبر المعادن بجامعة شيكاغو، وحدث أول انشطار نووي هندسي ومُستدام ذاتيا (دون الحاجة إلى إمداد خارجي بالمزيد من المواد المُشعة للحفاظ على التفاعل). في ذلك الوقت، تجمع العلماء في معمل المعادن بجامعة شيكاغو الذي أُطلِق عليه اسم "القرية الذرية"، وكان من ضمن هؤلاء العلماء عالم الفيزياء المجري ليو زيلارد الذي ساعد ألبرت أينشتاين قبل بضع سنوات في تحذير الرئيس فرانكلين د. روزفلت من أن التكنولوجيا والمعرفة العلمية المُتاحة كانت كافية لتطوير سلاح ذي قوة هائلة له تأثير كارثي، وأن علماء هتلر على دراية بذلك أيضا.

لعبت الرسالة الشهيرة التي كتبها زيلارد ووقع عليها أينشتاين دورا رئيسيا في إطلاق الولايات المتحدة لمشروع مانهاتن (تضمنت هذه الرسالة تحذيرا من إمكانية تطوير ألمانيا لسلاح نووي، وأشارت إلى ضرورة تطوير الولايات المتحدة لهذا السلاح للحفاظ على التوازن العسكري، وكانت بمنزلة إشارة لبدء العمل على مشروع مانهاتن وتوجيه جهود كبيرة لتطوير القنبلة النووية). عُدَّت هذه الرسالة أول خطوة مهمة توضح المسؤولية العلمية فيما يتعلق بالنشاطات النووية، بمعنى أنها عبرت عن وعي العلماء بالتأثير الهائل للتكنولوجيا النووية على العالم وتحملهم تبعاتها.

كان الدرس الأول للعلماء في ذلك الوقت هو أن المعرفة العلمية بمجرد اكتسابها لا يمكن التراجع عنها. وما إن أدرك زيلارد وزملاؤه الإمكانيات الهائلة التي قدمتها الاكتشافات الحديثة في الفيزياء النووية وقدرتها على تغيير العالم، حتى أبلغوا الزعماء الديمقراطيين بذلك. في ذلك الحين، ضمت القرية الذرية في شيكاغو مزيجا انتقائيا من العلماء يوضح التنوع الثقافي فيما بينهم، كان بعضهم من الشباب الأميركيين الذين نشأوا في ظل الإصلاحات الاجتماعية التي أدخلتها الحكومة الأميركية في عهد الرئيس روزفلت، فيما كان البعض الآخر من جنسيات مختلفة كعالم الفيزياء المجري زيلارد، والفيزيائي الألماني جيمس فرانك، وعالم الفيزياء الحيوية الروسي الألماني يوجين رابينوفيتش. بيدَ أن تجارب هؤلاء العلماء التي خاضوها قبل مغادرتهم أوروبا جعلتهم حساسين بطرق مختلفة للأبعاد الأخلاقية للعلم.

إخضاع العلم للسياسة الفيزيائي الألماني جيمس فرانك (غيتي)

في الواقع، تمتع فرانك بخبرة عملية ومباشرة في كيفية إخضاع العلم للسياسة، إذ كان يعمل في شبابه باحثا في ألمانيا عندما بدأت الحرب العالمية الأولى، وتطوع في الجيش الألماني، وعمل ضابطا في الوحدة التي أدخلت غاز الكلور إلى ساحة المعركة. حينذاك، انتقده بشدة صديقه نيلز بور، الفيزيائي الدنماركي الشهير والحائز على جائزة نوبل، وهو ما جعله يعاني ندما جليا على فعلته (ولعل هذا ما أجج بداخله شعورا أشد حساسية ووعيا بأبعاد المسؤولية الأخلاقية للعلماء في تصرفاتهم).

بحلول عام 1943، انتقلت الأبحاث الرئيسية حول تطوير القنبلة النووية إلى مراكز البحث في أماكن أخرى في الولايات المتحدة، كمدينة أوك ريدج التي تقع بولاية تينيسي، ومنطقة هانفورد بولاية واشنطن، ومدينة لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو. كان لدى العلماء الذين بقوا في مختبر المعادن بجامعة شيكاغو وقت كافٍ لمحاولة تشكيل قرارات بشأن استخدام التكنولوجيا النووية، سواء فيما تبقى من الحرب العالمية الثانية أو في الفترة اللاحقة بعد الحرب. أما الدرس الثاني الذي استفاد منه العلماء خلال هذه التجربة هو أنه على الرغم من أن الاكتشاف العلمي لا يمكن التراجع عنه، فإن تأثيراته يمكن تنظيمها أو توجيهها لخدمة البشرية لا لإبادتها.

في كتابها الصادر عام 1965 بعنوان "خطر وأمل: حركة العلماء في أميركا ما بين 1945-1947″، وثَّقت المؤرخة أليس كيمبال سميث المناقشات الحادة التي دارت بين العلماء خلال هذه الفترة باعتمادها على مواد أرشيفية ومقابلات أجرتها مع العلماء. أوضحت سميث في كتابها أن العلماء حينها توصلوا في نهاية المطاف إلى وضع أهداف نبيلة وعملية بعد مناقشات مُفصَّلة. كان هدفهم المنشود من ذلك كله هو إعطاء اليابان لمحة عن قوة القنبلة النووية، وإتاحة الفرصة للاستسلام قبل تعرضهم لها، كما أرادوا تحرير العلم من قيود السرية الرسمية بكشف تفاصيل ومعلومات حول القنبلة النووية وتأثيرها وقوتها، ليتمكن العالم من فهم تبعاتها، بل ورغبوا أيضا في تجنب سباق التسلح، وإنشاء مؤسسات تكنولوجية تحكم هذا النوع من الأسلحة.

أما الدرس الثالث الذي أدركه العلماء في مختبر المعادن بجامعة شيكاغو هو أن القرارات الكبرى المتعلِّقة باستخدام التكنولوجيا الجديدة يجب أن يتخذها المدنيون في إطار عملية ديمقراطية شفافة. وفي منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، بدأ علماء مانهاتن بطرح مخاوفهم على القادة والمسؤولين الحكوميين عن هذا المشروع، لكن البيروقراطية العسكرية فضَّلت الاحتفاظ بالأسرار، لكن العلماء أمثال زيلارد، وفرانك، ورابينوفيتش، وسيمبسون، وعدد من زملائهم رفضوا التكتم على المعلومات العلمية، وسعوا بكل جهدهم لتوعية الجمهور وتثقيف السياسيين بمخاطر القنبلة النووية عن طريق تنظيم اتحادات من ضمنها "تحالف علماء الذرة في شيكاغو".

أيادي ملطخة بالدماء (غيتي)

واصل العلماء في تلك الفترة سعيهم متلمسين طريقهم وباذلين جهدا أكبر في تلك القضية بإلقاء محاضرات، وكتابة مقالات رأي، وأسسوا مجلة "أتوميك ساينتستس" (Atomic Scientists)، التي كانت تُعد من أبرز المنشورات التي غمرت حرم جامعة شيكاغو في ذلك الوقت. تعاون هؤلاء العلماء مع زملائهم في مواقع مشروع مانهاتن الأخرى لحشد الدعم والتأييدات لإقناع القادة السياسيين بأهمية وضرورة وجود هيئة مستقلة مسؤولة أمام الرئيس والكونغرس للإشراف على تطوير وتنظيم استخدام العلوم النووية. استمرت جهودهم على نحو جيد في الحرب الباردة، مع حملات ناجحة لحظر التجارب النووية، واتفاقيات الحد من الأسلحة.

رغم أننا وصلنا في وقتنا الحالي إلى القرن الحادي والعشرين، ما زالت العديد من القرارات المتعلِّقة بتطوير ونشر التكنولوجيا الحديثة تتحدد في المختبرات الخاصة والمكاتب التنفيذية للشركات بعيدا عن أنظار الجمهور. وعلى غرار متطلبات السرية العسكرية التي أثارت استياء العلماء في مختبر المعادن بشيكاغو، فإن استحواذ الشركات على الأفكار العلمية حصرا لها يعرقل التعاون وتدفق الأفكار التي يعتمد عليها التقدم العلمي. كما أن أولوية الشركات في اتخاذ قراراتها الخاصة تلغي حق الجمهور في المشاركة العامة، والحرية في اتخاذ القرارات الأخلاقية بشأن تطبيق المعرفة العلمية والتقنية. لذا، أكد العلماء حينذاك أن الجمهور هو مَن له الأولوية والحق في اتخاذ مثل هذه الخيارات.

في أغسطس/آب عام 1945، تسببت قنبلتان نوويتان في مقتل ما يتراوح ما بين 150.000-220.000 شخص في هيروشيما وناغازاكي. وبعد بضعة أشهر، في اجتماع في البيت الأبيض، وقف أوبنهايمر ماثلا أمام رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت هاري ترومان موجها حديثه إليه: "سيدي الرئيس، إن يداي ملطختان بالدماء". لكن ترومان ذكّر أوبنهايمر بأن قرار إسقاط القنبلتين النوويتين على اليابان كان قراره الخاص ولا شأن له بالأمر.

صحيح أن علماء الذرة كانوا السبب الرئيسي في جعل هذا السلاح ممكنا، لكن ذلك لا يمنع دورهم المهم في تعزيز المسؤولية الأخلاقية ووضع القواعد المناسبة للعمل العلمي، وهو الدور الذي أدى إلى أن تكون الحرب العالمية الثانية هي الحرب الوحيدة التي شهدت استخدام السلاح النووي. لذا في نهاية المطاف، سيكون من الحكمة إن استفدنا من الدروس التي استفاد منها علماء الذرة لتفادي الكوارث المحتملة الناجمة عن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا الحديثة في المستقبل.

________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الولایات المتحدة هؤلاء العلماء العلماء فی

إقرأ أيضاً:

علماء: إنسان نياندرتال كانت لديه قدرات فنية

إسبانيا – أفادت قناة NBC أن فريقا إسبانيا اكتشف أقدم دليل فني معروف لإنسان نياندرتال حتى الآن، حيث عثروا على حجر منقوش عليه رسومات في أحد مواقع استيطان إنسان نياندرتال الأثرية.

كشف الباحثون عن تفاصيل مذهلة للرسم المكتشف، حيث وُجد منقوشا على حجر ذي انحناءات طبيعية تشكّل ملامح تشبه الوجه البشري. وفي مركز هذه “القطعة الفنية البدائية”، لاحظ الفريق وجود نقطة حمراء داكنة وضعت بدقة في موضع الأنف. وأظهر التحليل المخبري أن هذه النقطة صُممت باستخدام أصبع مغموس بالمغرة (صبغة أرضية طبيعية كانت شائعة في عصور ما قبل التاريخ)، وهو ما يستبعد أي احتمال لتشكلها بشكل عشوائي أو طبيعي.

وباستخدام تقنيات تحليل البصمات الدقيقة، استنتج الباحثون أن الفنان النياندرتالي كان على الأرجح ذكرا بالغا. ويفترض الفريق العلمي أن هذا الإنسان القديم قد لاحظ التشابه بين شكل الحجر والوجه البشري، مما ألهمه لإضافة لمسة فنية متعمدة تكمل التشابه. وقد وصف الخبراء هذه القطعة بأنها تمثل “أحد أقدم الأمثلة المعروفة على التجريد الفني والتعبير الرمزي في السجل الأثري”، مما يقدم دليلا جديدا على التطور المعرفي والمعقد لإنسان نياندرتال.

يقلب هذا الاكتشاف المفاهيم السائدة عن تاريخ الفن البشري رأسا على عقب، حيث يُفند الفرضية القائلة بأن الإنسان العاقل (Homo sapiens) كان أول من أبدع أعمالًا فنية. كما يشير إلى وجود قدرات تجريدية متطورة لدى إنسان نياندرتال، مما يدفعنا لإعادة تقييم التطور المعرفي للإنسان القديم.

في سياق متصل، كشفت بحوث أثرية حديثة النقاب عن أدوات عظمية يعود تاريخها إلى 1.5 مليون سنة، تم اكتشافها في الخامس من مارس الماضي. هذا الاكتشاف يؤخر زمن بداية استخدام الأدوات العظمية بمليون سنة عن التقديرات العلمية السابقة، مما يوسع آفاق فهمنا لتطور المهارات التقنية للإنسان البدائي.

المصدر: صحيفة “إزفيستيا”

مقالات مشابهة

  • يهرب خالد سلك من إدانة المليشيا إلى إدانة الحرب بطريقة (فاضحة)
  • بتصميم مختلف.. أحدث إصدارات سامسونج تغزو الأسواق قريبا
  • نزار قبيلات يكتب: النثر العربي القديم وتقبّل الآخر
  • بوريطة: الموقف الذي عبرت عنه المملكة المتحدة بشأن قضية الصحراء المغربية سيعزز الدينامية التي يعرفها هذا الملف
  • "خسرت الشعب".. ويجز يطرح أحدث أغانيه
  • علماء: إنسان نياندرتال كانت لديه قدرات فنية
  • سهولة امتحان الدراسات الاجتماعية ترسم البسمة على وجوه طلاب الإعدادية بالقاهرة
  • الخديعة الامريكية في المفاوضات النووية ماهي خسارة ايران التي لايمكن تعويضها
  • ⛔ لاحظ التعابير التي استخدمها فيصل محمد صالح في هذا اللقاء
  • الشغدري يدشن حركة السير في طريق صنعاء – الضالع – عدن “صور”