الفن السريالي.. بين جنون الحروب العالمية وسحر اللاوعي
تاريخ النشر: 31st, July 2023 GMT
تعد الحركة السريالية واحدة من أبرز التيارات الفنية في القرن العشرين، ويعود ذلك لكونها ظهرت في مرحلة تاريخية اندمج فيها العلمي والسياسي والفني، فعلاوة على أنها وليدة صراعات الساحة السياسية العالمية في الفترة ما بين الحربين العالميتين تأثرت السريالية بنظريات علم النفس عن العقل الباطن واللاوعي.
فكما أن العالم يحمل الناس في داخله يحمل كل إنسان عالما كاملا في داخله في المقابل.
أما على المستوى الزمني فقد انطلقت الحركة السريالية في فرنسا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي واحتضنت فنانين من مختلف التخصصات والمذاهب الفنية، بما في ذلك الرسم والنحت والأدب والسينما والموسيقى.
يجمع الفن السريالي الخيال والحقيقة في إطار يتحدى القواعد الثابتة والأبجديات المتفق عليها، فالهدف هو تقديم تشكيلة بصرية تعبر عن حلم أو فكرة يصعب إظهارها بأسلوب واقعي.
ويعتبر رسام السريالية أن المهمة الرئيسية لفنه هي كشف الجوانب الغامضة للحواس واللاوعي والعقل الباطن، وهذا يظهر جليا في أعمال رواد المدرسة المشهورين، مثل رينيه ماغريت، وسلفادور دالي، ومان راي، وبول ناش، وفريدا كاهلو وغيرهم.
تمثيل الذات والإدراكعلى سبيل المثال، تعد لوحة "ابن الإنسان" للرسام البلجيكي رينيه ماغريت واحدة من أكثر لوحات المدرسة السريالية شهرة، وهي عبارة عن رجل يغطي وجه تفاحة ويقف أمام سور وخلفه بحر وسماء.
أثارت تلك اللوحة الغامضة العديد من الشروحات والتفسيرات منذ رسمها عام 1964، حيث يخلق ماغريت وضعا مثيرا للفضول بين الرؤية والإخفاء، كما يتحدى اختياره المتعمد لإخفاء الوجه المفاهيم التقليدية للهوية، ويدعو المشاهدين إلى التشكيك في طبيعة تمثيل الذات والإدراك.
يوظف ماغريت من أجل هذا المعنى العميق "ابن الإنسان"، وهو مسمى يطلق على السيد المسيح في الإنجيل، بالإضافة إلى التفاحة وما لها من رمزية دينية أيضا، ليشير غالبا إلى أن البشر منذ آدم وحتى الآن يضعون الثمرة المحرمة نصب أعينهم بغض النظر عن هوياتهم.
نرى أيضا في لوحات سلفادور دالي -وهو أحد أشهر الفنانين السرياليين- تصويرا مضمرا للجوانب اللاواعية والأحلام والرغبات المكبوتة والتي صارت سمة مميزة لأعماله، وقد نجح دالي في توظيف الأفاعي والساعات المتساقطة كرموز للوقت النسبي والرغبات المكبوتة وعدم الاستقرار المتغلغل في العقل البشري.
في لوحته "إصرار الذاكرة" -التي رسمها في عام 1931- يقدم دالي منظرا طبيعيا قاحلا وساعات تذوب وهي ملفوفة على أشياء مختلفة، بما في ذلك شجرة جدباء وشكل وجه مشوه في المقدمة، تخلق الألوان الناعمة والحالمة وضربات الفرشاة الناعمة التي استخدمها دالي جوا سرياليا آسرا ومقلقا في الوقت نفسه.
لكن واحدا من أكثر العناصر اللافتة للنظر في "إصرار الذاكرة" هو الساعات التي تذوب، أصبحت تلك الساعات رمزا شهيرا لنسبية الوقت كما قدمه ألبرت أينشتاين، وتبدو هذه الساعات وكأنها في حالة من التميع كما لو أن الوقت نفسه يذوب، هذا التمثيل غير المفهوم للوقت يتحدى فهمنا التقليدي وتصورنا للواقع.
تروج السينما السريالية للغموض والفزع والغرابة في آن معا، حيث يتم تصوير العالم بطريقة غير معتادة عبر تقنيات تحرير مبتكرة لتوصيل الرسائل والمشاعر بطريقة فريدة، كما تزخر الأفلام السريالية بمشاهد لا تتبع قوانين الزمان والمكان المعتادة وتعيد ترتيب السلسلة الزمنية للأحداث بشكل جنوني.
وعلى سبيل المثال لا الحصر يأخذنا فيلم "بداية" للمخرج كريستوفر نولان الصادر في عام 2010 في رحلة مثيرة إلى عالم الأحلام ويستكشف الطبقات المعقدة للعقل البشري والنفس البشرية.
نولان المعروف برواياته المعقدة وأسلوبه البصري وتلاعبه بالزمن يخلق تجربة سينمائية سريالية لا مثيل لها، حيث يجعل بطل الفيلم "دوم كوب" -وهو لص ماهر- يستخدم التكنولوجيا المتقدمة لاختراق أحلام الناس وسرقة أسرارهم.
ومع ذلك، بدلا من السرقة تم تكليف كوب بزرع فكرة في ذهن رجل أعمال مشهور، لكن سرعان ما يصبح الخط الفاصل بين الواقع والأحلام غير واضح، وينتقل المشاهدون في رحلة مليئة بالتقلبات والمنعطفات غير المتوقعة لكنها تنتهي بنجاح كوب في زرع بذرة الفكرة في عقل ذلك الرجل.
ومن خلال التقنيات المذهلة والعروض السريالية العبقرية يتحدى الفيلم تصورنا للواقع ويستكشف قوة الخيال البشري، وعلى الرغم من مرور أكثر من عقد على خروج الفيلم للمشاهدين لا يزال "بداية" قادرا على جذب انتباه الجماهير كواحد من أكثر الأفلام السريالية تعقيدا ومهارة في العصر الحديث.
وتعد السينما السريالية تجربة فريدة ومثيرة للمشاهد، حيث يمكن للمشاهدين دخول عالم مليء بالأحلام والرؤى الفردية، وتستطيع هذه السينما أن تربط الشاشة بالواقع وأن تحولها إلى تجربة مذهلة وملهمة، وبفضل التفاعل المستمر مع الجمهور يمكن أن تستمر السينما السريالية في إلهام العديد من الأفلام المستقبلية ورسم ملامح مستقبل السينما.
وفي النهاية، يعد الفن السريالي من الفنون الجريئة والمبتكرة التي تستكشف العقل الباطن وتتحدى القواعد المقبولة والعادية، ويسعى الفنانون السرياليون إلى توسيع تصويرهم للواقع وإظهار أشياء يصعب أحيانا تخيلها على الرغم من أنها تتحكم في حياتنا بشكل كبير مثل العقل الباطن واللاوعي.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
البحوث الإسلامية: الإسلام ليس ضد التطور ويواكب كل منجزات العصر
قال الدكتور حسن يحيى، الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية، إن ما يُردَّد أحيانًا من أن الإسلام لا يواكب التطورات الحديثة أو لا يلائم العصر الحديث هو "قول صادر عن مهزومين نفسيًا"، مؤكّدًا أن الإسلام دين تقدُّم ورُقي، ويملك من التشريعات ما يجعله قادرًا على التفاعل الإيجابي مع كل جديد.
وأوضح الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية، خلال تصريح، أن الإسلام منذ لحظته الأولى جاء يخاطب العقل والوجدان، ويرسّخ لقيم التفكير والتدبّر، مشيرًا إلى أن الله تعالى سخّر للإنسان ما في السماوات والأرض جميعًا من أجل رقيّه وتقدّمه، ثم عقّب على ذلك بقوله: "إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون".
وأضاف أن أعمال العقل والعلم والمعرفة هي التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من منجزات حضارية ومكتسبات مادية، ولا يمكن تصور أن يكون الإسلام ضد هذا المسار، بل على العكس، القرآن الكريم أشار بوضوح إلى التقدُّم العلمي والابتكار، في قوله تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"، مؤكدًا أن هذه الآية تُعدّ تهيئة نفسية للأجيال المتعاقبة لاستقبال تطورات واكتشافات ستأتي تباعًا، وهو ما نراه متحققًا في واقعنا اليوم.
وأشار الأمين العام المساعد إلى أن الإسلام لا يرفض هذه المخترعات، بل يضع لها ضوابط شرعية تضمن تحقيق الجانب الآمن والمفيد منها، مؤكدًا أن العالم يشهد اليوم ثورة تكنولوجية غير مسبوقة في وسائل الاتصال والتطبيقات الرقمية، وعلى المسلمين أن يواكبوها بالاستفادة والإفادة دون تفريط أو تضييع للقيم.
وشدد على أن القرآن الكريم أرشد البشرية منذ البداية إلى طريق المعرفة والعلم بقوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق"، لافتًا إلى أن هذه الآية تمثل مفتاح الحضارة الإنسانية التي تُبنى على القراءة المنتجة، والمعرفة المسؤولة.
وعن الاستخدام الرشيد لوسائل التواصل الاجتماعي، قال إن الإسلام يوجّه سلوك الإنسان إلى الانضباط اللفظي والأخلاقي، محذرًا من خطورة الكلمة غير المسؤولة، أو المهينة، أو المثيرة للفتن، مؤكدًا أن من صفات المؤمنين أنهم يعرضون عن اللغو، كما قال الله تعالى: "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون".
وأكد على أن الإسلام يربّي أبناءه على المسؤولية في القول والفعل، وأن حضور الإنسان الرقمي لا ينبغي أن يكون منفصلًا عن ضوابط الدين وقيمه العليا في التواصل، قائلاً: "المنصات الحديثة فرص عظيمة إذا أُحسن استخدامها، وهي في ذاتها نعمة، ولكنها قد تتحول إلى نقمة إن فُقدت البوصلة الأخلاقية".