«كولجيت لازانيا» .. دروس من متحف الابتكارات الفاشلة
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
في عام 2017، افتتح «متحف الابتكارات الفاشلة» في مدينة هيلسينجبورج بالسويد وسط اهتمام علمي واسع، ضم المتحف أكثر من ثمانين ابتكارًا؛ منها ما فشل قبل أن يرى النور، ومنها ما أخفق في الحصول على القيمة السوقية، والعديد من هذه الابتكارات لم تصمد في واقع الاستخدام، وتراوحت هذه الابتكارات من الأجهزة الطبية التشخيصية، والأدوات الكهربائية، وحتى المنتجات الغذائية، ويمكن لزائر المتحف رؤية وتجربة هذه الابتكارات التي عُرضت بهيئتها ما عدا منتج «كولجيت لازانيا»؛ إذ تحفظت الشركة المنتجة من إتاحته للعرض في متحف الفشل، فأصدر المتحف نسخة طبق الأصل من العبوة الأصلية، وضمها للمجموعة، وقد استحوذ هذا المنتج على الأضواء بشكل واضح، وأشعل فضول الجمهور في التعرف إلى هذا الابتكار الغذائي الذي يحمل الماركة التجارية العملاقة كولجيت، ترى ما هي قصة كولجيت لازانيا، ولماذا هي في متحف الابتكارات الفاشلة بدلًا من موائد العشاء؟
تعالوا نبدأ من تاريخ الماركة التجارية، حيث أسس المهاجر البريطاني وليام كولجيت أعماله التجارية في عام 1806م بافتتاح مصنع النشا والصابون والشموع في شارع «داتش ستريت» في مدينة نيويورك، بنى وليام العلامة التجارية كولجيت بعد أن حقق نجاحًا متواصلًا في منتجات العناية بالجسم، ومرت هذه العلامة بعدة مراحل من الدمج مع أسماء أخرى تارةً، والانفصال تارةً أخرى حتى صارت بشكلها الحالي، قدمت شركة كولجيت أبرز ابتكاراتها حين أنتجت لأول مرة معجون الأسنان في أنبوب قابل للضغط في عام 1896م، وأصبح هذا المنتج مصدر إلهام رواد الأعمال في جميع دول العالم، ومع تعدد أشكال التعبئة، إلا أن أنبوب معجون الأسنان يعد بمثابة الشكل الكلاسيكي الذي اعتاد عليه المستهلك منذ ذلك الحين، وحققت كولجيت نجاحًا منقطع النظير، وبدأت خطوط الإنتاج في ابتكار النكهات المختلفة للمنتج، وتحقيق مبيعات عالية رغم ظهور العديد من العلامات التجارية المنافسة، ولكن متخذي القرار في كولجيت تكهنوا بأن المنافسة مع الوقت لن تكون لصالحهم، فتفضيلات المستهلك بشأن اختيار منتجات العناية بالأسنان تتغير باستمرار مع وجود الكم الهائل من الاختيارات ذات التكلفة الاقتصادية، وأصبح قرار تنويع خط الإنتاج ضرورة لا بد منها للبقاء في عالم الأعمال.
ظهرت أفكار عديدة بشأن القطاعات الإنتاجية الواعدة التي يمكن فيها تحقيق الصدارة والميزة التنافسية، وبعد جولات من تقييم الأفكار والمقترحات الابتكارية وقع الاختيار على دخول سوق الأطعمة المجمدة في الولايات المتحدة، ووضعت خطة متكاملة للتحول إلى صناعة وجبات العشاء السريعة التحضير، وكان ذلك القرار من أكثر الأفكار المغامرة، ومع اقتراب موعد إطلاق المنتجات بدأت الحملة التسويقية التي اعتمدت على فكرة ترويجية بسيطة وتتمحور حول التاريخ العريق للماركة التجارية، وهي الاستمتاع بوجبة العشاء من كولجيت، ثم تنظيف الأسنان من الماركة التجارية ذاتها، ومن حيث التوقيت فإن ولوج سوق الأغذية المجمدة يعد توجهًا استراتيجيًا موفقًا كما أظهرتها نتائج دراسة الجدوى السوقية في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وفعليًا تمكنت كولجيت من تصنيع مجموعة من الأغذية المجمدة ذات الجودة، واستعانت بصفوة الطهاة المختصين في المطبخ الإيطالي، وتم تصنيع وجبة اللازانيا المجمدة بمعايير تذوقية عالية، وذلك بجانب عدد من المقبلات الأخرى، وأطلق المنتج رسميًا في الأسواق في عام 1982م تحت اسم «كولجيت لازانيا»، ولكن الحملة الترويجية لم تعكس القيمة الابتكارية التي أرادها المصنع، وأحدثت ربكة في تفاعل المستهلك تجاه المنتج الجديد في الوقت الذي كان فيه الناس يبحثون عن وجبات العشاء سريعة التحضير عن طريق الميكروويف، وواجهت كولجيت لازانيا ركودًا في التسويق، وجاءت استطلاعات السوق مخيبة للآمال، إذ أحجم المستهلكون عن قبول المنتج الذي فشل فشلًا مذهلًا ومثيرًا للاهتمام، وتناولت وسائل الإعلام آنذاك المنتج وأبرزته في مقالاتها، وكانت الانطباعات حينها تدور حول محور بالغ الأهمية وهو أن المستهلكين لا يريدون أن يكون مذاق اللازانيا مثل معجون الأسنان، وهذا لا يعني مطلقًا أن كولجيت لم تنجح في إنتاج وجبات لازانيا لذيذة، وكذلك لا يعني جهل المستهلكين بأن المنتجات لها خطوط إنتاج مختلفة، ولكن جذور التحدي تكمن في إخفاق عملية التموضع بين الاختيارات الأخرى، فالشركة رغم نجاحها الكبير إلا أنها لم تتمكن من إيصال ابتكارها إلى مرحلة القبول واكتساب الثقة، وفي حالة كولجيت لازانيا تنطبق المقولة الشهيرة في ريادة الأعمال: «لا تبع ما يمكنك صنعه، ولكن اصنع ما يمكنك بيعه». ولذلك غادرت كولجيت لازانيا أرفف المتاجر الاستهلاكية لتكون جزءًا من معرض متحف الابتكارات الفاشلة في السويد.
وهذا يقودونا للسؤال الأهم: ما سبب إخفاق شركة عريقة مثل كولجيت في تنويع خط الإنتاج واستثمار نجاح ابتكارها الأول لتعزيز النجاحات الأخرى؟ إن القاعدة الأصلية في ريادة الأعمال القائمة على الابتكارات الجديدة كليًا تنص على التالي: حتى أفضل العلامات التجارية تحتاج إلى أن تتعلم أن النجاح في صناعة ما لا يضمن النجاح في صناعة أخرى، وهذا ينطبق على المؤسسات وعلى المبتكرين كأفراد، لأن تحقيق التميز والصعود إلى قمة الإنجاز في ابتكار معين يتطلب رؤية عميقة في تحقيق درجة من الاستقلالية والانفصال عن هذا النجاح لتحقيق إنجازات أخرى، ولا شك أنكم تتساءلون كيف يمكن ذلك؟ إذا نظرنا إلى قصص فشل الابتكارات التي لم ترَ النور فإن الأسباب تكاد تكون معروفة، مثل نقص الخبرات الريادية، أو عدم توفر القدرات التقنية، أو قلة الموارد المالية، ولكن فشل ابتكارات الشركات التي حققت في السابق نجاحًا وتميزًا يختلف بشكل كبير، لأن الممكنات التي أوصلت الجهود الابتكارية الأولى إلى اكتساب القيمة التجارية، وصناعة السمعة هي ذاتها، والمشكلة تتجاوز مسألة القدرات والمواهب والخبرات، هي في الأصل نتاج الفهم غير الصحيح في الاستفادة من الفرص الاستراتيجية التي يتيحها تاريخ المبتكر أو الشركة الابتكارية، وتجب معالجتها بشكل صحيح ومتوازنٍ عن طريق الوعي الكامل بأن صناعة الابتكار يجب أن تتخذ هيئة حلقات منفصلة لإكساب كل تجربة البصمة الابتكارية الخاصة بها، ولا تعامل كحلقة واحدة بنائية على ما سبق إنجازه بإتقان، فتوظيف النجاح ميزة مطلوبة، وأما البقاء حبيسها فهو نقطة ضعف، لأن الاستمرار في إذكاء هالة الابتكار الأول قد يكون أحيانًا عائقًا كبيرًا في تحقيق ابتكارات أخرى، فالزخم المصاحب للنجاح الأول يضع قيودًا ذهنية على المبتكرين تدفعهم إلى الاقتران بالتجربة التي أكسبتهم هذا النجاح، مما يؤدي إلى التأطير اللاإرادي، ويجعل من احتمالية تنويع المسارات التالية مهمة ليست هينة.
وعندما نسقط ذلك في قصة «كولجيت لازانيا» نجد أن العلامة التجارية العريقة كولجيت قد فرضت نفسها في كل دول العالم في مجال العناية بالأسنان، فما إن يذكر هذا الاسم إلا وتتبادر إلى ذهنك مجموعة منتجات معجون الأسنان ذات النكهات، أو منتجات غسول الفم، وهذا ما يجعل تخيل نفس الاسم التجاري في صناعة منتجات غذائية أمرًا صعبًا، فلو أن الشركة قد فتحت خط الإنتاج باسم تجاري مختلف لربما كانت المغامرة أكثر حظًا في الوصول للحصة السوقية في صناعة الأغذية المجمدة منذ أوائل الثمانينيات، ولكن لو افترضنا أن الشركة تعتزم مواصلة استخدام الاسم التجاري لجميع منتجاتها فإن العبء الأكبر يقع على خطة التسويق والتموضع الاستراتيجي، ولو أن الحملة الترويجية لمنتجات «كولجيت لازانيا» قد استهدفت أفكارًا ابتكارية غير مرتبطة باستخدام المعجون الشهير بعد تناول الوجبة لكان تقبل جمهور المستهلكين أعلى، ولا يشترط الربط بين المنتجات من أجل ضمان الحضور الكامل للنجاحات السابقة.
إن وجود معرض للابتكارات الفاشلة لا يعني أن محاولات الابتكار يجب أن تقترن باحتساب دقيق لمخاطر الإخفاق، ولكنها تبرهن على أن الفشل هو جزء مهم للتعلم المستمر في رحلة الابتكار، لأن المنتجات التي ظهرت في المعرض لم تكن من إنتاج شركات مغمورة، وأنها أفكار صادرة عن فرق ابتكارية طلابية، فعوامل النجاح في الابتكار تنطبق على المبتدئين وغيرهم، ولكن هناك مجموعة من التكتيكات التي يجب الالتزام بها للحفاظ على الابتكارات الناجحة وإضافة إنجازات أخرى، وتأتي في مقدمتها ترسيخ ثقافة تقبل المخاطر في السعي لتحقيق الأفضل، وهي الثقافة الأكثر أهمية في الابتكار الناجح، إذ لا يكفي بأن تتمتع الشركات المبتكرة بثقافة جيدة وحسب، بل يجب كذلك أن تتقبل النكسات المؤقتة كجزء لا مفر منه من رحلة الابتكار وبموقف إيجابي ورغبة مستمرة في إعادة التجربة، والفهم الواعي بأن «أفضل الممارسات» وقصص النجاح قد تكون مصدرًا جيدًا للتعلم، ولكنها ليست بحد ذاتها محركات النجاح، فما نجح في الماضي بالتأكيد ليس مضمونًا أن ينجح في المستقبل، ولذلك فإن المحرك الأساسي هنا هو إذكاء القدرة على إعادة التفكير في صناعة النجاح وليس تكراره، وإيجاد أكبر قدر ممكن من القيمة من التجارب الناجحة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: معجون الأسنان فی صناعة نجاح ا فی عام
إقرأ أيضاً:
أعداءُ النجاحِ.. رحلةٌ بدأت منذ أربعينَ عامًا
صراحة نيوز- بقلم: عاطف أبو حجر
في حياةِ كلِّ إنسانٍ ناجح، يقفُ في الطريقِ صوتٌ خافتٌ يحاولُ أن يُطفئَ وهجَ الحلمِ.
البعضُ لا يتحمّلُ أن يرى غيرَه يلمع، لا لأنَّ النورَ يؤذيه، بل لأنه لا يملكُ من الشغفِ ما يجعله يشع.
أنا بالعادة لا أقرأُ التعليقاتِ، لا تعاليًا، ولا تجاهلًا، بل لأنني أعرفُ كيف يمكنُ لحرفٍ أن يسحبكَ إلى متاهةِ الردودِ والندمِ وسين وجيم، وأحيانًا قد تصل الامور بك لتقدم شكوى للجرائم الألكترونية…
منذ أربعينَ عامًا، نشرتُ أول مقالٍ لي في جريدةِ الرأي الأردنيةِ.
كان المقالُ بعنوان: “أعداءُ النجاح”.
كتبتُ عن أناسٍ لا يبتسمون إلا إذا تعثّرت خطواتُ غيرهم، وعن قلوبٍ تفرحُ بالفشل كما يفرحُ العاشقُ بلقاءٍ مفاجئ.
واليوم، بعد أربعة عقود، ما زال المقالُ حيًا… ليس على الورقِ، بل في الواقعِ.
لأن أعداء النجاحِ لا يموتون، هم فقط يتبدّلون، يتطوّرون، ويجدون طرقًا أكثر حداثة للغضبِ من فرحكَ، والشكِّ في نجاحك، والتقليلِ من كلِّ ما تفعلُ.
أنا وكما أَشَرْتُ لا أقرأُ التعليقاتِ، لا لأنني أتعالى، بل لأنني أدركُ أن الانشغالَ بالكلماتِ الجارحةِ يجعلنا نفقدُ التركيزَ على ما هو أهمّ: الاستمرارُ.
لكن أحيانًا، يمرُّ تعليقٌ كريشةٍ ناعمةٍ على جدارِ الروحِ، لا تؤذي، بل تلامس، وتضحك، وتذكّرُ أن بعضَ الأرواحِ ما زالت بيضاءَ.
أحدهم كتبَ لي تعليقًا فيه من البراءةِ ما يُربكُ القلبَ:
“من متى عاطف أبو حجر بيكتب مقالات؟”
سؤالٌ بسيطٌ، لكنه بعمقِ صفاء نيةٍ مغطّسةٍ “بقطرميز” دبس بندورة بعل، ومحبةٌ تفوق محبتي لمفركة البطاطا بالبيض البلدي.
أحببتُ هذا السؤالَ لأنه لم يُطرح استخفافًا، بل من قلبٍ يتساءلُ فعلاً، ويتابعُ فعلاً، وربما يحبُّ فعلاً.
الجواب بسيطٌ جدًّا: أنا أكتبُ من أيامٍ ما كنتَ أنتَ مشروع طفل”، وأنت بقراءتك الآن تكتبُ صفحةً من عمري أيضًا، فشكرًا لك.
أعداءُ النجاحِ كُثرٌ، لكن الجميلَ في الطريقِ أنّه لا ينتظرُ أحدًا.
إما أن تمشي وتصل، أو تقف وتراقب الواصلين.
وأنا اخترتُ منذ البداية أن أمشي، حتى لو سارَ بجانبي الشكّ، وركض خلفي الحسد، وجلست في طريقي الشائعات.
لكنني أؤمنُ أن من يعرف وجهته، لا تهمّه وجوهُ الواقفين على الأرصفةِ.
وبالختام، ورغم أنني لا أحبذ الحديثَ عن نفسي، إلا أنني مضطر أن أهديكم هذه الصورة المعبرة لمكتبتي الصغيرة، التي أعتزّ بها كثيرًا.
تضم هذه الزاوية المتواضعة مجلدات تحتوي على مئات المقالات التي نشرتها في الصحف الأردنية خلال السنوات الماضية، إلى جانب مجموعة من شهادات التكريم والدروع، مَخْلُوطَةٌ بِنَشْوَةِ النَّجاحِ وَنَكْهَةِ الفَرَحِ، التي رافقت كل سطرٍ وكل تجربة.
إنها ليست مجرد مكتبة، بل مرآة لمسيرة طويلة من الشغف بالكلمة والإيمان بقوة الحرف.