رَيمةُ المَنسيّة.. جارةُ السماء وبستان الملائكة (الجزء الأول)
تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT
جَبين الأرض
ريمة جارةُ السماء وبستان الملائكة، تستلقي كحديقةٍ معلقةٍ بين السماء والأرض، وكأنها عاصمة الغيم الدائمة والفاتنة، لكل بيتٍ في ريمة حكايةٌ مع الغيم، وأحاديث لا تنتهي مع النجوم! ففي أثناء الصعود إلى "جبينها" تنفر منك العين كظبيةٍ في بَرارٍ عذارَى، وجناتٍ متراميةٍ، فيما يَركضُ القلبُ كحصانٍ هاربٍ من عوادم المدن ووحشة الأسفلت.
كلما تعمّقتَ أكثر فيها، تفجّرت أمام عينيك ينابيع من الخضرة والغيوم التي لا تستقرُّ على صحو ولا تتعب من الصعود والهبوط، وكأنك في سباق معها. تتشكل تارة بما يشبه عمامة على رأسك، وتتراءى تارةً أخرى - أسفلَ منك - كسجادةٍ سحريةٍ مستعدةٍ للطيران، فيما تمشي معك وتلتحم بك تارة ثالثة، فلا تفرّق بين بَياضها وبَياض قلوب أهالي ريمة البسطاء في سلوكهم وملابسهم وحياتهم العادية.
رَيمة.. الجنة المجهولة أو المُتَجَاهَلَة المُهمَلَةُ، والملهمة الفريدة، التي تمنحك في كل منعطف عناقًا، وتختطف -دون تكلفٍ- شهقةً من أقاصي روحِك، كأنك ترى الأرض لأول مرةٍ، أو كأنك هبطت إليها من كوكبٍ آخر. في ريمة ستجد الأرض غيرَ الأرض، البيوت التي ينبت الورد من شقوق جدرانها غيرَ البيوت، والخُضرةَ غيرَ الخُضرة، كل شيءٍ مختلفٌ فيها ومتفردٌ، لن تجد مثله في أي مكان أو بلاد.
أما تسميةُ عاصمة المحافظة بالـ"جَبِين"، فلم تأتِ من فراغٍ، إذ إن من يصعد إلى قمتها لن يساوره شكٌ في أنه يقف على جبين الأرض وذروة شواهقها. أما من يتجول فيها فسيشعر أنه ينفذ من غيمة إلى أخرى، لا مِن حارة إلى أخرى، فلا وجود للحارات والأحياء ولا لما يشبه الحياة التي نعيشها في المدن؛ لأن كل بيتٍ فيها، أو سلسلة بيوتٍ ملتصقةٍ ببعضها، تلوح أمام عينيك على صخرة أو "جرفٍ هارٍ" واقفة بشموخٍ وكبرياءٍ فريدَين، وكأنها نبتت وتشكلت مما تقف عليه، حد ظنك أن لا علاقة للإنسان في تكوينها أو هندسة ملامحها.
وإن كانت "الجَبين" هي العاصمة، التي من المفترض أن تتوافر فيها أبسط الخدمات، إلا أنك تذهل حين تراها، لا بعينيك بل بخيالك، وكأنك تستعيد ما تختزنه ذاكرتك من حكايات الأجداد عن القرى بكل بساطتها وجمالها البكر وحياتها المطمئنة والمتصالحة مع كل ما حولها ومَن حولها، إذ سرعان ما يتبادر إلى ذهنك تساؤل عمّن روَّضَ الآخر هنا؟ الأرض أم الإنسان؟ وهو تساؤلٌ تصعب الإجابة عنه، ولا يتوقف التفكير عن ملاحقة سراب أجوبته، التي تتلاشى وتغيب كما تغيب "الجبين" في أمواج الضباب المتعاقبة.
حين تغادر "الجَبين" بما تركته فيك من أثرٍ لا يُمحى، ويحالفك الحظ بالتوقف في منحدرات الطريق لالتقاط صورة هنا أو هناك، ستقف مذهولًا وأنت لا تعرف هل تصعد أم تهبط على سُلَّمٍ يربط بين الأرض والسماء! غير أن ما سيختطف بصرك وحواسك هو تلك المنازل المعلقة حد تفكيرك كيف بُنِيَت وكيف يصل إليها الناس، وأيّةُ عزيمةٍ فولاذية وقوةِ شكيمة جعلت الإنسان "الريمي" يتخذ من تلك الأماكن الوعرة أرضًا لأحلامه؛ يسكن فيها ويشيِّدُ المنازل العالية عليها، وكأنه في غنًى عن الأرض المنبسطة. يأتيه قُوتُهُ كل يوم على جناح ملاكٍ متجولٍ يهبط من السماء، محملًا بما تشتهي الأنفس والأرواح، بل قد تشعر أيضًا أنك تشاهد سماءً مقلوبةً، نجومها تلك البيوت المتفرقة على شواهق الجبال، وللعمارة وثقافة البناء في "ريمة" عالم خاص ومختلف، لا يزال يعتمد في كثير منه على الصخور الصلبة والكبيرة الحجم، ولا يستخدمونها لبناء الجدران فقط بل وللسقوف أيضًا، وقد يسقفون بيوتهم أحيانًا من خشب الأشجار كـ"الطلح" و"الطنب" وغيرهما.
المذهل في الأمر، هو طريقة البناء المحكمة حد الترف، والتي تصمد في أعالي الجبال وتقاوم الزمن وتقلباته. ورغم ارتفاعها الشديد، فإنهم لم يعدموا الوسيلة لإيصال تلك الصخور الضخمة إلى مكانها المناسب حملًا على ظهورهم، وكأنهم يحملون حقائب سفر. أما الشرفات في أغلب البيوت، فهي أشبه باستراحات كاملة، أو طاولات في حديقة عامة، فقد يجلس فيها عدة أشخاص متقابلين، وكأنهم يجلسون على مقهى مطلّ على البحر، غير أنه بحر من الغيوم والغابات والزرقة الناصعة، كلما آبَت الغيوم إلى أعشاشها في السماء.
عندما تدخل أحد بيوت ريمة، تجده مجهزا بكل لوازم الحياة العصرية وأبّهة المدينة، فتبقى في مفترق الحيرة ما بين داخل المنزل وخارجه، وكأنك تعيش في الحدود الفاصلة بين عالمين.
لكن هذه ليست سوى البداية؛ فما ينتظرك في كل قرية وعُزلة، من تفاصيل وسمفونيات عجيبة ومبهرة، تتناغم فيها عناصر الطبيعة بعبقرية الإنسان، لتشكلا عالمًا فريدًا وساحرًا، لم يخطر لك على بال، إنه سفر طويل في عالم أشبه بالخيال!
أوديةٌ أم غابات؟
في "ريمة" أنت على موعدٍ مع مفاجآت لا تنتهي. فكلما انعطفت انخطفت، وكلما سمحت لنفسك وساعدك الوقت على الغوص، رأيت ما لا عينٌ رأتْ، ولا ورد على خيال بشر. في الجزء الأول من هذا المقال كان الحديث عن عاصمة المحافظة، وهي في حقيقة الأمر لا تحمل من صفات العاصمة غير الاسم، فهي أشبه بقرية كبيرة تفتقر إلى أقل المقومات، ولا بد من الحديث عن ذلك في الأجزاء اللاحقة.
في طريق عودتك من "الجبين"، عاصمة المحافظة التي لا تحمل من صفات العاصمة غير الاسم، وتفتقر لأبسط الخدمات، تتناثر ما تحسبها أودية للوهلة الأولى، على جنبات الطريق، لكنها ليست مجرد أودية بل غابات تتجاوَرُ فيها حياة الإنسان بحياة النبات والحيوانات الأليفة والمفترسة. ومن أغصان أشجارها، تتدلى الثمار المحملة بما تتوق إليه النفس إلى نافذة سيارتك دون عناء ولا نَصَب، وكأنها تقدم إليك واجبَ الضيافة كجزءٍ من طبيعتها وكرم أهلها.
من تلك الوديان الساحرة أو بالأحرى، الغابات الوارفة، مكانٌ يُعرف باسم "وادي البلبل"، ويقع بين "الجبين" ومديرية "الجعفرية". يلزمك للصعود إليه أن تضع مخاوفك على الطريق الأسفلتية، وأن تتسلح بحسٍّ يَقِظٍ قادر على التجاوب السريع مع مباغتات الطريق، التي تشبه إلى حد بعيد "الصراط المستقيم" كما نتخيله. فمن الأسفل، هاوية وسيل، ومن الأعلى، جناتٌ مرسلةٌ على مد البصر. ولا يلزمك للمرور في الطريق سيارة عادية، بقدر ما يلزمك بُراقٌ قادرٌ على القفز والطيران، إذ لا تكاد تلتقط أنفاسك -وأنت تقف في وجهتك- إلا وتُدوِّي طبول الدهشة في حناياك وعينيك، لتسبح في بحارٍ من خضرةٍ وسحرِ طبيعةٍ ما تزال على طبيعتها التي أبدعها الله أول مرة، دون تدخل عابث لأية يد بشرية.
في "وادي البلبل" أنت وحدك الحَكَمُ، حيث ينازع بصرك سمعك، وهو يصغي إلى موسيقى الطبيعة، المتشكلة من حفيف الأشجار وقهقهات العصافير وتموجات المياه، حتى تكاد تشعر أنك المخلوق الوحيد في هذا العالم، وأن لا أحد يشاركك فيه. لكنك سرعان ما تكتشف -وقد أحاطت بك قلوب أهلها الكرماء- أنك لست وحيدًا، وأن ثَمّة من سبقك إلى المكان وسكن فيه وتعايش مع سكونه وامتزج بخضرته وسحره، فتعيش وكأنك في ضيافة الأغصان لا في ضيافة بشرٍ كباقي البشر الذين تصادفهم كل يوم. لا يزال الناسُ هنا يحتفظون بصفات العرب الكرماء وكرم أخلاقهم، كما قرأنا عنهم في كتب الأخبار والسِّيَر، حاتميون بالفطرة، تتجلى قلوبهم في صفحات عيونهم المشبعة بالألفة والبساطة.
الغريب في الأمر، أنك ما إن تدخل إلى منازلهم حتى يقشعر قلبك، وكأنك في غمضةِ عينٍ انتقلت من الجنة إلى منزل في مدينة حديثة على الأرض، مجهزٍ بكل لوازم الحياة العصرية وأبّهة المدينة، فتبقى في مفترق الحيرة ما بين داخل المنزل وخارجه، وكأنك تعيش في الحدود الفاصلة بين عالمين؛ أحدهما: ما يتجسد في داخل المنزل من حياةٍ عصريةٍ مكتملةٍ، والثاني: ما ينتظرك خارجه من حياةٍ بريةٍ وريفيةٍ وارفة الجمال والظلال. حينها تجد نفسك بين سخطين؛ سَخَطٍ على الزمن الذي لا يتوقف جريانُه، وسَخَطٍ أكثر على الشغف الذي يدفعك من الداخل لمغادرة الجنة التي اكتشفتها للتو، طمعًا في رؤية المزيد الذي لا ينتهي، وقد تجمد لسانك وتخشبت كلمات الشكر في فمك، وأنت في حضرة النبلاء الذين فرشوا قلوبهم قبل موائدهم لاستقبالك. استقبالٌ بكرم الملوك وشهامة الملائكة، حدّ ظنك أنهم أهدروا من أجلك ما يكفيهم لعامٍ كامل، فتغادرهم ممتلئَ القلب والعين، بفم صامت وفؤاد خجول.
قد تعتقد أنّكَ أصِبتَ بالتخمة لفرط ما تسلقت حواسك في مدارات الجمال!
لذا تتوجب عليك الاستراحة قليلًا، فلا بد لك، للانتقال بين جنتين، من عبور طريق فاصل وحط الرحال في مساحة خالية. ولاستعادة حواسك وتشويقها بالكثير الذي لم يُكتشف بعد، لن تجد أجمل من تهامة المترامية الرمال، لإعادة تفعيل روحك وتهيئتها للمزيد من المغامرة في اكتشاف تفاصيل الجنة المنسية. غير أنك قبل الانطلاق، ستجد نفسك مضطرًا للمقارنة بين عوامل الثراء المهدورة بين المحافظتين، فتؤجل ذلك حتى لا يشغلك عن الانغماس الكُلِّي في روعة وفتنة الجنة التي جئت من أجلها.
من صفحة الكاتب على الفيسبوك
المصدر: نيوزيمن
إقرأ أيضاً:
إسرائيل تقترب من الانفجار.. صواريخ من السماء واقتصاد ينهار
#سواليف
منذ نشأتها قبل حوالي 77 عامًا و #إسرائيل تخوض حروبًا وصراعات مع محيطها العربي وداخل #فلسطين وبعيدًا عنها. وما ميّز #حروب العقود الخمسة الأولى أنها في الغالب جرت خارج حدود فلسطين، وكانت تكلفتها البشرية والاقتصادية محصورة بالتكلفة العسكرية التي كان يتم تعويض بعضها من الغنائم.
كما أن تلك الحروب- عدا حرب 48 – كانت قصيرة ومحدودة في مدّتها ولم تترك آثارًا اقتصادية واجتماعية كما صار يحدث في الحروب الأخيرة.
الواقع أنّ الحروب المضنية نسبيًا، بعد حرب 1973، جرت إثر إبرام #اتفاقيات_سلام أولًا مع مصر، وبعدها مع الأردن، وأخيرًا اتفاقيات أبراهام. فصارت تلك الحروب -رغم أنها ليست عامة مع العرب، وإنما محصورة وجزئية- أطول وأشد فتكًا خصوصًا أنها باتت تطال العمق الإسرائيلي، وليس فقط خطوط الجبهة.
مقالات ذات صلة كارثة مستمرة في ظل الإبادة.. 90 % من الأُسر تُواجه انعدام الأمن المائي في قطاع غزة 2025/05/14وأدخل هذا النمط من #الحروب- من حرب لبنان الأولى، ثم الانتفاضة الأولى، وحرب لبنان الثانية، وبعدها الحروب مع غزة، وصولًا إلى #طوفان_الأقصى- الجبهةَ الداخلية الإسرائيلية للميدان، وجعلها أيضًا جبهة مواجهة. وطبيعي أن تكون لذلك تبعات اقتصادية واجتماعية غير اعتيادية على الواقع الإسرائيلي الذي كان قد تحوّل إلى اقتصاد غربي تمامًا.
#تكلفة_باهظة
لا بدّ في البداية من الإشارة إلى أنّه مع انتقال الحرب إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، صار معروفًا أن تكلفة كل يوم من القتال في هذه الجبهة أكثر من الجبهة الحدودية نفسها.
ويقدّر خبراء إسرائيليون منذ سنوات، وفي ظروف ليست بشدة الحرب الحالية، أن #الأضرار التي لحقت بالاقتصاد في كل يوم تستمرّ فيه الحرب تقدر بنحو نصف مليار شيكل على الأقل.
وهذا يعني أن التكلفة المباشرة للحرب تبلغ نحو أربعة أضعاف التكلفة العسكرية المعلنة: المصانع مغلقة، والعمال يبقون في منازلهم، وأكثر من ذلك.
وحسب صحيفة “كالكاليست” الاقتصادية، فإن أعلى بند إنفاق في الحرب، حتى إعلان الهدنة في يناير/ كانون الثاني الماضي، كان على الأفراد والاحتياط، الذين خدموا لمدة إجمالية بلغت 49 مليون يوم.
ولكن الأمر لا ينتهي هنا؛ إن استعادة الشعور بالأمن تتطلب وجودًا كبيرًا للقوات على طول الحدود، وبالتالي، في غياب حل لمشكلة التجنيد، فإن قوات الاحتياط ستظل تتحمل الجزء الأكبر من العبء. وقالت إنه منذ بداية حرب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، قُتل نحو 840 جنديًا وجُرح نحو 14 ألفًا، بمعدل نحو ألف جريح جديد كل شهر.
في بداية الحرب، تم تجنيد ما يقرب من 220 ألف جندي احتياطي، والذين تم استدعاؤهم بشكل متكرر للخدمة الممتدة في ثلاث أو أربع جولات، حيث قضوا ما يقرب من 49 مليون يوم احتياطي، مقارنة بنحو 2.5 مليون يوم احتياطي في متوسط عام قبل اندلاع الحرب. ويحمل هذا العدد الكبير آثارًا اقتصادية هائلة وبعيدة المدى.
نقلت “كالكاليست” عن تقديرات مؤقتة صدرت مؤخرًا داخل المؤسسة الأمنية، أن تكلفة الحرب في العام الماضي بلغت 150 مليار شيكل، منها نحو 44 مليار شيكل مخصصة لدفع رواتب جنود الاحتياط ونفقات الأفراد.
هذا هو بند الإنفاق الأعلى في الحرب، أكثر من الأسلحة أو تشغيل منصات مثل الطائرات المقاتلة. ويبلغ الحد الأدنى الشهري الذي يخصصه جيش الدفاع الإسرائيلي لكل جندي احتياطي نحو 15 ألف شيكل، وهو المبلغ الذي يشمل المنح والعلاوات. اليوم، انخفض عدد جنود الاحتياط الفعليين بشكل كبير، مقارنة بأعدادهم القصوى في بداية الحرب، ويصل الآن إلى حوالي ربع ذلك العدد.
من المقرر أن يكون عند مستوى مماثل في وقت لاحق من هذا العام، بشرط عدم حدوث تصعيد جديد في الشمال، أو الجنوب. كان عدد جنود الاحتياط في العام في المتوسط قبل الحرب حوالي 7000 فقط.
وعلاوة على الأفراد، فإن السلاح الأغلى الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي حتى الآن في الحرب هو صاروخ “حيتس 3” الذي تنتجه شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية. ويقدر سعر كل صاروخ من هذا النوع بما يتراوح بين 2 إلى 3 ملايين دولار، وفي الحرب الحالية تم استخدامه على نطاق واسع من الناحية العملياتية لاعتراض الصواريخ الباليستية التي أطلقتها إيران تجاه إسرائيل في أبريل/ نيسان وأكتوبر/ تشرين الأول، وكذلك لاعتراض الصواريخ التي يطلقها الحوثيون من اليمن.
تزايد التكلفة
حاليًا بعد أن أصدر رئيس الأركان إيال زامير أوامر استدعاء لعشرات ألوف الجنود بقصد توسيع الحرب على غزة، تزايد الحديث ليس فقط عن المعاني السياسية والاجتماعية، وإنما كذلك عن التكلفة الاقتصادية.
وبحساب أوّلي لصحيفة “ذي ماركر” الاقتصادية الإسرائيلية، فإن تكلفة توسيع العملية في غزة لثلاثة شهور فقط تقدر بـ 25 مليار شيكل؛ أي ما يقترب من 7 مليارات دولار. هذا حساب التكلفة العسكرية؛ أي أكثر من مليارَي دولار شهريًا، فقط لتمويل جنود الاحتياط وتكلفة الذخائر.
وبمعنى اقتصادي فإن حكومة نتنياهو مضطرة لإعادة فتح الميزانية التي أقرّتها بصعوبة قبل بضعة أسابيع، وزيادة النفقات الحكومية فيها. وهذا يعني أساسًا الاضطرر لفرض ضرائب جديدة، وزيادة الأعباء الثقيلة أصلًا على كاهل الإسرائيليين. وطبعًا ضمن هذا التقدير تحذير من مواصلة احتلال غزة، وإدارة حياة السكان فيها؛ لأن هذا يلقي أيضًا عبئًا إضافيًا على الاقتصاد الإسرائيلي، يقدر بعشرات مليارات الشواكل.
طبعًا يغدو كل هذا الكلام خارج السياق من دون توضيح حقيقة الميزانية التي أُقرّت لوزارة الحرب للعام 2025، والتي بنيت على أساس النفقات النقدية لوزارة الحرب في العام 2024، والتي بلغت 152 مليار شيكل (حوالي 40 مليار دولار). وقد أقرت الميزانية العامة للجيش نفقات في العام الجاري 138 مليار شيكل؛ أي ما يقارب 35 مليار دولار.
ولكن إذا تم فعلًا توسيع الحرب، فإن الميزانية المتوقّعة للجيش سوف تزيد عن 160 مليار شيكل؛ أي ما يفوق بأكثر من مليارَي دولار نفقات العام 2024 العسكرية.
وكان وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، قد أبلغ وسائل الإعلام بعد المصادقة على الميزانية بأن “هذه ميزانية ستوفر للجيش الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية جميع الموارد المطلوبة لهزيمة العدو، مع الاهتمام برجال الاحتياط، وأصحاب المصالح التجارية، وإعادة إعمار الشمال والجنوب، والنمو الاقتصادي في دولة إسرائيل”. كما أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نشر فيديو مع سموتريتش، قال فيه إن الميزانية ستسمح بـ “استكمال النصر الكبير الذي نقف على حافته”.
بحسب “ذي ماركر”، الآن يتبين أن الحكومة صادقت على الميزانية من جهة، وفي الجهة الأخرى تدفع قدمًا بخطة تفرغ من المضمون معنى وضع إطار للميزانية. وقالت إن لذلك أسبابًا محتملة: الحكومة عرفت بأن الميزانية التي تبلورها فارغة من المضمون، ومع ذلك قدّمت بسوء نية ميزانية غير ذات صلة لمصادقة الكنيست عليها، أو أنّها أهملت ولم تستعد لسيناريوهات أخرى عندما بلورت الميزانية.
وأضافت ذي ماركر” أنه إلى جانب نفقات الميزانية المباشرة لتوسيع الحرب واحتلال منطقة لفترة طويلة، وازدياد شدة الحرب، يوجد لها أيضًا تأثير اقتصادي. التجنيد الواسع للاحتياط يضرّ بسوق العمل، ويقلص عرض العمال في الاقتصاد، وبشكل عام يبطيء النشاط الاقتصادي.
إضافة إلى ذلك استمرار القتال لفترة غير محدودة يزيد من مخاطرة الاستثمار في إسرائيل، ويضرّ بالشيكل، ويزيد قيمة المال. النفقات الأمنية العالية أيضًا تقلص الإنفاق البديل للحكومة على الاستثمارات المدنية وتطوير البنى التحتية.
تكلفة الاحتياط
كشف المستشار الاقتصادي السابق لرئيس الأركان، العميد احتياط مهران بروزينفر في مقابلة مع إذاعة 103FM، عن الثمن الباهظ لأوامر الاستدعاء الجماعية للخدمة الاحتياطية التي أرسلت في الأيام الأخيرة، وقال: “بالنسبة للعاملين المستقلين، ستكون هذه كارثة اقتصادية”.
وقال أولًا، يجب أن نفهم أن جيش الاحتياط هو الركيزة الأساسية للجيش الإسرائيلي. وأوضح: “صحيح أن هناك جيشًا نظاميًا، لكننا في النهاية نعتمد على جيش الاحتياط. من ناحية أخرى، لم نشهد حربًا استمرت كل هذه المدة، ومثل هذا العبء الثقيل على جنود الاحتياط”.
ونرى أيضًا أننا في النهاية ننحصر في مجموعة صغيرة نسبيًا من السكان، ليس فقط في سياق الاحتياطيات، ولكن أيضًا بشكل أساسي في سياق القتال. وهذا يعني أن القتال محصور أكثر في قوة الاحتياط بأكملها، وهذا ما يجعل الأمر صعبًا. علاوة على ذلك، فإن التكاليف الاقتصادية المترتبة على ذلك هائلة”.
وشرح بروزينفر المعاني الاقتصادية للتجنيد المكثف: “عند تجنيد جندي احتياطي، لنفترض أن التكلفة النقدية المباشرة لجندي احتياطي هي ألف شيكل يوميًا. إذا استدعينا 60 ألف جندي احتياطي، فسيكون المبلغ 60 مليون شيكل في ذلك اليوم وحده.
لكن هذه ليست التكلفة الوحيدة، فهناك تكاليف إضافية. وهي كل ما يتعلق بالغطاء مثل الذخيرة والتدريب وجميع الخدمات اللوجيستية المحيطة به، وهي تكاليف باهظة. بالإضافة إلى ذلك، هناك تكلفة اقتصادية إضافية، وأسوأ ما في الأمر، هو فقدان المنتج. هذا أمر بالغ الخطورة. وفي نظره نحن في اقتصاد يعمل بكامل طاقته. عندما تُخرج عمالًا من اقتصاد يعمل بكامل طاقته، فإنك تُلحق ضررًا بالغًا بالاقتصاد. وكلما طال أمد هذا، ستزداد التكلفة.
إذا قلنا 60 مليون شيكل، أي التكلفة المباشرة لرواتب الاحتياط، فإن التكلفة المباشرة الإجمالية ستبلغ حوالي 100 مليون شيكل، وإذا استمرت لفترة أطول، فقد تصل خلال شهر إلى 300 أو 400 مليون شيكل، بكل بساطة”.
كما أكد على التأثير الشديد على الشركات الصغيرة: “أصحاب الأعمال الحرة – قد تكون هذه كارثة. لأنه إذا كان لديك مشروع صغير، وكان يعتمد عليك، ثم أخرجوك من العمل لمدة شهرين أو ثلاثة أشهر، فهذا لا يعني أنك ستخسر الشهرين أو الثلاثة أشهر، بل قد تخسر العمل بأكمله حرفيًا. قد تدخل في دوامة لن تتمكن من الخروج منها لاحقًا”.
وأضاف “في كثير من الأحيان نتورط في أمر ما دون أن ننفذ هذه العمليات بشكل صحيح”. لكننا الآن في مرحلة حرجة. مرّ عامان تقريبًا على هذه الحرب، وحان وقت إنهائها. لا أتحدث عن كيفية إنهائها، لكن علينا أن نفهم أنه لا يمكننا خوض حملة طويلة أخرى. لهذا الأمر تكاليف باهظة. بالمناسبة، لم نتحدث عن الخسائر النفسية، ولا عن الأضرار النفسية. علينا أن نفهم أن ما حدث لجنود جيش الدفاع الإسرائيلي الذين سقطوا وجرحوا أمرٌ مروع. باختصار، يجب أن نكون حاسمين للغاية، وأن نعرف وجهتنا، وأن ننهيها بسرعة.
وليس صدفة أن ينشر بنك إسرائيل تقديرات متشائمة للاقتصاد الإسرائيلي في العامين المقبلين على صعيد الناتج القومي العام وعلى صعيد نسبة النمو. لكن ما لا يقل أهمية عن ذلك هي الخسارة الناجمة عن تراجع حجم الاستثمارات الأجنبية؛ بسبب عدم استقرار الأوضاع الأمنية. وترى صحيفة “غلوبس” أنّ الحرب قد تودي بإسرائيل اقتصاديًا بما لا يقلّ عن خَسارة عقد كامل.