بري يتلقف طرح الخماسية بإيجابية.. كيف تقرأ المعارضة موقفه؟!
تاريخ النشر: 21st, May 2024 GMT
بإيجابية واضحة ولافتة، تلقّف رئيس مجلس النواب نبيه بري طرح المجموعة الخماسية بشأن لبنان، التي قدّمت في اختتام جولة المباحثات التي قامت بها على الكتل السياسية الكبرى، ما وُصِفت بـ"خريطة الطريق" لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، ضمّنتها ما عُدّ "إطارًا زمنيًا" يفترض أن يفضي إلى انتخاب رئيس للجمهورية بحلول نهاية شهر أيار الجاري، باعتبار أنّ لبنان لا يتحمّل الانتظار شهرًا آخر، ربطًا ربما بـ"سخونة" تطورات المنطقة، ولبنان في صلبها.
فعلى الرغم من الضجّة التي أحيطت بإعلان "الخماسية"، إن صحّت تسميته كذلك، والحديث عن "استياء" رئيس المجلس من مضمونه، خصوصًا لجهة الحديث عن "عقدة" الجلسة الانتخابية المفتوحة التي أشار إليها البيان، جاء تعليق بري ليبدّد كلّ الشكوك، ولو حرص على استبدال عبارة "الجلسة المفتوحة"، بـ"جلسات انتخابية متتالية، وبدورات متتالية"، على أن تُعقَد كلّ جلسة لـ4 أو 5 دورات، ما يمنحها صفة "المفتوحة" بصورة أو بأخرى.
أكثر من ذلك، اعتبر بري أنّ "الخماسية" بطرحها الأخير، "تبنّت موقفه"، وهو الذي دعا منذ أكثر من سنة ونصف السنة للحوار والتشاور من دون شروط مسبقة، ليتبنّى بدوره "الأسباب الموجبة" التي فصّلتها "الخماسية" في بيانها حول أنّ البلد "لم يعد يحتمل تدحرجه نحو المزيد من التأزم والانهيار"، ما يطرح السؤال عن موقف المعارضة التي تحفّظت مرارًا وتكرارًا على مبدأ الحوار، فكيف تقرأ موقف برّي، وهل تتجاوب مع طرح "الخماسية"؟
"مبادرة بري"
يستغرب المؤيّدون لوجهة نظر رئيس مجلس النواب نبيه بري القول إنّ الأخير يمكن أن يرفض ما قدّمته المجموعة الخماسية بشأن لبنان في بيانها الأخير، أو أن يقف "حجر عثرة" في وجه المبادرة المتجدّدة، التي ليست في الواقع سوى "نسخة طبق الأصل" عن المبادرة الحوارية التي أطلقها منذ سنة ونصف السنة، والتي أعادت كتلة "الاعتدال" تقديمها بصورة "منقّحة" بعد استبدال الحوار بالتشاور، وذلك بالتنسيق والتناغم مع رئيس البرلمان كما يقول البعض.
صحيح أنّ رئيس المجلس لا يحبّذ الحديث عن "جلسة انتخابية مفتوحة"، وفق ما يقول العارفون بموقفه، غير الخافي على أحد، لكنّ ذلك منطلق من أسباب "مبدئية" يفترض أن يتّفق عليها الجميع، لأنّ الحديث عن جلسة "مفتوحة" حتى انتخاب رئيس يعني عدم قدرة المجلس على القيام بأيّ شيء آخر ما لم يُنتخَب رئيس، بما في ذلك جلسات تشريع الضرورة، ولكن أيضًا أيّ جلسات أخرى، كجلسة المناقشة العامة التي أجمع جميع الفرقاء قبل أسبوع على كونها "مصيرية".
لكنّ المحسوبين على رئيس المجلس يشيرون إلى أنّ الطرح الذي يقدّمه بري لا يفترض أن يكون مرفوضًا من أحد، إذا ما توافرت النوايا الصادقة، لأنّه عمليًا "ترجمة" لفكرة الجلسة المفتوحة، ولكن من دون تبنّي التسمية، لترك "هامش" للأمور الطارئة والضرورية، علمًا أنّ عقد جلسات شبه يومية بدورات متتالية، تصل إلى أربع وخمس جلسات، لا يختلف عن عقد جلسة مفتوحة، يعرف الجميع أنّها لن تبقى "مفتوحة" ليلاً نهارًا إذا تعذّر الانتخاب.
كيف ستتصرف المعارضة؟
في مقابل "إيجابية" موقف بري، تتّجه الأنظار لموقف المعارضة، وإن بدت "غير موحّدة" بالمُطلَق إزاء طرح "الخماسية" المتناغم مع مبادرة "الاعتدال" وما سبقها من دعوات للحوار أو التشاور، أو حتى "اجتماع العمل" الذي تحدّث عنه الفرنسيّون ذات مرّة، فهل تتجاوب هذه المرّة مع الطرح، من دون أن "تشترط" سحب ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية مثلاً؟ وهل تقبل بـ"تفسير" بري للمبادرة، وقفزه فوق مبدأ "الجلسة المفتوحة"؟
يقول المتناغمون مع أفكار المعارضة إنّ الأخيرة بمختلف تفرّعاتها، لا تشكّك بالنوايا "الطيّبة" لسفراء "الخماسية"، الذين سبق أن التقوا مختلف الكتل المعارضة، واستمعوا من النواب المحسوبين عليهم إلى هواجسهم المشروعة، وإنّها تتّفق معهم ضمنًا على ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقتٍ ممكن، أولاً لأنّ الفراغ الرئاسي "جريمة" بحق الوطن، وثانيًا لأنّ وجود رئيس أكثر من جوهري في مرحلة المفاوضات المقبلة.
لكن، بعيدًا عن الحكم على "النوايا"، يشير هؤلاء إلى أنّ ما تشكّك به المعارضة هو "حسن نوايا" الفريق الآخر، والتي عبّر عنها رئيس مجلس النواب بشكل أو بآخر، سواء بإصراره على رفض "الشروط المسبقة" للحوار، أو بتفصيله "الجلسة المفتوحة" على قياس ما يريده هو، وكأنّه يقول إنّ التنازل عن ترشيح فرنجية مستحيل، وإنّ على المعارضة قبوله كأمر واقع، وإلا فإنّ الجلسات المتتالية لن تفضي إلى أيّ انتخاب، ولذلك فالجلسة المفتوحة مرفوضة.
هكذا، رغم الإيجابية الظاهرة، لا تزال "السلبيّة" تخيّم على الأجواء المحيطة بالاستحقاق الرئاسية، من وحي طرح "الخماسية"، وتحت سقف مبادرة "الاعتدال" التي يعمل القيّمون عليها على "تفعيلها"، بقوة الدعم الدولي. فهل تنجح "الخماسية" بجرّ مختلف الأطراف إلى طاولة التشاور، رغم هذه "الأحكام المسبقة"، أم أنّها ستعتبر أيّ فشل في التجاوب معها، "فشلاً" للقوى السياسية، المصرّة على إطالة أمد الشغور بمعزل عن العواقب "الكارثية"؟! المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: الجلسة المفتوحة ة التی
إقرأ أيضاً:
تواكُلُ المعارضة التونسية على الغرب.. إعادة إنتاج العجز في خطاب جديد
ترتفع الأصوات في تونس في نهاية العام 2025 ضد قيس سعيد إلى حد استعادة الشعار العظيم "الشعب يريد إسقاط النظام"، لكن مع أصوات الداخل نرى عيون المعارضة ترنو إلى الغرب وتنتظر خيرا من مقال هنا وتصريح هناك، فقيادة الصف الأول الغربية لم تنبس بكلمة. وهذا الأمل في إسناد غربي نسميه بلا مورابة" العاهة السياسية المستديمة للمعارضة. فكلما عجزت المعارضة عن خلق التغيير من الداخل، رفعت رأسها نحو الخارج، نحو الغرب تحديدا، طلبا للخلاص. هذا السلوك ليس طارئا ولا وليد لحظة قيس سعيّد، بل هو متجذر في عقل المعارضة تجذر العادة. فالمعارضة حين ترغب في ربح الوقت ترنو خارج الحدود، كأنّ الديمقراطية وجبة جاهزة يأتي بها "ديلفيري".
ما نراه في تونس هذه الأيام هو فصل جديد من هذه الرواية القديمة، رواية التعويل على الضمير الغربي المتخيّل، الذي تُعزى إليه صفات لم يثبت يوما أنه تبناها فعلا (نصير الديمقراطية وحامي الحريات والداعم لانتقال سياسي متوازن). غير أن الوقائع تكشف دوما عن مفارقة مدهشة، هذا الغرب الذي تراهن عليه المعارضة التونسية هو ذاته الذي يُبقي قيس سعيد في موقعه، لا تعاطفا مع مشروعه السياسي، بل لأن له فائدة وظيفية محددة في زمن عولمي تتقدّم فيه الحدود على الإنسان، والأمن على الحرية، والمصلحة على المبادئ. لقد أصبح سعيد بعد ترتيباته مع إيطاليا حارسا أمينا لبوابة أوروبا الجنوبية؛ رجلا يُقدّم للغرب ما يريده من مثله (لن يعبر الأفارقة البحر)، وما دام هذا الالتزام قائما، سيظل الرجُل مقبولا، مهما ارتجّت المؤسسات الديمقراطية وتداعى البناء من الداخل.
المعارضة التونسية: وهن القدرة ورومانسية الاستعاضة.
إن السؤال المركزي هنا ليس حول مواقف الغرب، بل في بنية المعارضة نفسها؛ لماذا تلجأ إلى الخارج كلّما عجزت عن الفعل الداخلي؟ يبدو أنّ المشكلة أعمق من اللحظة السياسية الراهنة، إنها مشكلة القدرة على التنظيم الاجتماعي لا القدرة على الخطابة. لقد عايشتُ المعارضة التونسية فوجدتها بارعة في البيانات، تتقن صياغة التوسل والرجاء، لكنها لم تملك أبدا القدرة على بناء شبكات اجتماعية تعبّئ الجمهور المسكين، فتحوّل غضبه وخيباته إلى وقود معركة سياسية منصفة. إنّها معارضة تتقن الكلام في المصادح أكثر مما تتحرك في الشارع، معارضة تُنتج مواقف ولا تصنع وقائع، تُقيم حجتها على النص لا على القوة الاجتماعية.
وهنا تتجلى المفارقة، المعارضة تطلب دعما خارجيا بينما لم تقم بواجبها الداخلي، وكأنها تجهل الوظيفة الأولى للسياسة أن تبني كتلة اجتماعية حيّة قبل أن تطلب شرعية أو دعما من الخارج. لدينا قناعة تزداد رسوخا ونحن نتابع تحركات المعارضة التونسية المشتتة، إن السياسة ليست خطابة وشعارات في مظاهرات ميكروسكوبية بل توازن قوة على الأرض. من لا يمتلك الناس، لن يمتلك التاريخ، ولن يسمعه الغرب إلا بقدر ما يخدم مصالحه. وامتلاك الناس/ الشارع طريقه مكشوفة، ولكن المعارضة تتعامى عنها وتنتظر النجدة.
التاريخ يعيد نفسه بلا خجل
من حقبة بورقيبة إلى حقبة بن علي والآن مع قيس سعيد؛ يتشابه المشهد وإن تغيّرت الوجوه. هذا لا يشير فقط إلى فشل سياسي، بل إلى عجز بنيوي في الخيال الاستراتيجي للمعارضة؛ وكأنها لا تتعلم من التاريخ لأنها لا تعتبره مصدر معرفة، بل خزانا للندب والعويل. إنّ السلوك السياسي الذي لا يتغير أمام الخيبة المستمرة، لا يسمى إصرارا أو مبدأ، بل يسمى مرضا معرفيا. المعارضة التونسية لا تكفّ عن تكرار الرواية نفسها بانتظار نتيجة مختلفة؛ وهذه علامة كلاسيكية على أن الوعي السياسي لم يُجرِ نقدا جذريا لذاته، النقد الذي يتجاوز التكتيك إلى سؤال البنية لماذا لا نُنتج قوة؟ لماذا نُعلّق فشلنا على الخارج ثم ننتظر منه النجدة؟
الغرب ليس نبيا ديمقراطيا بل قوة مصلحة
تُهمل المعارضة التونسية معادلة بسيطة في وضوحها مفادها أنّ الغرب ليس ذاتا أخلاقية بل جهاز مصلحي، والديمقراطية ليست مبدأ مطلقا عنده، بل سلعة، وأداة، وخطاب جاهز للاستخدام حين تنسجم نتائجه مع مصالحه الاستراتيجية. وما دامت تونس اليوم تؤدي وظيفة حراسة الحدود، فهي شريك لا عبء، وشريك لا يزعج إلا عندما يتجاوز دوره. بل يمكن القول بوضوح، تونس في هذه اللحظة ليست دولة، بل سياج بشري يحمي أوروبا من الجنوب. هذه الحقيقة التي تعرفها المعارضة جيدا، لكنها تتغافل عنها لأنها تفضّل التعلّق بأمل خارجي هلامي بدل مواجهة سؤالها الأصعب: كيف تصنع قوة في الداخل؟
الغرب لا يتدخّل لإسقاط سعيّد لأن إسقاطه يفتح حدودا، يعيد حركة الأفارقة نحو البحر، يخلق فوضى سياسية قد تجبر أوروبا على تحمل ما لا تريد. لذلك، فدعم الديمقراطية في تونس بلغة المصالح ليس أولوية، الأولوية الغربية هي الاستقرار الأمني ومنع الهجرة غير النظامية، وهي أدوار يقوم بها قيس سعيد دون كلفة كبيرة على الشركاء الأوروبيين. لماذا يتخلى الغرب عنه إذن؟ ومقابل ماذا؟
إنّ السياسة في النسخة الغربية ما بعد 2015 واضحة جدا، الحدود أولا، ثم نرى. ومن يضمن الحدود يضمن الدعم، ومن لا يضمنها، لن تنفعه الصور في مؤتمرات المعارضة ولا المقالات التي تُنشر في جريدة لوموند.
التواكل السياسي: بنية نفسية قبل أن يكون خيارا استراتيجيا
يمكن فهم هذا التواكل من زاوية سوسيولوجية أيضا المعارضة التونسية (كغيرها من معارضات عربية يقيم كثير منها في عواصم الغرب نفسه ويحظى باللجوء السياسي) لم تتربّ في حضن الثقة الشعبية، بل في حضن المثقفين والصحافيين والدوائر النخبوية. إنها تعيش داخل الفضاء الرمزي أكثر من الفضاء الاجتماعي، لذلك، حين تكتشف عجزها عن التعبئة، تبحث عن سند بديل. الخارج هنا ليس فقط خيارا سياسيا، بل تعويضٌ نفسي عن غياب القدرة الداخلية. الخارج يُشعرها بأنها لا تزال فاعلا، حتى ولو كان الفعل ورقيا، لغويا، رمزيا.
هذا ما يفسّر ازدهار البيانات، والندوات، والرسائل الموجهة للأصدقاء الديمقراطيين ولمنظمات حقوق الإنسان. المعارضة تصنع حدثا لغويا، لا حدثا سياسيا، تكوّن حضورا خطابيا بديلا عن حضورها الميداني، إنها تُراكم الكلمات لأنها لا تملك الأرض.
الأسباب التي جاءت بسعيّد لا تزال قائمة
لا يبدو المشهد التونسي اليوم غريبا إذا ما استُحضر عمق الانقسام التاريخي داخل المعارضة نفسها. فالأسباب التي جاءت بقيس سعيّد إلى الحكم لم تتغير، بل ما تزال تُنتج أثرها بهدوء. هذه معارضة ممزقة على أسس استئصالية، تحكمها ذاكرة الصراع أكثر مما يحكمها وعي المصلحة العامة. إنّ التيار الحداثي أو اليساري لا يزال يعتبر الإسلاميين كيانا رجعيا ظلاميا لا يُعقد معه ميثاق ولا تُكتب معه صفحة جديدة، حتى وإن كان هذا الرفض يكلّف البلاد انسدادا سياسيا طويلا. لقد أسقطوا حكومة النهضة حين كانت فرصة التعايش ممكنة، ثم شكرهم الغرب بجائزة نوبل للسلام مكافأة على تحويل الخصومة السياسية إلى قاعدة استقرار شكلي. لكن الثمن الحقيقي لهذا الانتصار كان غياب القدرة على الحكم بعد ذلك، وغياب القدرة على المعارضة أيضا.
إنّ الخلل لا يكمن فقط في قصر نظر الغرب أو مصلحته، بل في عجز النخبة التونسية عن تجاوز ثنائيات ما قبل الدولة الحديثة. فالمعارضة التي أطاحت بالإسلاميين بالأمس -بدل أن تُفاوضهم وتُهذّبهم داخل اللعبة الديمقراطية- هي المعارضة نفسها التي تحاول اليوم إسقاط قيس سعيّد دون أن تغيّر أدواتها ولا تصورها للآخر السياسي. إنها تخوض معركة جديدة بذات المنطق القديم (استبعادٌ بدل ائتلاف، قطيعة بدل بناء، إقصاء بدل تعلّم من التاريخ). وهكذا يستمر الوضع من عاش على الاستئصال مات به، ومن رفض الشريك اليوم لا يجد من يشترك معه غدا.
لذلك يمكن القول إنّ سعيّد ليس شذوذا في المسار السياسي، بل نتيجة طبيعية لانكسار توافقي لم يلتئم. هو ابن الفراغ، ابن القطيعة، ابن تلك اللحظة التي فضّل فيها الجميع الانتصار الأيديولوجي على الحلّ السياسي. وما لم تتغير بنية الوعي داخل المعارضة أي داخل المجتمع فإنّ تونس لن تنتج بديلا، بل ستبدّل ألوان الأزمة فقط. فالحكم قد يتغيّر، لكن المنطق المُنتِج للأزمة باقٍ كما هو.
ربما لا تحتاج البلاد اليوم إلى بيانات جديدة بقدر حاجتها إلى عين نقدية تُبصر الجرح لا السكين فقط، إلى معارضة تُصلح ذات بينها قبل أن تحلم بإصلاح السلطة. فإنّ من لم يُجد صياغة تحالف يُحسن فقط صياغة عريضة احتجاج، وإن لم يحدث التحوّل في بنية التفكير، فسيتغيّر الأشخاص وسيبقى الجوهر كما هو يعيد إنتاج نفسه بثبات هندسي لا يفاجئ إلا من لا يقرأ التاريخ.