يمن مونيتور:
2024-06-17@14:46:19 GMT

العودة إلى تفاهة الشر

تاريخ النشر: 26th, May 2024 GMT

العودة إلى تفاهة الشر

تواصل المؤسسات الألمانية حربها العشوائية تجاه كل ما يشير إلى فلسطين، يطلق على تلك الحرب “مكافحة معاداة السامية”. تعتقد الكاتبة الألمانية شارلوته فيدامان، في مقالة لها على موقع قنطرة، أنه “في معظم الحالات لا يكون سبب إلغاء المحاضرات أو ندوات الأساتذة الزائرين أو حفلات توزيع الجوائز هو أن المسؤولين الألمان عن كل واحدة من تلك الفعاليات يعتقدون بأنه لا يجب أن يُسمح لمعاداة السامية بالتعبير عن نفسها في ألمانيا، بل لأنهم يخشون من أن يُتّهموا هم أنفسهم بذلك.

لهذا فهم يغسلون أيديهم من البداية تبرأة لأنفسهم على حساب الآخرين. لقد تحول اعترافهم بالذنب التاريخي إلى وثيقة تأمين: أنا أشهد على طهارتي عن طريق التنديد بالآخرين”. شارلوته فيدامان تنتمي إلى نخبة محدودة من المثقفين الألمان الذين وقفوا في وجه التيار.

نحواً من هذا دوّنت حنّا آرندت في عملها الأشهر “تفاهة الشر” سنة 1963، عن المواطن البيروقراطي، المحايد، الذي يزيح الأغيار عن الطريق تملّقاً للدولة، أو تلبية لرغائبها. يفعل ذلك دون سابق من خِبرة أو إيديولوجيا.

أنجزت آرندت عملها “تفاهة الشر” بعد عامين من محاكمة أدولف آيخمان، أحد أبرز مهندسي الهولوكوست، وكانت قد شهدت الوقائع في القدس بنفسها. لاحظت آرندت، كما سائر العالم، أن آيخمان لم يبد أي ندم على أفعاله، كما لم تُلاحظ عليه أي دوافع عدوانية أو إجرامية بخصوص ضحاياه. كان فقط “ترساً صغيراً في آلة قتل لا يملك حيالها أي تأثير” كما حاجج محاموه. قتل آيخمان ضحاياه على نحو محايد، دوافعه بيروقراطية تافهة، كأن يحتفظ بمنصبه أو ينال ترقية مهنية. الجريمة الكبرى، أو الشر المطلق، نفذه فاعلون لا يكنّون أي ضغينة لضحاياهم، وليسو معنيين بالإيديولوجيا التي تضبط إيقاع آلة القتل، أقدموا على أفعالهم المروّعة وهم راضون عن أنفسهم، حتى إن آيخمان أحال إلى إيمانويل كانط في دفاعه عن نفسه.

الشيء نفسه يجري الآن، كما تلاحظ فايدامان. فالرؤساء الذين نسفوا الحياة الثقافية والأكاديمية برمّتها، خوفاً من أن تتسع للصوت الفلسطيني، إنما فعلوا ذلك كتروس صغيرة في آلة كبرى لا يملكون حيالها تأثيراً. وهم يقدمون على الفعل لا يبدو على ملامحهم ما يؤكد أن فلسفة ما تدفعهم لذلك، لا انتصاراً للصهيونية ولا معاداة للفلسطينية. لذا فإن حججهم التي تنقلها وسائل الإعلام تبدو ساذجة وفارغة المعنى، كأن يصنف عمدة برلين “كراهية إسرائيل” في خانة الجريمة الجنائية.

تتحكم البيروقراطية بالحياة الألمانية وتهيمن عليها. سبق لحنّا آرندت أن وصفت البيروقراطية بال”شمولية بلا إيديولوجيا”. ما إن تدور الماكنة حتى يصبح من الصعب إيقافها، وبمقدور حفنة من الموظفين الرفيعين تغذية تلك العجلة العملاقة بخوارزمية سياسية معينة وستهيمن على الحياة العامة. تمتاز هذه الشمولية البيروقراطية بقدرتها الفائقة على فرض إرادتها خلال وقت قصير. فلم تمض سوى أيام معدودة، من اختلاف برلين مع موسكو حول أوكرانيا، حتى جرم قطاع الثقافة الألماني كل ما هو ثقافي- روسي، وصولاً إلى الموسيقى.

يرفع القانون الأساسي الألماني حرية التعبير إلى مستوى الثوابت الوطنية التي لا ينبغي المساس بها. وبرغم ذلك فإن النظام يملك القدرة على المساس بها دون أن يخشى من عواقب أعماله. فالمدونة القانونية الألمانية تبلغ من التعقيد حد أنه ما من مواطن لديه من المعرفة القانونية ما يكفي. تأخذ البيروقراطية الألمانية شكل سحابة عملاقة، لا مفاصل ولا ضفاف لها. حين تُغذى السحابة بدالّة سياسية موجّهة فإنها ستواصل الدوران على نحو لانهائي، ولا يمكن إيقافها. سحابة شمولية، تشبه آلة القتل التي ميّزت الحرب العالمية الثانية، يلتحق بها الموظفون لأسباب تفاهة. كل محاولة للاحتجاج، أو حتى التساؤل، تعد خروجاً عن الإجماع الوطني. النقاش العام في ألمانيا يأخذ، في الأغلب، صفة الإجماع.

ثمّة ميل ملحوظ للحاق بالموجة، من يُرى خارجها سيتهم بأنه هو صاحب البندقية التي يتصاعد الدخان من فوهتها. بحسب دراسة أجرتها شبكة MDR، ديسمبر 2022، وشملت 27 ألف مشترك، فقد قال 49% من الألمان إنهم يخشون من التعبير عن آرائهم، بينما قال 70% إنهم يخشون من قول آرائهم على السوشال ميديا، وقال حوالي 60% إنهم لا يجرؤون على التعبير عن آرائهم في أماكن عملهم. وفي المجمل قال حوالي 80% إن هنالك تابوهات [محرمات] لا يجوز الخوض فيها.

ليس بمقدور أحد مواجهة الشمولية الحديثة فيما لو جرى تغذيتها بقيم ولوغاريتمات سياسية واضحة وبسيطة. مؤخراً، مطلع فبراير الماضي، قدمت وزيرة الثقافة الألمانية كلوديا روت مشروعها لمعالجة الماضي، أطلقت عليه اسم “إطار مفاهيمي لثقافة التذكّر”. يمتد المشروع على أكثر من 40 صفحة، ويحاول أن يخرج بثقافة التذكر الألمانية من أسر الهولوكوست والحقبة الشيوعية في ألمانيا الشرقية إلى مديات أوسع. يقترح المشروع مجالات ثلاثة أخرى للتذكّر: الظاهرة الاستعمارية، ذاكرة المهاجرين في ألمانيا، وتاريخ الديموقراطية وتحولاتها. اقترحت المسوّدة إفساح المجال لتاريخ الاستعمار الأوروبي والألماني، وتعميق ثقافة التذكر حيال الجرائم الألمانية في أفريقيا. من ذلك التذكير بجريمة الإبادة البشرية التي ارتكبها الألمان في ناميبيا مطلع القرن الماضي. الجروح التي حملها المهاجرون، ممن استقر بهم المطاف في ألمانيا، ستوضع بحسب المسوّدة في الاعتبار، ستتسع لها الذاكرة الثقافية المقروءة والمادية. ذكّرت المسوّدة بمئات المهاجرين ممن لقوا حتفهم على أيدي متطرفين ألمانيا في عموم البلاد خلال العقود الماضية. شيء واحد ربما لم تأخذه المسودة في الحسبان، وهو احتمال فشلها.

تهيمن على الأجواء الألمانية عقيدة واحدة اختزلت التاريخ في الهولوكوست، وبذلت حوله، وفيه، الذاكرة والثقافة. لا يملك أحد القدرة على المساس بتلك العقيدة الشمولية، أو مطالبتها بإفساح المجال لسواها. ما يردده الساسة الألمان عن العبرة التي تعلموها من الماضي، في محاولة لشرح مواقف بلادهم، هو لغو لا معنى له. فما من أحد قادر على أن يقول شيئاً مختلفاً، ولا تصدر مواقفهم عن سياسيين يتمتعون بحرية الإرادة. تذهب شارلوته فايدامان إلى القول إن أولئك الذين يريدون أن يصيروا جزءاً من منظومة الحكم يتجهون إلى ترديد  المواقف والمقولات التي يتبناها رجال النظام، فذلك هو الطريق الوظيفي الآمن.

أثناء نقاش تلفزيوني مباشر قدمت ديبوره فيلدمان، اليهودية الألمانية، مرافعة أخلاقية حشرت من خلالها السيد هابك، نائب المستشار، في الركن الضيق. وعندما لم يجد شيئاً قال مستسلماً “مواقفك الأخلاقية تثير الإعجاب، ولا يمكنني كسياسي أن أشاركك إياها. كما لا تسمح لي مسؤوليتنا تجاه الهولوكوست باتخاذ مثل هذه المواقف”. علقت فيلدمان على مداخلته، في مقالة نشرتها على الغارديان، متهكمة “كما لو أن الهولوكوست أعفى السياسي الألماني من كل التزام أخلاقي”. على هذا المنوال الساخر، ولا يمكن معالجة ما يقوله السياسي الألماني سوى بالسخرية العميقة، كتبت شارلوته فايدمان “كأنهم يريدون أن يقولوا لنا بما أننا كنا أشراراً في الماضي فإننا الآن الأخيار الوحيدون”.

أثارت مسودة وزارة الثقافة غضباً واسعاً داخل الحقل الثقافي والإعلامي. عدد كبير من المؤسسات المتخصصة في “الذاكرة” أرسلت خطاباً جماعياً إلى وزيرة الثقافة يدين، بلغة رفيعة، المشروع. تسابق الكتاب والأكاديميون إلى اكتشاف خطورة المشروع على الذاكرة الألمانية. بدا الجميع فاعلين داخل آلة واحدة، غير قادرين على الحيود عنها قيد أنملة. حوّلت الشمولية الألمانية قطاعي الثقافة والإعلام إلى نسخة حيّة من آيخمان، على استعداد لتنفيذ إعدامات باردة استجابة لإرادة النظام، أو تملّقاً للقرب منه.

تبدو تفاهة المشهد الثقافي على النحو الذي وصفته آرندت في ستينات القرن الماضي، فالفاعل أو المقوّض أو المجرم إنما يقدم على الفعل لأجل لقمة العيش، وربما رغبة فيما هو أعلى من لقمة العيش قليلاً، بلا مرجعية أخلاقية أو قيمية.

توجد نخبة بسيطة على استعداد لقول ما تراه صحيحاً، ولتحمّل تبعات هكذا مواقف على خلاف مع الفاشية السحابيّة  Cloud Fascism إن سمحنا لأنفسنا بنحت مصطلح كهذا. بادرت وزيرة الثقافة إلى سحب مسوّدة المشروع من الفضاء العام، وإخفائه من على صفحة الوزارة، ولا معلومات حول مصيره. فقد أرادت أن تقف في وجه البيروقراطية الشمولية.

تملك ألمانيا تاريخاً احترافياً مع الفاشية، وتبدو خبرتها مع الديموقراطية أقل نضجاً. مديرة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب لم تتردد لحظة واحدة، في أكتوبر الماضي، وهي تملي على المفكرين والمؤلفين الذين قدموا من أماكن عديدة في العالم أوامرها: نحن هنا لنقف إلى جوار إسرائيل من دون “لكن”. منذ تلك اللحظة وقلّما سمع المرء “لكن” في ألمانيا. فالحياة الألمانية مصممة على أن تجري مع ماكنة النظام فيما لو دارت، وكلما كان المرء أكثر تناغماً مع القواعد والأخلاقيات التي تقررها السلطة- بما في ذلك ارتكابه لدرجات مختلفة من العنف تجاه من تصنفهم السلطة خطراً- كان نموذجياً وصالحاً أكثر من الآخرين، وتحسنت فرصه الوظيفية. وتلك هي تفاهة الشر المستوطنة في أرض الشعراء والفلاسفة.

 

نُقلاً عن موقع “الجزيرة-نت”

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: تفاهة الشر كتابات يمن مونيتور فی ألمانیا

إقرأ أيضاً:

شاهد: الشرطة الألمانية تطلق النار على رجل هدد عناصرها بفأس وعبوة حارقة في هامبورغ

شاهد: الشرطة الألمانية تطلق النار على رجل هدد عناصرها بفأس وعبوة حارقة في هامبورغ

اعلان

أعلنت الشرطة الألمانية، مساء الأحد، عن إطلاقها النار على رجل كان يهدد عناصرها بفأس وقنبلة حارقة في وسط مدينة هامبورغ شمال ألمانيا.

ووفقًا للشرطة، فقد حدثت الواقعة قبل ساعات قليلة من انطلاق نهائيات بطولة أوروبا لكرة القدم 2024 بين منتخبي صربيا وإنجلترا.

ألمانيا: إصابة عدة أشخاص في هجوم بالسكين في مدينة مانهايم جنوب غرب البلادألمانيا: أدلة ترجح وجود "دافع إسلامي متطرف" وراء هجوم الطعن في مانهايم

وأفادت وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) نقلا عن شرطة هامبورغ، قولها، إن ضباط الشرطة أطلقوا النار على المهاجم بعد أن رفض إلقاء الفأس، وأصابوه في ساقه.

شارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية الحرب في غزة| قصف مستمر رغم "الهدنة التكتيكية" وبايدن يرسل مبعوثه إلى إسرائيل مؤتمر برلين: ألمانيا وأوروبا تعدان كييف بمزيد من المعونات لقطاع الطاقة المتضرر من القصف الروسي حركة طالبان تعرب عن استعدادها للتعاون مع ألمانيا بشأن إعادة المجرمين بشرط واحد.. ما هو؟ ألمانيا كرة القدم هجوم اعلاناخترنا لك يعرض الآن Next الحرب في غزة| قصف مستمر رغم "الهدنة التكتيكية" وبايدن يرسل مبعوثه إلى إسرائيل يعرض الآن Next كعك العيد على نار الحرب في غزة: نساء نازحات في دير البلح يبدعن من العدم لرسم بسمة على وجوه محرومة  يعرض الآن Next حزن تجاوز المدى.. غزة تستقبل العيد بأسى وفقد في كل بيت وصلاة العيد وسط الركام والدمار (فيديو) يعرض الآن Next شاهد: اشتباكات بين مشجعي إنجلترا وصربيا في كأس أوروبا تُخلف إصابات والشرطة الالمانية تتدخل يعرض الآن Next شاهد: في أجواء يملؤها التضرع والخشوع.. اليمنيون يؤدون صلاة عيد الأضحى في صنعاء اعلانالاكثر قراءة وفاة 14 حاجا أردنيا أثناء أداء مناسك الحج بسبب الحر الشديد وفقدان 17 آخرين قوات الأمن الروسية تقتحم مركز اعتقال وتقتل سجناء احتجزوا ضابطين في روستوف أون دون جنوب البلاد من حفر حفرة لغريمه وقع فيها.. ترامب يخطئ باسم الطبيب لدى مطالبته بايدن بالخضوع لاختبار معرفي شاهد: الجنود المثليون في أوكرانيا يتظاهرون تحت المطر للمطالبة بحقوقهم آملين في تغير الموقف حيالهم إعلان مؤتمر سويسرا: 80 دولة تتفق على وحدة أراضي أوكرانيا كأساس لأي عملية سلام مع روسيا اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليوم الانتخابات الأوروبية 2024 عيد الأضحى غزة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني روسيا الإسلام منوعات السعودية إسرائيل حركة حماس الحج فولوديمير زيلينسكي Themes My Europeالعالمأعمالالسياسة الأوروبيةGreenNextالصحةسفرثقافةفيديوبرامج Services مباشرنشرة الأخبارالطقسجدول زمنيتابعوناAppsMessaging appsWidgets & ServicesAfricanews Job offers from Amply عرض المزيد About EuronewsCommercial Servicesتقارير أوروبيةTerms and ConditionsCookie Policyتعديل خيارات ملفات الارتباطسياسة الخصوصيةContactPress OfficeWork at Euronewsتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024 - العربية EnglishFrançaisDeutschItalianoEspañolPortuguêsРусскийTürkçeΕλληνικάMagyarفارسیالعربيةShqipRomânăქართულიбългарскиSrpski

مقالات مشابهة

  • شاهد: الشرطة الألمانية تطلق النار على رجل هدد عناصرها بفأس وعبوة حارقة في هامبورغ
  • ألمانيا تخطط لترحيل لاجئين إلى أفغانستان دون تواصل مع طالبان
  • الشرطة الألمانية تطلق النار على مسلح حاول مهاجمة المارة
  • ألمانيا.. تحييد شخص حاول مهاجمة الشرطة بفأس في هامبورغ
  • منع 900 شخص من دخول ألمانيا بشكل غير شرعي خلال يورو 2024
  • حرمان 1400 شخص من «اليورو»!
  • ألمانيا تكتشف 1400 حالة دخول غير مصرح به قبل بطولة أوروبا 2024
  • يورو 2024.. إستعدادات خاصة في المانيا قبل موقعة إنجلترا وصربيا
  • جريمة قتل في «يورو 2024»
  • يورو 2024.. جوندوجان يعلق علي خماسية الماكينات الألمانية بمرمي اسكتلندا