أثار في نفسي الاستغراب الخبر الذي نشره بنك النيل في صفحته على تطبيق الفيسبوك، أعلن فيه أن رئيس الجهاز القضائي بولاية نهر النيل ورئيس دائرة المحاكم قاما بزيارة لبنك النيل واستقبلهم الرئيس التنفيذي على الرحب والسعة وبكامل الحفاوة، وشكر الوفد القضائي بنك النيل على حسن معاملته ووقفته مع الجهاز القضائي والعاملين بالجهاز القضائي بتقديم الخدمات المصرفية المتميزة، و هذا الثناء من الجهاز القضائي بادله بكل توقير وتقدير بنك النيل متشرفا بدرع رمزي تعبيرا عن رضى السلطة القضائية عن الأعمال التي ظل يقوم بها البنك.

ويبدو أن هذا الكرم القضائي قد شمل عددا من البنوك الأخرى منها بنك الخرطوم فرع عطبرة وبنك الخرطوم فرع كريمة.

ذكرني هذا الخبر بقصة قصيرة ومعبرة في مدينة الدويم، بداية ثمانينات القرن الماضي، فقد كان أحد سكان أرياف المدينة مولعاً برفع القضايا في محكمة المدينة على بعض منافسيه، في حيازة الأراضي الزراعية. ومن أجل هذه القضايا وإجراءاتها كان زائراً مستديماً لمبنى المحكمة. وقد صادف احتفالاً في المحكمة بمناسبة وداع أحد القضاة، فاجتمع القضاة والمحامون وبعض الإداريين لأخذ صورة تذكارية، فاندس بينهم وطالب بنسخة من الصورة التذكارية التي تم التقاطها . وكان هدفه أن يستخدم الصورة لإبراز نقطة على منافسيه ويظهر أن القضاة أصدقاؤه لدرجة أنه أخذ لقطة تذكارية معهم.

استقلال السلطة القضائية وحياد القضاة من الأسس التي يتعين أن ينبني عليها العمل القضائي، وهي مبادئ يجب أن تتمتع السلطة القضائية بالحساسية اللازمة تجاهها وأن تتمثلها في سلوكها المؤسسي وفي سلوك قضاتها، وأن لا تسمح بأي ثغرة يمكن أن ينفذ منها ما يمسها. وبالطبع فإن حملات العلاقات الاجتماعية التي قام بها القضاة رفيعوا الدرجات الذين يمثلون رأس السلطة القضائية في ولاية نهر النيل، تمس هذه المبادئ وتطعن في صدق اتباعها. فكيف يمكن لأي شخص له دعوى ضد أحد هذه البنوك أمام محاكم ولاية نهر النيل أن يثق في الأحكام التي تصدرها بعد أن يطلع على صكوك التكريم التي مهرتها السلطة القضائية لهذه البنوك وزينت بها البنوك مواقعها الالكترونية. أو لأي شخص خصم لمديري أحد البنوك الذين كرمتهم السلطة القضائية أن ينام مستريح البال إلى عدالة الحكم الذي تصدره السلطة القضائية في دعوى أو إجراء قضائي يقيمه على ذلك المدير.

ظلت مدارس القانون حريصة على تدريس مبادي استقلال القضاء وحياد القضاة، وخاصة ما ورد في آثار الأسلاف ومنها الوصية الشهيرة التي أوصى بها عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري بعد أن عينه قاضياً: (آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك) وهي وصية تدل على مقدار الواجب الملقى على عاتق القاضي بالعدالة في معاملة الخصوم حتى في النظرات. وظلت الأحكام القضائية حريصة على أثبات حياد القاضي وعدم السماح بما يمكن أن يمسها. ففي قضية حكومة السودان (ضد) (أ أ ع) التي نشرتها مجلس الأحكام القضائية لسنة 2011 استخدمت المحكمة عبارات مكشرة عن أنيابها في وجه اتهامات طالت المحكمة بالتعمد في تأجيل الإجراءات لصلة بين المحكمة وأحد أطراف القضية فذكرت (أما القول بأن محكمة الموضوع لها معرفة بالمتهمين مما أدى إلى التأجيل المستمر لإجراءات المحكمة فهذا قول مما يؤاخذ عليه طالب الفحص. وعليه أن لا يتهم المحاكم جزافاً لأن المحاكم تكون دائماً على الحياد وأن المعيار في إصدار الحكم على البينات التي يقدمها كل طرف). وبالطبع فإن تحقيق هذه الحياد يتطلب أن تترفع السلطة القضائية ومنسوبوها عن السلوك الذي يؤدي إلى الطعن في هذا الحياد المطلوب، وأن لا تظهر أي ميل تجاه أحد الخصوم أو الخصوم المحتملين.

بالنظر لقانون السلطة القضائية لسنة 1986 فقد جاءت المواد التي تنظم حياد القاضي بصورة مقتضبة، منها ما أوردته المادة (49) أنه يحظر على القاضي ممارسة أي عمل أو نشاط لا يتفق مع واجبات الوظيفة القضائية أو استقلال القضاء.، وأنه يجوز لمجلس القضاء العالي أن يمنع القاضي من ممارسة أي عمل أو نشاط إذا رأي أن ممارسته لا تتفق مع واجبات الوظيفة القضائية أو استقلال القضاء، وتركت تفصيل الأحكام إلى اللوائح التي يصدرها مجلس القضاء العالي. إلا أن مجلس القضاء العالي للأسف لم يصدر لوائح وافية تحدد السلوك القضائي. كما أن لائحة التفتيش والرقابة القضائية لسنة 2015 احتوت على مبادئ قليلة لتنظيم سلوك القضاة، منها قواعد سلوك عام وأحكام تنظم قبول القاضي للهدايا من أقربائه، وعدم جواز ممارسة أي عمل تجاري، وعدم الاعتياد على الاستدانة وعرض قائمة بممتلكاته إذا طلب ذلك رئيس القضاء. وهذه المبادئ مجرد أحكام عامة لم تفصل بصورة مناسبة التزامات القاضي في سلوكه والالتزام المؤسسي للسلطة القضائية.

ربما أحست السلطة القضائية بضرورة وجود قواعد سلوك تنظم تداول الاخبار الخاصة بها في مواقع الانترنت مما أدى بالدكتور حيدر أحمد دفع الله بصفته رئيساً للقضاء إلى إصدار المنشور رقم (15) لسنة 2018 حول مشاركة القضاة في تداول ونشر مواد إعلامية حول الشبكة العنكبوتية، ذكر فيه (القاضي المنعزل لا يتوقع منه العمل بكفاءة وفاعلية في المجتمع الذي يخدمه إلا أن ذلك محكوم بالطبع بقواعد سلوك مهنية صارمة لكل من ارتضى هذه المهنة)

ورغم أن وجود مدونة سلوك قضائي أصبح أحد السمات التي تميز عمل عدد من النظم القانونية، إلا انه لا توجد مدونة واضحة في السودان ترسم طريق السلوك القضائي وتحدد للقضاة ما يتفق وطبيعة العمل القضائي وما يتعين عليهم تجنبه. وقد أدى ذلك إلى اختلاف الرؤى وعدم توحيد الفكر تجاه سلوك القضاة وأعمالهم. ومن الضروري إعداد هذه المدونة المفصلة حتى تحسم أي خروج عن مألوف العمل القضائي، وتكون أساساً يمثل تصرف القضاة في سلوكهم اليومي.

أبوذر الغفاري بشير عبدالحبيب
abuzerbashir@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السلطة القضائیة بنک النیل

إقرأ أيضاً:

بين فرحة العيد والتضامن مع غزة.. ما التوازن المطلوب في الاحتفال؟

وضرب الداعية الدكتور عمر عبد الكافي مثالا بملك عادل قرر أن يمنح رعاياه 10 أيام يعفو فيها عن كل مخطئ معترف بذنبه، فأرسل المنادي ينادي بهذا العفو العام، فاستجاب ناس كثيرون وفازوا بالعفو، إلا عبدا واحدا استعظم ذنبه وظن أنه لن يُغفر له، فأضاع فرصة عمره.

وقد استخدم هذا المثال للتأكيد على أن رحمة الله أوسع، وأن أبوابها مفتوحة دائما للتائبين.

وفيما يتعلق بفضائل الأيام المباركة والحث على استثمارها، أكد الداعية على أن الله -سبحانه وتعالى- يعلم ضعف بني آدم وكثرة نسيانهم، ولذلك جعل لهم مناسبات روحانية متعددة لتجديد الإيمان وتطهير النفس، ومن أعظمها العشر الأوائل من ذي الحجة.

وفي هذا السياق، استضافت حلقة (2025/5/27) من برنامج "حكم وحكمة" مجموعة من المختصين والدعاة لمناقشة أفضل الطرق لاستثمار هذه الأيام المباركة، حيث أجمعوا على أن أحب الأعمال هو كف الأذى عن الآخرين، ثم الصبر والتصبر على أفعالهم، وأخيرا الإحسان إليهم حتى وإن أساؤوا.

وطرح مقارنة بين شهر رمضان وشهر ذي الحجة، حيث صور حوارا تخيليا بين الشهرين أمام الناس، يقول خلاله رمضان: "أنا خير الشهور، خصني الله بالصيام والقرآن وعندي ليلة هي خير ليالي الدهر"، بينما يقول ذو الحجة: "أنا شهر الحج الأعظم، ما من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيامي".

إعلان

وقدم عبد الكافي توجيهات عملية ليوم عرفة والابتعاد عن "المشتتات"، تبدأ بوضع الهاتف المحمول داخل الخزانة وإغلاق الباب عليه، مشبهين ذلك بتصفيد الشياطين في رمضان.

وأكد أن يوم عرفة هو أفضل يوم طلعت عليه الشمس، وأن صيامه يكفر ذنوب سنة ماضية وسنة باقية، داعيا إلى التفرغ للذكر والدعاء وقراءة القرآن والاستغفار.

كما تناول الداعية مع ضيوفه كيفية التوازن بين فرحة العيد والأوضاع المؤلمة في غزة وغيرها من البلدان المنكوبة. وأجمعوا على أن الفرح في العيد مشروع ومطلوب، وهو فرح بنعمة الله وبالطاعة، استنادا لقوله تعالى "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا".

وأكدوا أن "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"، داعين إلى مشاركة الأشقاء في غزة معاناتهم عبر الدعاء والتضامن العملي.

وأشاروا إلى قصة مؤثرة لطبيبة في غزة فقدت 9 من أبنائها، ولم تتعرف عليهم من شدة التشويه، واكتشفت أن أحد المرضى الذين تعالجهم هو ابنها.

كما استشهدوا بقول امرأة غزاوية "عندنا من الثياب البيضاء ما يكفي لتكفين شهدائنا، لكن ليس عندنا ثياب بيضاء لرفع راية التسليم".

تذكير الأمة

وفي الجزء الثاني من الحلقة، قدم الدكتور عبد الحي يوسف نصائح تذكر الأمة بوصايا الرسول صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".

وأكد يوسف على أن هذه الأيام "غنيمة عظيمة أيامها معدودة وساعاتها محدودة"، داعيا المسلمين إلى أن يكونوا كالتاجر الذي يحرص على استثمار كل لحظة فيما يقربه إلى الله.

وقدم برنامجا عمليا يشمل قراءة 3 أجزاء من القرآن يوميا، والمواظبة على الصلوات الخمس مع الجماعة، والسنن الرواتب، وصلاة الضحى، والإكثار من ذكر الله.

كما قدم الشيخ يوسف شرحا عميقا لعلاقة الحج بالجهاد، موضحا أن الله سبحانه وتعالى قرن بينهما في القرآن الكريم.

إعلان

ففي سورة البقرة، جاء الحديث عن الحج متبوعا مباشرة بآيات الجهاد "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم". وفي سورة الحج، بعد تفصيل أحكام الحج والأضاحي، جاء قوله تعالى "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير".

وأشار إلى أن هذا الفهم العميق دفع الأئمة الأولين مثل الإمام مالك والإمام البخاري إلى وضع باب الجهاد مباشرة بعد أبواب العبادات الأساسية، معتبرين أن الجهاد هو الذي يحرس هذه الأركان ويحميها. وذهب بعض العلماء إلى عد الجهاد الركن السادس من أركان الإسلام، لأنه لا يتم الدين إلا به.

وشدد ضيوف الحلقة على أهمية تذكر نعم الله عليهم، وأنهم في أمن وأمان، يجدون ما يأكلون ويشربون ويتنفسون هواء نقيا، بينما إخوانهم في غزة لا يجدون ما يأكلون ولا ماء نقيا يشربون ولا هواء نقيا من كثرة ما أُمطر عليهم من الحمم والنيران.

وحذروا من أن يتعلق هؤلاء المظلومون برقاب المسلمين يوم القيامة قائلين: "يا ربي أنصفني من هذا الذي رآني ضعيفا فما نصرني ورآني ضائعا فما آواني".

لذلك أكدوا على أهمية الدعاء في هذه الأيام المباركة، ليس فقط للنفس وأمور الدنيا، بل للإخوان المسلمين في كل مكان، لأن "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله".

الصادق البديري27/5/2025

مقالات مشابهة

  • والي النيل الأبيض:المسيرات التي يطلقها العدو نحو المرافق الإستراتيجية والخدمية لن تزيدنا إلا قوة ومنعة وتماسكا
  • سيفقد أولاد دقلو كل المدن التي سيطروا عليها وسيتحولون إلى مجرد مجرمين هاربين
  • مستشار ألمانيا ينتقد سلوك إسرائيل في غزة.. لماذا يعد ذلك أمرًا مهمًا؟
  • بين فرحة العيد والتضامن مع غزة.. ما التوازن المطلوب في الاحتفال؟
  • الإعلام الحكومي بغزة : مزاعم عرقلة المساعدات افتراءٌ مفضوحٌ وانحرافٌ خطيرٌ عن الحياد الإنساني
  • ما قصة القاضي الذكي والمثل القائل الحرام يركب من لا حلال له؟
  • هيئة الدواء: رغيف الخبز قد يكون عدوًا خفيًا لبعض الأشخاص
  • وزارة العدل تؤكد توقيف المتورطين في حادث الاعتداء على القاضي أحمد حسكل في حلب
  • المستشار محمود فوزي: الحوار الوطني لم يتوافق على النظام الانتخابي
  • برعاية وزارة البيئة| انطلاق مؤتمر الحياد الكربوني.. الثلاثاء