إريك هازان و سايمون جونسون

استحوذ الذكاء الاصطناعي التوليدي على مخيلة العالم لأنه يبدو من المرجح أن يعمل على أتمتة مهام (تشغيلها آليا) كانت في السابق تتطلب مهارات معرفية متقدمة. ومعه، ينشأ احتمال حقيقي بأن تحل الخوارزميات محل عدد كبير من العمال المتعلمين والمتمرسين. ماذا قد يحدث عندما تتولى الآلات وظائف كتاب السيناريو، والمحامين، ووظائف الإدارة المتوسطة، بل وحتى الإدارة التنفيذية الرفيعة المستوى، وليس فقط وظائف نساج النول اليدوي وعمال السيارات؟

تتلخص إحدى الاستجابات لهذه الحال في النظر إلى المهارات على أنها لم تعد تشكل أهمية كبرى، أو حتى الاستسلام لتصور مفاده أننا يجب أن نخفف من التأكيد على أهمية التعليم.

على العكس من ذلك، في حين لم تكن إمكانية زيادة الإنتاجية (وزيادة الدخول للجميع) من خلال التفاعل بين الإنسان والآلة أعظم مما هي عليه الآن مقارنة بأي وقت مضى، فإننا نحن البشر يجب أن نبذل قصارى جهدنا لتعظيم قدراتنا.

يتعين علينا أن نعمل على تحسين أدائنا في كل ما تواجه أجهزة الكمبيوتر صعوبة في القيام به من عمل، بما في ذلك فهم السياق، والتفكير خارج الصندوق، وإدارة العلاقات مع غيرنا من البشر. وفقا لتقرير حديث صادر عن معهد ماكينزي العالمي، فإن ما يصل إلى 30% من ساعات العمل الحالية في البلدان الصناعية قد تتحول إلى التشغيل الآلي بحلول عام 2030، في ظل سيناريو التشغيل الآلي المعتدل. وفي حين فرض التشغيل الآلي الضغوط على العمال لعقود من الزمن، فإن الذكاء الاصطناعي التوليدي يؤذن بتسارع كبير وتغيير مؤلم في حياة كثير من الناس الذين افترضوا أن حياتهم المهنية مستقرة.

في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يكاد يكون من المؤكد تقريبا أن عدد الأشخاص العاملين كموظفين في المكاتب، وفي التصنيع، وممثلي خدمة العملاء سوف ينخفض ​​مع ترسخ الذكاء الاصطناعي التوليدي. (يشمل التقرير تسع دول في الاتحاد الأوروبي ــ جمهورية التشيك، والدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، وبولندا، وإسبانيا، والسويد ــ والتي تمثل 75٪ من السكان العاملين في أوروبا، فضلا عن المملكة المتحدة). لكن الأخبار ليست كلها سيئة. إذ تشير تقديرات التقرير إلى أن الطلب على العمال في مجالات الرعاية الصحية، والطاقة النظيفة، وغير ذلك من المهن التي تتطلب مهارات عالية (مثل البحث العلمي والتطوير) من المرجح أن يرتفع في ذات البلدان. ​​بالطبع، لا يخلو الأمر من عوامل أخرى مؤثرة، بما في ذلك الجهود المبذولة لتحقيق صافي الانبعاثات صِـفر (والتي تشكل أهمية لخلق فرص عمل جديدة في مختلف البلدان الصناعية)، وقوة العمل المتقدمة في السن (خاصة في أوروبا)، والتوسع المستمر الذي تشهده التجارة الإلكترونية في القطاع الخاص، وتعزز قوة البنية الأساسية الممولة من الحكومة. بدلا من البطالة الجماعية، نجد أن النتيجة الأكثر ترجيحا هي أن كثيرا من الناس سيواجهون قريبا ضغوطا تحملهم على تغيير وظائفهم. واستنادا إلى افتراضات معقولة، قد تشهد أوروبا ما يصل إلى 12 مليون انتقال مهني على مدار السنوات الست المقبلة.

في حين يُـعَـد معدل الانتقال المهني السنوي المتوقع (0.8% من العاملين) أقل من المعدل المرتفع نسبيا الذي لوحظ في أوروبا أثناء جائحة كوفيد-19 (1.2%)، فأنه أعلى بمرتين من المعدل الطبيعي قبل الجائحة (0.4%). وفي الولايات المتحدة، قد يصل عدد الانتقالات بين الوظائف خلال ذات الفترة إلى ما يقرب من 12 مليونا، وإن كان هذا يبدو أكثر قابلية للإدارة، حيث سجلت الولايات المتحدة بالفعل معدل انتقال أعلى قبل الجائحة (1.2%) مقارنة بأوروبا.

يشعر المسؤولون التنفيذيون على ضفتي الأطلسي بالقلق بالفعل بشأن نقص المهارات وعدم التوافق في سوق العمل الـمُـحْـكَـمة. هذا خبر سار للبشر المؤهلين بشكل مناسب إذا ارتفع الطلب على المهارات الاجتماعية والعاطفية مع التكنولوجيات الجديدة. الواقع أن أكثر من 1100 مسؤول تنفيذي استطلعت شركة ماكينزي آراءهم في أوروبا والولايات المتحدة لم يكتفوا بالتأكيد على الحاجة إلى مهارات متقدمة في تكنولوجيا المعلومات وتحليل البيانات، بل أكدوا على الحاجة أيضا إلى مزيد من العاملين الذين يتمتعون بالقدرة على التفكير النقدي، والإبداع و«التدريس والتدريب». من المرجح أن تكون التأثيرات على الأجور كبيرة. وسوف يتحول الطلب على العمالة نحو المهن التي تقدم بالفعل أجورا أعلى في كل من أوروبا والولايات المتحدة.

ويتمثل خطر حقيقي في خفض بعض الوظائف في المهن الإدارية المنخفضة الأجر. وسوف يحتاج هؤلاء العاملون إلى اكتساب مهارات جديدة للحصول على عمل أفضل أجرا. إذا تمكنوا من اكتساب هذه المهارات ــ بأنفسهم، أو من خلال أرباب العمل، أو بمساعدة الحكومة ــ فسوف تتاح لهم الفرصة لتسلق سلم الأجور.

لكن الأمر ينطوي على خطر حقيقي يتمثل في سوق عمل أكثر استقطابا حيث يتوفر عدد من فرص العمل الأعلى أجرا أكبر من عدد العمال المؤهلين (فيؤدي هذا إلى زيادة الأجور العليا)، ويتنافس عدد أكبر كثيرا من العمال على وظائف أدنى أجرا ومحدودة على نحو متزايد (فـيُـفـضي هذا إلى دفع أجور الطرف الأدنى من توزيع الدخول إلى مزيد من الانخفاض). سوف تكون هذه النتيجة انعكاسا مخيبا للآمال في اتجاه انخفاض التفاوت في الأجور في سوق العمل بعد الجائحة.

ما يدعو إلى التفاؤل أن هذه النتيجة من الممكن تجنبها. من منظور صناع السياسات، يتمثل الدرس الرئيسي المستخلص من كل هذا في أن رأس المال البشري يشكل أهمية أكبر من أي وقت مضى للقدرة التنافسية الوطنية والرخاء المشترك. سوف تظل بعض الوظائف اليدوية مع البشر (تواجه الروبوتات صعوبة نسبية في كثير من مهام التنقل والتنظيف الأساسية). لكن المسؤولين التنفيذيين مقتنعون حاليا بأنهم في احتياج إلى إعادة تدريب عدد كبير من العمال من أجل تلبية كل احتياجاتهم من المهارات. يجب أن تعمل السياسة العامة على تشجيع أصحاب العمل قدر الإمكان على مواصلة هذا التصرف وإعادة تأهيل العمال بدلا من الاستغناء عنهم.

الواقع أن نمو الإنتاجية الأسرع بشكل ملحوظ والرخاء المشترك، وخاصة في أوروبا، من الممكن أن يتدفق من التكنولوجيا الجديدة، لكن هذا لن يحدث إلا إذا كان تبني التكنولوجيا مصحوبا بمهارات بشرية مطورة وإعادة نشر العمال بشكل أكثر استباقية.

لتحقيق هذه الغاية في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، يجب أن يتحلى المسؤولون التنفيذيون قدر الإمكان بالصراحة بشأن فجوات المهارات الوليدة، وينبغي للحكومات أن تركز على تسهيل الأمور قدر الإمكان لكل العاملين الراغبين في ترقية مهاراتهم في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة.

سايمون جونسون كبير خبراء الاقتصاد الأسبق في صندوق النقد الدولي، وهو مؤلف مشارك (مع دارون عاصم أوغلو) لكتاب القوة والتقدم: صراعنا المستمر منذ ألف عام على التكنولوجيا والازدهار.

إريك هازان شريك إداري في شركة ماكينزي آند كومباني وعضو في مجلس معهد ماكينزي العالمي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی التولیدی فی أوروبا یجب أن

إقرأ أيضاً:

البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا

في ظاهرة تبدو كأنها خرجت من قصص الخيال العلمي، كشفت دراسة حديثة أن البشر بدؤوا بالفعل تبني أسلوب لغوي يشبه إلى حد كبير أسلوب الذكاء الاصطناعي التوليدي مثل تشات جي بي تي.

هذا التحول الصامت، الذي رصده باحثون في معهد "ماكس بلانك لتنمية الإنسان" في برلين، لم يقتصر على المفردات فحسب، بل امتد إلى بنية الجمل والنبرة العامة للحديث، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل اللغة والتنوع الثقافي في عصر هيمنة الآلة ومنطقها في التفكير.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"كل ما نريده هو السلام".. مجتمع مسالم وسط صراع أمهرة في إثيوبياlist 2 of 2سيرة أخرى لابن البيطار بين ضياع الأندلس وسقوط الخلافةend of list تسلل إلى حواراتنا اليومية

اعتمدت الدراسة، التي لم تنشر بعد في مجلة علمية وتتوفر حاليا كنسخة أولية على منصة (arXiv)، على تحليل دقيق لمجموعة ضخمة من البيانات اللغوية، شملت ما يقرب من 360 ألف مقطع فيديو من منصة يوتيوب الأكاديمية و771 ألف حلقة بودكاست. وقام الباحثون بمقارنة اللغة المستخدمة في الفترة التي سبقت إطلاق" تشات جي بي تي" في أواخر عام 2022 وما بعدها، وكانت النتائج لافتة.

لاحظ الفريق البحثي زيادة حادة في استخدام ما أطلقوا عليه "كلمات جي بي تي"، وهي مفردات يفضلها النموذج اللغوي، مثل "delve" (يتعمق)، "meticulous" (دقيق)، "realm" (عالم/مجال)، "boast" (يتباهى/يتميز)، و"comprehend" (يستوعب). هذه الكلمات، التي كانت نادرة نسبيا في الحوار اليومي العفوي، شهدت طفرة في الاستخدام. على سبيل المثال، ارتفع استخدام كلمة "delve" وحدها بنسبة 48% بعد ظهور تشات جي بي تي.

وللتأكد من هذه "البصمة اللغوية"، قام الباحثون باستخلاص المفردات التي يفضلها النموذج عبر جعله يعيد صياغة ملايين النصوص المتنوعة. ووجدوا أن استخدام هذه الكلمات في كلام البشر المنطوق ارتفع بنسبة قد تصل إلى أكثر من 50%، مما يؤكد أن التأثير لم يقتصر على النصوص المكتوبة، بل امتد إلى المحادثات اليومية.

 تغير في الأسلوب والنبرة

المفاجأة الكبرى في الدراسة لم تكن في المفردات فحسب، بل في النبرة الأسلوبية العامة. لاحظ الباحثون أن المتحدثين بدؤوا يتبنون أسلوبا أكثر رسمية وتنظيما، وجملا أطول، وتسلسلا منطقيا يشبه إلى حد كبير المخرجات المنظمة للذكاء الاصطناعي، بعيدا عن الانفعالات العفوية والخصوصية اللغوية. هذه الظاهرة تعني أننا نشهد مرحلة غير مسبوقة: البشر يقلدون الآلات بطريقة واضحة.

إعلان

يصف الباحثون ما يحدث بأنه "حلقة تغذية ثقافية مغلقة" (closed cultural feedback loop)؛ فاللغة التي نعلمها للآلة تتحول، بشكل غير واع، إلى اللغة التي نعيد نحن إنتاجها.

يقول ليفين برينكمان، أحد المشاركين في الدراسة: "من الطبيعي أن يقلد البشر بعضهم بعضا، لكننا الآن نقلد الآلات"، في مشهد يؤكد تحول الذكاء الاصطناعي إلى مرجعية ثقافية قادرة على التأثير في الواقع البشري.

تآكل التنوع اللغوي

رغم الطابع الطريف الذي قد تبدو عليه هذه الظاهرة، فإن الدراسة تحمل في طياتها تحذيرا جادا حول مستقبل التنوع الثقافي واللغوي. يلفت الباحثون الانتباه إلى أن اعتمادنا المفرط على أسلوب لغوي موحد، حتى لو بدا أنيقا ومنظما، قد يؤدي إلى تآكل الأصالة والتلقائية والخصوصية التي تميز التواصل الإنساني الحقيقي.

وفي هذا السياق، يحذر مور نعمان، الأستاذ في معهد "كورنيل تك"، من أن اللغة عندما تكتسب طابع الذكاء الاصطناعي قد تفقد الآخرين ثقتهم في تواصلنا، لأنهم قد يشعرون بأننا نسعى لتقليد الآلة أكثر من التعبير عن ذواتنا الحقيقية.

تشير الدراسة إلى أن ما بدأ كأداة للمساعدة في الكتابة والبحث قد تحول إلى ظاهرة ثقافية واجتماعية مرشحة للتوسع. فإذا كان الإنترنت قد أدخل على لغتنا اختصارات تقنية مثل "LOL"، فإن ما يحدث اليوم هو انعكاس مباشر لعلاقة أعمق وأكثر تعقيدا بين الإنسان والذكاء الاصطناعي.

وتؤكد هذه النتائج أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي مرآة للسلطة الثقافية ومنبع للهوية. ومع تحول الذكاء الاصطناعي إلى جزء من هذه السلطة، فإن تبنينا لأسلوبه قد يعني أننا، وبشكل غير محسوس، نفقد جزءا من شخصيتنا وهويتنا اللغوية الفريدة في ساحة معركة هادئة تكتب فيها فصول جديدة من تاريخ التواصل البشري.

مقالات مشابهة

  • حوارٌ مثيرٌ مع الذكاء الاصطناعي
  • ويسألونك عن دائرة الرعاية العمالية
  • تراجع مؤشر الذكاء الاصطناعي المؤسسي في أوروبا والشرق الأوسط
  • شركات الذكاء الاصطناعي الصينية تتحد معا لمواجهة قيود الولايات المتحدة
  • هل تنفجر معدلات النمو الاقتصادي في زمن الذكاء الاصطناعي؟
  • وزير العمل: تعاون مع العمل الدولية لتنمية المهارات وتعزيز الوظائف الخضراء
  • الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي 1/5
  • لمنع إصابات اللاعبين.. «عمالقة أوروبا» يستثمرون في «الذكاء الاصطناعي»
  • البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا
  • أعضاء “مكافحة المخدرات” يجتازون دورة الذكاء الاصطناعي التوليدي في الإعلام