د. الشفيع خضر سعيد
رغم أي تبريرات ذكرت ويتم الترويج لها، فإن ما حدث في قرية ود النورة الواقعة غربي منطقة المناقل في ولاية الجزيرة بالسودان، هو جريمة بشعة تضاف إلى سلسلة الجرائم الأخرى المنسوبة إلى قوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب القذرة في أبريل/نيسان 2023. الجريمة راح ضحيتها أكثر من مئتي قتيل وجريح من سكان القرية المدنيين البسطاء، وهي نفذت يوم الأربعاء الخامس من يونيو/حزيران الجاري، وكأنها تود ترسيخ أن يظل شهر يونيو/حزيران في أذهان السودانيين مرتبطا بسفك دماء أبنائهم من المدنيين، حيث شهد يوم الإثنين الدامي المشؤوم الثالث من يونيو/حزيران 2019 جريمة فض اعتصام الثوار السلمي أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني وقتل المئات منهم، وشهدت الفترة من الثالث عشر إلى الواحد والعشرين من شهر يونيو 2023 مذابح إبادة الآلاف من سكان مدينة الجنينة، عاصمة غرب دارفور، على أيدي قوات الدعم السريع، ويشهد شهر يونيو الجاري احتمالات اجتياح مدينة الفاشر كبرى مدن دارفور حيث يمكن أن يؤدي الهجوم الوشيك إلى مذبحة على نطاق مماثل لما حدث في مدينة الجنينة.
الحرب الدائرة في السودان منذ أكثر من عام بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، هي صراع وحشي أدى إلى الموت على نطاق واسع والعنف الجنسي ولجوء مئات الآلاف إلى دول الجوار بدون معينات للمعيشة، كما أدى إلى أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم، وتسبب في أن حوالي 2.5 مليون شخص آخرين في السودان معرضون لخطر الموت من الجوع.
ومن الواضح أن أياً من الطرفين المتحاربين لا يبدو مهتماً بإنهاء الحرب، وأن العديد من الدول الأخرى تعمل على تأجيجها بشكل مباشر، وأن القوى المدنية السودانية عاجزة حتى الآن على القيام بدورها، وهي في وضعها الراهن لا تستطيع فعل الكثير لحماية شعب السودان. أما المجهودات التي يقوم بها المجتمع الدولي فمحصلتها تؤول إلى الصفر، وهي غير منسقة وليس فيها ما يشير إلى أنها جزء من استراتيجية أكبر لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار. ولا يبدو أن سياسة العقوبات التي تفرض على بعض قادة طرفي الحرب ستؤتي ثمارها المرجوة. صحيح ربما لا تتمتع الولايات المتحدة بنفوذ كبير على الأطراف المتحاربة، ولكن يبدو أنها غير راغبة في استخدام نفوذها الحقيقي على مؤيديهم الأجانب، علما بأن الدعم المباشر من هولاء المؤيدين الأجانب هو السبب المباشر في استمرار الحرب وإهلاك المدنيين السودانيين.
رغم ما حدث في الجنينة من فظائع تجاه إثنية المساليت، فإن العديد من أطراف المجتمع الدولي لاتزال تحاجج حول ما إذا كانت تلك الفظاعات تستوفي تعريف الإبادة الجماعية
بعض المنظمات والمؤسسات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، ربما تؤيد وصف مذابح الجنينة المشار إليها أعلاه بالإبادة الجماعية، ومع ذلك قد تعتبرها حدثا عارضا ولا تراها حتمية أن تسود في البلاد. ولكن، وحسب اتساع مدى المذابح في البلاد، واستنادا إلى الوثائق القانونية لمكتب المستشار الخاص للأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية، توجد علامات تحذيرية عديدة على طول الطريق بشأن الإبادة الجماعية في السودان، وكذلك تتوافر فرص كثيرة لاتخاذ إجراءات لمنعها. والتقاعس أو عدم الفعالية في معالجة العلامات التحذيرية، هو ما يسمح للإبادة الجماعية بأن تصبح حقيقة واقعة. والعلامات التحذيرية التي وضعها مكتب المستشار الخاص تشمل: الانتهاكات الخطيرة وعلى نطاق واسع لحقوق الإنسان، لا سيما إذا شكلت أنماطاً سلوكيةً راتبة ومتكررة، والدوافع أو الحوافز المحتملة التي يمكن استخدامها لتبرير استخدام العنف وإلحاق أذى جسدي أو روحي خطير ضد مجموعات معينة من السكان، وإخضاع هذه المجموعات وغيرها، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، عجز هياكل الدولة التي ينبغي أن تعمل على حماية السكان المدنيين…إلى غير ذلك من العلامات. لكن، ورغم ما حدث في الجنينة من فظائع تجاه إثنية المساليت، فإن العديد من أطراف المجتمع الدولي لاتزال تحاجج حول ما إذا كانت تلك الفظاعات تستوفي تعريف الإبادة الجماعية. وحتى إذا كانت حجج هولاء منطقية، فلا يجب أن يتعثر المجتمع الدولي في جدل قانوني حول ما إذا كانت هذه الفظاعة تستوفي تعريف الإبادة الجماعية أم لا، وذلك إذا كنَّا جادين في منع الإبادة الجماعية أو وقفها في المستقبل. فبحلول الوقت الذي نتحقق فيه من أنَّ فظاعة بعينها استوفت التعريف، ربما يكون أوان التحرك قد فات، وعلينا أن ندرك علامات الاقتراب أو احتمالية وقوع الإبادة الجماعية، حتى نتمكن من العمل في الوقت المناسب لتجنبها، كما أشار عن حق الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان.
إن المجازر والانتهاكات الفظيعة في السودان لن تردعها الإدانات وبيانات الشجب، بل تستوجب أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في حماية السكان المدنيين السودانيين، بدءا من استخدام الصلاحيات المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، البند السابع، لفرض وقف إطلاق النار وتوصيل المساعدات الإنسانية للسكان خاصة النازحين واللاجئين، حظر دخول الأسلحة الى السودان، إصدار عقوبات دولية صارمة على الدول التي تدعم استمرار الحرب في السودان وتمكن استمرار حدوث هذه الجرائم والانتهاكات في خرق فاضح لقرارات الشرعية الدولية، وعلى رأسها قرار مجلس الأمن 1591، توسيع نطاق عمل وولاية لجنة التحقيق الدولية التابعة لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وإلزام الأطراف المتحاربة بقبولها والسماح لها بالوصول غير المشروط إلى جميع مناطق السودان للتحقيق في الانتهاكات التي تم ارتكابها خلال هذه الحرب.
نقلا عن االقدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة المجتمع الدولی الدعم السریع یونیو حزیران فی السودان ما حدث فی إذا کانت ما إذا
إقرأ أيضاً:
مظاهرات كسر الصمت.. فلسطينيو 48 يرفضون حرب الإبادة والتجويع في غزة
القدس المحتلة- شهدت بلدات عربية داخل الخط الأخضر نهاية الأسبوع تظاهرات واحتجاجات شارك فيها مئات الفلسطينيين في الداخل، استجابة لدعوة "لجنة المتابعة العليا" واللجان الشعبية والقوى السياسية والطلابية.
تأتي هذه المظاهرات في ظل حملة قمعية غير مسبوقة، طالت نحو 3 آلاف من فلسطينيي 48 منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعرضوا لاعتقالات أو تحقيقات أو وجهت لهم لوائح اتهام، إضافة للاعتقالات الإدارية والاعتداءات الجسدية، وتجريم العمل السياسي، في محاولة لإرهاب المجتمع وردعه عن أي نشاط مناهض للحرب.
وتحوّلت مداخل بلدات عربية وشوارعها الرئيسية إلى نقاط احتجاج حملت رسائل ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وضد سياسة الإبادة الجماعية والتجويع الممنهج التي يتعرض لها الفلسطينيون هناك.
"كسر الخوف"ورفع المتظاهرون الأعلام السوداء ولافتات تحمل صور أطفال قضوا جوعا، إلى جانب شعارات تدين الاحتلال وتستنكر استمرار العدوان والحصار، أبرزها: "التجويع جريمة حرب" و"لا للإبادة الجماعية" و"افتحوا المعابر" و"نجوع ونعرى ولكن لا نركع" و"الحرب دمار للإنسانية".
وفي مشهد رمزي مؤثر، قرع المحتجون الأواني تعبيرا عن الغضب بسبب منع إدخال الغذاء إلى غزة، مرددين هتافات تطالب بإنهاء الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية فورا، وأخرى تندد بسياسات الحكومة الإسرائيلية واستمرارها في خنق القطاع.
ووَّثقت الجزيرة نت عبر تقرير ميداني أجواء هذه المظاهرات، التي اعتبرت نقطة تحول في مسار الحراك داخل أراضي 48، لا سيما بعد شهور من القمع والملاحقات التي استهدفت كل من عبر عن موقف سياسي أو إنساني تجاه الحرب على غزة.
وتحدث المشاركون عن "محطة كسر الخوف"، واعتبروها انطلاقة ضرورية نحو توسيع رقعة الاحتجاجات وتعزيز صوت الداخل الفلسطيني في وجه السياسات الإسرائيلية القمعية.
إعلانورغم القبضة الأمنية المشددة، يرى منظمو الحراك أن هذا النشاط يشكل خطوة أولى نحو تحرك شعبي أوسع، يعيد إلى فلسطينيي الداخل دورهم التاريخي كجزء لا يتجزأ من النضال الفلسطيني.
وأكد مشاركون للجزيرة نت على أهمية "كسر الصمت"، وخلق أدوات نضال جديدة تتجاوز الخوف، وتُراكم خطوات نضالية على الأرض، نصرة لغزة ورفضا للتمييز والعنصرية والإبادة الجماعية.
وبهذا المشهد، يُفتح باب جديد أمام الداخل الفلسطيني لتثبيت حضوره كقوة حية في مواجهة الحرب الإسرائيلية، وكشريك أصيل بمقاومة مشاريع الإبادة، عبر فعل شعبي منظم يعيد الاعتبار لصوت الجماهير وحقها في التعبير والاحتجاج.
يقول رئيس اللجنة الشعبية في مدينة "باقة الغربية" الشيخ خيري إسكندر، إن هذه التحركات والاحتجاجات تأتي "في لحظة فارقة، تعكس كسر حاجز الخوف الذي فرض بالقوة منذ بدء معركة "طوفان الأقصى"، حيث عمدت المؤسسة الإسرائيلية لقمع أي تعبير عن التضامن مع غزة، بالاعتقالات والملاحقات وتكميم الأفواه.
وأوضح أن الموجة الاحتجاجية الراهنة تُمثِّل امتدادا طبيعيا لمسار طويل من النضال الذي خاضه فلسطينيو الداخل منذ النكبة 1948، بوجه سياسات الإقصاء والتهميش ومحاولات محو الهوية الوطنية.
ولفت إلى أن فلسطينيي الداخل، الذين واجهوا لعقود طويلة الحكم العسكري، ومشاريع الأسرلة، وقوانين التمييز العنصري، يجددون اليوم حضورهم السياسي والإنساني برفضهم الصريح لسياسات الحرب والتجويع والإبادة التي تُمارَس بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
وأشار إلى أن أبناء الداخل الفلسطيني دفعوا أثمانا باهظة خلال هذه الحرب، لمجرد تعبيرهم عن مواقف إنسانية ووطنية مناهضة للعدوان، إذ واجهوا حملات قمع واعتقالات وتحريض ممنهج.
وشدد على أن كسر حاجز الخوف يمثل نقطة تحول مفصلية في المشهد، وأنه لا مجال بعد اليوم للصمت أمام مشاهد الموت جوعا، التي تطال الأطفال والنساء في غزة تحت حصار خانق وعدوان مستمر.
من جهته، قال الناطق باسم مؤسسة "أنصار الحق" للإغاثة، مآب غنايم، إن الحراك الشعبي لفلسطينيي 48 ليس وليد اللحظة، بل بدأ منذ الأيام الأولى للحرب على غزة، لكنه وُوجه بقمع شديد من المؤسسة الإسرائيلية التي عملت على ترسيخ حالة من الخوف والترهيب ومنعت أي تعبير جماعي عن التضامن.
غير أن هذه الحالة -بحسب غنايم- تحطمت تحت وقع مشاهد الإبادة والتجويع التي تبث على الهواء مباشرة، وتكشف حجم الكارثة الإنسانية التي يواجهها سكان غزة، مبينا أن كسر حاجز الخوف تجلى بشكل واضح بأول حراك وحدوي وقطري شامل لفلسطينيي الداخل، الرافض لحرب الإبادة والتجويع.
وأوضح أن هذا التحرك جاء أيضا في لحظة سياسية فارقة، حيث بات واضحا للمجتمع الدولي أن الحرب على غزة فقدت مبرراتها المعلنة، ولم تعد وسيلة لاستعادة الأسرى الإسرائيليين، بل أداة يستخدمها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لضمان بقائه السياسي في سدة الحكم.
وأكد غنايم أن الفلسطينيين بالداخل تجاوزوا مرحلة الصمت، وخرجوا للتعبير عن صوت غزة، وشدد على أنه وبحكم موقعهم الجغرافي، سيكونون في الخط الأمامي لدعم غزة، سياسيا وميدانيا، عندما يفتح المجال لتقديم الإغاثة والمساعدة الإنسانية.
ووجه رئيس اللجنة الشعبية للدفاع عن الأرض والمسكن في أراضي الـ 48، أحمد ملحم، انتقادات لاذعة لبعض الأنظمة العربية والإسلامية، واتهمها بالتخاذل والصمت في مواجهة ما وصفه بـ"حرب الإبادة والتجويع" التي تمارس ضد قطاع غزة.
إعلانوأعرب عن استغرابه من غياب أي ضغط دبلوماسي جاد على إسرائيل لوقف العدوان، رغم المشاهد الصادمة التي تتوالى يوميا من القطاع، والتي توثق كارثة إنسانية غير مسبوقة.
وأكد أن مواقف بعض الحكومات العربية لا تعبر عن نبض شعوبها، التي تبدي تضامنا واسعا مع غزة، مشددا على أن الصمت الرسمي والتواطؤ الإقليمي يطيل أمد المعاناة، ويمنح غطاء سياسيا لاستمرار الحرب.
ودعا إلى تحرك عربي وإسلامي حقيقي، يجسد الحد الأدنى من المسؤولية تجاه شعب يُذبح جوعا وترتكب بحقه جرائم جماعية على مرأى ومسمع من العالم، مشيرا إلى أن أبناء الداخل الفلسطيني دفعوا ثمنا باهظا في مقابل تعبيرهم عن مواقفهم الإنسانية المناهضة للعدوان على غزة.
وختم مؤكدا أن هذا الحراك الشعبي لن يتوقف، وسيواصل تصعيده وتوسيع رقعته، حتى تتوقف حرب الإبادة والتجويع، داعيا الأمتين العربية والإسلامية إلى تحمل مسؤولياتهما والتحرك الفوري لوقف "الجريمة الإنسانية المتواصلة".