بوابة الوفد:
2025-06-02@19:55:38 GMT

علم الكلام الإسلامى المعاصر وقضاياه

تاريخ النشر: 21st, June 2024 GMT

بداية ما المقصود يعلم الكلام الإسلامى المعاصر، وهل ثم اختلاف بينه وبين علم الكلام القديم، وما قضاياه التى سيعالجها وهل تتشابه مع قضايا العلم القديم؟!
مما لا شك فيه فإن لكل عصر من العصور مفكريه، ولكل عصر قضاياه تفرضها مستجدات ومستحدثات الأمور، وما يقتضيه فقه الواقع وما تفرضه نظرات ووجهات نظر المفكرين فى تعاملهم مع المشكلات.


لكن كثير من الناس، خصوصا العوام غير المتخصصين فى الفكر الفلسفى الإسلامى لا يعلمون تقسيمات الفلسفة الإسلامية وفروعها ومباحثها وتعريفاتها.
لذا ينبغى علينا التوضيح، لكن باختصار حتى لا يتفلت من بين أيدينا الموضوع الرئيس.
نبدأ بتعريف الفلسفة الإسلامية بعيدا عن التعريفات الكلاسيكية التقليدية، فإنها محاولة لإبراز وجهات النظر حول مشكلاتنا وقضايانا التى تتعلق بالفكر الإسلامى قدر طاقة الإنسان المفكر، فهى محاولة للتعرف على وجهات نظر الباحثين حول قضية التجديد، تجديد الخطاب الدينى، ورأى الفقهاء وعلماء الدين حول هذه القضية وموقف المفكر منها، كذلك كقضية دراسة الفرق التى طفت على سطح الساحة الفكرية، كفرقة القاديانية، وفرقة البهائية والبرهانيون، والقرآنيون، وفرق الشيعة التى لاح نجمها فى الظهور بعد الاستتار الطويل والتقية.
ومن هنا جاء التقسيم إلى ثلاثة فروع، علم الكلام، فلاسفة الإسلام، التصوف، ثم فرع رابع ألا وهو علم أصول الفقه.
أما بالنسبة لمباحث الفلسفة الإسلامية، مبحث الله، مبحث العالم، مبحث الإنسان.
إلا أننا سنكتفى ها هنا بالحديث عن علم الكلام، الذى غرضه الدفاع والنفاح عن العقيدة الإسلامية ضد ما أثير حولها من شبهات غرضها تشويه المعتقد والتشكيك فيه وفى مسلماته.
يمكننا أن نقسم علم الكلام - تقسيم من عندياتى -  علم كلام قديم، علم كلام حديث، علم كلام معاصر.
أما علم الكلام القديم فيمثله الفرق الكلامية كالشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة والاشاعرة ومتأخرى المتكلمين كالماتريدية.
أما علم الكلام الحديث، فيمثله موقف علماء الدين وأنصار الفكر الإسلامى من قضايا التجديد، متمثلا فى المجددون فى الإسلام، الذين حاولوا توظيف النص لخدمة قضاياهم المعاصرة وقت وجودهم، لكنهم كانوا متمسكين بظاهر النصوص، لذلك أرى أن محاولاتهم لم تحقق الغرض المرجو منها كمحاولات إقبال، ووحيد الدين خان، وأمين الخولى، ومن قبل هؤلاء العز بن عبد السلام، ومن وجهة نظرى أن هذه المحاولات كانت ذات نظرة أحادية ضيقة الأفق، لماذا لأن المعول الرئيس فيها الاعتماد الكامل على النص ممثلا فى القرآن والسنة دونما إعطاء العقل فرصته فى التألق والإبداع، التمسك بظاهر النص دونما الغوص فى باطنه.
أما علم الكلام المعاصر فالأمر جد مختلف بمعنى حدوث طفرة فكرية معتبرة قادها ولا يزال يمسك بزمامها أئمة متكلمون على قدر كبير من التنوير والثقافة والفكر الإسلامى المستنير ممثلا فى الأزهر الشريف ورجالاته، التنوير بغيتهم والتجديد المستنير هدفهم، التنوير القائم على العقل دونما إهدار للنقل، بمعنى الحفاظ على عراقة وأصالة النصوص وفى نفس الوقت توظيفها لخدمة واقعنا المعاصر، وهذه هى أبهى وأروع صور التجديد، فليس المهم ارتداء بذة وخلع العمامة والجبة والقفطان، المهم لا نخلع عمامة الدين من عقولنا وقلوبنا ونستبدلها ببذات مستوردة بغرض الحداثة والمعاصرة، فحداثتنا ومعاصرتنا لا تكون إلا بالحفاظ على هويتنا التى هى فى الأساس حفاظا على ثوابتنا، وتوظيف هذه الثوابت لخدمة واقعنا المعاصر الذى نحياه.
لكن السؤال هل الفروع الثلاثة من الممكن فصلها عن بعضها البعض، نقول لا يمكن بحال من الأحوال، فالهدف واحد والغاية واحدة، والمنهج واحد، لكن قد يكون الاختلافات فى طرح القضايا والمشكلات وفقا لكل عصر من عصور الفكر الإسلامي.
فعلى سبيل المثال لم يكن ثم علم كلام على عهد النبى لأنه كان صلىى الله عليه وسلم المرجع فى الحيرة، لكن بعد وفاته وبعد توسع الخلافة الإسلامية وامتداد الفتوحات الإسلامية إلى كل الدنيا بدأ الطعن على الإسلام وعلى نبيه والتشكيك فى ثوابته قرآنا وسنة بأيد خبيثة غرضها إثارة الفتن، وهو ما حدث فى العصر الحديث ويحدث الآن فى أيامنا من التشكيك فى نبوة محمد صلىى الله عليه وسلم وظهور مدعى النبوة، وظهور فريات وبدع كثيرة الدين منها براء كالتشكيك فى المعراج، والطعن على الصحابة وشتمهم وسبهم، وسب القرآن الكريم وحرقه وتدنيسه، فضلا عن حديث الرويبضة فى أمور الدين، وإثارة موضوعات قد تضرب المعتقد فى الصميم عند عامى الإيمان، بل وقد تخرب الدور والبيوت العامرة مثل أن الشرع لم يصرح ولم يجبر الزوجة على خدمة والدة زوجها، وخروج المرأة دون إذن زوجها، وارضاعها لأبنائها بالأجر من الزوج، أليست كل هذه موضوعات تطرح للمناقشة الجادة على طاولة علم كلام معاصر، ناهيكم عن كل من قرأ كتابا أو حفظ حديثا يتصدى للفتوى والدعوة، وهذا فى حد ذاته يستدعى وقفة جادة من علماء عدول يوضحون للناس خطورة هذا الأمر الجلل وأن ذلك فيه إهدار وتشويه للدين.
ومن ثم بات الأمر ملحا لوجود علم كلام معاصر.
فضلا عن ذلك ظهور المد الشيعى الذى كان متحصنا خلف عقيدة التقية، بات جليا الآن عبر عشرات الفضائيات التى تنشر شبهاتهم وفرياتهم ليلا ونهارا، عيانا بيانا، وظهر ذلك جليا فى نقل حى مباشر ما يحدث فى ذكرى استشهاد الإمام الحسين شهيد كربلاء رضى الله عنه من بدع وفريات سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم برىء منها.
وظهور مدعى النبوة فى كثير من امصار الدنيا وأنهم أنبياء آخر الزمان، وللأسف خبثاء الإنس يدعمونهم ويغدقون عليهم العطايا، كذلك ظهور الفرق التى تدعى التصوف مستخدمين رقصات وحركات غريبة التصوف الحقيقى منها ومن منسوبيها براء.
نعم نحن فى حاجة إلى علم كلام معاصر، متعقلن لضبط كل هذه الرزايا وإيقاف مدها وانتشارها.
نعم نحن بحاجة إلى علماء كلام جدد معاصرين على دراية وفهم واستبصار بقضايا الدين وبالشبهات والمؤامرات التى دوما ما تدبر لضرب هذا الدين فى صميمه.

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: علم الکلام

إقرأ أيضاً:

في الدرس الثالث للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في شهر ذي الحجة: نبي الله إبراهيم في ثباته قدم درساً للأنبياء والمؤمنين في كل مراحل التاريخ

 

 

الثورة /

 

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في درس الأمس، وصلنا في المقام الحاسم لنبي الله وخليله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» في قومه، في الاحتجاج عليهم، ما بعد تحطيمه للأصنام، وأثناء محاكمتهم له محاكمةً في محضر الناس، وأرادوا لها أن تكون أساساً وبدايةً ينتج عنها العقوبة الشديدة، التي يتخلصون فيها من نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ».

نبي الله إبراهيم احتج عليهم بما ذكره الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم من الحجج الدامغة، المزهقة لباطلهم، والتي أوصلتهم إلى درجة الاعتراف في أنفسهم على أنفسهم بما هم فيه من الظلم، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}[الأنبياء:64]، وصلوا إلى الاستيعاب التام لبطلان ما هم عليه، والإحساس بالذنب في ذلك، والإفلاس، وبُوهِتُوا، لم يبقَ لهم أي حُجَّة ولا أي مستند فيما هم عليه من باطل.

ولـذلك احتج عليهم ووبَّخهم، فيما ذكره الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في قوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[الأنبياء:66-67]، يوبِّخهم؛ لأن له فيهم مقامات كثيرة، ومنذ بداية مشواره معهم بدأ بأساليب مقنعة، ومتدرجة في الاحتجاج عليهم، في إيضاح الحقيقة لهم، للسعي إلى هدايتهم، وصولاً إلى اليقين التام إلى أن شعروا بالذنب فيما هم عليه؛ ولـذلك لم يعد لهم أي مبرِّر في عنادهم، وفي إصرارهم على ما هم عليه من الباطل في شركهم، فهو هنا يوبِّخهم، والمقام مقام توبيخ بالفعل، بعد كل الاستدلالات، والبراهين، والمقامات، والاحتجاج، الذي أوصلهم فيه إلى اليقين ببطلان ما هم عليه، فالمقام مقام توبيخ لهم، واحتجاج في نفس الوقت، يتضمن هذا التوبيخ الحُجَّة الكاملة، والنيِّرة، والدامغة، التي تزهق باطلهم، كيف يُعَبِّدون أنفسهم لغير الله، وهو لا ينفعهم بشيءٍ، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً، وليس هو إلهٌ لهم، الإله الحق هو الله وحده «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»! ولـذلك عندما قال: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[الأنبياء:67]، هي عبارة تَضَجُّر واستياء، من عنادهم وإصرارهم على الباطل، الذي قد اتَّضح لهم بطلانه.

قال لهم أيضاً في ذلك المقام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}[الصافات:95]، تقومون أنتم بنحت تلك التماثيل، من الحجارة والمواد التي تصنعونها منها بأشكال معينة، وبعد ذلك تقومون بعبادتها، وأنتم من قام بنحتها! أنتم عبيدٌ لله، هو الذي خلقكم، الحجارة التي تنحتون منها تلك التماثيل هي مما خلقه الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فكيف تعبدونها من دون الله؟!

ولـذلك دعاهم إلى أن يعبدوا الله، بعد أن نسف الشرك نسفاً كاملاً؛ لأنه معتقدٌ باطلٌ خرافيٌ، لا أساس له، ولا حُجَّة له، ولا مستند له، دعاهم إلى عبادة الله: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[العنكبوت:16]؛ لأن العبادة لله هي الحق، هو وحده من يستحق العبادة، غيره لا يستحق العبادة، حينما تُعَبِّد نفسك لغير الله، فأنت تظلم نفسك، وتسيء إلى نفسك، وتسيء إلى الله، وتسيء إلى أكبر حقيقة، حقيقة مهمة: حقيقة التوحيد لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأنه وحده الجدير بالعبادة؛ لأنه الخالق، المالك، الرازق، المُرَبِّي، المنعم، وإليه المرجع، له ملك السماوات والأرض وما فيهما؛ فلـذلك يدعوهم إلى أن يعبدوا الله.

العبادة لله عنوانٌ شامل، مؤدَّاه: الالتزام في مسيرة الحياة وفق هدى الله وتعليماته، هذا المؤدَّي الكامل لمفهوم العبادة لله، بالإذعان لله، والطاعة لله، والخضوع لأمره، والانتهاء عن نهيه، والتقوى للالتزام بأوامر الله، والحذر من مخالفتها، والحذر من المخالفة فيما نهى الله عنه، فهي تؤدِّي إلى الاستقامة على أساس العبادة لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فالخير في ذلك كله، فما الذي يصرف الناس للخروج عن هذا العنوان العظيم في مدلوله المهم، من الطاعة والالتزام، والاتِّباع لهدى الله، والتَّمَسُّك بتعاليمه، ما الذي يصرفهم عن ذلك؟! هل أنهم يريدون الخير لأنفسهم؟ الخير كله هو في أن يعبدوا الله، وأن يتَّجهوا وفق هدى الله وتعليماته، في إطار العبادة لله؛ لأنهم عبيدٌ لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الكل عبيدٌ لله «جَلَّ شَأنُهُ»، فالخير في الدنيا وفي الآخرة هو في ذلك.

{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}[العنكبوت:17]، ما يعبدونه من الأصنام مجرَّد أوثان، أصنام من الحجارة التي ينحتونها منها، أو المواد التي يصنِّعونها منها، لا تمتلك أي قدرة إضافية، ولا أي معنىً إضافي؛ إنما هم يسمُّونها- بالباطل- آلهة، وليست آلهة، بعد أن صنعوها بأشكال تماثيل لم تتحوَّل إلى آلهة، لا تزال بحالتها تلك التي هي عليها: لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع، ولا تضر، ولا تملك لهم رزقاً ولا موتاً، ولا حياةً، ولا نشوراً… ولا أي شيء، كذلك ما ينسجونه حولها من الأساطير والخرافات للترويج لها هو إفك، زور، وباطل، وأكاذيب؛ بهدف الترويج لها، فالاتِّباع للباطل يتفرَّع عنه الكثير من الباطل في التفاصيل.

{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا}[العنكبوت:17]؛ لأن الرزق هو من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، عندما نعود إلى نعم الله علينا، إلى متطلباتنا في هذه الحياة، كيف تأتي؟ ومن هو مصدرها؟ نجد أنه الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الرزق الذي نعتمد عليه في معيشتنا في هذه الحياة من أهم ما فيه: نعمة الماء، هي من الله، في المطر والغيث، في الأنهار… وغيرها، في العيون التي يجريها، نعمة النباتات… مختلف أنواع النعم هي كلها مما خلقه الله، ثم هو الرَّزَّاق «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الذي يمنحنا من هذه النعم من واسع فضله، ويهدينا أيضاً إلى الأسباب، إلى أسباب الرزق، ثم هو الذي يقدِّر للإنسان رزقه… وغير ذلك من التفاصيل المتعلقة بذلك، فهذا بيد الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}[العنكبوت:17]، ولهذا لا ينبغي أن يكون الهم المعيشي بالنسبة للإنسان صارفاً له عن الله، أو سبباً لدخوله في باطل، بل المفترض بالإنسان أن يكون همه المعيشي من الأسباب التي تدفعه إلى الله، تشدُّه إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، الذي هو الرَّزَّاق ذو القوة المتين، الذي بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير، الذي هو المنعم الكريم؛ فنعود إليه، ونعود إلى هديه، إلى تعليماته، فيما يدلنا عليه، ويرشدنا إليه، ويأمرنا به.

{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ}[العنكبوت:17]، اطلبوا منه هو، وخذوا بالأسباب التي يرشدكم إليها ويدلكم عليها، وكذلك عبِّدوا أنفسكم لله، عبِّدوا أنفسكم لله بخضوعكم لأمره ونهيه، والطاعة له، والامتثال لتوجيهاته وتعليماته، وبالرجاء والخوف والخضوع لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في مقام العبودية له «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

{وَاشْكُرُوا لَهُ}[العنكبوت:17]؛ لأنه المنعم عليكم بكل النعم، كل أنواع النعم من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فالشكر له.

{إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت:17]، مصيركم إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ليحاسبكم، ليجازيكم؛ ولـذلك أنتم بحاجة إلى الاستقامة، حتى يكون مرجعكم إلى الله إلى ما وعدكم من الجزاء العظيم، ولتسلموا من عذاب الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}[العنكبوت:18]، فهو في هذا المقام ما بعد تحطيم الأصنام، وما بعد تلك، وأثناء تلك المحاكمة، التي أرادوها أن تكون محاكمةً علنيةً في محضر الناس، وعلى مسمعٍ ومرأى من الناس، أضاف هذا المزيد من التذكير، ومن الحجج الواضحة والنيِّرة.

هم في مقابل كل ذلك لم يعد لديهم أي مستند أبداً، ولا أي تبرير، لقد بُوهِتوا، ولم يعد لديهم أي تبرير لما هم عليه من باطل؛ بل قد استوعبوا أنهم في حالة باطل تام، وأنهم يسيرون وراء الباطل، فماذا اتَّجهوا إليه؟

استمروا على عنادهم، ولذلك {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}[العنكبوت:24]، اتَّجهوا هذا الاتِّجاه العدواني المكابر، في مقابل الحق الواضح، والحُجَّة الواضحة، وطرح البعض منهم خيار القتل بأي وسيلة من وسائل القتل، والبعض طرحوا خيار الإحراق (الإعدام بالحرق بالنار)؛ على أساس أنه عقوبة أشد من القتل بأي وسيلةٍ أخرى، ثم اتَّجه الخيار لديهم على هذا الأساس: اختاروا حرقه بالنار.

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}[الأنبياء:68]، أرادوا أن تكون الطريقة التي يعيدون بها الاعتبار لأصنامهم المحطَّمة، ولمعتقدهم أيضاً تجاهها، الذي حُطِّم أيضاً مع التحطيم لها، أن يكون إعادة الاعتبار لذلك كله من خلال الإعدام لنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» حرقاً بالنار، أرادوا أن يكون ذلك زاجراً لغيره من الناس، وأن يُنهوا أي تأثير قد يكون لما قد حدث، من مقامات نبي الله إبراهيم فيما فيها من الاحتجاج، ولتحطيمه للأصنام، وما تلى ذلك أيضاً من الاحتجاج، فهم أصرُّوا على عنادهم، بدلاً من القبول بالحق، اتَّجهوا لمحاولة القضاء على نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ».

في محاولتهم للقضاء عليه، اختاروا الخيار الذي طُرِح عليهم، وهو: الإحراق له بالنار، وأرادوا أن تكون عملية الإحراق بشكلٍ مميَّز، ومختلف عن أي حادثة أخرى، أرادوا أن تكون العقوبة شديدة حينما اختاروا خيار الحرق بالنار، تتلاءم مع مستوى حقدهم، وغيظهم، وغضبهم، واستكبارهم، وأن تكون أيضاً تجريماً كبيراً لما قام به نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» في نظر المجتمع؛ فيرى فيما فعله أنه جريمة كبيرة جدًّا فوق كل الجرائم، والعقوبة عليها أشد من أي عقوبة تجاه أي ذنبٍ آخر.

النار هي قاتلة، وكان بالإمكان لقليلٍ من حُزَمِ الحطب أن تكون كافية، لأداء المهمة التي يريدون تنفيذها، لو كانت ستفيد يعني، لكنهم أرادوا أن تكون تلك النار هائلة وكبيرة، وأرادوا أن يساهم الجميع في تلك العملية: محاولة إحراق نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ».

{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}[الصافات:97]، يعني: لم يريدوا أن تكون العملية عملية عادية، كأي عملية إحراق، أرادوا أن تكون مختلفة عن غيرها، فأرادوا أن يجمعوا الكثير جدًّا من الحطب، وأن يبنوا بنياناً يجمعوا فيه ذلك الحطب، ثم يؤجِّجون فيه ناراً كبيرةً جدًّا، ثم يقومون بإلقاء نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» فيها، وبهذا يدفعون بالمجتمع إلى المشاركة في جمع الحطب، وإلى المشاركة في عملية البناء أيضاً، البناء لذلك البنيان، الذي يريدون أن يؤجِّجوا فيه النار، {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}[الصافات:97].

من الواضح أنه ما بعد عملية تحطيمه للأصنام، وإلى حين إكمال عملية البناء، وجمع الحطب، الكميات الكبيرة جدًّا من الحطب، أنه بقي محتجزاً لديهم، بقي في حالة احتجاز عندهم نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهم اتَّجهوا في العمل بجد، سواءً في مسألة البناء لذلك البنيان، الذي سيلقوه (من عليه، أو فيه)، على حسب اختلاف المؤرخين وأصحاب التفسير.

ثم عندما أكملوا بناء البنيان، وجمعوا الحطب، الذي ساهم في جمعه- حسب التاريخ- حتى الفقراء، دفعوهم لأن يساهموا في جمع الحطب، وحتى النساء، أرادوا للكل أن يكونوا مساهمين، وأرادوا أن يُحَسِّسُوا الكل بمسؤوليتهم- في ما يعبِّرون عنه هم- بنصرة آلهتهم، الكل أن يشارك، والكل أن يساهم، فجمعوا الكميات الكبيرة من الحطب، وهيأوا لعملية التنفيذ لإحراق نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ».

نبي الله إبراهيم في مرحلة الجمع للحطب، والبناء للبنيان، وإلى حين مرحلة التنفيذ والتحضير لبداية التنفيذ، في كل ذلك الوقت بقي ثابتاً، لم يتراجع عن مهمته الرسالية، عن إيمانه بالله، عن دعوته إلى الحق، وبقي مطمئناً، متوكلاً على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، مسلِّماً أمره إلى الله «جَلَّ شَأنُهُ»، قدَّم درساً من بعده للأنبياء وللمؤمنين في كل مراحل التاريخ، في ثباته، في توكله على الله، في تسليمه لأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وفي تسليم نفسه لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

أكملوا عملية البناء، وأكملوا جمع الكميات الكبيرة جدًّا من الحطب، وأشعلوا النار، فكانت نيراناً هائلة، وكبيرة، ومتأجِّجة، وجحيماً متأجِّجاً ومستعراً بالنيران، وأتوا بنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وأرادوا أن تتم عملية الإحراق- كما كانت عملية المحاكمة- في محضرٍ من الناس، ومشاهدة من الناس، وهم يحاولون أن يربطوا الناس بهذه القضية كقضية لهم، وكأن نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» خصمٌ لهم جميعاً، وأرادوا أن يجعلوا منها أيضاً وسيلةً لردع كل الناس، تكون عملية ردع؛ حتى لا يُفَكِّر أحد بأن يؤمن، بعد الذي اتَّضح من الحقائق والبراهين والأدلة على بطلان الشرك، وعلى التوحيد لله أنه هو المنهج الصحيح، والمعتقد الصحيح، فأرادوا أن يكون ردعاً لأي إنسان؛ حتى لا يتَّجه الاتِّجاه الصحيح، أرادوا أيضاً بحجم هذا الإحراق الكبير أن يكون راداً للاعتبار لأصنامهم، أن يرد ويعيد الاعتبار لأصنامهم.

نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» بعد أن أتوا به، وشاهد النيران الملتهبة والمتأجِّجة والمتسعِّرة، وشاهد الناس وقد جمعوهم (رجالاً، وكباراً، ونساءً، صغاراً) بمختلف فئات المجتمع، حشدوهم ليشاهدوا مشهد إحراقه، أمام كل هذا المشهد لم يتأثر، لم يتزلزل إيمانه، لم يتراجع عن مبدئه الحق، ولا عن دعوته، كان مطمئناً، متوكلاً على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

ثم قاموا بإلقائه إلى تلك النار، والناس يشاهدون، وهي في غاية الاستعار والتأجُّج، والدخان متصاعدٌ منها، والناس ينظرون إليها، ألقوا به إلى تلك النار، وهم واثقون أن ذلك يعني نهايته بالاحتراق فيها؛ وبالتـالي نهاية دعوته، ونهاية رسالته، ونهاية أي تأثير يمكن أن يكون قد حدث، من خلال ما عرضه من براهين وحجج وأدلة، أدلة في القول، وأدلة في العمل، في تحطيمه للأصنام، فهم كانوا مطمئنون؛ لأن ذلك سيكون موقفاً حاسماً للمشكلة معه، ونهايةً له، ولرسالته ودعوته.

بعد أن ألقوه في النار والناس يشاهدون، وهي بذلك المستوى الكبير جدًّا من التَّسَعُّر، ومن اللهب، ومن التأجُّج، كانت المفاجأة الكبرى، التي صدمتهم، وفاجأت الجميع من الناس الذين يشاهدون ذلك المشهد، كانوا يتوقعون أن يشاهدوه فيها وهو يحترق حتى يموت، وينتهي بين تلك النيران، تأكله، تأكل جسمه وبدنه؛ ولكن المشهد كان مختلفاً تماماً.

يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69]، بأمر الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» تحوَّلت النار من حارَّةٍ إلى باردة، ومن محرقةٍ إلى سلام، هذا بالنسبة لإبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» في حالها معه، عليه، تحوَّلت إلى باردة، وإلى سلام، لا تصيبه بأي ضُرٍ ولا أذى، لا من حَرٍّ ولا من برد، لا من حَرٍّ ولا من برد، في مشهدٍ إعجازيٍ عجيب، وآيةٍ عظيمة، بمرأى ومسمع ومحضرٍ من الناس بمختلف فئاتهم، فحينما وصل نبي الله إبراهيم بعد أن ألقوه إلى تلك النار، وصل إليها ولم يحترق بها، ولم يتضرر منها بأي ضررٍ إطلاقاً، فكان مشهداً مفاجئاً لهم، والكل من الحاضرين شاهدوا ذلك، وتفاجأوا بذلك، فهو وسط تلك النيران الهائلة، المتأجِّجة، المستعرة، هو بينها وهي لا تؤثِّر عليه إطلاقاً، وكأنه في وسط رياحٍ غير عاتية؛ إنما رُخاء لا تؤثِّر عليه بأي تأثير.

من المؤكَّد أن تلك المفاجأة غير المتوقعة لدى الناس قد أصابتهم بالدهشة، والذهول، والاستغراب، وشاهدوا هذا التغير الكبير في الوضع بكله، تحوَّل الموقف بكله، فإبراهيم الذي أراد أولئك الجهلة الكافرون من أتباع الطاغوت أرادوا إحراقه، وأرادوا إعدامه حرقاً بالنار، وإنهاء دعوته ورسالته، والتخلُّص منه، ها هو قد خرج من مؤامرتهم تلك سالماً، بآيةٍ عجيبة، منتصراً وعزيزاً، وخرج أيضاً بما يُعَزِّز موقعه على مستوى الحُجَّة والبرهان، بتلك المعجزة العجيبة والعظيمة، وعلى مستوى المكانة في نفوس الناس، والاعتبار لديهم والعِزَّة، أصبحت نظرة الناس إليه مختلفة، ما بعد محاولة الإحراق عمَّا قبل ذلك، الناس ينظرون إليه نظرةً مختلفة، فيما قبل، حينما قالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[الأنبياء:60]، وما بعد محاولة الإحراق، ونجاته بتلك الآية العجيبة والمعجزة الربانية، أصبحت نظرتهم إليه نظرة إكبار، واستغراب، وتعظيم، ونظرةً مختلفة.

ولـذلك فكل التَّحَوُّلات التي صنعها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في هذا الأمر التكويني للنار، كلها غيَّرت الواقع بشكلٍ كامل، وأبطلت كل كيد الأعداء؛ ولهـذا يقول الله: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}[الأنبياء:70]، وفي (سورة الصافات): {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}[الصافات:98]، (الْأَخْسَرِينَ)، و(الْأَسْفَلِينَ)، هم كانوا يستقوون على نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو بمفرده في مواجهة طاغوتهم، وباطلهم، وشرهم، لكنه يعتمد على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويثق به، ويُسَلِّم أمره لله، ويتحرَّك بثقة تامَّة بالله، فكانت هذه المتغيرات الكبيرة أوصلتهم هم إلى أن كانوا هم الأسفلين، وهو الأعلى، والأعز، والأعظم مَنَعَة، وكانوا هم الأخسرين؛ كيدهم ومخططهم الهادف إلى القضاء عليه، والقضاء على رسالته وعلى دعوته، وطرح اعتباره، وأن يجعلوه عبرةً لغيره، وأن يُعِيدوا الاعتبار لأصنامهم، مخطط لهذه الأهداف بكلها، أرادوا أن تكون الحالة التي يرى الناس إبراهيم عليها أن يروه مقتولاً، محروقاً، مستضعفاً، عاجزاً، وأن تنتهي دعوته ورسالته، بلا ناصرٍ ولا معين، ولا أحد يقف معه، فكانت النتيجة مختلفةً تماماً، وبشكلٍ عظيمٍ وعجيب؛ نصره الله وأعزه، إضافةً إلى البراهين والحجج التي سبقت في دعوته، مع هذا الإعجاز العجيب في قصة النار، التي حوَّلها الله برداً وسلاماً عليه، والناس أصبحوا ينظرون إليه بإعجاب وإعظام؛ فكانوا هم الأخسرين، وهو الفائز، والمنتصر، والأعز؛ وكانوا هم الأسفلين، وهو الأعلى، وأعطاه الله عِزَّةً ومنعة.

مشهد تحوِّل النار إلى بردٍ وسلام على نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، هذا المشهد الإعجازي العجيب يفترض أن يكون كافياً في إقناعهم جميعاً بالإيمان، في إذعانهم لهذا الحق، وفي القبول بهذا الحق؛ ولكنهم مع كل ذلك أصرُّوا وعاندوا، أكثرهم استمروا على الإصرار والعناد.

ما الذي يؤثِّر على الكثير من الناس هذا التأثير: أنَّه حتى بعد أن يشاهد من الدلائل العجيبة، التي هي في واقع الحياة، مع الأدلة والبراهين التي تبيِّن الحق بجلاء، حتى يصل لدى الإنسان قناعة واضحة عن الحق، ثم لا يُذعن، ولا يقبل بالحق، ما الذي يؤثِّر على الكثير من الناس في ذلك؟

نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» بيَّن ذلك فيما ذكره الله عنه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[العنكبوت:25]، الروابط بين الضعفاء والمستكبرين، وبين الكثير من عامَّة الناس، وبين وجهائهم، وذوي النفوذ فيهم، وذوي الترف والتأثير في أوساطهم، تؤثِّر على الكثير من الناس؛ فلا يقبلون بالحق حتى بعد جلائه بوضوحه، وقيام الأدلة والبراهين عليه، وظهور دلائل في واقع الحياة عليه، تلك الروابط الخطيرة جدًّا، التي تؤدِّي إلى ضلال الكثير من الناس.

وهذا ما تحدث عنه القرآن الكريم أيضاً في آيات كثيرة، منها: في (سورة البقرة)، وفي (سورة إبراهيم)، وفي سورٍ أخرى، في (سورة سبأ) أيضاً، في (سورة الصافات)، في سورٍ كثيرة في القرآن الكريم، في (سورة ص)… في غيرها من السور، البعض من الناس، بل الكثير من الناس، ما يجعله متشبِّثاً بالباطل، هو: علاقة وروابط مع مضلِّين، من ذوي التأثير عليه، ممن لهم: إمَّا مقام سلطة، وإمَّا مقام اجتماعي، وتربطهم بالآخرين هذه الروابط في مقامهم ونفوذهم الاجتماعي، أو السلطوي، أو السياسي، الكثير من الناس هذا سبب ضلالهم، هذا سبب إصرارهم على الضلال، سبب شقائهم، وهم في يوم القيامة- كما ذكر عنهم في هذه الآية المباركة، فيما ذكَّرهم به نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وفيما ذكَّرهم أنبياء آخرون، وفي مواضيع متعدِّدة من القرآن الكريم- في يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، يلعن بعضهم بعضاً، على أنهم كانوا في الدنيا في حالة من العصبية، سواءً من كانت روابطهم التي جعلتهم يتشبَّثون بالباطل روابط اجتماعية؛ فكانت عصبيتهم عصبية اجتماعية (قبلية، أو غير قبلية)، أو روابط سياسية، أو سلطوية، أو مذهبية… أو غير ذلك، وهذه حالة خطيرة مؤثرِّة على الكثير من الناس.

ولذلك فهو قد أتمَّ الحُجَّة عليهم، وأكمل مهمته عندهم، عند قومه في العراق، ماذا بعد هذه المعجزة العظيمة، الكبيرة، العجيبة، في أن يحوِّل الله النَّار عليه برداً وسلاماً؟! أليست كافيةً في أن يؤمنوا؟! ماذا بقي لكي يؤمنوا؟! ولـذلك تمَّت الحُجَّة بشكلٍ كاملٍ عليهم، وأصبحت ظروفه لا ينبغي فيها البقاء عندهم، لم يعد هناك أي إيجابية من بقائه في قومه في العراق، يمكن أن يفيد في مجتمعات أخرى؛ ولـذلك كان الخيار الذي هداه الله إليه بعد هذا المقام، وبعد عنادهم حتى ما بعد ذلك، كان الخيار هو الهجرة، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99]، لكن ما قبل الهجرة هناك أيضاً ثلاث مقامات ذكرها الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم:

منهـــا: محاججتـــه للمـلك:

والملك- كما يبدو من كتب التاريخ- كان حاضرٌ أثناء محاولة الإحراق لنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وظهور تلك المعجزة العجيبة والعظيمة، وكان ممن شاهدها، مع أعوانه في سلطته، وأيضاً بقية الناس.

الملك أراد أن يحاجج نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، الله ذكر قصة هذه المحاججة في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}[البقرة:258]؛ لأن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو الذي أحيا كل الكائنات الحيَّة؛ فهو ربُّها، المالك لها، وهي كلها مملوكاته ومخلوقاته؛ وبالتـالي هو الربُّ الحق، {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}[البقرة:258]، وبيده الحياة والموت، وهو الذي حفظ لنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» حياته وسط تلك النيران المستعرة المتأجِّجة.

قال ذلك الملك الطاغوت، المستكبر، الظلامي، المضل: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}[البقرة:258]، وهو يكذب بذلك؛ إنما يريد أن يكابر، وأن يصوِّر بعض أفعاله الإجرامية، كما قالوا أنه قتل شخصاً، وترك شخصاً آخر لم يقتله، من باب المكابرة والجدال، يصوِّرها وكأنها عملية إحياء وإماتة.

{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}[البقرة:258]، نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» الذي هو على صلةٍ بالله، بنور الله، بهداية الله، وفي أداء مهمته الرسالية يحظى برعايةٍ مستمرةٍ من الله، وهدايةٍ مستمرةٍ من الله، والله آتاه الحُجَّة والبرهان؛ ولـذلك نجد في كل مقاماته كان ما يقدِّمه من الدلائل، من الحجج، من البراهين، مزهقاً للباطل، ومنيراً على الحق، يوضِّح الحق، ويُثْبِت الحق، ويشهد للحق.

ولـذلك في هذا المقام- وبهدايةٍ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»- انتقل إلى حُجَّة تُبْهِت ذلك الطاغوت المستكبر الظلامي، الذي يسعى لإخراج الناس من النور إلى الظلمات، فنبي الله إبراهيم بهدايةٍ من الله، بنور الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، انتقل إلى حُجَّة، مع أن حُجَّتَهُ الأولى هي حُجَّة كافية: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}[البقرة:258]، لكن في مقابل ذلك الأسلوب الذي اعتمد عليه ذلك الملك الطاغوت، الذي وصل به الحال في طغيانه أن يقدِّم نفسه للناس على أنه إله، يدَّعي لنفسه الألوهية والربوبية، فنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» انتقل إلى حُجَّة تقطع عليه كل شغبه، وكل محاولاته التي هي من باب المكابرة، {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}[البقرة:258]؛ لأن الله هو المدبِّر لشؤون هذا العالم بكل ما فيه، وفي ذلك أيضاً ومن ضمن ذلك: الشمس، والقمر، والنجوم… وغير ذلك، فهو الذي يدير حركة هذا الكون، ويحرِّكه، ويسيِّره.

حينما قال له ذلك بُهِت الذي كفر، لم يبق لديه أي قدرة على أن يجيب بأي جواب، ولا أن يحاول أن يكابر بأي تعبير، فكان في الحالة التي عبَّر عنها القرآن الكريم: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}[البقرة:258]، كان مبهوتاً، لا يدري ما يجيب، لا يعرف ماذا يقول، وظهر في حالة عجز تام عن الرد على نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، فكان انتصاراً لنبي الله إبراهيم، وانتصاراً للحقيقة.

من المقامات أيضاً التي ذكرها القرآن الكريم ما قبل هجرة نبي الله إبراهيم من العراق من بين قومه: مقام ختامي مع أبيه:

له مع أبيه مقامات متعددة، منها: مقامات معه هو، ومقامات معه ومع قومه في حالةٍ مشتركة، لكن هذا المقام الختامي كان مقاماً خاصاً مع أبيه، وكان مشبعاً بالحرص الكبير على نجاته، على تذكيره، على هدايته، وأتى الحديث عن هذا المقام في (سورة مريم): {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[مريم:42]، فهو يتخاطب معه بهذا التخاطب، بهذا الأسلوب، أسلوب يعبِّر عن احترامه لمقام الأُبُوَّة، وعن حرصه الكبير على إنقاذه، وعلى هدايته، {لِمَ} يستنكر عليه أن يتَّجه إلى عبادة تلك الأصنام، التي لا تسمع أحداً، بما في ذلك من يدعوها، أو يعبدها، ولا تُبْصِر أحداً، بما في ذلك من يعكف عليها لعبادتها، لا تمتلك حتى مستوى ما يمتلكه الإنسان فيما وهبه الله إيَّاه من: الحواس، والأعضاء، والقدرات… وغير ذلك، {وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}[مريم:42]، يعني: لا يدفع عنك أيَّ شيء: لا ضرر، ولا خطر… ولا أي شيء.

{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[مريم:43]؛ لأن الله آتاه من العلم، والنور، والهدى، والرشد في مقام الرسالة والنُّبُوَّة، ما يكون هادياً لقومه ولأبيه وللكل، فهو حريص على هدايته؛ لأنه علمٌ يهدي، يهدي به إلى صراط الله المستقيم، الذي لا اعوجاج فيه، ولا معايب فيه.

{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:44]؛ لأن الشرك هو عبادة للشيطان في الواقع، طاعةٌ له؛ لأن الطاعة للشيطان فيما يوسوس به من العصيان لله، في مختلف أنواع المعاصي: من كبائر الذنوب، من الجرائم، من الشرك… وغير ذلك، الطاعة فيه هي معصيةٌ لله وعبادةٌ للشيطان؛ ولذلك يقول له: {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}[مريم:44]، الشيطان هو الذي يورِّطك، هو الذي يسعى أن يوقعك في ذلك الباطل الكبير، الذي هو من العصيان لله، وفي نفس الوقت له عواقبه، في العذاب الشديد، والهلاك، والخسران.

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم:45]، الله هو الرحمن، ونجد في هذه الآيات المباركة كم تكرَّر هذا الاسم من أسماء الله الحسنى: (الرحمن، الرحمن)، فالله هو الرحمن، عظيم الرحمة بعباده، وهدايته لعباده من منطلق رحمته بهم، وإلَّا فهو غنيٌ عن عبادتهم، وعن طاعتهم، لكنه رحيمٌ بهم، هدايته، ونعمه عليهم، ومظاهر ربوبيته بكلها، من منطلق رحمته بهم، ولكن الإنسان حينما يتَّجه هو الاتِّجاه الذي يسير فيه مع الشيطان؛ يعرِّض نفسه لعذاب الله، ويستحق عذاب الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

كانت ردة فعل والده أو أبيه، سواءً كان عمه أو كان الأب، على اختلاف المؤرخين والمفسِّرين، القرآن يعبِّر هذا التعبير: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ}[مريم:42]، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46]، كان موقفه موقفاً حاسماً، موقفاً مقاطعاً لنبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، ومهدداً، فهو لا يريد أبداً أن يسمع مرةً أخرى من نبي الله إبراهيم أي دعوةٍ له إلى التوحيد، وإلى ترك الشرك، ويهدِّد بأنه إذا تكرَّر منه ذلك مرةً أخرى، فسوف يعاقبه بالإعدام، الرجم يعني: أن يقتله بالرجم بالحجارة… أو بأي وسيلةٍ أخرى إذا كان هذا التعبير يدل عليها: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}[مريم:46]، فهو يهدِّده ويمنعه منعاً باتاً من أن يدعوه مرةً أخرى إلى ترك الشرك والعبادة لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».

{وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46]، هو يطلب منه أن يغادر من عنده، وأن يهجره دهراً طويلاً، فهو لا يريد حتى بقاءه معه، أو زيارته له، ولا يريد قربه منه أبداً، فهو بهذا يطلب منه أن يغادر عنه تماماً.

{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ}[مريم:47]، هذا السلام هو سلام موادعة ومتاركة، بما أنه لا يريد أن يراه مرةً أخرى، ولا أن يسمعه مرةً أخرى، ولا أن يكون قريباً منه، متواجدًّا لديه، {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47]، وهذا الوعد هو الذي وعده إيَّاه، كما ذكر الله في آيةٍ أخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}[التوبة:114]، نبي الله إبراهيم كان لا يزال يؤمِّل أن يتوفَّق أبوه للهداية، فالاستغفار هذا هو معناه: أن يطلب من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أن لا يعاجله بالعقوبة، وأن يهديه، ليس معناه أنه يطلب له المغفرة مع بقائه على الشرك، هذا غير وارد إطلاقاً.

{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}[مريم:48]، فهو هنا يبيِّن أنه قد قرَّر- وبإذنٍ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»- أن يعتزلهم، وأن يهاجر من عندهم، وأن يتركهم تماماً.

هناك أيضاً مقام آخر ذكره الله في القرآن الكريم، لنبي الله إبراهيم وللمؤمنين الذين آمنوا معه:

وهناك اختلاف في كتب التاريخ وكتب السِّير عن عدد الذين آمنوا معه، من المعروف أنَّ زوجته كانت آمنت به، وكذلك لوط، وهو من أقاربه، ثم إنَّ الله أيضاً بعثه نبياً، وستأتي قصة نبي الله لوط «عَلَيْهِ السَّلَامُ» في قصة نبي الله إبراهيم بعد هجرته إلى الشام، فالبعض يذكرون أنَّ هؤلاء فقط هم من آمنوا بنبي الله إبراهيم، والبعض يقول: [أن البعض من قومه، القلة القليلة من المستضعفين منهم، آمنوا كذلك بنبي الله إبراهيم].

هناك مقام ذكره الله في القرآن الكريم هو ما قبل هجرته، وقد يكون ما قبيل هجرته ومن معه، يقول الله «جَلَّ شَأنُهُ»: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة:4]، هذا مقام البراءة، مقام البراءة، فهم تبرؤوا من قومهم وما هم عليه من الشرك والكفر، والإصرار على ذلك، والمباينة للحق، والهدى، والرسالة الإلهية، والعداء لمبدأ التوحيد، فقطعوا كل روابط العلاقة معهم، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة:4].

وهذا المقام (مقام البراءة من قومهم) قُدِّم للمسلمين وللمؤمنين، ما بعد نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» في مختلف العصور والأجيال، في مقام الأسوة والقدوة، {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الممتحنة:4]، أسوة وقدوة؛ ولهـذا نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، ومن معه من المؤمنين، هم أسوة وقدوة في البراءة من أعداء الله؛ لأن الروابط مع أعداء الله على حساب الحق والدين، وفي مقابل التَّخَلِّي عن المبادئ والالتزامات الإيمانية والدينية، هي وزرٌ عظيم، وذنبٌ كبير، وفي نفس الوقت يترتب عليها: الإخلال بالالتزام بالحق والهدى، والخروج عن خط الاستقامة.

الروابط تتحوَّل بطبيعة التأثير فيها إلى التأثير على المواقف، التأثير على التَّوَجُّهات، على مستوى تمسُّك الإنسان بالحق وثباته عليه؛ ولـذلك فالقرآن الكريم يميِّز المؤمنين في الروابط، أن تكون روابطهم فيما بينهم، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة:71]، وأن يكونوا أُمَّةً متوحِّدة، متَّجهة على أساس الحق، وأن يفصلوا روابطهم بأعداء الله، وأعداء الحق، وأعداء الرسالة الإلهية، المحاربين لها، الصَّادِّين عنها، أن يفصلوا روابطهم عنهم بشكلٍ كامل، فما بالك أن تتحوَّل الحالة إلى حالة تبعية لهم، وولاء لهم! هذا هو ذنبٌ عظيم؛ ولهـذا حرَّم الله الولاء لليهود والنصارى في القرآن الكريم، إلى درجة أن يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]؛ لأنه يؤيِّدهم في مواقفهم، يتَّجه معهم، والاتِّجاه الذي هم فيه هو اتِّجاه صد عن سبيل الله، نشر للباطل والفساد في الأرض، ظلم في الحياة، مفاسد وطغيان… وغير ذلك.

فَقُدِّم هذا المقام من مقامات الأسوة والقدوة لبقية الأجيال؛ لأنهم آثروا فيه إيمانهم بالله، وآثروا فيه التَّمَسُّك بالحق، على حساب كلِّ الروابط الاجتماعية، ما بالك في حالات ليس هناك فيها أي روابط حتى اجتماعية! مثلما هو حال من يوالون العدو الإسرائيلي، لا روابط اجتماعية، ليست روابط مع آبائهم، وإخوتهم، وأمهاتهم، وأخواتهم، ولا… عدوٌ هناك سيءٌ، مجرمٌ، ظالمٌ، باغٍ، متعدٍ، مسرف في الدماء، مستكبر، محتقر للناس، لا يعترف لهم حتى بأنهم بشر، في غاية الإجرام ومنتهى الطغيان، ليس فيه ما يَشُدُّ الناس إليه، ثم إذا بالبعض يوالونه مع كل ذلك! هذا شيءٌ مؤسفٌ ومحزن!

نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وبإذنٍ من الله، قرَّر الهجرة من بين قومه، وأذن الله له في ذلك، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الصافات:99]، الهجرة في سبيل الله عبَّر عنها بهذا التعبير: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي}[الصافات:99]؛ لأن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو سيرعاه برعايته أينما كان، ولو كان سيترك قومه، ويترك أقاربه، ويترك بلده وموطنه، لكنه في مقابل تمسُّكه بالحق، سيحظى برعايةٍ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهو آثر الحق الذي من عند الله، والعبادة لله، والطاعة لله، فوق كل الاعتبارات.

يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:71]؛ لأنه هاجر معه لوط «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو كذلك كان عظيماً في إيمانه، كاملاً في إيمانه، وبعثه الله رسولاً- كما سيأتي أيضاً- ما بعد الهجرة إلى الشام.

الهجرة إلى الله في سبيله، وفي الثبات على نهجه، وإلى حيث يمكن الالتزام بتعليماته وتوجيهاته، وفي أفقٍ واسع، أفق جديد للرسالة الإلهية؛ ولـذلك لم يكن من خسر هو نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، بل قومه هم الذين خسروا، قومه الذين تمسَّكوا بالطاغوت، وتركوا نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، الذي منحه الله النور، والرشد، والهدى، والعلم؛ لهدايتهم، فلم يؤمنوا به، ولم يتَّبعوه، وتمسَّكوا بطاغوتٍ، ظالمٍ، مجرمٍ، يُضِلُّهم، يتَّجه بهم إلى النار، وتركوا النهج الحق، وتركوا نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، الذي هو نعمةٌ عظيمةٌ عليهم من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فيما منحه الله من كمالٍ إنسانيٍ، وإيمانيٍ، ورساليٍ عظيم، في رشده، في هدايته، في مقام الرسالة والنُّبُوَّة أيضاً، إبراهيم الذي يحمل الرشد، والنور، وسلامة القلب، وزكاء النفس، وكمال الأخلاق، تركوه؛ فخسروا؛ أمَّا هو فهاجر، وفتح الله له آفاقاً واسعة في مهمته الرسالية على نطاقٍ واسع.

نتحدث- إن شاء الله- في الدرس القادم عن هجرته إلى الشام، وتلك المحطة: محطة نشاطه وعمله في الشام كمحطة مهمة، مما قصَّه الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» عن نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ».

أَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيه عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيْعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • في الدرس الثالث للسيد عبدالملك بدر الدين الحوثي في شهر ذي الحجة: نبي الله إبراهيم في ثباته قدم درساً للأنبياء والمؤمنين في كل مراحل التاريخ
  • الشيخ يزبك: لا كلام قبل الانسحاب وإيقاف الاعتداءات وإعادة الإعمار
  • اللجنة الوزارية الإسلامية تؤكد دعمها لجهود مصر وقطر لوقف اطلاق النار بغزة
  • النقيب محمد مختار دوشان كان من المجموعة التى تحركت من كرري الى سلاح المدرعات
  • اللجنة الوزارية العربية الإسلامية بشأن غزة تعقد اجتماعا اليوم في عمّان
  • الاحتلال يعطل دخول اللجنة الوزارية المكلّفة من القمة العربية الإسلامية
  • 835 مطبوعة.. "الشؤون الإسلامية" تواصل تقديم خدماتها لحجاج قطر
  • حركة أمل وكشافة الرسالة الإسلامية شيّعتا الشهيد المسعف خضر فقيه في النبطية
  • غوص في تاريخ شفهي .. كلايف هولز وخرائط الكلام العماني
  • كيف جذب الحج اهتمام المستشرقين؟.. أستاذة تاريخ توضح