لا يمكننا قراءة علاقتنا بالعالم المادي والحسي في اتجاه واحد. يبدو أن وصم الأشياء المادية واتهامها واتهام من يهتمون بها أمر مغر على الدوام. ربما بدأت بالتفكير على هذا النحو بعد قراءة فيلسوف علم الاجتماع دانيال ميلر الذي يكتب عن علاقتنا بالمادة، مثل علاقتنا بالبيوت وتأثيثها وزخرفتها، والأشياء التي تملأ مساحتها، يقول ميلر: إن هذه الأشياء تعكس فاعليتنا وعجزنا في الوقت نفسه.
هنالك فيلسوف آخر أخذ هذا التفكير إلى بعد آخر، وهو بيونج شول هان الذي يشغل وظيفة أستاذ في جامعة دير كونست في برلين، وكان قد أصدر كتبًا اجتاحت المكتبات، وباتت تُعدّ بالنسبة لكثيرين طريقة لرؤية العالم بعين صافية. وبغضّ النظر عن فلسفته، التي سبق وأن كتبتُ في نقدها في مساحتي الأسبوعية هذه، إلا أنها مثيرة وجديرة بالنقاش، يرى شول هان كما يتضح في أحد حواراته النادرة الذي أجراه مع مجلة زيت فيزن، أن الجمال يشترك بين الشمع الذي يزيل الشعر والآيفون وبين منحوتات جيف كونز، إنه مهووس ومفتون بتتبع العلاقات بين هذه الأشياء وعندما يُسأل عن العلاقة بين هذه الأشياء يقول: إن ما يجمعها كلها هي الرغبة في الوصول للنعومة. فشاشة الآيفون وهيكله مصقولان وناعمان، هنالك شاشات أجهزة أخرى غير قابلة للخدش، والشمع أيضا يهدف لأن تكون البشرة ناعمة وملساء، كما أن منحوتات كونز ناعمة لا خدوش فيها ولا انكسارات. إلا أن شول هان يأخذ هذا التفكير في العلاقات لمساحة أوسع من مجرد التفكير في حميمية وجمالية المادة من حولنا عندما يفكر كيف أن هوسنا بهذه المادة الجميلة وتعريفنا للجمال في انعدام الخدش وفي تحقيق النعومة الخالصة يعكس خوفنا من الأذى، والطريقة التي ننظر بها للعالم، فيقول: «ماذا يضر وجود بعض الخدوش على سطح شيء ما؟ لماذا هذا السعي المحموم للحفاظ على السطح أملس؟» فلنفكر مثلاً في أن الوقوع في الحب لم يعد مسموحًا به، بل إن بعض اللغات مثل الفرنسية تعبر عنه بشكل سلبي ذلك لأنه يفضي للإصابة والأذى والجروح، علينا أن نتجنب العاطفة إذن حتى لا نتألم حتى لا يتم خدشنا. لقد قمنا بعكس هذا، إذن فعلى الأشياء المادية حتى المتناهية الصغر ألا تكون معرضة للكسر ولا التلوث عليها أن تكون برّاقة.
ومن ناحية أخرى يبدو أننا نعتمد على الأشياء لكي نعكس هويتنا، هذا السعي المحموم هو الآخر للتعبير عن الذات عند جيلنا كله. فنحن نرتدي الملابس التي تعكس ما إذا كنت «قوطيًّا» مثلاً أو «محافظًا» أو «كلاسيكيًّا» وغيرها من التنويعات. فنحن نشتري السيارة ونختار لونها كما نرى الحياة وكما نفضلها، وعندما أتجول مع صديقتي المفضلة في المحال التجارية، وعندما نُجرب قطعة ملابس فإننا نستخدم معجما من نوع: لكنني لا أحسُّ بها، كما لو أن هنالك رابطًا ميتافيزيقيًّا خفيًّا ينبغي أن يجمعنا حتى بالقميص الذي سنرتديه. نقول أحيانًا لا تشبهني هذه «العباية» إذ عليها أن تمثلني وأن تصدّرني للعالم وأن تُعلن عنّي، وأن تجعلني قابلة للتصنيف، حتى لا يتعرض لي إلا أولئك الذين يشبهونني وتمكنوا من التقاطع مع خياراتي المادية وفهموا دوافعها. أتجنب المختلفين بهذه الطريقة، وأتجنب أن يرفضوني، وأتجنب هذا الإيذاء الذي لم يعد مسموحًا به في عالم نريد أن نكون فيه محبوبين فحسب.
ما زلتُ أظن أن نقاشنا العام حول الماديات محدود، ويقمع المخيلة، الجميع يتحدث عن سياسات التوفير والادخار، نمزح عاليًا بشأن ازدحام المجمعات التجارية في أيام الرواتب، لكن علينا أن نفكر فيما هو أبعد من ذلك. ما الذي يجعلنا مهووسين باقتناء هذه الأشياء؟ وما الذي ينقصنا في مجال العالم السياسي لكي نعوضه عبر الاستهلاك وعبر هذا السعار في التملّك والاقتناء، ولماذا تبدو الحرية الوحيدة المتاحة لنا هي حرية أن نرتدي القميص الذي نحسه؟.
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الأشیاء
إقرأ أيضاً:
ما الذي حدث بين باكستان وأفغانستان؟ وما علاقة الهند؟
اندلعت السبت اشتباكات حدودية بين القوات الأفغانية والباكستانية سقط فيها العشرات بين قتيل وجريح، ردا على غارات جوية باكستانية في أفغانستان وسط اتهامات من إسلام آباد لكابل بدعم جماعات مسلحة، وذلك قبل أن تعلن وزارة الدفاع الأفغانية في وقت لاحق من مساء أمس السبت انتهاء العمليات العسكرية.
ونحاول في هذا التقرير توضيح ما الذي حصل.
ماذا حدث في القتال الحدودي بين أفغانستان وباكستان؟اندلعت اشتباكات عنيفة بين القوات الأفغانية والباكستانية على طول خط دوراند الحدودي، شملت 7 ولايات أفغانية حدودية، وقالت وزارة الدفاع الأفغانية إن ذلك جاء ردا على غارات جوية باكستانية في أفغانستان الأسبوع الماضي، وأشارت باكستان إلى أنها ردت بنيران الأسلحة والمدفعية.
وأوقعت الاشتباكات خسائر في الأرواح والمعدات من الجانبين، وقال مسؤولون باكستانيون إن بلادهم أغلقت المعابر الحدودية مع أفغانستان اليوم الأحد.
وتأتي هذه الاشتباكات الأخيرة في ظل سياق تاريخي طويل من التوترات الحدودية، تفاقمت بعد عودة حركة طالبان إلى الحكم في كابل عام 2021. وخط دوراند نفسه لا تعترف به الحكومة الأفغانية كحدود رسمية، مما يضيف تعقيدا قانونيا وسياسيا للنزاع.
ما أسباب القتال؟القتال جاء كرد فعل أفغاني على غارات جوية باكستانية استهدفت العاصمة كابل وولايات خوست وننغرهار، وذلك وسط اتهامات من إسلام آباد لكابل بدعم مسلحي حركة طالبان باكستان وتوفير ملاذ آمن لهم في أفغانستان للتدريب والتخطيط وتنفيذ هجمات ضد باكستان، وهو ما تنفيه حكومة كابل وتؤكد أنها لن تسمح لأحد باستخدام أراضي أفغانستان لاستهداف دول أخرى.
وكانت حركة طالبان باكستان أعلنت الجمعة مسؤوليتها عن هجمات متزامنة استهدفت قوات الأمن الباكستانية في إقليم خيبر بختونخوا الحدودي مع أفغانستان، وأسفرت عن مقتل 23 شخصا، بينهم 20 عنصرا أمنيا و3 مدنيين.
صرح المتحدث باسم الحكومة الأفغانية ذبيح الله مجاهد اليوم الأحد بأن قوات أفغانية سيطرت في عمليات حدودية الليلة الماضية على 25 موقعا تابعا للجيش الباكستاني وقتلت 58 جنديا وأصابت 30 آخرين، لافتا أيضا إلى "مقتل 9 من قوات طالبان".
إعلانكما ذكرت أفغانستان أن 20 جنديا أفغانيا سقطوا بين قتيل وجريح.
ولم يصدر تعليق بعد من باكستان، لكن مسؤولين أمنيين باكستانيين قالوا إنهم أوقعوا خسائر في صفوف القوات الأفغانية دون ذكر عدد محدد.
وأعلنت كلتا الدولتين تدميرهما عددا من المراكز الحدودية للطرف الآخر. ونشر مسؤولون أمنيون باكستانيون لقطات فيديو قالوا إنها تظهر قصف مواقع أفغانية.
من الأطراف المتورطة في القتال؟أما الأطراف المتورطة في هذا القتال فتشمل القوات المسلحة الباكستانية التابعة للحكومة التي تديرها حركة طالبان، والجيش الباكستاني، وحركة باكستان طالبان، إلى جانب اتهامات باكستانية مباشرة للهند بتوفير التمويل والدعم لحركة طالبان باكستان.
وقالت كابل اليوم الأحد إنها أوقفت الهجمات بناء على طلب قطر والسعودية. وأصدرت الدولتان بيانين عبرتا فيهما عن قلقهما إزاء الاشتباكات.
الهند ليست طرفا مباشرا في القتال، لكنها متهمة من قبل باكستان بتمويل ودعم المسلحين الذين ينفذون هجمات داخل أراضيها، وهي اتهامات نفتها الهند.
كما أن الهند تستغل توتر العلاقات بين كابل وإسلام آباد لتعزيز علاقاتها مع الحكومة الأفغانية، وقد رفعت مستوى تمثيلها الدبلوماسي في كابل. وتعكس زيارة وزير الخارجية الأفغاني إلى الهند مؤخرا ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين تقاربا إستراتيجيا واضحا بين البلدين.
ويرى المحلّل الهندي برافين دونتي من مجموعة الأزمات الدولية أن "نيودلهي تعكف على توسيع نفوذها إلى كابل كي لا تبقى متخلّفة عن ركب خصميها الصين وباكستان"، كما "ترغب في الحصول على ضمانات أفغانية في مجال مكافحة الإرهاب، فضلا عن تعاون إقليمي في مجال الأمن".
كيف تبدو العلاقة بين الحكومتين الباكستانية والأفغانية؟رغم إعلان توقف المعارك بين الجانبين فإن مسؤولين محليين باكستانيين أفادوا بأن المعبرين الحدوديين الرئيسيين لباكستان مع أفغانستان، في طورخم وتشامان، أُغلقا اليوم الأحد، كما تم إغلاق 3 معابر صغيرة على الأقل في خارلاتشي وأنجور أدا وغلام خان.
ولا تزال العلاقة بين البلدين اللتين تمتلكان حدودا مشتركة طولها 2600 كيلومترا، متوترة للغاية وتتسم بالاتهامات المتبادلة والدعم المزعوم للجماعات المسلحة.
ويعكس التصعيد العسكري الأخير هشاشة العلاقة بينهما رغم دعوات دولية لضبط النفس، كما يعكس فشل الطرفين في بناء آلية أمنية مشتركة لضبط الحدود.
وقد يؤدي استمرار التصعيد إلى زعزعة استقرار المنطقة الحدودية خاصة في خيبر بختونخوا وبلوشستان، مما قد يدفع الجماعات المسلكة إلى استغلال الفوضى لتوسيع عملياتها.
كما قد يفتح التوتر بين كابل وإسلام آباد المجال لتدخلات إقليمية من الهند والصين وروسيا، وهو أمر لا تطمح باكستان إلى حصوله.