السفير جمال محمد ابراهيم

(1)

سَــوَاكِن . . هيَ جُـرحٌ في التراث وفي الهـوية ، مثلما هيَ قصّــةٌ في التاريخ.
فارقَ صديقي العزيز البروف بدر الهاشمي مسلســله المشـــوّق هذه المرّة ، ليتحفنا بكتابٍ ، ترجم مواده وحرَّرها على ذاتِ نسق كتاباته السّابقة . صدرَ كتابه الجـديـد عن مدينة "ســـواكـن" مُفتتح العـام 2024، عـن دار "باركــود" الـمُنـيـفـة بإصداراتها المُميّـزة، ترجمةً لما جـاء من عيون غربية وأيضاً عن عيونٍ سودانيةٍ هذه المرّة .

ولعلي ألمّح لصديقي أن يعمل نظره في اجتراح مسلسل لترجماته لما يتصل بتاريخ وطنه السّـودان ، ممازجاً بين أقلامٍ غربية وأخرى سُــودانية ، فـيتاح للقــرّاء الميامين- والميمون هو المبارك على أهله- النظر في المقارنة ، محتـوىً وشكلاً، بينَ الذي يصدرَ من "أقلامٍ غربية" وما يجيء من "أقلام سـودانية" .

(2)
يأخذك كتابُ "سَــواكِن" بما حوَى من ترجمات متنوّعة وعميقة وزاهية ، إلـى رحلة ثقافية ، تُريك مدينـةً من أقـدم المُدن التاريخية في السُّــودان: كـيـفَ سَـــمَقتْ وشمختْ ذات قرون ، ثم انزوتْ وتهاوتْ بقايا أطلال شاخصة ، تحدّث عن ظلم الطبيعة والإنسان معاً . مَـن يقرأ المقالات في ذلك الكتاب سـيرَى بعينيـهِ وبضميره، مبلغَ ذلـك الظـلم الذي ألمّحُ إليهِ في عبارتي هنا. ستمتعك المقالات بلا شـكٍّ وهي في عددها الثماني عشر ، وكاتبـوها غرباء وسودانيون ، وكلهم أهلُ اختصاصٍ، توزّعت مشاربهم من ينابيع التاريخ و الآثار والفنون والأدب الجغرافي.

لعلّ أكثر ما لفـت نظـري في كتاب صديقي الهاشمي ، هو عــدد من تناولـوا مرّةٍ بتركيزٍ أو بمساسٍ مخفّـفٍ مرّات، كتاباً وضعه "جرينلو" في أواخــر أعــوام أربعينات القرن العشرين، لافتا رالأنظار تلكم السنوات إلى مدينة "سواكن" المشرفة جغرفياً على البحرلأحمر، والرّاسخة تاريخاً لـقرونِ قبل ميلاد المســيح، ولقــرونٍ أطوَلَ منذ هجرة الرسول الكريم، عدّاً بأشهر قمرية. "جان جرينلو" مُعلِّم في الفنـون التشكيلية ، ومؤسِّس في سنوات الأربعينات تلك، كلية لتدريس الفن التشكيلي، ويعدّ مع تلاميذه الكثر من مثل المُبدع ابراهـــيم الصلــحي الذي جاورتْ لوحاته لوحات عبقري الرسم في القرن العشرين "بابلـــو بيكاســو"قبل أعوامٍ قليلة، والمُبدع الرّاحل عثمان وقيع الله الذي نسَخَ المصحفَ الشريف بأصابعِهِ الفنّانة، وزيّـن بخطه القدسيّ الجميل، المنبرَ والجُـدُر الداخلية لمسجد "ريجنـت بارك" في لندن ، الأكبر والأشهر في كامل قارة أوروبا. من تلاميـذ "جان جرينلــو" الكـبار أيضاً ومن رحــلوا مِـن دنيـانا، بعـد إبـداعٍ مشهود: شفيق شوقي وبسطاوي بغادي وشبرين . عــرف الناسُ بعدها أنَّ معظم هؤلاء من ذلك الجيل النبيل، هُم من شكّلوا ما عُرف في تاريخ الفـنِّ بـ"مدرسـة الخرطوم"، وهي أمُّ كلية الفنون التشكيلية في جامعة السودان حالياً في الخرطـوم المنهارة ، ردّ الله غربتها وحماها من تغوّلِ الجهــلة وقطاع طرق الحياة .

(3)
لن أخوض معك في مقـالي هذا، إلى ما تضمّن كتاب صــديقي الهاشـــمي مــن مقالاتٍ عمِلَ على ترجمتها وتحريرها ، وقـدّم لها الصديق السفير خالد فرح المعتمد في فرنسا، وهو تقديمٌ يناسب عمل السّــفير، إذ هـو من يمثل السودان رســمياً لــدى منظمة "اليونسكو" التي تعنى بالثقافة والعلوم والتربية والفنون، و"سواكن" في عيـنِ اهتماماته. عجبـتُ أن لا أرى موضعاً قـوياً لتلـك المدينة التي يظلمها التاريخ، عند منظـمـة "اليونســكو"، فذلـك ظـلمٌ يُضاف إلى ظلمِ الطبيعة والإنسان الذي حدثتـك عنه أوّل مقالـي. .
ولي أطياف من ذكريات قديمة ، عنتْ لي وأحببتُ أن أشارك القرّاء فيها ، وهي لا تبعد عن قصة كتاب صديقي الهاشمي. .

(4)
أوَّلُ طيفٍ من أطياف تلك الذكريات، يجيئـني إبّان سـنواتي القليلة موظفاً في مصلحة الثقافة . ومصلحة الثقافة تلك بالمناسبة، من إشراقات شخصين مهمّين عملا على إخراجها للناس من ضوضاء إعلام تسيّدته الإذاعة والتلفزيون من بعد. حينها تغيّر إسم الوزارة فـقـدّمتْ صفة الثقافة على صفة الإعلام، فصارت تُعرف منذ تلـك الأيام بإسمها الرَّاسِخ : "وزارة الثقافة والإعلام". مصلحة الثقافة تلك، هي من جليـل إبداع الفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي والمُفكروالوزير والدبلوماسـيّ منصـور خالــد، أوائل عـقـد السبعينات . كنتُ بشخصي ضمن ثلـة ممّـن ســمّتهم تلـك المصلحـة عن فطنـة بـِ "الروّاد الثقافيين", اختارهم الفنان المُبدع الصـلحـي في ترسيخ مهــام تلـك المصلحـة ودورها. من محاسن صُـدف تلك الأيّام، أن التـقـيتُ بمبـدعٍ آخـر كلّـفـهُ الصلحي بإدارة قـسـم السينما في مصلحة الثـقافـة، هو التشــكيلي والشــاعـر والسينمائي حسين مامون شريف. كنتُ وبحكم اهتماماتي الأدبية والفـنية وقـتـذً اك صديقاً قريباً من حُسـين ، أتابع مشروعاتٍ استغرقته وشغلَ نفسه بها تلكم الأيـام. من بين مشروعاته الابداعية في "قسم الســينما"، إنجــازه شــريطاً ســينمائياً عن "ســـواكن" عنـوانه "انتزاع الكهرمان". كان فتحاً غير مسبوقٍ لفيـلم رَعته وموّلته مصلحة الثقافة ، مزج التاريخ بالأسطورة والسِّــحر والتصوَف والشِّـعـر ، فكــان شريطاً سينمائيا ، كأنه قصيدة سينمائية مذهلة الإبداع، عن تلك المدينة التي ظلمتها الطبيعة مثلما ظلمها الإنسان..
تلك تجربة كانت تدور وقائعها أمامنا : أنا وصديقي التشكيلي المُبـدع محـمد عمر بشـارة والمصوّر السينمائي الألمعـي عبدالمنـعم عــدوي، وثلّـة من أصـــدقائي بمصلحة الثقافة، منهم الأستاذ عمر الأمين ود.محمد الأمين شريف ومحمد عبدالعال وعبدالوهاب البشير والتشكيلية نوال الكارب وفاطمة أحمدون والتشكيلي عبدالواحد الطريفي ، إلى جانبِ عددٍ آخر من مبدعين في مختلف مجــالات الفـنون ، خـذلـتني ذاكرتي عن ذكر أسمائهم ، مع عظيم تقديري لصحبتي لهم أجمعين.
إنَّ تجربة إنشاء "مصلحة للثقافة" لقصة تحتاج لتوثيق ، إذ هيَ من المنـارات التي استهدفتها تجربة نظام الانقاذ مثلها مثل مؤسسة السينما ، والتي خرج رائـدها المُبدع الرّصين علي محمد المـك من بلاده ليهلـك مِن غُصَصِ الأسـى في غربة الولايات المتحدة الأمريكية وفي نفسهِ السّمحة أشياءٌ من حتى وحتى وحتى. ظلتْ مصـلحة الـثـقافـة خلال سنوات "الإنقـاذ" الكالحة، أطلالاً مثل أطلال "ســواكن"، ولن أزيـد.

(5)
الطيف الثاني من أطيـافي، جاءني من ذكرياتٍ عشـتها حـولَ "سَواكِن"، وأنا ســـفيرٌ ثانٍ مُساعدٌ للسـفير المُعتمد في المملكة المتحدة، صـديقنا الرّاحـل د. حسـن عابدين، وهو اختصّ بالتاريخ قبل الدبلوماسية. دلفنا معاً إلى إدارة المتحف البريطاني تلبية لدعوة من مديره موضـوعها الاستجابة لمبادرة أطلقوها ونحن مشـاركون فيها ، وهي الشّـروع في فصل المعروض من آثار السودان وحفظه في قسم مستقل عن "قسـم المصريات" في المتحف البريطاني، وهو ما درج ذلك المتحف في اعتماده منذ سنوات الحكم الثنائي السابق . من بين العديد من جهودهم التي أطلعونا عليها في زيارتنا تلـك ، بعض بذلهم بعد اتفاقهم مع سلطات الآثار في السودان ذلك الزّمان لإعادة تأهيل وصيانة ما تبقّى من آثارِ أطــلال "سَـوَاكِن"، وانشــغالهم بتأهيلها ولملمة حراحات التاريخ في جسد تلك المدينة .
ليت السِّـفر الذي جاء من صديقي الهاشمي يقع تحت نظر أهل الآثار وهـم ممن أنهكهم همّ الوطن المستهدف هذه الآونة، من جهلة يتحيَّنون كلَّ سانحة لمحـو الناعم والصلب من أيّ أثر له صلة بالهوية والانتماء. إنّي أدرك صدق اهتمامهم بحفظها وصيانتها وترميم ما لحق ببعضها من إهمال ومن هدم لبعضها الآخر.

(6)
تظلّ "ســواكن" ، جرحاً قديماً ، صنعته الطبيعة وتواطأ معها الإنسان، حسرتا. .!
غير أني أكتب والحزن يطبق علينا جميعاً ، من جرّاء ما لحــق بالسودان من دمــار ينفطر له القلبُ قبـل العقل وقبل الضمير، لأسأل متى سينهض السّــودان مِـن كبـوَته المـاثلة ، أمْ سـتتركه الأقــدار رهْـناً لمصيـرٍ مثـل مصيـرِ "سَــواكِـن"، أطلالا آيلة إلى زوال. .
لك الشكرُ الأجزل والأكمل والأزهى يا صديقنا الهاشمي ، فـقـد نكأت بكتابك جرحاً على جرح ، وأسـىً على أسـى ، ولن يجدي البكاء وإنما الفعل الصادق ما يرفع قامتنا سامقة بين العالمين. .

القاهرة – 9/7/2024

jamalim@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الم بدع

إقرأ أيضاً:

بحضور وزير الثقافة السيد محمد ياسين صالح.. افتتاح معرض “معتقلون ومغيبون” في المتحف الوطني بدمشق.

2025-05-19Hassan Nasrسابق بحضور عدد من الصناعيين المغتربين.. جلسة حوارية بعنوان “مستقبل الاستثمار الصناعي في حلب” انظر ايضاً بحضور عدد من الصناعيين المغتربين.. جلسة حوارية بعنوان “مستقبل الاستثمار الصناعي في حلب”

آخر الأخبار 2025-05-19جامعة دمشق ومنظمة المنتدى السوري يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في ‏مجالات التنمية المستدامة والشؤون الإنسانية ‏ 2025-05-19مدير صحة طرطوس يتفقد واقع العمل في مركز الحسين التدريبي 2025-05-19خطاب يفوز على شرطة طرطوس في دوري الدرجة الأولى بكرة القدم 2025-05-19وزير الزراعة يبحث مع مؤسسة “مدد” للإغاثة والتنمية دعم التنمية المستدامة في المجتمعات السورية المتضررة 2025-05-19مراسلة سانا: اندلاع حريق كبير بمعمل للإسفنج والمستلزمات الصحية في مدينة صحنايا بريف دمشق وفرق الإطفاء تعمل على إخماده وسط صعوبات كبيرة بسبب المكان المغلق ووجود مواد ومشتقات نفطية سريعة الاشتعال 2025-05-19اجتماع في السورية للبريد لبحث سبل تطوير خدمات البريد بما يتوافق مع معايير الجودة العالمية 2025-05-19بريطانيا ترحب بتشكيل هيئتي العدالة الانتقالية والمفقودين في سوريا 2025-05-19ضبط كمية من الأسلحة وقذائف الهاون في القرداحة بريف اللاذقية 2025-05-19لأول مرة… سوريا تشارك في “منتدى التربية العالمية ‏EWF 2025‏” في لندن ‏ 2025-05-19الاتحاد الأوروبي يرحب بتشكيل هيئتَي العدالة الانتقالية والمفقودين في سوريا

صور من سورية منوعات دراسة علمية تكتشف علاجاً واعداً لاستعادة البصر 2025-05-14 اكتشاف آلية غير متوقعة وراء تلف القلب بعد النوبات 2025-05-09فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • أطباء بلا حدود: المساعدات القليلة التي سمحت “إسرائيل” بدخولها غزة مجرد ستار لتجنب اتهامها بالتجويع
  • “مبروكة” تعقد اجتماعاً لمتابعة سلامة موظفي وزارتها
  • “ما لم يُجدّد عقده” .. سالم يغيب عن كأس العالم!
  • “مبادرات” لتنمية الوعي الموسيقي وتعزيز الثقافة
  • وزير الدفاع اللواء المهندس مرهف أبو قصرة في تغريدة عبر X: تلقى الشعب السوري اليوم قرار الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على سوريا، وإننا نثمن هذه الخطوة التي تعكس توجهاً إيجابياً يصب في مصلحة سوريا وشعبها، الذي يستحق السلام والازدهار، كما نتوجه بال
  • موقع أمريكي: التهديد الذي يشكّله “اليمنيون” على عمق إسرائيل حقيقي
  • ما هو “مشروع إستير” الخطير الذي تبناه ترامب؟ وما علاقته بحماس؟
  • بحضور وزير الثقافة السيد محمد ياسين صالح.. افتتاح معرض “معتقلون ومغيبون” في المتحف الوطني بدمشق.
  • شاهد بالفيديو.. “كيكل” يتعهد بإنهاء الأزمة والذهاب للمناطق التي تنطلق منها “مسيرات” المليشيا
  • “أطباء بلا حدود”: الجحيم الذي يُقاسيه أهالي غزة يتفاقم كل دقيقة