أطباء في غزة: أعراض وأمراض هذه الحرب لم ندرسها في الطب
تاريخ النشر: 18th, July 2024 GMT
سرايا - لم يكن يخطر ببال الدكتورة نوال عسقول في يوم من الأيام أن الطب البشري والنفسي بالإضافة إلى ما درسته على مدار سنوات، سيقف عاجزاً عن فهم ما يحدث في التعامل مع الأمراض الغريبة والأعراض الأغرب بعد المجازر التي يتعرض لها قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
اعتادت الدكتورة عسقول، المتخصصة في الاضطرابات النفسجسمانية واضطرابات ما بعد الصدمة، أن تستقبل حالات للعلاج في بيتها الكائن قرب مجمع ناصر الطبي غربي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، لكنه تحول لبقايا نتيجة قصف الاحتلال واجتياحه المدينة، ورغم ذلك بات عيادة تعج بمئات الحالات بعد استحالة الحصول على علاج نفسي في ظل انهيار كامل للمنظومة الصحية نتيجة استهداف المستشفيات وإحكام الحصار على دخول المستلزمات الطبية والدواء.
وكان قطاع غزة يحتوي على مستشفى واحد للطب النفسي وقد تم تدميره في الأيام الأولى للحرب.
تقول عسقول "كمية الحالات ونوعيتها التي تزورني في المكان للعلاج، تحمل كماً كبيراً من الغرابة نتيجة هول ما حدث".
وتضيف "لا أكاد أصدق فظاعة الحالات التي تمر علي، فالأعراض غريبة لدرجة تجعلك عاجزا عن تقديم العلاج، والحالات بتفاصيلها القاسية لا تدل إلا على وحشية هذه الحرب التي لا يقبلها عقل ولا منطق ولا يحتملها بشر".
في العيادة، تتواجد سيدة ثلاثينية وقد أجهد عيونها الوجع، تحمل على يدها طفلها الذي لم يتجاوز الثلاثة أسابيع، تقول: "جاءني المخاض أثناء نزوحنا من خان يونس إلى رفح، وقد خرجنا والقذائف تدوي من فوق رؤوسنا، وما أن وصلت إلى عيادة في رفح وبعد خمس ساعات ولدت طفلي وكنت أعاني ألم الخوف وألم المخاض".
وتضيف "منذ اليوم الأول لولادتي لاحظت بأن طفلي يعاني من كحة مزمنة وبلغم كثيف في الصدر، وحين تم تصوير الصدر كانت النتيجة أن صور الأشعة للصدر نظيفة، وهنا كانت الصدمة".
وهنا تعلق الدكتورة عسقول: "مشكلة الطفل هي أن الأم تلقت صدمة الخوف من النزوح وصدمة الخوف من الولادة، وهاتان الصدمتان تلقاهما الطفل في طريقه خارجاً من رحم الأم بالإضافة إلى صدمة الخوف التي عايشها مع أمه في رحمها أثناء الحرب وصوت القصف والمجازر".
وتضيف: "تم إعطاء الطفل علاجاً للكحة لكن دون جدوى، والسبب هو أن هذا الرضيع يعاني متلازمة ما بعد الصدمة".
وفي حالة أخرى، والدة الطفلة ليان من ذوي الإعاقة وتبلغ خمسة عشر عاماً، والتي فقدت المقدرة على النطق والأكل بعد مجزرة رفح في 26 أيار التي خلفت عشرات الشهداء والإصابات أغلبهم من الأطفال والنساء، تقول: "في الحادث الذي هز المنطقة صرخت ابنتي صرخة مدوية، وبعدها فقدت الشهية وقل وزنها في غضون أسبوعين".
وتضيف "عرضت ليان على أكثر من طبيب وأخبروني أن الأمر عبارة عن صدمة ولا علاج لها طبياً، بل إنها تحتاج علاجاً نفسياً مكثفاً".
تتدخل الدكتورة عسقول بالقول إن "تحرير الصدمة يحتاج إلى فتح مسارات الطاقة في جسد المصاب.. وفي الجلسة الثانية من العلاج وبينما كنت أقوم بذلك صرخت ليان "خلص يا الله بكفي".
ويمثل الأطفال الشريحة الأكثر معاناة من ضمن سكان غزة، إذ أظهرت العديد من المقاطع المصورة كثيرين منهم وهم يرتعدون خوفا بعد تعرض منازلهم للقصف، ويرى مختصون ومعالجون نفسيون أن آثار الصدمة على الأطفال قد تستمر طويلا.
هذا وحذرت خبيرة أممية من مخاطر الحرب النفسية لدى سكان القطاع، خاصة الأطفال بالقول "الألم النفسي الحاد سيتحول إلى رهاب وأنواع أخرى من الأمراض النفسية في مرحلة لاحقة".
وقالت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الصحة تلالنج موفوانغ: "بطبيعة الحال، نرى الإصابة الجسدية، ولأنها جسدية، يمكن للمرء أن يقدر مدى خطورتها، لكن الألم النفسي الحاد الذي سيتحول بعد ذلك إلى رهاب وأنواع أخرى من الأمراض النفسية في مرحلة لاحقة من الحياة هو أمر مهم حقا للبدء في وضعه بالاعتبار".
وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" قد أعلنت في شباط الماضي أن "97 ألف طفل في غزة انفصلوا عن عائلاتهم، وأن جميع الأطفال تقريبا في غزة بحاجة لدعم نفسي".
المسن أحمد عقلين (85 عاماً) يقول "أعاني تبولاً لا إرادياً منذ الشهر الخامس للحرب، كما أن شللاً نفسياً قد أصابني، أصبحت على إثره لا أقوى على تحريك أطرافي الأربعة، واعتقدت في البداية أنني قد شللت تماماً إلى أن تعرفت على الدكتورة عسقول التي أكدت لي أن الأمر ما هو إلا أعراض متلازمة ما بعد الصدمة".
تقول الدكتورة عسقول "هذه الحالات لم ندرسها في مساق الطب البشري ولا في أي تخصص طبي على الإطلاق"، مضيفة أن "الشلل النفسي يفقد فيه المصاب القدرة على تحريك أطرافه لأن الجسد بكل بساطة يعيد برمجة نفسه على الوضعية التي كانت وقت الصدمة فتؤدي إلى شلل نفسي".
وتابعت: "علينا إقناع الشخص أنه ليس مشلولاً، مما يحتاج وقتا طويلا في العلاج.. والأدوية التقليدية لم تعد قادرة على علاج هذه الأمراض والأعراض".
وتقول عسقول: "يومياً هناك أطباء في الطب النفسي وأطباء المخ والأعصاب وصيادلة، يرسلون لي حالات تعرضت للصدمة ولم تعد العقاقير تجدي معها نفعاً".
وتنتاب أعراض الصدمة المريض حين يبدأ الدماغ بإعطاء إشارات خاطئة من الوعي للجسد، وما أن يتم تعديل مسار الوعي في الدماغ في الغدة النخامية حتى تعود ذبذبات الطاقة للانتظام ويعود الدماغ لوضعه الطبيعي.
أزمة أخرى من الأزمات النفسية، تطرقت لها عسقول وهي الوسواس القهري، الذي تفاقم مع النقص الحاد في الوصول الكافي إلى المياه النظيفة والصرف الصحي.
تقول عسقول: "في ظل نقص مواد التنظيف والمياه النظيفة، يعيش مرضى هذا المرض عذاباً لا يطاق، فهم يعيشون على منظومة من النظافة الشخصية ولما أصبحوا غير قادرين على توفيرها باتوا يذهبون إلى البحر لفرك أجسادهم برماله، ولا يكتفون بأي نوع من الرمل بل يبحثون بعيداً في البحر للحصول على رمل نظيف".
وتضيف: "بعض الحالات لا يهنأ لها بال إلا عندما ترى الدماء وهي تخرج من أجسامها نتيجة الفرك الشديد بالرمال، حينها يشعرون أن أجسادهم نظيفة".
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
إقرأ أيضاً:
"أطباء تحت الهجوم".. وثائقي عن غزة يُشعل الجدل حول الـ"بي بي سي".. ما القصة؟
أثار الفيلم الوثائقي "أطباء تحت الهجوم"، الذي يتناول معاناة الطواقم الطبية في قطاع غزة، جدلًا واسعًا حول هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في أوساط الإعلام العالمي عمومًا والبريطاني خصوصًا، بعد قرار الهيئة الامتناع عن بثه رغم أنها كانت قد طلبت إنتاجه في البداية. اعلان
وقالت "الغارديان" إن "بي بي سي" تراجعت عن بث الفيلم بدعوى احتمال إثارة "انطباع بعدم الحياد"، بينما ذكرت "الإندبندنت" أنها كانت قد اعتبرته في البداية "جريئًا وضروريًا"، قبل أن "تتحجج بضرورة التحقق من المحتوى والصور".
الفيلم الذي تبنّت عرضه لاحقًا قناة "تشانل 4" البريطانية، يقدم تحقيقًا استقصائيًا في 30 دقيقة حول مزاعم تفيد بأن الجيش الإسرائيلي استهدف بشكل ممنهج الطواقم الطبية الفلسطينية في مستشفيات قطاع غزة، البالغ عددها 36، خلال الحرب الجارية.
ويستند الفيلم إلى شهادات عدد من الأطباء الفلسطينيين، من بينهم الدكتور خالد حمودة، الذي يروي تفاصيل تعرض منزله للقصف ومقتل عشرة من أفراد عائلته، ثم استهداف المنزل الذي لجأ إليه الناجون.
الصحفي الإسرائيلي البريطاني جوناثان كوك معلقًا على الفيلم: أصبح من الواضح الآن لماذا تجرأت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) على عدم بث الفيلم الوثائقي *"أطباء تحت الهجوم"*. فهو يُظهر دون أدنى شك أن إسرائيل تدمر النظام الصحي في غزة بشكل منهجي، كجزء من حملة عنف إبادي.كما يروي لجوءه لاحقًا إلى حرم المستشفى الذي يعمل فيه، والذي تعرض بدوره للقصف والاقتحام، ما أدى إلى اعتقاله مع 70 طبيبًا آخر، وتعرضه للضرب أثناء الاحتجاز.
Relatedحماس: "إسرائيل تستخدم الحصار الإنساني على غزة كسلاح" ومنظمة أطباء بلا حدود تصفه بـ"العقاب الجماعي"أطباء يسابقون الموت وجرحى بلا علاج وغارات إسرائيلية تحصد أرواح المدنيين في غزةالجيش الإسرائيلي يُباشر إجراءات تأديبية ضد أطباء احتياط دعوا إلى إنهاء الحرب على غزةكما يعرض الفيلم قصة الدكتور عدنان البرش، الذي اعتُقل وجُرّد من ملابسه، وتعرض للتعذيب قبل أن يُعلن عن وفاته داخل السجن.
وبينما لم يُسجل له شهادة حية، يتضمن الفيلم مكالمات هاتفية أجراها مع عائلته قبل وفاته، يوصي فيها أطفاله بالاعتناء بوالدتهم.
ويُظهر الفيلم كذلك ظروف عمل الأطباء في مستشفيات تفتقر إلى الماء والكهرباء، بينما يسابقون الزمن لعلاج جرحى في ظروف صعبة، ويعرض مشاهد توثّق ما يقال إنها "هجمات متعمدة واعتقالات في مواقع سرية"، إلى جانب شهادات قاسية عن سوء معاملة واعتداءات، من بينها لقطات لجرائم اغتصاب جماعي منسوبة لجنود.
من تعليقات المستخدمين على الفيلم: قلبي يتألم حين أفكر بالدكتور عدنان البرش وما تعرض له من تعذيب أودى بحياته، فقط لأنه أراد إنقاذ الأرواح. هؤلاء الأطباء الفلسطينيون أبطال بكل معنى الكلمة.أحد المتحدثين في الفيلم يرى أن استهداف الأطباء "استراتيجية" تهدف إلى إضعاف النظام الصحي في غزة لسنوات مقبلة، مؤكدًا أن تدمير البنية التحتية يمكن إصلاحه، لكن فقدان الكوادر الطبية المدربة يُقوّض فرص الإعمار طويل الأمد. ويشير الفيلم مرارًا إلى أن استهداف العاملين في المجال الطبي يُعد انتهاكًا للقانون الدولي.
وقد وصفت صحيفة "الغارديان" الفيلم بأنه "من أكثر الوثائقيات قسوة ووضوحًا"، معتبرة أن صُنّاعه حرصوا على تقديم الأحداث بدقة، بما في ذلك توثيق أحداث هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مشيرة إلى أن ادعاءات الـ"بي بي سي" كانت غير مقنعة، خاصة وأن صناعه كانوا يطلبون التوضيحات من الجيش الإسرائيلي في كل نقطة.
انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة