شمسان بوست / د. سعيد سالم الحرباجي
ما يؤسفني كثيراً أنني لم أكن أعرف الاخ علي عشال الجعدني عن قرب ، ولم يكن لي الشرف أن أجالسه ، وأسمع منه ، وأتحدث إليه.
لكن ما بات واضحاً ولا يخفى على أحد ….
أنَّ الرجل من طراز فريد ، ومن عجينة نادرة ، ومن فصيلة مختلفة .
لا أقول هذا تزلفاً ، ونفاقاً ، ولا سمعة ، ورياءً .
ولكن الواقع يتحدث بلغة أوسع مما أقول ، ويصفه بأوصاف أدَّق مما أصف .
وما هذا الالتفاف الغير مسبوق _ من كافة شرائح المجتمع _ على شخص علي عشال إلا دليل على صدق ما أقول .
لقد أصبح عشال أيقونة الأحرار ، ومركز جذب لكل الشرفاء في جنوبنا الحبيب ، ونقطة التقاء لكل الغيوريين ، والوطنيين ، والمخلصين ، ومنبر إجماع عام لكل القوى الحية والفاعلة في المجتمع .
أليس كل ذلك يثير ألف سؤال وسؤال ؟
وهل يعتقد الحمقى أنَّ كل ذلك مصادفة ، وضرب حظ حصل عليها الرجل ؟
أنا هنا أكاد أجزم بالنفي ، وأؤكد أنَّ للرجل لأمراً مع ربه .
إنَّ إجماع الناس وحبهم للرجل لهو دليل_ لا يحمل الشك _ على أنَّ لديه أسراراً مع ربه ، وخبايا لا يعلمها إلا الله ….تلك الخبايا وتلك الأسرار هي من جلعت له القبول في الأرض ، وأحبه الملايين .
ذلك ما أكده الرسول الكريم بقوله :
{إِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ}
والله لا يحب إلا العبد الصالح الذي له خبيئة معه سبحانه .
هذا الخبيئة ….ربما تكون صدقة سر لا يعلمها الا الله ، أو سعياً على أرملة دون ضجيج ، أو يكون بكشف كربات مكروبين بعيداً عن أعين الناس وغير ذلك من أوجه البر الكثيرة .
فمثل هذه الأعمال ( المخبوءة بين العبد وربه ) هي بمثابة رصيد بنكي خاص للعبد ….
ما إن يحتاج إليها إلا وتأتيه كيعاسيب النحل دون أن يطلبها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” صنائع المعروف تقي مصارع السوء ” .
وقال سيدنا علي : ” صانع المعروف لا يقع ، وإذا وقع لا ينكسر ” .
وهذا ما نراه مع الأخ علي عشال …
الذي عطف الله عليه قلوب الناس عامة ، وارتفعت أكفهم جميعاً بالدعاء له ، وتعالت أصواتهم كلهم بالانتقام من ظالميه ، وأصبحت قضيته قضية رأي عام ، وتحول إلى رمز لإجماع وطني غير مسبوق ( وبدون دفع مسبق ) .
بل وتحول ظلمه إلى شرارة ملتهبة تسري في هشيم الظلمة ، وتتأجج في قلوب المظلومين ، وتتوقد في ضمائر الأحرار .
هكذا يسيَّر رب العالمين الأحداث ، وهكذا يدبَّر الأمور ، وهكذا يستدرج الظلمة من حيث لا يشعرون ، وهكذا ينتقم للمظلومين .
تلك عدالة السماء…
وهذا هو قانون الخالق سبحانه..
يمهل الظالم حتى إذا أخذه .. يأخذه أخذ عزيز مقتدر .
وصدق الله إذ يقول:
“وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ”
فإلى كل مظلوم :
إرفع أكف الدعاء إلى خالقك … فليس بين دعوة المظلوم وبين الله حجاب .
وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول : «اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تُحمل على الغمام؛ يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين»
المصدر: شمسان بوست
إقرأ أيضاً:
الناس تتباكي والدموع تتقطر
في ذات صباح من صباحات القاهرة وفي شارع فرعي بمدينة عابدين لفت نظري تجمع سوداني محدود.. غريزة القطيع دفعتي إليهم فعرفت منهم انها محطة لترحيل السودانيين العائدين إلى البلاد.. مصطلح العودة الطوعية دا ما راكب لي في راسي..
ما علينا خطأ شائع خير من صحيح مهجور.. طوعية طوعية.. شيئا فشيئا بدأت الأعداد تتزايد وعربات نص النقل تنزل في الشنط والامتعة فتذكرت الراحل المقيم هاشم صديق في مسلسل قطر الهم (عفش الناس الجايي يناهد بالكيمان) ثم اكتظ المكان بالمسافرين والمودعين والاخرين لا يقل عددهم عن الأولين…إنها حالة الانقسام الأسرى والتشظي التي أصابت هذا الوطن المنكوب… هاجت بي الذكرى للوطن لشطانه للدار الوريفة (وهو اصلا لم يغادرني لحظة ) أصابني حنين جارف.. طاب لي المكان فلم اغادره يومها لا بل أصبحت دائم التردد عليه إذ وجدت فيها سلوى وتخفيف من وطأة الغربة فمع جمال القاهرة وبهرجتها وحيويتها الا ان الشعور بأنني غريب ديار وغريب أهل لم يفارقني ف(في السودان همي وعزايا) فأصبحت صديقا للعاملين فيه من شباب منظومة الصناعات الدفاعية التي تتكفل بترحيل هؤلاء العائدين من هذة المحطة من الألف إلى الياء إذ لايدفع المسافرون جنيها واحدا لا في اكل ولا في شرب ولا في استراحة إلى أن يصلوا محطتهم الأخيرة وتفعل المنظومة هذا تأسيسا على البند الذي خصصته للمسؤولية المجتمعية الأمر الذي يشي إلى مرونة في التعامل مع المستجدات فالحرب الماثلة أمر طاري وبالتالي كل افرازتها طارئة
☐ اول سؤال تبادر إلى ذهني.. ياربي الناس ديل سعداء بهذة العودة ام مجبورين عليها؟ ام هو خيار ام الخير لا هو خير ولا الموت اخير؟ . لم اسأل احد منهم بل كنت اتفحص وجوههم و استمع للحوارات التي تدور بينهم… يفرق الصوفية بين السمع والاستماع.. فالأول هو الذي يفرض نفسه عليك إذ لايمكنك إغلاق اذنيك عن السمع كما تغض الطرف عن النظر…والثاني هو الذي تسعى إليه ..فانا قمت بتحويل السمع إلى استماع (يعني المخالفة بسيطة) وليشفع لي طلب المعرفة.. بعضهم تبدو السعادة في وجهه وما يصدر منه من كلام وبعضهم تشعر بأنه مهموم وبعضهم بدأ لي وكأنه متخوف … شابة تقول لاخري تجلس بجوارها… كلو من امي الكوزة دي هي المصرة على المشي للسودان فتلتفت إليها امها وتقول لها ايوا مصرة مصرة لأنه مصيرك ترجعي ولا انتى عاوزا تقعدي هنا للمقابر…. فترد الشابة.. ما قلنا حاجة… اصلا راجعين راجعين لكن يا ماما خلي البلد تتصلح شوية.. ردت الأم… البصلحها منو ونحن متجدعين هنا لا شغل ولا مشغلة.. تساءلت الابنة ياماما نحن بنجيب محطة الكهرباء ؟ نحن بنعمل مستشفى؟ نحن بنفتح مدرسة؟ نحن بنوفر أمن؟..نحن حكومة؟ لم تستسلم الأم..الحكومة دي لو ما نحن قعدنا ليها
قدام عينيها وساعدناها ما بتعمل لينا الحبة… أحدهم اوقف البوكسي واخد يشيل ويردم في العفش وفوق ذلك كان لديه طقم كراسي فجاءه شاب لا أدري إن كان من المسؤلين ام يتبع للبص السياحي فقال له يا حاج الكراسي دي.. مافي طريقة ليها.. فرد لكن اوديها وين؟ انا اشترتيا وخلاص عزلت من الشقة فتدخل ثالث وقال له ياحاج خلي الزول المودعك دا يرجعها للمكان الاشترتين منه… المصريين ديل كويسين جدا في الحتة دي برجعوها طوالي ولو عصروا عليك بيعملوا خصم بسيط… كان أحدهم يحمل كمنجة ويبدو أنه منتشي بعض الشي.. فسألته هل هو سعيد بالكمنجة ام العودة فقال لي الاثنين فالمكنجات هنا برماد القروش (والله لو عندي قروش اكنت شحنت لوري كامل كمنجات) فقلت والله انت اللفيهم… انه سحر الفن…
اما أكثر اللحظات تأثيرا وأظنها هي السبب في مداومتي للحضور هي لحظات الفراق عندما ينادي الشاب المسؤل.. يلا يا جماعة البص رقم كذا… ويردد الرقم بصوت جهور.. فهنا تشهد العناق الحار وتقبيل الأطفال والدموع التي تبلل الخدود واللحي حتى البيضاء منها وتسمع النحيب والانين فينبعث صوت إبراهيم عوض من دواخلك..
ساعة وداعنا انا دايرك تحضر
ما تقول نسيت لازم تتذكر
الناس تتباكي والدموع تتقطر
بتقطع قلبي انت لو تتأخر
أبيت الناس وابيت خلاني /خاصمت الكل عشان حباني
الدموع هي سيدة الموقف إذ جمعت بين المسافرين والمودعين والمتفرجين والفضولين لقد بدأ لي حتى الشباب المسؤلين عن التفويج اغرورقت عيونهم فتتذكر (الن باتون) في رواية وتبكي يا بلدي الحبيب ( والله دا ما الدايرنو ليك يابلادي الطيبة… والله يجازيك يا…)
ادهشني شباب منظومة الصناعات الدفاعية الذين يقفون على تنفيذ عمليات التفويج إذ يأدون عملهم بجد وصبر واناءة (طولة بال شديدة) مراعين للحالة النفسية لهؤلاء المسافرين الاستثنائين… سألت مسؤولة المسؤلية المجتمعية في المنظومة وهي في حالة حضور دائم للموقع لدرجة ان احدهم أنعم عليها برتبة فريق… عن حجم العملية ومستقبلها فقالت لي ان عدد رحلاتهم وصلت حتى الآن إلى ١٣٠ (مائة وثلاثون) رحلة بواقع خمسين شخصا في كل رحلة وان وجهات الرحلات متعددة على حسب سكن العائدين فوصلوا القطنية والمسعودية والسريحة و الهلالية ومدني وعطبرة بالإضافة للخرطوم وقالت انهم يتوقعون زيادة مهولة في العدد بعد انتهاء الامتحانات وأنهم يعدون العدة لذلك..فقلت لها اعملوا بالحكمة الشعبية.. كتر السفر وقلل الرحل… أي كتروا عدد الباصات على حساب الخدمات الإضافية.. وربنا يعينكم……… ويعين السودان ذلك الوطن الذي ليس لنا من وطن سواه.. ويا وطنا نهواه رغم المحن
عبد اللطيف البوني
/حاطب ليل/اول يوليو ٢٠٢٥
إنضم لقناة النيلين على واتساب