خلال يومي 21 و 22 من الشهر الجاري، تابع كثيرون جولة المحادثات الثانية التي رعتها بكين على مدى يومين للمصالحة الفلسطينية بمشاركة ممثلين من جميع الفصائل الفلسطينية، بما فيها “فتح وحماس”، أملاً في إنها الانقسام العاصف بالشعب الفلسطيني منذ 17 عاماً، بالرهان على الميزات الجديدة التي تملكها الصين لحلحلة هذا الملف والتغيرات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزة، ولا سيما بعد قرار الكنيست الإسرائيلي منع إقامة الدولة الفلسطينية.

الثورة /تحليل / أبو بكر عبدالله

 

البيانات الصادرة عن حركتي «فتح وحماس» التي أعلنت فيها المشاركة في محادثات المصالحة والتعاطي الإيجابي مع جهود الصين لتوحيد الصف وإنهاء الانقسام الفلسطيني أشاعت الأمل بانفراج وشيك للأزمة، سيما في ظل الزخم الدولي المؤيد للقضية الفلسطينية وما أفرزته حرب الكيان الإسرائيلي في قطاع غزة من تحديات وجودية جعلت جميع الفصائل الفلسطينية هدفا لمشاريع الكيان في التدمير الشامل والتهويد والتهجير وتصفية القضية الفلسطينية.

ويُنتظر أن تشهد بكين جولة حوار سياسي ثانية تواصلا لجهود سابقة رعتها بكين في أبريل الماضي وتناولت وفقا لبكين ملفي المصالحة السياسية واليوم التالي لانتهاء حرب غزة، على أمل أن يتم خلال هذه المحادثات إحراز اختراق في نقاط الخلاف التي حالت دون تحقيق المصالحة في العديد من المؤتمرات واللقاءات التي رعتها دول عربية وأجنبية خلال السنوات الماضية.

وقد أثارت هذه الجولة من المحادثات التساؤلات عن إمكانية نجاحها في تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني خصوصا وأن نبرة التفاؤل الصيني التي سادت محادثات الجولة الأولى في أبريل والتي قالت الصين إن الفصائل أجرت خلالها «حواراً معمقاً وصريحاً» لم تنعكس على مواقف حركتي «فتح وحماس» اللتين التزمتا الصمت حيالها وسط اتهامات متبادلة ظهرت بشأن عدم الجدية، ما عزز التكهنات لدى الشارع الفلسطيني بأن الجولة الجديدة لن تكون أكثر من إجراء بروتوكولي دون نتائج ملموسة.

مع ذلك، ثمة آمال في أن تلعب الدبلوماسية الناعمة للصين دورا محوريا خلال هذه الجولة بانتزاع التنازلات وتعزيز أجواء الثقة والتأسيس لمسارات جديدة تهيئ المناخ لمصالحة وطنية فلسطينية بعد أن صار هذا الهدف متصدرا أولويات جميع الفصائل الفلسطينية في ظل التعنت الإسرائيلي الرافض لأي تسويات تحفظ للشعب الفلسطيني حقوقه التاريخية وتصعيده الخطير بمصادقة الكنيست الإسرائيلي على قانون منع إقامة الدولة الفلسطينية.

ما يدعو لذلك أن بكين المتفائلة كثيرا في هذه الجولة تبدو قد استخلصت معطيات مهمة في اللقاء الذي استضافته في أبريل الماضي وجمع ممثلين من حركتي «فتح وحماس» وتسعى اليوم عليها للدفع قدما باتجاه تفاهمات مشتركة تقود إلى مصالحة مستقبلة، خصوصا وأن احتفاظ الصين بعلاقات مع الكيان قد يمنحها فرصا إضافية لإنجاح أي توافقات باتجاه إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على أسس الحوار.

أكثر من ذلك فإن الجهود الصينية الحالية تتمتع بمزايا جيدة في جانبي التوقيت ومستوى التمثيل، ناهيك بالميزة المضافة المتمثلة بقدرة الوسيط الصيني على سد الفجوات سيما وأن اللقاء المرتقب للفصائل الفلسطينية سيتيح للمسؤولين الصينيين إدارة حوارات ثنائية مباشرة مع كبار قادة الفصائل في قضية هي في الواقع موضع إجماع وفي ظل رغبة أكثر الفصائل عدم الخوض في التفاصيل المعززة لحالة القطيعة والانقسام الذي تعانيه الساحة الفلسطينية بوجود حكومتين الأولى في الضفة الغربية تقودها السلطة الوطنية الفلسطينية والثانية في قطاع غزة تقودها «حماس».

هذا المعطى على ما يبدو شجع الوسيط الصيني على اعتماد آلية جديدة بتوسيع دائرة الحوار ليشمل سائر الفصائل الفلسطينية بما فيها حركتا «فتح» و«حماس» أملا في التأسيس لتفاهمات مشتركة تحظى بإجماع وتتخطى إمكانية التأثير عليها من أي فصيل وتحصينها من الوقوع في خندق الخلافات الذي طالما عرقل مسار المصالحة في سائر المبادرات الإقليمية الدولية السابقة.

وقد عبّرت عن هذا التوجه تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية لين جيان الذي أكد أن بكين «تدعم كل الأطراف الفلسطينية في هدف تحقيق المصالحة والوحدة عن طريق الحوار والتفاوض وأنها مستعدة لتوفير الفرص لتحقيق هذا الهدف».

سقف منخفض

خلافا لجولة الحوار الأولى التي احتضنتها الصين في أبريل الماضي بدت القيادة الصينية هذه المرة متفائلة تجاه الهدف الصعب الذي وضعته لتحقيق المصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح وحماس» خصوصا بعد إعلان بكين استعدادها لتهيئة الأجواء اللازمة لتحقيق التوافق والمصالحة.

ورغم التمثل الرفيع المستوى المعلن عنه لوفدي حركتي « فتح وحماس» في هذه الجولة وتأكيدهما الجدية في الوصول إلى تفاهمات تنهي حالة الانقسام وتعزز الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات، إلا أن التقديرات تقلل من سقف التوقعات من هذه الجولة في ظل القيود التي تكبل الفصيلين في الوصول إلى تفاهمات نهائية لإنهاء الانقسام.

لكن الحديث عن خطوات جدية لمصالحة نهائية تنهي الانقسام على أرض الواقع ليس أكثر من أمنيات بعيدة المنال في الوقت الراهن على الأقل، فالتركة الثقيلة للخلافات وحالة انعدام الثقة القائمة تقلل سقف التوقعات بما يجعل من هذه الجولة خطوة مهمة لخفض التوتر بين الجانبين، بعد أن شهدت العلاقات بينهما تصعيدا خطيرا خلال الشهور الماضية للحرب الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزة.

والثابت أن تعقيدات المشهد السياسي الفلسطيني وتباين الرؤى والمواقف والبرامج السياسية بين حركتي «فتح وحماس» يكفي بحد ذاته للتقليل من فرص إحراز أي تقدم في هذا الملف الشائك خلال جولة المباحثات الجديدة، غير أن استئناف اللقاءات والتصريحات الإيجابية التي ظهرت حتى الآن تشير إلى إمكانية حدوث اختراق ما في جدار الأزمة قد يؤسس لخطوات جديدة لترتيب البيت الفلسطيني.

يشار في ذلك إلى عقبات داخلية عدة تتصدرها حالة التوتر المرتفعة بين حركتي فتح « و»حماس» والاتهامات المتبادلة والتهديدات التي ظهرت إلى السطح خلال الشهور الماضية على خلفية الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة والشحن الإعلامي والسياسي بين الفصيلين بما أحدثه من انقسام في الشارع الفلسطيني الذي يعيش حالة إحباط من إمكانية التوصل لاتفاق بين حركتي فتح وحماس بشأن تحقيق المصالحة.

وعلاوة على العقبات الداخلية ثمة عقبات دولية قد تحول دون تحقيق الهدف، ولا سيما في ظل الضغوط الأمريكية المنزعجة من التحركات الصينية والروسية في ملف القضية الفلسطينية الذي تحتكره واشنطن منذ عقود في ظل انحيازها الأعمى للاحتلال الإسرائيلي.

تاريخ حافل

يسود الانقسام الساحة الفلسطينية منذ أن سيطرت حركة «حماس» على قطاع غزة في العام 2007م، بعد فوزها في الانتخابات عام 2006، في حين تصاعدت حدة الانقسام خلال السنوات الأخيرة لتبلغ حدا عجز فيه الفصيلان عن إيجاد أي قواسم مشتركة تقود لحلحلة الأزمة.

وقد فشلت العديد من المبادرات المحلية والدولية في مساعيها لرأب الصدع الفلسطيني خلال السنوات الـ 17 الماضية، حيث انخرطت حركتا «فتح وحماس» منذ العام 2007 في العديد من اللقاءات والمؤتمرات التي أثمرت عن اتفاقيات للمصالحة وإنهاء الانقسام، بدءاً من لقائي مكة والقاهرة ثم الدوحة والقاهرة وصولا إلى محادثات الجزائر في 2022 ولقاء العلمين المصرية في يونيو2023، وأخيراً محادثات موسكو وبكين 2024م، دون أن تُسفر عن خطوات عملية جادّة لتحقق هدف المصالحة وإنهاء الانقسام.

واستنادا إلى معطيات الداخل الفلسطيني وتعقيداته فإن القول بإمكانية نجاح الصين في قيادة مصالحة حقيقية بين الفصيلين تنهي الانقسام لا يزال أمرا بعيد المنال فحجم الخلافات لا يزال كبيرا للغاية، وقد فشلت معه جميع المبادرات الإقليمية والدولية السابقة لتصل مؤخرا إلى حالة القطيعة الكاملة.

وخلال جولات الحوار السابقة، لم تتمكن الفصائل الفلسطينية الرئيسية من إيجاد أرضية مشتركة في قضايا رئيسية كمقررات اتفاق أوسلو وخطط تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإصلاحات منظمة التحرير الفلسطينية، وأضيف إليها اليوم الخلافات الحاصلة بشأن مرحلة ما بعد حرب غزة، في ظل الضغوط الأمريكية التي تطالب بإنهاء حكم «حماس» على قطاع غزة شرطا لإنهاء الحرب والتآم البيت الفلسطيني تحت قيادة حركة «فتح» المقبولة دوليا لإدارة خطة ما بعد الحرب.

تقاطعات وفرص

رغم كل الميزات التي وفرتها الصين لجولة الحوار الحالية فإن التفاؤل الفلسطيني والعربي بشأن نجاحها لا يزال حذرا للغاية، بالنظر إلى حجم القضايا الخلافية وفي الصدارة قبول حماس بإقامة دولة فلسطينية في إطار حل الدولتين والذي لا يزال حتى اليوم من أهم القضايا الخلافية في مسار جهود المصالحة.

ذلك أن حركة «حماس» ، اعتمدت منذ تأسيسها، استراتيجية عدم الاعتراف بإسرائيل وانتهاج الكفاح المسلح ومعارضة اتفاقات السلام الموقعة في أوسلو عام 1993، في حين لم يكف قادة «حماس» عن التأكيد في مناسبات عدة أن هذه الأمور محسومة وغير مطروحة للنقاش.

يضاف إلى ذلك الخلافات بشأن التسويات الانتخابية وتشكيل الحكومة وإدارة الحرب مع العدو الإسرائيلي وغيرها من القضايا الخلافية التي لا يمكن حلها في الوقت الراهن إلا بقبول الطرفين بالواقع الجديد الذي فرضته الحرب، والعمل من أجل الشراكة السياسية الحقيقية في القرار والحكم سواء في الضفة أو القطاع في حين أن ارتهان بعض الأطراف للمواقف الخارجية، وللمصالح الخاصة بحلفائهم الإقليميين لا يزال يمثل عائفا كبيرا أمام تحقيق المصلحة.

وفقا لذلك فإن التقديرات الواقعية تذهب إلى أن جولة المحادثات الثانية في بكين ستكون محطة مهمة على مسار تحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية في ظل تعاظم دور الصين على المستوى العالمي وتبني بكين مواقف مؤيدة للدولة الفلسطينية المستقلة على قاعدة «حل الدولتين» في المحافل الدولية.

ذلك أن هدفاً كبيراً لتحقيق المصالحة وتوحيد الصف الفلسطيني يحتاج بالضرورة إلى كثير من المحادثات التي يصعب التكهن بأنها ستمضي قدما دون إسناد دولي، في ظل الصعوبات التي ستوجهها «فتح وحماس» لحسم خلافاتهما في ظل المناخ السياسي والأمني المضطرب على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية ولا سيما في قضايا مرحلة ما بعد حرب غزة وإصلاح منظمة التحرير وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية.

وأكثر ما يؤمل الوصول إليه من محادثات بكين الثانية، هو أن تفتح الطريق لمسار جديد من المفاوضات يمكن أن تقود إلى توافقات مستقبلية من غير أن يكون لها صدى على أرض الواقع في الوقت الراهن.

مع ذلك فإن وقائع الحرب الإسرائيلية المروعة في قطاع غزة بما أحدثته من خراب شامل ونزوح الملايين وامتداد الحرب الإسرائيلية إلى الضفة الغربية بما فرضته من معاناة شاملة للشارع الفلسطيني، يمكن أن تدفع بالفرقاء إلى خطوات متقدمة على طريق المصالحة وهو أمر تراهن الصين عليه بتقديم الطرفين تنازلات من شأنها تعزيز الوحدة الوطنية لمواجهة الحرب الإسرائيلية التي تسعى للاستفراد بكل فصيل على حدة بما يحقق مشروعها في إنهاء الوجود السياسي الجغرافي والبشري الفلسطيني بصورة عامة.

يزيد من ذلك إدراك قيادات الفصائل أن استمرار الانقسام قد يؤدي إلى خسارة الدولة الفلسطينية للزخم الدولي الذي أحدثته المجازر الوحشية للحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، سميا وأن أكثر الدول المؤيدة للقضية الفلسطينية تريد أن ترى فلسطين موحدة وليس مناطق جغرافية تحكمها أو تسيطر عليها فصائل، كما تدرك أن عدم الوصول إلى مصالحة وطنية في الوقت الراهن قد يزيد من تعقيدات أزمة فرض الوصاية الخارجية على قرار ومصير الدولة الفلسطينية.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟

 

فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟

 

 

تكشف العديد من استطلاعات الرأي حول العالم تراجعاً في صورة الولايات المتحدة الأمريكية منذ الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، واستمرت أزمة القوة الناعمة الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية. وبالتزامن مع ذلك، باتت الصين تتطلع إلى أداء دور أكثر نشاطاً على الساحة الدولية، مدركة بشكل أكبر أن صورتها الذهنية تصنع فارقاً، وعلى نحو جعل عالِم العلاقات الدولية الراحل، جوزيف ناي، يحذر، في مستهل عام 2025، من أن “الصين على أهبة الاستعداد لملء الفراغ الذي خلفته سياسات الرئيس ترامب”. وفي هذا الإطار، تُثار تساؤلات من قبيل: هل تملك الصين مقومات حقيقية للقوة الناعمة؟ وهل تستطيع الاستفادة من التراجع النسبي الأمريكي في هذا المجال؟

ترامب وتراجع القوة الناعمة:

قدّم جوزيف ناي، في عام 1990، مفهوم القوة الناعمة للدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية، معرفاً إياها بأنها “قدرة الدولة على جعل الآخرين يريدون ما تريده”؛ ومن ثم فهي القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين، وتنبني بصورة رئيسية على جاذبية الأفكار والممارسات، بخلاف القوة الصلبة أو الخشنة التي تتضمن “إصدار الأوامر” وتستند بالأساس إلى الإكراه العسكري والحوافز الاقتصادية. واعتبر ناي أن الثقافة والقيم السياسية الليبرالية والسياسة الخارجية هي المرتكزات الرئيسية للقوة الناعمة الأمريكية، وقدم المفهوم باعتباره أساساً لرسم سياسة أمريكية أكثر فعالية. وفي العقود اللاحقة، ذاع مصطلح القوة الناعمة وارتبط بجهود الدبلوماسية العامة وبناء السمعة الدولية.

وقد حاولت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تحقيق القيادة العالمية بالاستثمار في أرصدة القوة الناعمة، مع الاعتماد على الجاذبية والإقناع. ويمكن عزو القوة الناعمة الأمريكية خلال تلك الحقبة، بدرجة رئيسية، إلى تجسيد الولايات المتحدة للقيم الليبرالية، وحيوية مؤسساتها الديمقراطية، فضلاً عن النموذج الأمريكي الناجح المتمثل في مجتمع منفتح يستوعب مختلف الإثنيات.

وتبنى الرئيس ترامب، سواء في ولايته الأولى أم الثانية، سياسات أدت إلى تراجع القوة الناعمة الأمريكية، ومنها الآتي:

1- التشكيك في القيم الديمقراطية: تبنى الرئيس ترامب خطاباً سياسياً يشوه المؤسسات الإعلامية، ويقوض الثقة في الانتخابات الأمريكية مثلما حدث في عام 2020؛ مما نال بالسلب من صورة الولايات المتحدة كبلد يجسد تقاليد راسخة للانتقال السلمي للسلطة. وبعد تنصيبه رئيساً للمرة الثانية في يناير 2025، استمر ترامب في انتهاج السياسات ذاتها التي تنعكس سلباً على مصداقية الولايات المتحدة وقيمها الليبرالية؛ وهو ما ظهر مثلاً في التضييق على الحريات الأكاديمية والدخول في صدام مع بعض الجامعات الأمريكية.

2- تراجع واشنطن عن التزاماتها الدولية: بدت الولايات المتحدة كحليف دولي غير موثوق به، عبر تشكيك ترامب في جدوى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والهجوم على حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية ومطالبتهما بدفع مقابل أكبر للحماية الأمريكية، فضلاً عن الانسحاب من منظمة الصحة العالمية خلال ذروة انتشار وباء كورونا.

وفي ولايته الرئاسية الثانية، أعلن ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بالرغم من تهديدات التغير المناخي، وكذلك الانسحاب من منظمة اليونسكو، فضلاً عن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كما أطلق ترامب تصريحات غير ودية تجاه حلفاء تقليديين مثل الدنمارك وكندا، وأيقظ المخاوف في أمريكا اللاتينية عبر تهديد بنما ثم فنزويلا. كذلك أدى إفراط ترامب في سياسات الحمائية التجارية إلى جعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها شريك اقتصادي غير موثوق به.

وللتدليل على الضرر الذي ألحقته سياسات الرئيس ترامب بالقوة الناعمة الأمريكية، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز (YouGov) في فبراير 2025 أن شعبية الولايات المتحدة قد انخفضت في سبع دول أوروبية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والدنمارك والسويد وإسبانيا وإيطاليا بنحو 8% منذ نوفمبر 2024 لتصل إلى 34%. وفي استطلاع رأي آخر أجرته (Le Grand Continent) في مارس 2025، كان ترامب ثاني قائد يحظى بأقل قدر من الثقة بين 13 قائداً سياسياً، بعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما رأى 70% من المبحوثين أنه يجب على أوروبا الاعتماد على قوتها الذاتية لضمان أمنها، مع تراجع نسبة من يثقون بمصداقية الولايات المتحدة كشريك قادر على الدفاع عن أوروبا إلى 10% فقط.

ركائز القوة الناعمة الصينية:

ظهر مصطلح القوة الناعمة لأول مرة في الصين في الخطاب السياسي الرسمي عام 2007، حين تحدث الرئيس السابق، هو جنتاو، في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي، عن أهمية تعزيز القوة الثقافية الناعمة للصين. ويعمد الرئيس الحالي، شي جين بينغ، إلى التشديد على أهمية القوة الناعمة من خلال استدعاء المفهوم في العديد من اللقاءات والخطابات الرسمية، والتي تفصح عن إدراك متزايد لأهميته في تطور الصين كقوة عظمى، وضرورة تحسين القوة الصلبة في بُعديها العسكري والاقتصادي بالتوازي مع الارتقاء بالقوة الناعمة التي تقوم على القيم والأفكار والثقافة.

ويكشف تقصي السجالات الفكرية للأكاديميين الصينيين أن القوة الناعمة للصين ترتكز على عدد من المصادر والمقومات، من أهمها الإرث الحضاري الصيني، وثقافتها وما تحفل به من قيم مثل: احترام المجتمع، والتكامل ونبذ الشقاق، والتناغم الداخلي، واستيعاب الاختلافات. ويضاف إلى ذلك، خصوصية النموذج التنموي الصيني وجاذبيته للدول الفقيرة، بما يمنحه من أولوية للتنمية الاقتصادية والابتكار.

كما تسعى الصين إلى تعزيز قوتها الناعمة من خلال أدوات متعددة، منها ما يلي:

1- تبني سياسة خارجية نشطة: تشدد المقاربة الصينية على ضرورة أن تبدو سياستها الخارجية مشروعة وذات طابع أخلاقي، مع إبداء استعدادها لتسوية بعض النزاعات الحدودية مع جيرانها. إضافة إلى ذلك، هناك تنامٍ في عدد المؤسسات الدولية والإقليمية التي تشغل الصين عضويتها، كما أصبحت بكين منذ نهاية التسعينيات مشاركاً نشطاً في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفي الوقت الحالي تُعد الصين أكبر دولة مساهمة بقوات حفظ السلام من بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما يعزز صورتها كفاعل دولي مسؤول.

2- التركيز على المكاسب الاقتصادية المشتركة: يكون ذلك من خلال عقد الصفقات التجارية، ومشاريع البنية التحتية مع الدول الأخرى. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة “الحزام والطريق” التي تسعى إلى تعزيز الترابط الاقتصادي مع العديد من دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر شبكة واسعة من مشاريع النقل والمواصلات والاتصالات. وتتسم برامج المساعدات الاقتصادية للصين بأنها تُمنح دون مشروطية اقتصادية أو سياسية.

3- نشر الثقافة الصينية: تشهد الصين في السنوات الأخيرة توسعاً ملموساً في جهود نشر ثقافتها عبر معاهد كونفوشيوس التي يبلغ عددها أكثر من 500 معهد حول العالم. كما أدرجت أكثر من 80 دولة اللغة الصينية في أنظمتها التعليمية الوطنية، ويبلغ إجمالي عدد الأجانب الذين يتعلمون اللغة الصينية ويستخدمونها نحو 200 مليون شخص. ولا تزال جامعات الصين تُمثل وجهة تعليمية رئيسية للطلاب الأجانب، ولا سيّما من دول آسيا وإفريقيا، وإن كانت مكانتها كوجهة تعليمية لا تزال أقل من الجامعات الغربية.

مكاسب نسبية لبكين:

يثور التساؤل حول مدى قدرة الصين على الاستفادة من التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية. وبالرغم من أن الصين تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ فإن قدرتها على ابتكار منتجات ثقافية مؤثرة خارجياً لم تكن حتى وقت قريب متناسبة مع صعودها الدولي. لكن تغيرات كبيرة تحدث؛ إذ تشهد الصين ثورة في الإنتاج الترفيهي، ومن أمثلتها دمية “لابوبو” (Labubu) التي رفعت القيمة السوقية لشركة “بوب مارت” بنسبة 400%، وسلسلة مطاعم “ميكسوي” (Mixue) التي انتشرت في جنوب شرق آسيا.

وقد أظهر استطلاع رأي لمركز “بيو” الأمريكي للأبحاث في 25 دولة، نُشرت نتائجه في يوليو 2025؛ أن الغالبية ما تزال تنظر بإعجاب أكبر إلى الولايات المتحدة مقارنةً بالصين؛ ولكن الفجوة بين البلدين آخذة في الانحسار. وتراجعت التقييمات الإيجابية للولايات المتحدة. ففي كندا مثلاً، انخفضت نسبة الاستحسان للولايات المتحدة بمقدار 20%، بينما حققت الصين مكاسب هامشية.

وبالرغم من تحسن صورة الصين نسبياً في عام 2025 مقارنةً بفترة ما بعد “كوفيد-19″؛ فإن 54% من المبحوثين في الدول الـ25 يحملون صورة سلبية عنها، و66% لا يملكون ثقة كبيرة في قدرة الرئيس شي على معالجة الأزمات الدولية. ومع ذلك، فإن الذين يبدون ثقة أقل في ترامب فيما يتعلق بالأزمات الاقتصادية أكثر ميلاً إلى إقامة علاقات اقتصادية أقوى مع الصين. وفي دول مثل الأرجنتين والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا، تميل قطاعات واسعة إلى رؤية الولايات المتحدة كمصدر تهديد للمصالح القومية، بينما تُعد الصين حليفاً رئيسياً في دول مثل جنوب إفريقيا وإندونيسيا. وتُقدم الصين نفسها كشريك لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو خطاب يجد صدىً إيجابياً في عدة دول نامية؛ لكن سمعتها تبقى سلبية في أوروبا وبعض الدول الآسيوية بسبب المخاوف الأمنية.

تحديات أمام الصين:

على الرغم من التحسن النسبي في صورة الصين في العديد من دول العالم؛ فإنها تواجه عدة تحديات قد تحدّ من تعزيز قوتها الناعمة، أهمها ما يلي:

1- الضعف النسبي لوسائل الإعلام الصينية مقارنةً بالنفوذ الواسع للإعلام الغربي؛ إذ لا تزال وكالة “شينخوا” عاجزة عن تحقيق تأثير يماثل تأثير المنافذ الإعلامية الأمريكية الكبرى.

2- طبيعة النظام السياسي الصيني الذي يفرض رقابة على المحتوى الثقافي؛ مما يُصعّب عملية الابتكار. وعلى الرغم من تشجيع الحزب الشيوعي الحاكم للابتكار؛ تظل هناك قيود تفرضها الحكومة، وتؤثر في عملية الإنتاج.

3- عجز بكين عن تقديم بديل جدي لقيادة النظام العالمي أو التعامل الفعّال مع الأزمات الدولية؛ ما يجعل كثيراً من استطلاعات الرأي تشكك في قدرتها على خلافة واشنطن.

ختاماً، يمكن القول إنه مع التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية، تبدو الصين شريكاً أكثر موثوقية في نظر كثيرين، إلا أن ذلك لا يجعلها القائد العالمي غير المنازع في مجال القوة الناعمة. كما أن بكين قلّصت مساعداتها التنموية للدول النامية بسبب الضغوط الاقتصادية الداخلية، وتفاقم الديون في دول “الحزام والطريق”. وتدل الخبرة التاريخية على أن القوة الناعمة للولايات المتحدة شهدت فترات من الازدهار ثم الانحسار، كما حدث بعد حرب فيتنام. ومع أن استعادة أسس القوة الناعمة بعد انتهاء ولاية ترامب الثانية قد تكون عملاً مكلفاً؛ فإن الديمقراطية الأمريكية ذات التقاليد الراسخة ستظل قادرة على التعافي، بما يجعل استعادة تلك القوة أمراً ممكناً.


مقالات مشابهة

  • فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
  • ترمب مهددا رئيس كولومبيا: ستكون التالي بعد مادورو
  • عاجل- وزير الحكم المحلي الفلسطيني: 7 أشهر بلا تحويلات مالية.. وأزمة خانقة تعصف بالسلطة الفلسطينية
  • تتصدرها تبوك.. قائمة أقل درجات الحرارة في المملكة اليوم الخميس
  • أوضاع اقتصادية صعبة في الضفة الغربية وغزة.. وزير الحكم المحلي الفلسطيني يكشف المأساة
  • وزير الحكم المحلي الفلسطيني: 7 أشهر بلا تحويلات مالية.. وأزمة خانقة تعصف بالسلطة الفلسطينية
  • من أبرز رموز الثورة الفلسطينية..بن غفير يهدد قبر القسام وحماس تستنكر
  • الجيل المستهدف .. حين يتحول الترفيه إلى سلاح
  • الخارجية الفلسطينية: حقوق الشعب الفلسطيني غير قابلة للتجاهل
  • استشهاد أسير فلسطيني بسجون الاحتلال وحماس تندد بالجريمة