مفاتيح الرزق .. «وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ»
تاريخ النشر: 22nd, August 2024 GMT
خلق الله الإنسان وأنزله على هذه الأرض، وطلب منه أن يقوم بعبادته، واستخلفه في هذه الأرض وأمره بعمارتها، وسخّر له كل موجوداتها، من ماء وهواء ونبات وحيوان وصخور ومعادن، وأمره بأن يستخرج خيراتها ويُحسن التعامل معها ويشكر ربه على النعم التي أوجدها له.
والمؤمن يوقن أن الرزق هو من عند الله الرزاق ذي القوة المتين، وهو اسم من أسمائه الحسنى، وهو مالك الملك، وأنه لو أعطى كل إنسان ما يريد لم ينقص من ملكه وهذا مصداق للحديث القدسي الطويل الذي ورد في صحيح البخاري عن طريق أبي ذر رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: يقول الله عز وجل: يا عبادي! إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
ولكن مع الإيمان العميق بأن الله هو الرزاق إلا أنه أمر الإنسان بالسعي والعمل وبذل الجهد لأجل تحصيل رزقه، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة" فبذل الأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق سنة من سنن هذه الحياة الدنيا.
وقد يقول قائل بما أن الله هو الرزاق وبيده مقاليد السماوات والأرض، وأنه بإمكانه أن يرزقنا وذلك لا ينقص من ملكه شيئًا، فلماذا لا يبسط لنا الرزق ويجعلنا نعيش في نعيم ورغد، بدلا من التعب والشقاء الذي يتمثل في الجهد الذي يبذله الإنسان لأجل تحصيل لقمة العيش التي تُعيله وتعيل عياله؟ إن هذا لا يتفق مع حكمة وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فعمران الأرض لا يكون بالراحة والدعة والنوم، بل يحصل بالجد والعمل والسعي، وإعمال الفكر والبدن، وتسخير كل ما آتانا الله من علم ومعرفة في خدمة البشرية، وجعل هذا الكوكب صالحًا للسكنى والعبادة.
وبما أن الله هو خالق الإنسان فهو أعلم بمقدار الرزق الذي يناسبه، فلو أن الله بسط الرزق للناس وجعلهم ينالون ما يشتهون وزيادة فإن ذلك سيجعلهم يطغون في الأرض، فقال الله تعالى في سورة الشورى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" فهو مطّلع على عوالم الغيوب، كما أنه عز وجل مكن لأقوام سابقين في الأرض وآتاهم من النعم والأرزاق، ولكنهم بغوا وتجبروا في الأرض وأعرضوا عن دعوة أنبيائهم، فكان مصيرهم الهلاك.
والله أوجدنا في هذه الأرض ليختبرنا ويبتلينا، وأكد على أن هذه الحياة هي حياة زائلة جُعلت للاختبار والابتلاء، وأنها ليست دار ثواب وعقاب، ولو أن الله بسط الرزق، لم يوجد هنالك ابتلاء بالنقص في الأرزاق والأقوات والله عز وجل يقول في سورة البقرة: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" فقد بيّن أنه إذا أصابهم الخوف والجوع والنقص في الأرزاق وصبروا، واحتسبوا وأرجعوا الأمر لله وأنه هو الذي أوجدهم وقرر عليهم هذا الأمر وأنهم راجعون إليه فأولئك عليهم رحمات من ربهم لاجتيازهم هذا الاختبار والابتلاء وهم الذين هداهم الله ولن يضيع أعمالهم.
وهنالك مفاتيح للرزق وأسباب ذكرها الله في كتابه العزيز وذكرها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وهي تمثل أمورا يعملها المسلم فتكون سببا في فتح أبواب الرزق عليه، من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، وأول تلك المفاتيح هو مفتاح الصدقة، فقد بيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي جاء عن طريق أبي هريرة قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا".
وأمر الصدقة عظيم عند الله عز وجل وهو يخلف على من أنفق في سبيل الله عز وجل، فقد قال الله تعالى في سورة سبأ: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" فتلمّس حاجات الناس والتعرّف على أحوالهم والاهتمام بمعايشهم وجبر خواطرهم يقرب إلى الله عز وجل.
ومن مفاتيح الرزق صلة الرحم، فمن يصل رحمه ويسعى في حوائجهم يمده الله عز وجل بأرزاقه، ويطيل عمره كما ورد في الحديث النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه".
ومن مفاتيح الرزق أيضا كثرة قراءة القرآن وحفظه وتدبره، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وحفظة القرآن يحدثون عن أنفسهم أنهم تنصب عليهم الأرزاق من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، وذلك لبركة القرآن. وكل أعمال الخير والبر هي مفاتيح لتعرض رحمات الله ونفحاته وأرزاقه.
وقد أورد القرطبي في تفسيره قصة الأصمعي العجيبة مع أحد الأعراب حول مسألة الرزق. يقول الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ عليّ منه شيئا، فقرأت والذاريات ذروا إلى قوله: وفي السماء رزقكم فقال: يا أصمعي حسبك! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعنّي على توزيعها، ففرّقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون فمقتُ نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلّم عليّ وأخذ بيدي وقال: اتلُ عليّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت والذاريات ذروا حتى وصلت إلى قوله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون، فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم يقول الله تبارك وتعالى: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون، قال: فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الله عز وجل أن الله من حیث
إقرأ أيضاً:
ثواب استماع القرآن للمرأة غير القادرة على القراءة.. تعرف عليه
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول (امرأة كبيرة في السن لا تحفظ كثيرًا من القرآن، ولا تستطيع القراءة من المصحف، وتسأل عن ثواب الاستماع للقرآن الكريم من المذياع ونحوه.
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، إن قراءة القرآن الكريم أو الاستماع لتلاوته كلاهما عبادة من أفضل العبادات، والسنة النبوية عامرة بالنصوص المؤكِّدة لفضلهما وثوابهما: ففي خصوص قراءته جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» رواه الترمذي.
وفي خصوص الاستماع إليه جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ، وَمَنْ تَلَاهَا كانت لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه الإمام أحمد.
وقد حث الله تعالى عباده المؤمنين على الاستماع إلى القرآن الكريم والإنصات له، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]، فالله عز وجل أرشد المؤمنين به المصدقين بكتابه إلى أن يصغوا وينصتوا إلى القرآن إذا قرئ عليهم؛ ليتفهموه ويعقلوه ويعتبروا بمواعظه؛ إذ يكون ذلك سبيلًا لرحمة الله تعالى بهم.
وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ يحب أن يستمع لتلاوة القرآن من غيره، وهذا مما يؤكِّد سنية الاستماع والإصغاء لتلاوة القرآن الكريم واستحبابه؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قالَ: قال لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ، قُلتُ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: فإنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِن غَيرِي، فَقَرَأْتُ عليه سُورَةَ النِّسَاءِ، حتَّى بَلَغْتُ: ﴿فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٍ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدًا﴾، قالَ: أمْسِكْ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ» أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري.
وقد كان هذا حال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين مع القرآن؛ فكانوا إذا اجتمعوا أمروا رجلًا منهم أن يقرأ وهم ينصتون إليه، وهو أيضًا حال التابعين ثم مَنْ بعدهم مِن العلماء والصالحين والمتعبدين.
فعن أبي نضرة قال: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اجْتَمَعُوا تَذَاكَرُوا الْعِلْمَ وَقَرَءُوا سُورَةً» أخرجه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع".
ومما ينبغي على المسلم اتباعه أن يجمع بين كل ذلك الخير، فيقرأ تارة ويستمع تارة أخرى؛ إذ التلاوة تشمل الاستماع إلى قراءة نفسه، وتزيد على ذلك لتشمل النظر في المصحف الشريف إن كانت القراءة منه، وتحريك اللسان بكلام الله تعالى، وفي جميع الأحوال ينبغي الحرص على أن يكون قلبه أقرب للخشوع والتدبر والفهم لآيات القرآن الكريم.
فإذا لم يستطع قراءة القرآن الكريم، وكان قادرًا على السماع بأن يلقي سمعه، ويحضر قلبه بما يتحقق معه الفهم والتدبر، فلا شك أنه محمودٌ مأجورٌ بإتيانه ما يقدر عليه من ذلك، وهو معذورٌ فيما عجز عنه، ولا ينبغي أن يكون ما عجز عنه عذرًا أو وسيلة لترك ما يقدر عليه من الخير، فما يمكن له الإتيان به سواء كان واجبًا أو مستحبًا لا يسقط عنه لأجل ما عجز عنه؛ لأن "الميسور لا يسقط بالمعسور"، كما هو مقررٌ في القواعد، قال الله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16]، ومن قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه البخاري. يُنظر: ["الأشباه والنظائر" للإمام تاج الدين السبكي (1/ 155، ط. دار الكتب العلمية)].
ويحصل الاستماع لتلاوة القرآن الكريم بكل ما هو متاح على حسب الطاقة، سواء كان بسماع من يقرأه مباشرة، أو بواسطة مذياع أو تلفاز أو هاتف ونحو ذلك.
وبناءً عليه وفي واقعة السؤال: فقراءة القرآن الكريم أو الاستماع لتلاوته كلاهما عبادة من أفضل العبادات، جاءت نصوص الشرع مؤكدة لفضلهما وثوابهما، وينبغي على المسلم أن يجمع بين وجوه الخير، فيقرأ تارة ويستمع تارة أخرى، فإذا لم يستطع قراءة القرآن الكريم، وكان قادرًا على الاستماع بأن يلقي سمعه، ويحضر قلبه بما يتحقق معه الفهم والتدبر -فلا شك أنه محمودٌ مأجورٌ بإتيانه ما يقدر عليه من ذلك، ومعذورٌ بما عجز عنه، ويتحقق الاستماع لتلاوة القرآن الكريم بكل ما هو متاح على حسب الطاقة، سواء كان بسماع من يقرأه مباشرة، أو بواسطة مذياع أو تلفاز أو هاتف ونحو ذلك، وبه يحصُل الثواب الموعود.