دلالات اعتقال مؤسس «تليجرام» في فرنسا
تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT
رغم المسوغات التي ساقتها السلطات الفرنسية لإقدامها أمس الأول «الاثنين» على اعتقال الملياردير الروسي المولد «بافيل دوروف» الرئيس التنفيذي والمؤسس لشركة «تليجرام» التي تدير منصة التواصل العالمية التي تحمل اسمها، فإنني أشعر أن هناك يدا صهيونية أمريكية فرنسية في أمر الاعتقال، باعتبار أن تطبيق «تليجرام» الذي يستخدمه أكثر من 950 مليون شخص أصبح المنصة الوحيدة المتاحة أمام حركة المقاومة «حماس» لنشر أخبار عملياتها ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي، وتسويق سردها للأحداث في الحرب الطاحنة التي تخوضها في مواجهة آلة القتل والإبادة الجماعية الإسرائيلية المدعومة أمريكيا وغربيا.
لم تقنعني الأسباب التي قدمتها السلطات الفرنسية لاعتقال الرجل الذي وُلد في روسيا ويعيش الآن في دبي، وأسس «تليجرام» مع شقيقه، وتقدر ثروته بنحو 15 مليار دولار، وأهمها إساءة معاملة الأطفال على تطبيق المراسلة، لأنه إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تعتقله فرنسا من قبل خاصة وأنه يحمل الجنسية الفرنسية إلى جانب الجنسية الإماراتية، ويتردد على فرنسا كثيرا.
إن قراءة ما بين السطور تكشف أن موضوع الأطفال رغم احتمال صحته جزئيا ليس هو السبب الرئيس للقيام بهذه الخطوة التي تهدف في تقديري إلى ممارسة ضغوط على الرجل لإسكات الصوت الفلسطيني وأصوات المظلومين في العالم الذين أصبحوا يلجؤون إلى هذه المنصة بعد أن ضاقت بهم المنصات العالمية الأخرى مثل فيسبوك وإكس وإنستجرام وغيرها. ولعل هذا ما عبرت عنه المدعية العامة الفرنسية التي قالت إن «دوروف احتجز للتحقيق معه في اتهامات بتوزيع مواد اعتداء جنسي على الأطفال، ومخدرات، وغسيل الأموال، والعمل مع منظمات الجريمة المنظمة والمنظمات الإرهابية». ومن المعلوم أن فرنسا تصنف «حماس» باعتبارها جماعة إرهابية كونها مدرجة أيضا في قائمة المنظمات الإرهابية الصادرة عن الاتحاد الأوروبي.
من المؤكد أن اعتقال «دوروف» جاء بعد رفضه إغلاق قنوات وحسابات حركات المقاومة الفلسطينية، ورفضه كذلك تزويد الحكومات الغربية بالمعلومات عن أصحابها والكشف عن الرسائل الخاصة المتبادلة بين مستخدمي تلك القنوات. لقد لجأت حماس إلى «تليجرام» نتيجة التضييق الشديد الذي تتعرض له، وكذلك كل المتعاطفين معها على الشبكات الأخرى. وأصبحت بيانات وفيديوهات المقاومة تُنشر أول ما تُنشر على هذه المنصة ومنها تتدفق إلى وسائل الإعلام. ونجحت حماس من خلال المنصة ومنصات تليفزيونية أخرى من تسويق سرديتها للأحداث ودحض المزاعم الصهيونية والتأثير في الرأي العام العالمي. وكان من الطبيعي أن تعمل الصهيونية العالمية على حرمان المقاومة من معقلها الإعلامي الوحيد. وأكاد أجزم أن «دوروف» أثناء اعتقاله سوف يتعرض لضغوط لحذف قنوات المقاومة من المنصة في مقابل الإفراج عنه، في محاولة لتجفيف كل المنابع الإعلامية المتبقية للمقاومة في غزة.
وإذا كان اعتقال «دوروف» قد أعاد إحياء النقاش بين المدافعين عن حرية التعبير التي قتلتها الشبكات الاجتماعية بوضع قيود على المحتوى المناهض لإسرائيل والصهيونية العالمية وبين الشركات التي تخشى التدخل الحكومي القاسي في عملها وتسمح للحكومات بمراقبة مستخدميها، فإنه أيضا يفتح على الجانب الآخر نقاشا حول جدوى تعدد منصات التواصل الاجتماعي إذا كان المضمون موحدا ومتفقا عليه، ويسمح لطرف بالتعبير الحر عن رأيه وتقديم رؤيته للأحداث، وأعني هنا الصهاينة والمتعاطفين معهم، بينما يحرم الطرف الآخر «الفلسطينيون والمتعاطفون معهم» من ذلك.
ولا شك أن اعتقال مؤسس «تليجرام» بدعوى فشل المنصة المزعوم في إدارة المحتوى بشكل كافٍ، يهدد حرية التعبير ويحرم المعارضين للسياسات الأمريكية والغربية من التعبير عن رأيهم، ويمنح الحكومات قدرًا كبيرًا من السلطة للإطاحة بحق أصيل من حقوق الإنسان وهو الحق في الاتصال.
أين كانت فرنسا والولايات المتحدة والدول الغربية عموما عندما كان «تليجرام» يمثل المنصة الوحيدة المتاحة لتنظيم داعش والمركز الإعلامي الرئيس له لعقد من الزمان. لم يتحرك أحد وقتها لاعتقال صاحب المنصة لأن داعش كانت صناعة أمريكية غربية في الأساس، ولكنه تحرك عندما أغضب التطبيق، الذي يعد أحد أكثر تطبيقات المراسلة شعبية على مستوى العالم، إسرائيل ومن يدور في فلكها من حكومات ودول، بعد أن فشلت جميعها في إقناع الشركة بتزويدها بالمعلومات عن المحادثات الجماعية الخاصة التي تتم عليه. وقد كشفت دراسة أجرتها اليونسكو في عام 2022 إلى أن ما يقرب من نصف المحتوى المتعلق بالهولوكوست والذي تمت مشاركته علنًا على «تليجرام» يحتوي على إنكار المحرقة اليهودية، وهو أمر لا يسعد الصهاينة بالتأكيد.
صحيح أن بعض الحكومات في العالم حظرت التطبيق أو طلبت منه حذف محتوى محدد، مثل حكومة البرازيل الذي حظرته مؤقتا في العام الماضي بعد اتهامات غير مؤكدة بأن مجموعات من النازيين الجدد استخدموه لشن هجمات على المدارس. وفي العام نفسه، طلبت الحكومة الهندية من الموقع حذف كل صور الاعتداء الجنسي على الأطفال. ولكن لم يجرؤ أحد على اعتقال صاحب ومؤسس التطبيق إلا بعد استخدام المقاومة الفلسطينية له. ولعل أهم ما يقلق الصهيونية العالمية من استمرار التطبيق هو أنه - وفقا لشروط الخدمة المعلنة له - لا يدير ولا يتدخل في الرسائل الخاصة بين المستخدمين أو المحادثات الجماعية الخاصة، كما أنه كما يقول على موقعه الإلكتروني «لم يكشف عن بايت واحد من بيانات المستخدمين لأطراف ثالثة بما في ذلك الحكومات» مثلما تفعل المنصات الأخرى.
في عام 1981 نشرت منظمة اليونسكو تقرير لجنة الأيرلندي الحائز على جائزة نوبل للسلام شون ماكبرايد عن مشاكل الإعلام والاتصال في العالم تحت عنوان لافت هو «أصوات متعددة.. وعالم واحد» والذي طالب بإقامة نظام إعلامي عالمي جديد. والآن وبعد 43 عاما من صدور هذا التقرير التاريخي لم يتغير شيء على الصعيد الإعلامي العالمي بل ازداد الأمر سوءا، ولم يعد بالإمكان الحديث عن إقامة نظام إعلامي عالمي جديد متوازن وعادل، بعد أن سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية على كل المنصات التي أنتجتها شبكة الإنترنت، وأصبح لدينا - إذا صح التعبير- «منصات متعددة وصوت واحد»، هو صوت الغرب المتحالف مع الصهيونية العالمية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الصهیونیة العالمیة
إقرأ أيضاً:
بعد رحيل جوزيف ناي مؤسس «القوة الناعمة».. هل لازالت هذه النظرية قوية بعد 20 عاما من ظهورها؟
في عام 2004، وبينما كانت الولايات المتحدة في خضم ما أسمته بحربها على الإرهاب، أصدر جوزيف ناي الأكاديمي الأمريكي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد كتابه “القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، والذي صاغ من خلاله أحد النظريات التي فرضت نفسها على الأوساط السياسية والثقافية في العالم خلال العقدين الأخيرين، وذلك قبل أن يفارق الحياة قبل 10 أيام، وبالتحديد في يوم السادس من مايو 2025م.
وجوزيف ناي، سياسي أمريكي مخضرم وأكاديمي بارز في العلوم السياسية، وُلد في ولاية نيوجيرسي الأمريكية عام 1937م، تولى عمادة مدرسة جون كينيدي الحكومية في جامعة هارفارد، وأسس مركز الدراسات الليبرالية الجديدة في العلاقات الدولية، وتولى عدة مناصب رسمية، منها مساعد وزير الدفاع للشئون الأمنية الدولية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، واشتهر بابتكاره لعدة مصطلحات، منها “القوة الناعمة، والقوة الذكية”، صدر له عدة مؤلفات أشهرها، “القوة الناعمة، مستقبل القوة، قوة القيادة، فهم النزاع الدولي”.
لكن كتابه “القوة الناعمة” يعد أشهر كتبه على الإطلاق، حيث أكد خلاله أن الثوة الناعمة لبلد ما ترتكز على ثلاثة موارد، هي: ثقافته، وقيمه السياسية، وسياساته الخارجية”، جاء ذلك في وقت كان فيه ناي صاحب الانتماء للحزب الديمقراطي كان يرقب عن كثب تنامي موجات العداء للولايات المتحدة الأمريكية، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق، فأراد أن يبرهن على وجود قوة أخرى أكثر تأثيرًا من القوة المسلحة، إنها “القوة الناعمة” التي تستند على هوية البلاد وثقافتها وقيمها التي تؤثر على الآخرين بواسطة الجاذبية والإلهام والإبهار، وتساءل في مقدمة كتابه قائلاً:”من قال أن القوة العسكرية وحدها هي التي تحقق لأصحابها الهيمنة على العالم؟.. هناك قوة أخرى تملك من الردع ما لا توفره أزيز الطائرات وطلقات المدافع.. إنها باختصار “القوة الناعمة”.
أكد جوزيف ناي أن القوة والنعومة نقيضان لا يجتمعان، بهذا حكمت اللغة وجرت الأحداث، ومع ذلك وجدنا السياسي والدبلوماسي الأمريكي المخضرم جوزيف ناي يبتكر مصطلح “القوة الناعمة”، من خلال كتابيه “وثيقة نحو القيادة” عام 1990م، وكتاب “مفارقة القوة الأمريكية” 2002م، وأراد من خلال هذا الكتاب أن يُفند دعاوى أنصار مبدأ القوة القاهرة، الذين يؤمنون بأن القوة المسلحة وحدها هي القادرة على حسم الصراع وحماية المصالح، لاسيما بعد أن تم تشكيل العالم من جديد في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ودخول الولايات المتحدة عدة حروب في أفغانستان والعراق.
لقد بنى جوزيف ناي نظريته السياسية من خلال عدة ركائز ومنها الجاذبية الحضارية، وقام بتعريف “القوة الناعمة” على أنها القدرة على تحقيق الأهداف المنشودة عن طريق الجاذبية بدلاً من القوة، وتعتمد على أثر الجاذبية والإبهار في سلوك الآخرين بدلاً من الإرغام ودفع الأموال، ومع ذلك لا يُمكن إنكار أهمية “القوة الصلبة” التي تستند على العتاد العسكري والموارد الاقتصادية المُسيطرة أو ما يعرف بسياسة “العصا والجزرة”، ودورها الرادع في مواجهة المخاطر في ظل نظام عالمي يموج بتدفق المعلومات والأحداث السياسية والعسكرية العاصفة، والتهديدات الإرهابية ذات الأيديولوجيات المنحرفة، والتي ستستخدم وسائل دمار شامل أصغر حجمًا وأكثر تدميرًا وأقل تكلفة مستفيدة من التطور التكنولوجي في الابتكار والاتصالات.
وشدد ناى أن القوة العسكرية الصلبة تبدو مثل العضلات المربوطة لا يستطيع صاحبها استخدامها لأنها مُكبلة، فالدول العظمى لا تستطيع استخدامها لأنهم باختصار لا يستطيعون تحمل تبعاتها وهذا ينطبق على الأسلحة النووية، خاصة حينما أصبح الكثير من أطراف العالم يملكون مثل هذه القوى، رغم أنها تقوم على الردع، ولهذا انتصرت فيتنام ذات القوة العسكرية المحدودة على أمريكا ذات القدرات النووية؛ لذا قد يملك بعض القادة الدينيين من القوة عبر سلطتهم الدينية والروحية ما يفوق أثر الساسة ممن يملكون القوة الصلبة من مال وسلاح،على هذا لا معنى لتقسيم العالم من حيث إلى قوة عُظمى أحادية القطب أو غيرها؛ فلا تنهض دولة مهما بلغت من القوة بمفردها في العالم الحديث دون غيرها من الدول.
وقد قسم ناي موارد “القوة الناعمة”، فمنها ما يرجع لثقافة البلاد وآدابها الملهمة للآخرين مثل أفلام هوليود وبرامج التلفزيون، واعتبر هذه القوة مناسبة لإيصال رسالة الولايات المتحدة لدول العالم، إلى جانب الطلاب الذين يدرسون هناك، ومنها ما يرجع للقيم السياسة إذا ما تم تطبيقها بكفاءة ونشر مبادئها في بلدان العالم كالديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبارها مصادر جذب قوية، إلى جانب السياسية الخارجية المشروعة التي تميل للانفتاح مع دول العالم، وضرب مثالاً على ذلك بقضايا مثل محادثات السلام ومبادرات الحفاظ على البيئة والمناخ ومكافحة الأوبئة.
في مقدمة الفصل الثاني من كتابه “القوة الناعمة”، أكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، أن الولايات المتحدة تمتلك عدة روافد ثقافية وسياسية واقتصادية تُغذي قوتها الناعمة، فبلغة الأرقام، تمتلك واشنطن عدة أشكال للقوة الناعمة، فعلى الصعيد الاقتصادي تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًا كأكبر اقتصاد عالمي، كما تحتل المرتبة الأولى في مجالات علمية متعددة مثل الفوز بجوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء والاقتصاد، وثقافيًا تنشر الولايات المتحدة كتباً أكثر من أي بلد في العالم، كما أنها أول وأكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية، وعلى الصعيد الاجتماعي تضرب أمريكا مثالاً على التعايش، حي تجتذب ما يقارب من ستة أضعاف المهاجرين الأجانب، وجزء كبير من هؤلاء المهاجرين يدرسون في الولايات المتحدة بنسبة تصل لـ 28% من أصل 1.6 مليون طالب مسجل في جامعات عالمية خارج بلدانهم، فضلاً عن ستة وثمانين ألف باحث أجنبي.
وشدد ناي أن القرارات السياسية والعسكرية المتسرعة والخاطئة أدت لإضعاف جاذبية القوة الناعمة الأمريكية، حيث خسرت واشنطن جزءا كبيرًا منها خلال حرب فيتنام، وبعد الحرب في أفغانستان عام 2001م، وغزو العراق عام 2003م، وسرعان ما تحولت نظرة الانبهار لحالة من معاداة أمريكا والرفض العميق لمجتمعها وثقافتها، بسبب ممارسات الهيمنة الأمريكية، كما تُسهم السياسات الداخلية في ضعف جاذبية القوة الناعمة وتقبل الشعوب للقيم الأمريكية؛ حيث تسببت سياسة الإدارة الأمريكية التي قامت على فرض الديمقراطية الأمريكية بالقوة وازدراء الإسلام في أعقاب أحداث11 سبتبر وتقريبها لرجال دين مسيحيين متطرفين في تآكل القوة الناعمة الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي وتصدير صورة سلبية لأمريكا.
وضرب ناي مثالاً على ذلك بنجاح الثقافة الشعبية الأمريكية في صد المدّ الشيوعي خلال الحرب الباردة مع السوفييت، واستطاعت الترويج لقيم الحرية والديمقراطية والليبرالية، وتمكنت هذه الثقافة من اختراق جدار برلين عبر التلفاز والأفلام السينمائية قبل زمن طويل من تاريخ سقوطه عام (1989م)، أي قبل أن توجه المطارق والجرافات لهدم السور، حيث اخترقته الكثير من الصور المتحركة والثابتة والمعلومات والأخبار عن الثقافة الشعبية الغربية، وهكذا نجحت الجاذبية الأمريكية الثقافية في كسب عقول وقلوب الغرب والسوفييت على السواء، فإذا كانت القوة الصلبة قد جعلت السوفييت يشيدون جدارًا عسكريًا منيعًا، فإن القوة الأمريكية الناعمة قد اخترقته وجعلته يتفكك ويُهدم من الداخل.
وفي كتابه “القوة الناعمة”، أكد ناي امتلاك العديد من دول العالم لمظاهر كثيرة للقوة الناعمة تستخدمها في التأثير الخارجي على محيطها الإقليمي والدولي، فالقوة الناعمة لم تكن يومًا حكرًا على أمة دون أخرى؛ فالولايات المتحدة الأمريكية ليست وحدها من يملك هذا السلاح، فالاتحاد السوفييتي كان غريمًا قويًا لأمريكا خلال الحرب الباردة، وكان له دوره الكبير في تصدير الشيوعية في العالم، وأنفق كثيرا لتقويه ثقافته فانتشرت موسيقاه السمفونية وازدهر المسرح وعروض الباليه، وحاز الرياضيون السوفييت على ميداليات أوليمبية رياضية أكثر مما حازته الولايات المتحدة ، فضلاً عن التقدم العلمي في علوم الفضاء عشية إطلاق سبوتنيك، أول قمر صناعي فضائي عام 1957م، لكن ظلت الثقافة السوفيتية في مجال الفن خافتة ولا ترقى لأثر هوليود، وربما يعود ذلك لوجود خلل في الدعاية التي لم تكن تتماشى مع السياسات السوفيتية.
أما أوروبا، فهي المنافس الحالي الأقوى للولايات المتحدة في الفنون واللغات والآداب والأزياء والأطعمة، وشكلت كل هذه المقومات عناصر جذب عالمية تتميز بانتشارها الطاغي، فاللغات الأوروبية هي الأوسع انتشارًا على مستوى العالم، وتحتل دول أوروبية مثل (فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، ألمانيا) مراكز متقدمة في الحصول على جوائز نوبل، ولديها مبيعات ضخمة للمؤلفات الموسيقية ونشر الكتب، وتتفوق فرنسا على الولايات المتحدة في مجالات كالسياحة، ويعد الاتحاد الأوروبي طاقة جذب كبرى بما تملكه دوله من طاقات وإمكانات، وأصبحت دول الاتحاد تنافس أمريكا في مجالات التنمية الدولية، والدبلوماسية العامة، والدفاع عن قضايا السلم وحماية البيئة وحقوق الإنسان، وأهلتها خبراتها الكبيرة في إدارة المؤسسات والشركات متعددة الجنسيات.
وتمتلك بعض الدول الأسيوية من القوى الناعمة ما يمكنها أن تنافس به أمريكا والاتحاد الأوروبي، فاليابان طبقت خطة تحديث ملهمة أهلتها لتكون صاحبة أكثر براءات اختراع في العالم، وموطن للعديد من العلامات التجارية الكبرى ورائدة للصور المتحركة وألعاب الفيديو، فضلا عن احتلالها المركز الثاني في بيع الكتب والموسيقى وصادرات التكنولوجيا، أما دول مثل ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة فصارت معجزات اقتصادية ناهضة حققت الرفاهية لشعوبها، وتلوح الصين والهند كقوتين عملاقتين من قوى آسيا، ولا يقتصر أثر القوة الناعمة على الدول وحدها، فهناك منظمات دولية غير حكومية تتمتع بجاذبية كبرى، مثل: المنظمات الحقوقية والشركات عابرة الحدود، مستفيدة من التقدم التكنولوجي والثورة المعلوماتية والاتصالات في تحقيق تلك الجاذبية بموارد مالية محدودة في كثير من الحالات.
وخلال عهد جورج بوش الابن (2001-2009م) وبعد سلسلة الحروب التي أطلقها على ما يُسمى بالحرب الأمريكية على الإرهاب، وتنامي موجات الكراهية والعداء لأمريكا، وتضرر مصالحها في عدة مناطق بالعالم، وقد أسهمت أحداث 11سبتمبر بتصحيح وجهة النظر الأمريكية حيال القوى الناعمة، فبدأت واشنطن تهتم بتحسين صورتها في أنحاء العالم في أعقاب أحداث 11 سبتمبر جنبًا وبناء التحالفات الإستراتيجية، وقد وصف ناي روشتة من ثلاثة محاور لبناء الإطار العام لنظرية “القوى الناعمة”، يتمثل المحور الأول في ضرورة الاتصالات اليومية مع وسائل الإعلام لتوضيح السياسات المحلية والخارجية وتوضيح القرارات محليًا ودولياً، والجاهزية التامة للتعامل مع إدارة الأزمات، وتقديم الإيضاحات اللازمة بشأن أي أحداث تطرأ على الساحتين الداخلية والخارجية.
ويقوم المحور الثاني لنظرية القوى الناعمة على وسائل الدعاية المركزة، والتركيز على أحداث وفعاليات كالحملات الإعلامية السياسية الدعائية المركزة، وهذا سيؤدي إلى تحسين صورة أمريكا وبيان قوتها الناعمة بشكل طويل الأمد، وإحدثاث تأثير طويل المدى وتدريجي على الرأي العام أو النخب السياسية بشأن اتخاذ موقف محدد تجاه قضية معينة.
أما ثالث المحاور فيستند على إقامة علاقات دائمة مع الشخصيات عبر سنوات طويلة، وذلك من خلال المنح الدراسية، والتدريب والندوات والمؤتمرات والتأثير على وسائل الإعلام المحلية لتكريس القيم الأمريكية ونشرها في أنحاء العالم.
ويعود جوزيف ناي أدراجه إلى منطقة الشرق الأوسط باعتبارها ساحة للصراعات بين القوى الدولية خلال العقود الأخيرة، حيث تطرق للحديث عن المصاعب التي تواجه انتشار القوة الناعمة الأمريكية في تلك المنطقة من العالم، خاصة وأن أمريكا عبرت عن قوتها الصلبة المسلحة فقط في المنطقة العربية، وتتعلق تلك الإشكاليات بسبب الفوارق السياسية والحضارية بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط لا سيما المنطقة العربية، وقد اقترحت لجنة استشارية أمريكية بعض التوصيات لزيادة قوة الأمريكية الناعمة في البلاد العربية والإسلامية مثل إنشاء المكتبات وترجمة الكتب إلى العربية، وزيادة المنح الدراسية المقدمة لتلك الدول، فهؤلاء الدارسون سيكونوا ناطقين باسم أمريكا وفضائلها في بلدانهم.
وفي نبرة تحذيرية أقر جوزيف ناي أن سياسات الهيمنة تسببت في زيادة موجات الكراهية للولايات المتحدة، في وقت برز فيه بعض اللاعبين البارزين في السياسة الدولية داعين لثقافتهم وقيمهم، ويعود ذلك لتجاهل القوة الناعمة وإنفاق أمريكا تنفق على القوة العسكرية التقليدية ما يزيد عن سبعة عشر ضعفا عما تنفقه عن القوى الناعمة، وذكر أن حالة العداء لأمريكا رادت في أعقاب حربيها على أفغانستان والعراق، لا سيما بعد أن ذهبت الولايات المتحدة وبريطانيا بمفرديهما للحرب بعد أن فشلا في تكوين تحالف دولي أو أممي في مسعيهما، لكنهما لم يكونا أبدا بمنأى عن الإرهاب، لقد أظهرت أمريكا قدراتها العسكرية بشكل مبهر، لكن هذا على حساب خصم كبير من رصيد قوتها الناعمة، حيث أظهرت استطلاعات الرأي تدني شعبية الولايات المتحدة حتى في الدول التي أيدتها في حربها على العراق مثل بريطانيا وأسبانيا وإيطاليا، بل ووصلت إلى الحضيض في البلدان العربية والإسلامية، وهذه الدول من المفترض أن تدخل معها أمريكا في شراكة إستراتيجية في إطار حربها على الإرهاب.
لقد أكد أنا ناي أن أمريكا اصبحت بحاجة من أي وقت مضى لوصفة جديدة لإصلاح ما أفسده ساستها من تراجع لقوتها الناعمة وهذا يقتضي قراءة متأنية للمشهد العالمي، وذلك من خلال التوسع في المساعدات الدولية، وجهود إعادة الإعمار في بلدان الأزمات، والتوسع في وساطات السلام، وإتباع سياسة الشراكة بعيدًا عن مبدأ الهيمنة من أجل تكثيف الجهود في الملفات الدولية، ولاسيما في جهود محاربة الإرهاب، والتي تطلب مشاركة دولية واسعة وجهود حثيثة لمواجهة هذا الخطر.
لقد صاغ جوزيف ناي عبر هذا الكتاب نظريته الخاصة بالقوة الناعمة، وأرسل برسالة إلى ساسة العالم الذين يرون في القوة العسكرية وحدها أساس الهيمنة في معادلة السياسة الدولية، مؤكدًا أن الدول تملك أسلحة ثقافية وحضارية أخرى تُشكِل فيما بينها “قوة ناعمة” يُمكن أن تحسم وجه الصراع بعيدًا عن ساحات الحروب.
أحمد عادل – بوابة الأهرام
إنضم لقناة النيلين على واتساب