جريدة الرؤية العمانية:
2025-08-03@13:01:12 GMT

التسامح

تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT

التسامح

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

"المُسامح كريم".. عبارة نُردِّدُها ونفتخر بنطقها على الدوام لتشجيع أنفسنا والآخرين للتسامح والعفو عن من أساء إلينا بالقول أو بالفعل من أجل استقرار الأمور في هذه الحياة التي تشهد خلافات في وجهات النظر بل وحتى سلب الحقوق والاعتداء على الممتلكات والأرواح في كثير من الأحيان.

بالطبع الأقوياء هم الذين يبادرون بالصفح عن الآخرين، لكونهم يمتلكون الشجاعة وينطلقون من مراكز القوة وليس الضعف ويحتسبون عند الله سبحانه وتعالى أعمالهم العظيمة وماوقفهم الشجاعة والمتمثلة بالتسامح وفتح صفحات جديدة مُضئية من العفو والغفران لإسعاد الآخرين من حولهم من الذين لا يدركون ما اقترفوه من أعمال شريرة وأقوال سوقية بحق من حولهم من الناس.

صحيحٌ أن هناك من ينظر لهؤلاء المسامحين والمتنازلين عن حقوقهم؛ إذ يوصفهم البعض بالضعفاء ولا حيلة لهم سوى التنازل عن حقوقهم والعفو عن من اعتدى عليهم. وحقيقة الأمر أن الحياة تتطلب من البشر أن يتحلوا بأعلى درجات الصبر والعفو عند المقدرة لكي نعيش بسلام مع من حولنا، فالله عزَّ جلاله تكفل بدخول الصابرين على الأذى من عباده للجنة بغير حساب جزاءً على صبرهم وإحسانهم.

لا يمكن أن تسقيم أمور الدنيا والناس تتخاصم وتقاضي بعضها بعضا في المحاكم والمجالس العرفية على كل كبيرة وصغيرة، وذلك لكي لا تكبر الأمور وتتدهور العلاقات الإنسانية بين الأهل والجيران والأصدقاء وتتحول الحياة إلى جحيم، لا شك بأنَّ هناك من يتربص وينتظر حماقات الناس للاستفادة من تلك الصراعات التي لا تنتهي؛ فهؤلاء يحاولون بكل إمكانياتهم نشر الفتن ونقل النميمة ثم المحاولة من جديد إطفاء تلك النيران المشتعلة مقابل مصالح مادية وكسب صداقات أحد الأطراف المتخاصمين. يجب أن يعرف الجميع بأن من يبادل السيئة بمثلها وما أكثرهم من حولنا، سوف يدركون بعد فوات الأوان أنهم في طريق الخطأ، والأجدر بهؤلاء القوم أن يُجرِّبُوا الطريق الآخر، وهو أن نُحسن لمن أساء ونمنحه فرصة لعله يُصحِّح من سلوكه العدواني، ويتعلم من تجارب الحياة، وأن نتجاهل من يُسيء إلينا؛ فهناك 3 أشياء وصفها الله بالجمال: "صفحٌ جميل.. صبرٌ جميل.. هجرٌ جميل".

في واقع الأمر، إننا لكي نعيش سعداء لا نحتاج إلى معجزات؛ بل أكثر ما نحتاجه في هذا الكون الرحب، قلوبٌ متسامحة مُحِّبة لبعضها بعض، إذ إن نسيان إساءات الغير بمثابة هدية لنفوسنا ورحمة لقلوبنا. فما أجمل ابتسامتنا في وجه الآخرين للتعبير عن المحبة الصادقة مهما حصل من الذين يكيدون لنا ويحاولون التقليل من شأننا؟! ردُنا عليهم دائمًا هو التسامح ونسيان تلك العثرات والكلمات البذئية التي لا تُعبِّر إلّا عن أصحاب النفوس الضعيفة التي تعودت دائمًا على الحروب الكلامية والضغائن التي لا تنتهي.

يجب أن يدرك الجميع أننا مغادرون هذه الدنيا وراحلون عنها إلى الأبد، وتبقى خلفنا الذكرى الطيبة والأعمال الصالحة فقط. أما اصطياد أخطاء من حولنا من النَّاس وعدم التجاوز عنها بأي حال من الأحوال فسوف يجعلنا نعيش في مستنقع القلق الدائم بزعم المطالبة بالحقوق واتباع ما يعرف بمبدأ المحاسبة بالمثل والمطالبة بمكاسب الدنيا التي لا جدوى منها. صحيحٌ أننا إذا رجعنا إلى الأعراف الموروثة في بعض المجتمعات العربية، فثمة اعتقاد على نطاق واسع بأن التنازل عن الحقوق والتغاضي عنها يعني ضعفًا وتهاونًا في المكانة الاجتماعية للأشخاص وتشجيع الآخرين على الاستمرار في الابتزار وتكرار تلك الأخطاء والإساءات، وأن الرد على هؤلاء يجب أن يكون بالمثل. وعلى الرغم من ذلك، يبدو لكثير من النَّاس أنَّ الاعتذار للآخرين يُشير إلى أعلى درجات الكرم والتسامح، وليس بالضرورة الاعتراف بالأخطاء المزعومة؛ فالعظماء هم الذين يتحملون تلك المسؤولية التي تمكن هؤلاء النُبلاء من احتواء المواقف الصعبة وإذابة الجليد وحل المشاكل بسبب الاعتذارات التي تهدف إلى التئام الجروح وتهدئة النفوس والخواطر ونشر ثقافة التسامح بين الناس.

هكذا.. بالتسامح تُبنى الأوطان وتتآلف القلوب بين أفراد المجتمع الواحد، ذلك لكون أن التسامح قيمة إنسانية نعترف من خلالها بقبول الآخرين بمختلف معتقداتهم ومذاهبهم الفكرية، في إطار مظلة وطنية تسوعب الجميع وتمنحهم آفاقاً رحبة من التعاون والاندماج الفكري مع اختلاف الحوارات في سوق مفتوحة يتنافس فيه الكل لتحقيق التكامل وليس التنافر؛ مهما اختلفت الآراء والتوجهات الفكرية التي تساعد في نهاية المطاف على الاجتهاد والإبداع في خدمة الإنسانية وتوحيد الصفوف والاستفادة من تجارب الغير، انطلاقًا من روائع الإمام الشافعي رحمه الله الذي قال في هذا المعنى: «رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ».

وفي الختام.. تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف أفردت قيماً ومبادئ خالدة في التسامح والتعامل بحسن الخلق مع الآخرين من البشر مع المحافظة على حرية المعتقد لأهل الكتاب، فقد عاش اليهود والمسيحيون في كنف الدولة الإسلامية عبر التاريخ بأمن وسلام في الوقت الذي تعرض اليهود- على وجه الخصوص- للقتل والاضطهاد من الأوروبيين، ولعل التسامح مع أتباع الديانة اليهودية قد شجّع اليهود على الإقامة الدائمة والعمل كأطباء وتجار ومستشارين للخلفاء والحكام في كل من بغداد والأندلس وبعض الأقطار العربية الأخرى، لكن ردهم على ذلك المعروف هو التنكيل بالشعب الفلسطيني وإبادته في قطاع غزة، وقبل ذلك كله احتلال فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الحياة بيدٍ واحدة!

هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها مقالًا بفمي؛ أُملِي الكلمات على الهاتف فتتحول أمام عينيَّ إلى نصٍّ مكتوب. وكم أنا ممتن للتقنية التي أتاحت لي تعويض يدي المعطلة. من نافلة القول إننا لا نشعر بأهمية أشياء كثيرة في حياتنا إلا حين نفقدها أو نكون مهددين بفقدانها، ومن هذه الأشياء أعضاؤنا التي لن أضيف جديدًا إن قلت إن الله لم يخلقها لنا عبثًا. هل كان يلزمني دليل مادي لأثبت هذا الأمر؟ أن توضع يدي اليمنى في الجبس مثلا، لأكابد بعدها الحياة بيد واحدة؟!

ها أنا بعد أن قضيتُ خمسين عاما من عمري يمينيًّا، أتحول بأمر طبيب هندي إلى رجل يساري، لثلاثة أسابيع على الأقل. قال الدكتور جانيش إن الأشعة السينية اكتشفت أن ألم اليد الذي كان يعاودني خلال الشهر المنصرم ليس سوى كسر في الرسغ، ويستدعي أن توضع يدي في الجبس لواحد وعشرين يومًا قابلة للزيادة. كان أول سؤال قفز لذهني: كيف سأستحم؟ رد الطبيب ببرود من اعتاد هذه الأسئلة الساذجة: «لف الجبيرة ببلاستيك». شردت لثوان وأنا أتساءل في نفسي: «وهل هناك قطع بلاستيك خاصة لاستحمام مكسوري اليد؟»، ويبدو أن أخي محمود قرأ حيرتي، فقال مبتسمًا: يقصد أن تَلُفَّ الجبيرة بكيس بلاستيك أثناء الاستحمام لكي لا تتبلل، دع أخانا حمدان يشرح لك، فهو خبير بسبب كسوره العديدة.

في طريق العودة إلى البيت كنت أتأمل جبيرتي الزرقاء التي تلف زندي ورسغي، وتخرج منها أصابعي الخمس لتذكرني بكل الأشياء التي لن أستطيع الإمساك بها. سأل محمود الذي يقود السيارة عن موعدنا المسبق للذهاب إلى العزاء في حفيت صباح الغد، صَمَتُّ للحظة، لأنني تذكرتُ أيضا عزاء سماء عيسى. تخيلتُ نفسي أدخل مجلس العزاء الكبير وأنحرف يمينا إلى أول صف. علي أن أختار إحدى طريقتين لمصافحة جموع المعزّين؛ إما أن أصافحهم جميعا بيدي اليسرى، وهو ما لن يستسيغه البعض منهم، خصوصًا كبار السن، أو أن أجازف بمد يدي اليمنى بجبيرتها وأترك الباقي لتقديرهم. يكفي أن يسيء واحدٌ منهم فقط التقدير لأصرخ وأندم على مدها. قلت لمحمود: «كلا، لن أذهب، وسأطلب من عبدالله حبيب أن يعزي سماء نيابة عني»، وطفقتُ أفكر في إجابة السؤال الذي سيتكرر علي كثيرا في الأيام القادمة: «سلامات أيش حصل؟»، ذلك أن إجابة من قبيل أن جهاز «الباور بانك» الضخم سقط بحافته من علٍ على رسغ يدي فكسره، ستحيل الأمر برمته إلى فيلم هندي رديء، وستجعل الحادث مجانيًّا، وخاليًا من أية بطولة، فلا أنا تعثرت في مباراة كرة قدم مهمة، ولا سقطتُ من على ظهر حصان، ولا حتى تعرضتُ لحادث سير.

وأنا أتناول طعام الغداء في صحن منفرد بيدي اليسرى، وبواسطة ملعقة، كنتُ أبتسم وأنا أستحضر النكتة التي أطلقها أحمد بدير في مسرحية «الصعايدة وصلوا» قبل أكثر من ثلاثين عاما، عن ذلك الرجل الذي قيل له: «لا تأكل بيدك اليسرى لأن الشيطان يأكل معك» فوضع سُمًّا في الأكل!! كانت يدي اليمنى تنظر إليّ من تحت الضمادة ولا تضحك، بل شعرتُ بها تعاتبني: «تبتسم؟! تظن أنك تستطيع الاستغناء عني بهذه البساطة؟!».

في الأيام التالية تفهمتُ مشاعرها أكثر حين وقفت على الكم الهائل من الخدمات التي كانت تقدمها لي وهي صامتة، بينما كنتُ أتلقى خدماتها دون أي امتنان، وكأنها أمر مفروغ منه: فتح الأبواب والنوافذ، كتابة المقالات والنصوص وتنسيقها في ملف الوورد، تقليب صفحات الكتب الورقية، وتحميل الكتب الإلكترونية، التوقيع على أوراق وعقود العمل، اللعب بالهاتف، الوضوء، حركات الصلاة، تحريك السكر في الشاي، لبس الدشداشة وتشبيك أزرارها عند الرقبة، واعتمار المصر، وربط الإزار، تمشيط الشعر، وإمساك فرشاة الأسنان، حمل الأطفال والمسح على رؤوسهم، التلويح للمسافرين، إطفاء المنبه كل صباح، وتضبيطه كل مساء، تناول النقود من المحفظة، وإدخال بطاقة الفيزا في آلة الصرف، تشغيل السيارة وضبط زر مكيفها، والبحث فيها عن الإذاعة، فتح أكواب الماء المغلفة بالبلاستيك، تعديل وضعية الوسادة قبل النوم، نقل الأغراض الصغيرة من مكان إلى آخر، كل هذه الأفعال والحركات وعشرات غيرها لم أستطع تنفيذها بالسلاسة نفسها التي كانت قبل تعطل اليد المسكينة.

لتعجيل التئام الكسر حاولت أمي إقناعي بتناول أدوية شعبية مجربة، كشرب «حبر الحبار» و«الموميان» -على سبيل المثال- لكنني لم أستسغهما، أما مشروب «تفر التيس» الذي نصحني صديق به، فقد كان اسمه كافيًا لينفرني منه. وبعد أن نجحت في تنفيذ بعض الأعمال بيدي اليسرى، كان عليَّ أن أجرب الاستحمام ممتثلًا لنصيحة الدكتور جانيش. خطر لي للحظة أنني «أَخِيل»؛ ذلك البطل في الأسطورة الإغريقية الذي أرادت أمه أن تخلده فلا يموت، فكان أن غمسته في نهر مقدس يَمنح أي عضو من أعضاء الإنسان الذي يلامس ماءه حصانة من الأذى. لكنها نسيت وهي تعلقه من كعبه وتغمسه في النهر أن تغمس الكعب أيضا، فلم يمسه الماء، وكان هذا كافيًا ليتسبب في مقتله، لأن خصومه عرفوا أن «كعب أخيل» هو نقطة ضعفه، فرموه بسهم قاتل. كنت «أخيل» إذن، وكانت يدي التي لُفَّتْ بالبلاستيك فلم يمسسها الماء هي «كعبي».

انتهى المقال الآن، وقد جعله فمي سهل الكتابة. لكن إرساله إلى إيميل الجريدة لن يتأتى بالفم للأسف، وهذه معضلة على أخي فيصل مساعدتي في حلها.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

مقالات مشابهة

  • هل اللعب بالشطرنج من الأمور المنهي عنها شرعا؟.. الإفتاء تجيب
  • ناتالي غادرت ولم تَعُد.. هل من يعرف عنها شيئاً؟
  • سوريا .. مصرع عنصر أمن وإصابة آخرين في السويداء
  • الجولات التي يتوقع غياب كوليبالي وبونو عنها بسبب كأس إفريقيا
  • الحياة بيدٍ واحدة!
  • كيف تختار سيارتك الجديدة؟.. 5 مميزات لا تتنازل عنها
  • ما حكم من وجد مالًا لا صاحب له؟.. أمين الفتوى يجيب
  • بعد رسوم ترامب الجمركية الأخيرة.. عدة قطاعات بانتظار المزيد
  • سرقة ديوان آل التل في إربد: اعتداء على ذاكرة وطنية
  • حكم إخفاء أغراض الآخرين بقصد المزاح.. الإفتاء تجيب