لجريدة عمان:
2025-06-18@20:56:54 GMT

النقد.. محتوى مختلف فيه

تاريخ النشر: 15th, September 2024 GMT

هل تصدقون أن هناك من يتهم المحتوى على أنه المقوض للوحدة والاتفاق، مع أن المحتوى هو من صنع الجماهير؟ وهل يوجد محتوى أوجد نفسه بنفسه حتى يوجد إشكالية النقد بينه وبين منتقديه؟ وهل تنساق الجماهير وراء محتويات غير ذات قيمة قبل أن تدخل معركة نقدها والاختلاف معها قبل التسليم المطلق لها؟ هناك جماهير غاضبة، لأن نوع من المحتوى يتصادم مع كثير من قناعاتها، مع أن هناك جماهير أخرى تتقاسم المحتوى ذاته ولا تتصادم معه كحال الأولى، إذن الإشكالية ليست في المحتوى، وإنما الإشكالية في الوعي الجماهيري، ووجود بون واسع بين الجمهورين، وإن تقاسما البيئة ذاتها، واستظلوا بذات السماء، وجمعتهم صفوف أو قاعات المحاضرات، وتلقوا المادة المعرفية نفسها الذاهبة إلى تصويب الأخطاء، وفك الرموز المغلقة، وتبسيط الإجراءات، وإنارة العقول، وإطفاء شمعات الجهل المشتعلة في الرؤوس.

كل ذلك عائد أكثره إلى مخزون ذاتي، لا علاقة له كثيرا بالمؤثرات الخارجية، فأي رسالة تصل إلى الذات، فإنها سريعا ما تذهب إلى المختبر الذاتي لتبدأ مجموعة من التفاصيل تمحص، وتفند، وتقبل/ ترفض، وتجهز لمشروع طويل من النقاش، وإبداء المسوغات، سواء للقبول أو للرفض، ومن ثم تطغو المواقف على السطح. وهذه العملية الذاتية ربما لا تستغرق كثيرا من الوقت، ولكنها تؤثر في النتائج، ولذلك فكثير منها يأتي غير متزن، وانفعالي، وردات فعله قد تكون متهورة، لا تحتكم على رؤية مدركة لمآلات النتائج، ولذلك فكثير منها ما يسقط في مأزق «عقلية القطيع» الموسومة بالشطط والتسرع، والانسياق دون وعي، وهذه لحالها إشكالية موضوعية في مجمل عمليات النقد التي يقيمها الناس على كل ما يتلقونه من محتوى، ويختلفون عليه، ولا يتفقون، وقد يصل الخلاف إلى خلاف بيني كبير ومعقد.

ولكم أن تحضروا جلسة نقاش واحدة ليتبين لكم هذا التفاوت في الفهم والإدراك للمحتوى المطروح للنقاش، وفي إدارة المناقشات، وفي تفاعلات المجموعة المحتدمة الكثير من الأمثلة، ولأن حرب غزة التي بادرت بها حماس، بشجاعة باسلة، وغير معهودة للتفاوت الكبير في الإمكانيات وفي الدعم، بين الضحية الجلاد، والمآسي يراكمها الواقع المأساوي، ولاقتراب من تمام سنتها الأولى، إلا أنه لا تزال هناك أصوات تنتقد حماس، وتسوغ ردة الفعل القاسية التي يقوم بها الجلاد ـ الأفعى التي تضرب بذيلها يمنة ويسرة من هول المعاناة والعجز واليأس والانهزام ـ فالحرب محتوى واضح الدلالة والتأثير، ومع ذلك لا يزال هذا المحتوى لم يتفق عليه على كل المستويات الجماهيرية بصورة مطلقة، ولأن ليس هناك اتفاق قطعي، فلا تزال مآسيه مستمرة، وبقسوة نتائجه حيث تذهب التقديرات إلى انتهاء أحد الطرفين انتهاء مطلقا لا عودة بعده، فإما هزيمة مطلقة أو انتصار مطلق لأي طرف من طرفي النزاع. وهذا ما يتخوف منه أطراف كثيرة حاضرة على المشهد، وتعي الحقيقة، ومع ذلك لا تزال تختلف على مآلات المحتوى الختامية، ولكنها مكبلة بقيود الاستسلام والرضوخ والانبطاح، والله غالب على أمره.

وتأتي الأحداث الرياضية - مثال آخر - مع الفارق النوعي بين الحدثين، ففي الأحداث الرياضية في عموميتها الجماهير تختلف على المحتوى الفني لممارسة اللعب، فهناك من يذهب إلى إلقاء اللوم على اللاعبين وإلقاء اللوم معناه النقد بكل مستوياته وهناك من يلقي اللوم على الفريق الفني والإداري، وهناك من يلقي اللوم على الحكم، وهنا من يلقي اللوم على الإمكانيات الفنية للملعب والظروف الطبيعية المحيطة. هذا في مجمله محتوى، ولكن الجماهير مختلفون حوله، ويصوب سهام النقد كل من زاويته، ومن خلال مجموعة القناعات التي عليها، ومن خلال التجارب التي مر بها، ومستوى السن الذي عليه، فهناك من يسوغ بقبول مجموعة الإخفاقات كلها، ويرى فيها أن ذلك واقعا لا يمكن تجاوزه، وهناك من لا يقبل كل ذلك بالمطلق، ويحمل الجميع مسؤولية الإخفاقات، وإن تحقق نصر ما، فقد يتم التغاضي عن بعض مما يثير الحفيظة لدى طرف آخر أقربهم حيادية ولكنه في المجمل هناك نقد غير متفق عليه، فكل ينظر من زاويته الخاصة جدا، بغض النظر عن مآلات النقد، وهل ستكون له غايات يسعى الجميع إلى تحقيقها؟ أما أنه مجرد تفريغ مجموعة من الانفعالات اللحظوية، لتهدأ عاصفة التشنج؟ ويحضر البعد الاجتماعي كأهم المحطات لتنوع المحتوى من ناحية، ولتنوع جماهيريته من ناحية ثانية، وعددها الضخم من ناحية ثالثة، ومن هنا تأتي جملة: «رضى الناس غاية لا تدرك» ومن هنا يشار إلى العودة إلى القناعات الشخصية، وعدم التماهي في رأي الجماهير، وكل ذلك يعكس عدم القدرة على اتفاق على محتوى ما يطرح حول مجموع الإشكاليات التي تتدافع على زوايا المجتمع الأربعة، ولعل الإشكالية الأكبر أن هناك من ينتقد ولا يقدم الحلول، وذلك حال كل المناقشات التي تثار على مجمل الموضوعات في الحياة العامة في شؤونها المختلفة.

ويذهب التقييم غالبا وهذه لحالها معضلة كبرى، على أن كل ما يثار من مناقشات هو مجرد تنظير لا قيمة له، ولأنه لا قيمة له، فلذلك لا يتفق على أهمية المحتوى، مع أن النقاشات ساخنة، وتحظى بتفاعلات كبيرة وكثيرة، وهناك من يجهد نفسه في المناقشات، وهي الإشكالية ذاتها التي تواجهها المجالس التشريعية، وعلاقتها بالسلطة التنفيذية، حيث ترى الأخيرة أن مجمل ما يثار تحت قبة السلطة التشريعية هو مجرد تنظير لا قيمة له، على الرغم من إدراكها أن ما يناقش هو ذات محتوى كبير، وعلى الرغم من تقييم المناقشين على أنهم تنظيريون، ويأتي هذا التقييم انعكاسا من عدم وجود سلطة تنفيذ القرار الذي يذهب بمناقشات المحتوى إلى التطبيق، فالقرار هو بيد السلطة التنفيذية، لأنها الأكثر إحاطة بالأرقام الصحيحة، والأكثر إحاطة بالخطط التنموية وبرامجها المختلفة، والأكثر إحاطة بما سوف تؤول إليه الأحوال من أثر تطبيق برامج معينة دون غيرها، لوجود الدراسات، والخبراء، والمستشارين، والإمكانيات المادية الكبيرة، القادرة على التنفيذ، أما السلطة التشريعية فهي غارقة في التنظير – وفق تقييم السلطة التنفيذية – مع أن محتوى المناقشات مهم بالنسبة السلطة التنفيذية لتصويب عملها الذي تتعاطى به مع الجمهور، وهذه الإشكالية بين السلطتين إشكالية تاريخية متجذرة تتوارثها السلطتان عبر مراحل فتراتها المتتالية على الرغم من أهمية المحتوى المطروح على طاولتيهما وهو محتوى التنمية، ولذلك فالتقييم هو الآخر متوارث، ويذهب كثيرا إلى المسألة الخلافي، والخروج من هذا الخلاف، كنتيجة حتمية حتى هذه اللحظة هو البقاء على إشكالية تعويم القضايا الخلافية، والإيمان بأن النقد لا يتجاوز المساحة المتاحة تحت قبة المؤسسة التشريعية.

من يستطيع أن يجزم اليوم أن الجماهير غير واعية، وغير مدركة بما يدور حولها، وما يستجد عليها من قضايا وأحداث؟ بالتأكيد لا يستطيع أحد أن يجزم بالمطلق، ومع ذلك فنتائج الرهانات خاسرة للاتفاق على محتوى معين: سواء فارض نفسه بحكم الواقع، أو متبنى من جهة معينة، أو مجموعة معينة، وغالبا تعود مآلات هذا الاختلاف هو النزاع، والتفرق، وعدم التوافق، وربما قد يجلب مضار لمختلف الأطراف من حيث نشأة عداوات ما كان لها أن تحدث لولا نقد المحتوى المطروح وعدم الاتفاق عليه، ومقولة: «الاختلاف لا يفسد للود قضية» في واقع الأمر غير صحيحة، وهو لن يقف عند إفساد الود فقط، بل قد يتعداه إلى الأبعد من ذلك، ويكون ذلك حتى على مستوى الأسرة الواحدة إن لم يحكمها عاقل يطلب من الجميع أن يأخذ بطرف الرداء، ليضعه في مكانه الصحيح، قبل أن يتضعضع، فتسقط حبات اللؤلؤ، وينفرط العقد، مع أنه يقينا أن ما تناقشه الأسرة هو محتوى مهم، وعائده يهم الجميع، ولكن في المقابل أن هؤلاء الجميع تتحكم فيهم مشاعر مختلفة، ورؤى متباينة، وتجاذبات نفسية متفاوتة، وتجارب شخصية غير متساوية، وهذه – كما أسلفت أعلاه – منغصات تقض مضاجع المتحاورين، سواء على المستوى المجموعات صغيرها وكبيرها، أو على مستوى الأفراد عبر جماهيريتهم الواسعة، وما نراه وما نعيشه من مناقشات عبر مجموعة وسائل التواصل المختلفة ما يؤكد هذه الحقيقة، وهي ليست غائبة عن الجميع بكل تأكيد.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السلطة التنفیذیة اللوم على وهناک من هناک من

إقرأ أيضاً:

هل عبرنا الوادي الغريب ؟ الذكاء الاصطناعي يحاكينا صوتا وصورة

قبل سنوات قليلة كنت أطالع أخبار هزيمة أدوات جوجل الذكية لبطل لعبة جو (go) الذي توّج بثماني عشرة ميدالية عالمية من قبل، كان ذلك بالتحديد في 15 مارس من عام 2016، هذه اللعبة التي تتطلب الكثير من التحليل والتخطيط والسرعة أتقنتها حواسيب «ألفا جو»(AlphaGo) المطورة مما يسمى «العقل العميق لجوجل» (Google DeepMind)، ويومئذ أُعتبر ذلك بمثابة إعلان مرحلة جديدة لأدوات الذكاء الاصطناعي الخاصة بجوجل وفتحت الباب أمام تصورات لم تكن تخطر على بال كثيرين عن قدرات الآلة المستقبلية في مجالات ظلت حكرا على العقل البشري وربما ظننا أنها ستبقى كذلك.

صحيح أن تفوق الكمبيوتر على غاري كاسباروف في عام 1997 يُعد نقطة فارقة في تاريخ الذكاء الاصطناعي، إلا أن تفوقه في لعبة جو عُد استثنائيا؛ لأنه لم يكشف عن قدرة الكمبيوتر على إجراء الحسابات المعقدة فحسب (وهو ما نعرف أنه قادر على فعله بمهارة حتى مع لعبة أعقد يصل عدد الحركات الأولى الممكنة فيها إلى 360 مقابل 20 للشطرنج) بل وأن يأتي بحركات تعد «غير تقليدية». أي أنها ابتكرت استراتيجيات جديدة تمامًا، لم تكتسبها من خلال تقليد أو ملاحظة أداء البشر في اللعبة.

شكّلت هزيمة كاسباروف نقطة تحوّل دفعت كبرى شركات الذكاء الاصطناعي إلى دخول سباق لإثبات تفوقها عبر تفوق آلاتها على الإنسان، ليس في الشطرنج وحدها، بل في ألعاب أكثر تعقيدا. وهذه المرة بأسلوب مغاير لتقنيات IBM التي طورت ديب بلو (Deep Blue). ففي حين أن ديب بلو استند إلى الذكاء الاصطناعي الرمزي، اعتمدت ديب مايند DeepMind على تقنيات التعلم الآلي والشبكات العصبية الاصطناعية. ويمكننا فهم الفرق بين الخوارزميتين بالنظر إلى الذكاء الاصطناعي الرمزي على أنه يشبه البرمجة التقليدية التي تعتمد على سلسلة من الشروط (مثلا: إذا حدث كذا، فافعل كذا)، معززة بقدرات حسابية ضخمة وخوارزميات بحث متقدمة. أما أنظمة التعلم الآلي، فهي تُبرمَج عبر التعلم، فتتعلم من البيانات (مثل دراستها لمباريات جو سابقة كي تُتقن اللعبة)، دون أن تُمد بالتعليمات على نحو صريح.

نفس هذه التقنيات والأدوات من جوجل «وعقلها العميق» تسارعت خطى تطورها، مع اهتمام العالم بشكل مركز على هذه التقنيات، إلى أن أعلنت جوجل مؤخرا عن أحدث أداوتها، ومنها أداة «في أو 3» المتخصصة في إنتاج مقاطع ڤيديو، سيناريو وصوت وصورة وتمثيل وإخراج، وموسيقا وضوضاء، مع تحريك للشفاه وتعابير في الوجوه بشكل واقعي إلى حد بعيد جدا، وقد تصدرت المشهد التقني لهذا السبب. هذه الأداة مختلفة عن نظيراتها لأنها قفزت قفزات نحو الواقعية، وكما يقول الخبراء أنها أخيرا غادرت «الوادي الغريب (Uncanny valley)»، في إشارة إلى أنها بعد هذه المرحلة لم تعد غريبة وغير مألوفة بالنسبة لمعظم البشر، والوصول لهذه المرحلة يعني تقدما حاسما وغير مسبوق، الواقعية هذه لم تعد تقتصر على الشكل الظاهري فحسب، بل امتدت إلى محاكاة ديناميكيات الحركة وتفاعلات الضوء والظل وانسجام العناصر المرئية والصوتية في تناغم مدهش، يجعل الفارق بين ما هو مصنوع بالذكاء الاصطناعي وما هو حقيقي يتضاءل يوما بعد يوم. الوادي الغريب هي فرضية في علم النفس والجمال تدرس العلاقة بين مدى مشابهة كائن صناعي (روبوت، دمية، أو شخصية كرتونية ما) للإنسان وردود فعلنا العاطفية تجاهها. تفيد الفرضية أن مدى تشابه الكائن الصناعي مع الإنسان يتناسب تصاعديا مع إعجابنا به وقدرتنا على التعاطف معه. إلا أن هذا يصح لدرجة معينة فحسب. الدرجة التي يبلغ فيها الشبه اقترابا من التطابق، وعندها يثير فينا نفورا غير مبرر. أو لعله مبرر، فعدم الارتياح قادم من تلقينا للكائن كبشري، ومن ثم توترنا إزاء التفاصيل الصغيرة كحركة العين وجمود الوجه. هذا الصعود في الإعجاب والتعاطف تماشيا مع الدقة في التصوير، ثم الهبوط بانحدار إذا استمر التطور هو ما يكسب الظاهرة اسم «الوادي الغريب». وهذا تماما ما يدفع بعض صناع الأفلام المعتمدة على تقنيات CGI ليختاروا أن ينتجوا أعمال إنيمي أقل من قدرتهم الفعلية في الحقيقة: خوفا من تنفير الجمهور.

في السابق - قبل أشهر أو أسابيع فقط - كنا نرى مقاطع الفيديو المنشأة بمثل هذه الأدوات ويسهل علينا تمييزها، ففي النسخة الأولى من

هذه الأدوات كانت تنتج صوتا فقط أو صورة فقط، ثم يتعين على من يريد دمجها أن يعمل على أدوات أخرى، ويستعين بأدوات أخريات لصناعة السيناريو وضبط الشخصيات كذلك، وجاءت هذه الأداة لتقول لنا أن المستقبل الذي ربما ظنناه بعيدا، قد حان، وأنه قد تنخدع بفيديو عالي الجودة، بسيناريو وصوت وصورة -متسقة معا- وموسيقى وشخصيات كلها تم توليدها بأداة تقنية، سهلة وفي المتناول، بل أن أدوات في أو 3 تنتج أصواتا وصورا أصيلة للشخصيات، غير مستنسخة بشكل كامل من البشر، بل أن هذه التقنيات تحاكي بدقة كبيرة فيزياء العالم الحقيقي، من حركة القماش مع الريح إلى انعكاسات الضوء على الأسطح المختلفة، وتفاصيل دقيقة كالرموش وتقلصات الجلد عند الابتسام، مما يجعل الخداع البصري والسمعي أمرا في متناول الجميع تقريبا.

بالتأكيد أن إدارة مثل هذه الأداة لتنتج أفضل المشاهد يتطلب دراية وخبرة في كيفية «هندسة التعليمات» لتكون دقيقة بما فيه الكفاية دون الحاجة لكثير من التعديلات وتكرار المشاهد، فعلى من يديرها أن يهندس أوامره ويفصلها، فإذا ما طلب أحدهم منها -على سبيل المثال- مقطعا ترويجيا لشركة بيع خضار في سوق تقليدي في سلطنة عمان، واكتفى، قد تنتج له مشهدا لثلاثة باعة هندي وباكستاني وسوري يتجولون في سوق نزوى على سكوتر ويروجون بلغتهم لشركة بيع الخضار تلك، بينما يأتي «مهندس تعليمات» أدق وأخبر، ليفصل الأوامر، ويدقق في السيناريو كيف يبدأ وكيف ينتهي، ويفصل الشخصيات وسماتها ولغتها ولبسها وملامحها وطبيعتها، ثم يتعمق في طبيعة المكان والألوان من خلف المشهد والضوضاء والموسيقا الخلفية، ومن ثم عن حركة وزاوية الكاميرات لحظة بلحظة، وحركات الصوت والجسم والتعابير حتى ينتهي المقطع، بالتأكيد أن نتيجة هذه التعليمات والأوامر ستكون أفضل بكثير ومقنعة أكثر وأقرب للواقع. ربما تصل إلى حد يصعب معه على المشاهد غير المدقق أن يحكم على أصالة المشهد من زيفه، وبالمناسبة أصبحت هناك دورات تخصصية مفصلة تقوم بتدريس كيفية صياغة هذه التعليمات وهندسة الأوامر لأدوات الذكاء الاصطناعي لتوجيهه بسهولة ودقة، وربما ستكون هذه المهاراة إحدى متطلبات الكثير من الوظائف في المستقبل القريب.

في أيامنا هذه التي يستهلك فيه العالم المحتوى بشكل كثيف، ومحتوى الفيديو بشكل خاص، توفر هذه الأداة، ومثيلاتها -السابقات والقادمات- ، الكثير من الوقت والجهد والتكلفة، وفي ذات الوقت تثير الكثير من المخاوف، أبرزها سهولة صنع المحتوى المزيف، أو الإدعاء بأن المحتوى مزيف وهو حقيقي، وهذا قد يمهد لانهيار الثقة في ما نراه ونسمعه، ويصبح من السهولة بمكان أن تزيف ما تريد وتنفي ما تريد بادعاء أنه مزيف، وتضلل الرأي العام كذلك، هذه الأزمة المتوقعة في الثقة قد تمتد لتشمل كل شيء، من الأخبار إلى الأدلة في المحاكم إلى الذكريات الشخصية المسجلة، مما يخلق واقعا هشا يصعب الاعتماد على مثل هذه المقاطع.

تنبهت جوجل لهذا الأمر مثلا، وأصدرت أداة تتيح التحقق من المحتوى ما إذا كان قد صنع بأدواتها. وهناك أدوات أخرى مشابهة، غير أنها تواجه تحديا كبيرا في التفريق بين محتوى صنعه البشر، ومحتوى أنشأه الذكاء الاصطناعي بتعلمه من محتوى البشر، فلا غرابة أن تصنف أحد هذه الأدوات أن خطاب الاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية قد تم صنعه بأدوات الذكاء الاصطناعي بنسبة ٩٩٪ فربما أن هذه الأدوات تعلمت أصلا من مثل هذه النصوص وأساليبها وتراكيب الجمل التي تستخدمها هذه الأدوات كلها من كلام البشر أصلا. صحيح أن أدوات جوجل -على وجه التحديد- تخفي علامة في تركيبتها لتدل على أنها مصنعة بالذكاء الاصطناعي، غير أن المتخصصين ومن يدققون وراء الأخبار والمقاطع المرئية، هم فقط -ربما- من سيبذلون جهدهم للتحقق، كذلك فإن هذا حاليا ينطبق على أدوات شركة واحدة فقط أما الأدوات الأخرى المنتشرة من شركات عملاقة وناشئة أو مجموعات بحثية أو دول أو مطورين مستقلين أو جهات غير معلنة، فلا ضمانة لوجود أي علامة مائية أو آلية كشف لمثل هذه المقاطع، مما يجعل المحتوى المنتشر بحرا شاسعا عرضة للتزييف والإنكار دون حل تقني فعّال.

إن تطور هذه التقنيات بهذه السرعة يدفع العالم لضرورة مناقشتها وآثارها أخلاقيا وسياسيا وقانونيا. ويضع جموع الفنانين ومنتجي الأفلام والحملات الدعائية وصناع المحتوى في تساؤل ما إذا كانت هذه الأدوات قد بدأت فعليا بتغيير المعادلات في مجال صناعتهم، وهل فعلا المؤسسات والأفراد ستتبنى استخدام هذه الأداوت؟ وإلى أي حد قد تبدو هذه الأدوات مخيفة؟ الأسئلة المطروحة ليست تقنية فحسب، بل وجودية حول طبيعة الإبداع والملكية الفكرية ومصداقية الواقع الذي نعيش فيه.

شخصيا، ومن متابعة لصناعة وإنتاج الصور ونشرها والإعلان لها في وسائل التواصل في السلطنة، فأنني أرى بوضوح كيف أن المؤسسات -كبيرها وصغيرها- بدأت تستعين بأدوات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في صنع إعلاناتها ومنشوراتها، وهذا مبرَر بما أنها يوفر الكثير من الجهد والتكلفة والوقت وبجودة اعتيادية مقبولة.

أما عن كونها مخيفة، فأرى شخصيا أنها مخيفة، فحتى قبل أن تحدث هذه الطفرة الأخيرة انخدع الكثيرون -مثلي- بمقاطع تبدو حقيقية وهي ليست كذلك، أسمع أغنية بصوت طلال مداح -مثلا- فتعجبني وأقول ها قد فاجأني الـ«تيك توك» بأغنية لم أسمعها من قبل لطلال، ليتضح لي بعدها أنها ليست أغنيته وأنه لم يسبق له أن غناها أصلا. فكم من المحتوى خدعني وانتهى وآخر سيخدعني؟ وإلى متى سينتظر العالم ليضع ما يقنن وينظم هذه التقنيات وأخلاقياتها، التي باتت تخيف حتى صناعها! والتساؤل الذي يليه، هل يمكن للقوانين والأطر الأخلاقية أن تلحق بسرعة التطور الجنوني لهذه الأدوات، أم أننا ندخل عصرا من الفوضى الرقمية حيث الحقيقة هي أول ضحايا التقدم؟

المعتصم الريامي مطور ومهتم بالتقنية

مقالات مشابهة

  • سارة الودعاني تستعرض كمية حقائبها بعد العودة من السفر.. فيديو
  • هل عبرنا الوادي الغريب ؟ الذكاء الاصطناعي يحاكينا صوتا وصورة
  • مقر المؤثرين يستضيف معسكراً إقليمياً لصناع المحتوى
  • «نتنياهو»: بعد الانتصار على إيران سيكون هناك شرق أوسط مختلف
  • انقطاع وتباطؤ الإنترنت يعزل الإيرانيين عن العالم
  • هندسة اقتصاديات الإعلام: المشروع السعودي
  • هجرة مؤثرون مغاربة إلي تايلاند لتقديم محتوى جنسي
  • الفجيرة تُعزز مهارات التواصل الرقمي
  • نارين بيوتي ترد على جدل إطلالة شقيقتها في حفل زفافها.. فيديو
  • ضبط عملات أجنبية بقيمة 5 ملايين جنيه